أو ليس من الواضح بعد هذا كله أن من واجب كل عاقل أن يدافع عن الحرية والديمقراطية؟ وقد أجمع الفلاسفة السياسيون على أن للحرية شروطا أربعة: المساواة أمام القانون، والأخذ برأي الأغلبية في الحكم، وحرية البحث، وحرية الاختيار.
والشرط الأول - شرط المساواة أمام القانون - يكفل العدالة، ويضمن مجتمعا يقوم على أساس النظام وحريات الأفراد. وهذا الشرط لازم لتحقق الشروط الأخرى؛ لأن مراعاته تكفل للمرء قدرا كبيرا من الأمن على حياته. وقد نص على ذلك الماجنا كارتا الذي جاء فيه: «لا يجوز أن يؤخذ رجل حر أو يحبس ... أو يحطم على أية صورة من الصور ... إلا بحكم قانوني من أترابه، أو بحكم القانون السائد في البلاد.» وقد أضافت إلى ذلك القرون السبعة التي تلت صدور الماجنا كارتا أن القانون لا ينبغي أن يحابي شخصا ما، وأنه لا يجوز أن يلقى القبض على فرد ما، أو أن يوضع تحت الحراسة، أو أن ينفى اعتباطا وتحكما، وأن المحاكمة أمام محكمة عادلة حق لكل فرد، وكذلك التحرر من كل تدخل تحكمي في خصوصيات الفرد، أو في بيته، أو أسرته. ولكن الدول الدكتاتورية الحديثة لا تراعي احترام هذا الشرط الأول من شروط الحرية.
والشرط الثاني، وهو الأخذ برأي المحكوم ما دامت تؤيده الأغلبية، يكفل حرية تعديل القانون الذي نعيش في ظله. إن حق الكبار جميعا في الإسهام في الحكم لا بد أن يكون حقيقة واقعة، في الانتخابات الحرة التي تحدث في فترات معينة، وفي حرية اختيار الممثلين. قد يؤخذ على حكم الأغلبية أنه لا يلتزم الدقة في بعض القرارات، ولكنه صمام أمن ضد الحكومات المستبدة.
ويرتبط الشرط الثالث بهذا الشرط الثاني، ولكنه أوسع منه مدى. هذا هو شرط الحرية في بحث جميع الاحتمالات، وهي حرية البحث والتفكير والكلام والكتابة، ما دام الفرض لا يعرض للخطر حياة الآخرين. ولا بد في هذا من التجربة، على أساس الفروض المعقولة، لا على أساس من النشاط العشوائي. وبمقتضى هذا الشرط لا بد أن يشترك جميع الأفراد في السلطة السياسية العليا، وأن تكون لهم حرية النقد وتصحيح الأخطاء. ولا يتوافر ذلك إلا في ظل حكومة ديمقراطية لا تعترف بالملكية أو الأرستقراطية أو الدكتاتورية؛ لأن هذه الأنواع من الحكومات تستخدم نفوذها في صالح طبقة معينة أو في حرب عدوانية على حساب الطبقة الكبرى في المجتمع، التي يتألف منها الشعب.
والشرط الرابع، شرط حرية الاختيار، يتعلق بطريقة حياة الأفراد. وقد يتسع مجال الاختيار وقد يضيق طبقا للموقف، إلا أنه ينبغي في كل حالة من الحالات أن يكون للمرء في طريقة حياته قدر من حرية الاختيار في العمل الذي يقوم به، والمتعة التي يمارسها، مع مراعاة شروط الحرية الأخرى، وهذا هو حق المرء في تحقيق سعادته.
ومن الواضح أن هذه الشروط الأربعة مترابطة، ومن الواضح أيضا أننا لا ندعو إلى الحرية المطلقة؛ فهناك درجات من الحرية تتوقف على الظروف والموارد والمشكلات السائدة في وقت من الأوقات، كما تتوقف على مدى تحقيق شروط الحرية المذكورة ذاتها. ولا نقول إن التزام هذه الشروط يحتم النجاح في جميع الحالات، ولكن المحاولة ذاتها ضرورة من ضرورات الديمقراطية الصحيحة ، لكي يتعلم الإنسان من فشله كما يتعلم من نجاحه.
وثمة كلمة أخيرة بشأن ناحية من أهم نواحي النظرية الديمقراطية المعاصرة، وهي تتعلق بحكم الدولة من حيث ارتباطه برفاهية المجموع، والسؤال بعبارة أخرى هو: ما هي الحدود التي نضعها لسلطان الدولة لكي نكفل تحقيق شروط الحرية، ولكي تؤتي الحرية ثمرتها المرجوة؟ وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن نفوذ الهيئات الحكومية والهيئات غير الحكومية على حد سواء ينبغي أن يحد لكي تتوافر لأفراد الشعب العاديين حرياتهم، ويراعى ذلك عند تأميم الصناعات والخدمات، وعند النظر في مدى الضمان الاجتماعي، وعند معاونة الحكومة لمعاهد التربية والتعليم.
إن الجهود التي بذلها أسلافنا في سبيل تدعيم أركان الحرية ينبغي أن تستمر مهما واجهنا من صعاب وعقبات. وقد يتدبر بعض الناس عالم اليوم الذي نعيش فيه، ويذكر الخطر الذي يهددنا من القنبلة الهيدروجينية وتجارب الأسلحة النووية فيرى أن الحرية لا ترتكز على أرض ثابتة، وأنها لم تكن في أي عصر مضى مثلما هي اليوم أمرا يشق على أولي الأمر الاحتفاظ به. ولكنا برغم هذا لا نؤمن بأن المثل التي تدعو إلى «الحياة، والحرية، وتحقيق السعادة» مثل الحرية والحق والعلم قد أفلست.
إن فلاسفة الحرية الذين نتعقب آثارهم يؤمنون بعقيدة مشتركة، وهي أن الإنسانية تستطيع أن تتقدم لكي نكشف عن طرق للحياة جديدة تقربنا من حياة الحرية والعقل والحضارة العالمية.
الجزء الأول
Unknown page