وانتهى القداس فكان أبو نعوم أول الخارجين، وأخذ الطبر وقعد على الصفة، فأقبل الشاب مسلما على الشيخ، وقال له: أعجبك الطبر يا جدي؟
فأمسكه أبو نعوم بيده المرتجفة وقال له: عندنا مثله كثير يا ابني، تعلم في المستقبل ألا تعلق طبرك بمفتاح باب الكنيسة، هذا خرق لحرمة الضيعة، أخذته فكة مشكل، وإلا كان وقع الشر. يا أولاد، هذا من جيراننا وضيفنا، قوموا بواجبه. هذا طبرك يا شب، ثاني مرة خذ حذرك.
وذهب الناس إلى بيوتهم، وراح الشاب مع أصحابه.
وأحب أبو نعوم أن يتمشى في ذلك اليوم المشمس، كان يجد لذة في النظر إلى حجارة الضيعة ويطلق عليها لقب الأصحاب. كان ينفر من الحيطان المرممة، ويأسف لأنها تغيرت عن عهده.
وبلغ في نزهته برج الضيعة القديم، فرأى أن حجارة منه قد أخذت فثار وهاج. خبروه أن بطرس - وجيه الضيعة - احتاج إليها ليكمل مدماكا في بيته الجديد، فأخذ يرغي ويزبد كأنما قتل أحد أولاده: لا كبير ولا صغير، هذه حجارة عاشرت جدودنا وأفضلت عليهم وحمتهم، لولاها ما بقى منها المماليك من يخبر، فبدلا من أن نبني البرج نهدمه؟ يا خيبتنا تجاه الأجداد!
ومضى يعدد مآثر تلك الحجارة التي اقتلعت من مكانها كأنه يرثي ولدا له مات في عز شبابه: حجارة دهرية تخبر عن تاريخ جدودنا وأعمالهم، هي وحدها تربطنا بضيعتنا وبلادنا، أنطمع بها وننقلها من وطنها؟ أؤكد لكم أنها توجعت، والله العظيم إنها حزنت لما فارقت أخواتها بعدما عاشت معهم مئات السنين. قولوا للشيخ يردها مثلما كانت، وإلا فإنها تنتقم منه ومن الضيعة.
وقعد على حائط البرج يبكي، ثم تناسى المصيبة فطفق يحدث نفسه بصوت عال: «هذا البرج حمى الضيعة مرات، هذا أخو الكنيسة في الساعات السود، كيف يأخذ منه واحد حجرا، وفي الضيعة حجارة مرمية على الطرقات، والمقلع على رمية حجر من بيته؟ أي معنى يبقى للضيعة إذا راح البرج؟ في كل حجر من حجاره وجه جد من جدودي. آه، كلما تغير حيط من حيطان الضيعة أحس كأني فارقت واحدا من عشرائي!» «يا مرين، يا مرين، هاتي لي أتغدا يا جدي.»
ولما تيقن أنها سمعت قال لنفسه: أريد أن آكل بين أصحابي وأحبائي.
ثم أخذ يمر يده بحنو على وجه حجر أمثل في البرج كأنه يداعب جدا محبوبا، وألقى نظرة على الجبال القائمة حوله، فخال أنه أحاط نظرا بالمسكونة كلها، فقال: ما أجملك يا بلادنا وما أحلاك!
وسأل نفسه كعادته: قولتكم هاتيك الدني حلوة مثل هذي الدني. من يدريك؟ سلمها ربانية يا بو نعوم.
Unknown page