Aqsam Misr Fircawni
أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني
Genres
كانت بعض المقاطعات ذات شأن؛ وبذلك كان يرتفع معها إلهها «فيسود» على ما حوله من المقاطعات الضعيفة، ويصبح ضمن معبوداتها فضلا عن معبودها الأصلي؛ ومن هذا نرى أنه في مختلف العصور المصرية القديمة قد تتزايد المعبودات في مقاطعة واحدة فيصبح عددها عظيما؛ وبذلك يختلط المعبود الأصلي بالمعبودات التي انضمت إلى المقاطعة، وهذا ما نجده في عصر البطالسة؛ ولذلك كان من الأمور الهامة أن يسعدنا الحظ بالعثور على وثيقة قديمة تمكننا من معرفة أصل المعبودات القديمة التي كانت تعبد في المقاطعات، وهذا ما وجدناه في وثيقة «سنوسرت الأول».
رابعا:
تدل أسماء العواصم التي عثرنا عليها في قائمة «سنوسرت الأول» أنها تختلف اختلافا ظاهرا في بعض الأحيان عما نجده في الوثائق التي وصلتنا من عهد البطالسة، بل نجد فضلا عن ذلك أسماء عواصم جديدة لم يرد ذكر اسمها قط، وتحتاج إلى درس دقيق وبحث طويل، وسنذكر بعضها عند عرض قائمة «سنوسرت».
أما الخانات الأربعة الأخيرة فتدل على أرقام قد تؤول على أحد تفسيرين: فإما أن تكون مساحة الأرض المنزرعة في كل مقاطعة، وإما أن تكون مساحة الأراضي التي كانت محبوسة على كهنة «آمون» لتقديم القربان من خراجها لهذا الإله، كما نشاهد ذلك الآن في الأوقاف التي تحبس على الأولياء مثل السيد البدوي وسيدنا الحسين ... إلخ.
ونتساءل الآن في نهاية هذه العجالة، لماذا قسمت الأراضي المصرية إلى مقاطعات؟ ثم نتساءل هل كانت أنظمة الحكم في كل مقاطعة واحدة؟ والجواب على ذلك هو أنه توجد عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية دعت إلى تقسيم البلاد إلى مقاطعات، ثم دعت إلى اختلاف أنظمة الحكم في كل من مقاطعات الوجه البحري ومقاطعات الوجه القبلي؛ فكان الحكم في الأولى حكما ديموقراطيا، وفي الثانية حكما استبداديا (أرستقراطيا)، وإليك تلك العوامل التي أدت إلى ذلك:
أولا: يلاحظ أن وادي النيل الذي تتألف منه البلاد المصرية هو شريط مترامي الأطراف، يمتد ما بين أسوان والإسكندرية، فدرجة حرارة هذا الإقليم الطويل تختلف اختلافا بينا بين هذين البلدين، يضاف إلى ذلك أن حياة أهل الإقليم كانت ولا تزال تتوقف على ماء النيل؛ ومن هنا كان الارتباط الشديد بين المصري والطين الذي يروى بماء النيل. وليس أدل على هذا الارتباط من أن المصري منذ نشأته كان يؤله هذا النهر في كل مقاطعة من المقاطعات التي انقسمت إليها البلاد؛ فكان يرسمه في شكل رجل عظيم الجسم ضخم الثديين، أو في صورة امرأة ممشوقة القوام تحمل على يديها ما تنتجه أرض المقاطعة من خيرات، وكذلك مثله في الإله «أوزير» الذي كان يمثل الخضرة والنماء، فكان يحيا كل سنة مع الفيضان ويموت عند التحاريق، كما أن المصري مثل الصحراء القاحلة بالإله «ست» قاتل الإله «أوزير»، وهذا هو السبب الذي جعل الإغريق يمثلون أوزير بإله الخير وست بإله الشر. وكذلك عبد المصري كل الحيوانات التي لها علاقة بالنيل كالتمساح والضفدعة والسمكة؛ لأنها من مظاهره شرا كانت أو خيرا.
وكان من لوازم اختلاف مميزات البيئة المحلية - سواء أكان مناخيا أم طبيعيا في هذا الإقليم الطويل - تأليف جماعات يتفق سكان كل منها في الأمزجة والمشارب والأخلاق؛ فلم تكن رابطة العشيرة أو القرابة أو الجوار هي العامل الأكبر في تكوين المقاطعات، بل كان أعظم العوامل عاملان هما عامل المناخ وعامل الدين، وكانا يؤثران في المصري معا؛ فنجد نفس الإله الذي كان يعبد في المقاطعة - وهو الذي كانت تلتف حوله قلوب كل الأفراد - كان ينتخب من نفس طبيعة البيئة التي يعيش فيها أهل المقاطعة؛ فنجد مثلا أن الإله أوزير الذي يمثل الخصب والنماء كان يعبد في وسط الدلتا التي هي أكبر مظهر للأقاليم الزراعية في مصر، وكذلك نجد المصري عبد الثور في الدلتا؛ لأنها كانت أراض تزخر بالمراعي، وكان الثور يساعد الفلاح على حرث الأرض، وكذلك نجده عبد البقرة لنفس هذا السبب، فضلا عن أنها كانت تغذي المصري بألبانها وتمثل الأم الحنون، وكذلك نجده عبد في الدلتا اللبؤة والسبع اللذين كانا يعيشان على حافتي الصحراء في الدلتا، حتى إنه قد أطلق على المقاطعة التاسعة عشرة مقاطعة السبع، وعاصمتها يشغلها الآن «تل المقدام» مركز ميت غمر، وكذلك الثعبان كان يعبد في أراضي مستنقعات الدلتا، وهي المكان الذي يفرخ وينمو فيه بكثرة، وسميت باسمه بلدة «وزيت»؛ أي الثعبان، وهي قرية «أبطو» الحالية في مركز دسوق «وبونو» عند المصريين.
وكذلك عبد في الدلتا التمساح باسم «سبك»، وبخاصة في الجهات التي كان يكثر فيها المياه بين فرعي الدلتا في مديرتي المنوفية والغربية. وقد بقي إلى الآن أدلة مادية تقرر حقيقة ذلك؛ إذ نجد حتى الآن بلادا في وسط الدلتا تسمى باسم هذا الإله مثل «سبك التلات، وسبك الأحد، وسبك الضحاك، وشبرا امساح».
ونشاهد في الوجه القبلي أن المصري كان يعبد في الجهات القريبة من الصحراء الثعلب والذئب وابن آوى؛ وذلك درءا لشرها أو طلبا لمنفعة منها. وعلى أية حال نجد أن المصري كان يتعبد لهذه الآلهة؛ إما طلبا لمنفعة أو درءا لشر، وفي ذلك القول نجد فلسفة كل الأديان.
ومما سبق نرى أن تقسيم البلاد إلى أقاليم منعزلة بعضها سياسيا واجتماعيا كان أمرا تستلزمه العوامل الجغرافية المحضة؛ إذ هي التي كيفت كل مقاطعة بطابع خاص وعادات خاصة ودين خاص؛ ولذلك نرى أنه من خطل الرأي عندما نعثر على وثيقة فيها بعض العادات الخاصة أن ننسبها إلى كل البلاد، إذ ربما تكون في معظم الأحيان خاصة بإقليم واحد بعينه. ولقد كان المصري نفسه يشعر بالاختلاف البين الذي كان بين أهالي الصعيد وأهالي الدلتا؛ إذ قال كاتب قصة سنوهي المشهورة عندما كان يريد أن يبين أن الكلام الذي يقال لا يفهم، «كأن إنسانا من الدلتا يخاطب آخر من «الفنتين» «أسوان» أي بكلام لا يفهم؛ لأن الفرق بينهما كان عظيما»، ولعمري! فإن هذا أمر نشاهده نحن الآن بين ظهرانينا، فهل إذا تكلم فرد من أهالي جرجا بلهجته الخاصة لقاهري يكون كلامه مفهوما؟!
Unknown page