Aqsam Misr Fircawni
أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني
Genres
تمهيد
مقدمة
1 - مقاطعات الوجه القبلي
2 - مقاطعات الوجه البحري
تمهيد
مقدمة
1 - مقاطعات الوجه القبلي
2 - مقاطعات الوجه البحري
أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني
أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني
Unknown page
تأليف
سليم حسن
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد، فقد طلب إلي المجمع المصري للثقافة العلمية أن ألقي محاضرة في ربيع عام 1942 في موضوع من الموضوعات المصرية القديمة البحتة، فلم يسعني إلا تلبية هذا الطلب، واخترت لذلك موضوعا لم يطرق بعد - بصفة شاملة - في اللغة العربية، وهو «أقسام مصر الجغرافية في العهد الفرعوني». وقد جاء اختياري لهذا الموضوع عقب كشف النقاب أثناء الحفر عن وثيقة تكاد تكون كاملة في هذا الموضوع، هذا فضلا عن أنها تعتبر أقدم نقش مصري قديم كامل وقع في أيدينا حتى الآن في هذا الباب؛ إذ يرجع عهده لأوائل الأسرة الثانية عشرة؛ أي منذ ما يقرب من 4000 سنة خلت، غير أني لم أتمكن من إلقاء كل بحثي أثناء الوقت القصير الذي خصص للمحاضرة؛ ولذلك أعددت البحث لمجلة المجمع؛ فطبعت منه عددا محدودا. وقد طلب إلي الكثير إعادة طباعته؛ فأدخلت على هذه الطبعة بعض الإصلاحات. وقد اعتمدت في شروحي على خرائط أعدت خصيصا لهذا الغرض حسب الوثيقة الجديدة. على أني لم أعالج في هذا البحث كل النواحي الجغرافية المصرية، بل وجهت معظم عنايتي أولا لبحث تدرج التكوين الاجتماعي للأسرة فالقبيلة فالقرية فالمدينة فالمقاطعة، ثم اتحاد كل المقاطعات التي تكون منها القطران البحري والقبلي، ثم اتحاد البلاد نهائيا تحت سلطان ملك واحد. بعد ذلك عالجت أقسام البلاد السياسية وتقلباتها في كل العصور القديمة، ثم تناولت موضوع ديانة كل مقاطعة ومعبوداتها، ثم بحثت موضوع أسماء البلاد المصرية القديمة التي انحدرت إلينا بنطقها المصري القديم على وجه التقريب في كل مقاطعة، وحددت موقع كل بلدة من هذه البلاد بقدر المستطاع. أما النواحي الأخرى من جغرافية مصر من حيث طبيعة البلاد وتكوينها الجولوجي، وزراعتها وتجارتها ومواردها الاقتصادية من معادن وأحجار وغير ذلك، فقد تكلمت عنها ببعض التفصيل في كتابي «مصر القديمة» الذي ظهر حديثا.
هذا، ولست مدعيا هنا أن هذا البحث قد جاء مستفيضا وافيا بالغرض، بل هو في الحقيقة نواة لمن أراد درس هذا الموضوع الغامض، والذي يحتاج إلى دراسات عميقة طويلة لمن أراد الإلمام به من علماء الآثار المصريين؛ لأنهم هم وحدهم الذين يمكنهم أن يقوموا بمثل هذا العمل الخطير باللغة العربية، كما قام به علماء الفرنج في مختلف لغاتهم خدمة للعلم، والله الموفق لما فيه خير البلاد.
سليم حسن
مقدمة
موقع وادي النيل
مثل وادي النيل الخصيب كمثل نبات أخضر نضر، انبثق في صحراء قاحلة، تضرب جذوره بأعراقها في مجاهل أفريقيا، ويمتد ساقه اليانع في أديم ذلك الوادي المجدب، ثم يتفتح عن زهرة ذات جمال وبهجة، فتسبغ على ما حواليها من الأرض خصبا ونماء، وتلك الأرض هي إقليم الدلتا، وكذلك يخرج من هذا الساق فرع ذو طلع نضيد؛ فيحول من تلك الصحراء الجدبة واحة خصبة هي إقليم الفيوم.
Unknown page
ولعمري، فإن هذا النهر الذي مثل بنبات أخضر انبثق في وسط صحاري أفريقيا المجدبة التي تكتنف الوادي على جانبيه، ثم صار ذا ظل وارف وثمر قطوفه دانية في وسطها، قد ميز وادي النيل بصفات منقطعة القرين في كل العالم من الوجهتين الطبيعية والسياسية، ففي حين نرى أن هذا الوادي الخصيب يمثل كنانة الله في أرضه (ولفظ الكنانة مصري قديم)، وجنة أهلها على الأرض ونعيمهم المقيم من حيث الموقع والمناخ، فإن تلك التربة الخصبة قد أصبحت جميعها بعد الفتح الفارسي للبلاد عام 525ق.م.، وبعد قيام الدول العظيمة حولها، جحيما لسكانها ومصدرا لشقوتهم واستعبادهم على أيدي الغزاة الغاصبين، الذين تعاقبوا على احتلالها واستغلالها منذ ذلك الفتح إلى يومنا هذا؛ إذ الواقع أن مصر كانت - ولا تزال - لقمة سائغة وبقرة حلوبا، تتطلع إليها كل دولة قوية تحاول السيطرة على العالم، فإذا رجعنا إلى الوراء قبل الفتح الفارسي منذ انبثاق فجر التاريخ، وجدنا أن مركز مصر الجغرافي قد هيأ لها السيطرة على العالم القديم أجمع، حتى وصلت القمة في عهد تحتمس الثالث الذي يلقبه مؤرخو الغرب نابليون الشرق، وأول عاهل في العالم خضعت له جميع الأمم المتمدينة المعروفة وقتئذ في أفريقيا وآسيا؛ إذ كانت أوربا في تلك الفترة لا يزال أهلها في عهد السذاجة والفطرة يهيمون على وجوههم في الأدغال والوديان، لا فرق بينهم وبين الأنعام، فكان سلطان «تحتمس الثالث» يمتد وقتئذ (حوالي 1500ق.م.) من أعالي نهر دجلة والفرات شمالا، وجزر البحر الأبيض المتوسط إلى الشلال الرابع جنوبا.
وهكذا دواليك نرى أن الموقع الجغرافي يغير مجرى حياة البيئة حسب تطور الأحوال الاقتصادية والسياسية ونمو المدينة وما يتبع ذلك من انقلابات؛ فالموقع الجغرافي الذي كان في غابر الزمان يعد حسنة للقوم الذين يسكنونه، قد يصبح فيما بعد شرا مستطيرا ونقمة عليهم. وهكذا تقوم الدول ثم تنحط ثم تفيق كرة أخرى من رقدتها وسباتها، وليس ببعيد إذن أن تنقلب الأحوال ثانية؛ فيعود لمصر نعيمها ومجدها، ويخضر عودها، وتحيا حضارتها التي تعد في نظر علماء التاريخ المصري أنها أقدم حضارة عرفها التاريخ، ومن ينابيعها استقى كل العالم القديم مبادئ الحضارة التي أسست على قواعدها المدنية الحديثة في كل العالم العربي المسيحي.
أسماء مصر
قبل أن أتكلم عن أقسام مصر الجغرافية أريد أن أستعرض أمامكم بعض الأسماء القديمة التي تسمت بها مصر على التوالي منذ فجر تاريخها إلى نهاية العهد الإغريقي. والواقع أن المصريين تفننوا في تسمية بلادهم بأسماء عدة إلى درجة فاقت حد المألوف، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن هذه الأسماء قد اندثرت جميعها تقريبا، ولم يبق من بينها إلا بعض مسميات مغمورة نذكرها، ولا نفقه أن أصلها يرجع إلى مسميات البلاد الأصلية بلغتها القديمة. ويزيد في أسفنا أن اسم «مصر» ليس في أصله مصريا بل هو آشوري، ولم أعثر عليه مكتوبا باللغة المصرية إلا مرة واحدة في العهد المتأخر.
وسأذكر لحضراتكم هنا بعض هذه الأسماء التي كانت تطلق على البلاد المصرية محاولين قرنها بالأسماء التي بقيت لدينا محفوظة في ثنايا آثار تلك المسميات:
كمي أونا-كمي:
وهذه التسمية ظهرت في اللغة المصرية القديمة منذ نهاية الدولة القديمة، ومعناها الأرض المثمرة، وذلك مقابل الأرض المجدبة التي كانت تسمى «دشرت» أي الأرض الحمراء أي الصحراء، ومن كلمة «كمي» أخذت كلمة كيمياء كما هو معروف، وكذلك كانت تسمى البلاد إقليم الأرض السوداء «با-نا-ن-كمي»، وكان المصريون يسمون «رمت-ن كمي» أهل الأرض السوداء.
تامرا:
أرض الفأس أو الفلاحة، وقد ترجمها البعض بأنها أرض الفيضان. والواقع أنها الأرض التي تفلح بالفأس، وتفسير ذلك أن كلمة «تا» معناها الأرض وكلمة «مرا» معناها الفأس، والمخصص الذي بعدها هو النبات الذي نتج من فلاحة الأرض بالفأس. وقد بقي هذا الاسم محفوظا لدينا حتى الآن في كلمة «دميرة»، وهو وقت إصلاح الأرض للفيضان في شهر مسرى بالفأس.
ومن لفظة فأس هذه اشتق المصري كلمة «مرو» أي المشتغلين بالفأس وهم الفلاحون؛ ولذلك صدق القول: «كل فلاح مصري وليس كل مصري فلاحا.»
Unknown page
خنو: (كنو) ولفظة «خنو» معناها الأرض الداخلة أو الوجه القبلي، ويقابلها لفظة «حز» أي الأرض الظاهرة، وبعد ذلك أصبحت تطلق على كل مصري؛ لأنها مكونة عن كل الأقطار الأخرى، وفعلا بقيت في عزلة مدة طويلة نسبيا.
أخت:
الأرض الطيبة، أو تسمى «تا أخت»، وهذه عبارة تطلق على مصر كثيرا، وقد قدم لها الدكتور «حزين» كتابه عن عصر ما قبل التاريخ بقوله: إلى أرض مصر الطيبة.
حور أدبو:
معناها شواطئ الإله حور؛ أي شواطئ النيل.
سبات حور:
مقاطعات الإله حور.
باقت:
معناها العين المقدسة، وأظن أن هذه الكلمة كناية عن عين «حور»، التي كانت أعظم شيء قدمه «حور» لوالده «أوزير» بعد انتصاره على «ست» قاتل والده؛ فهي تدل على كل الخيرات.
وكان الوجه البحري وحده يسمى «تا محبت» أرض الشمال، والوجه القبلي يسمى «تا شمع» أرض الجنوب.
Unknown page
أما لفظة «أجبت» الإفرنجية فأرجح الأقوال أنها مأخوذة من كلمة «حا كابتاح»، وهو اسم بلدة منف بإطلاق الجزء على الكل. وقد تسمى مصر أحيانا «حب ن. ساس» إقليم الستة أيام أو إقليم الخمسة أيام؛ أي أيام النسيء للأشهر القمرية.
التدرج الذي أدى إلى تكوين المقاطعات
أهل البادية الرحل ليس لهم متاع سوى العقار المنقول، ولأجل أن يسهل علينا ذكر الأسباب التي نستقي منها معلوماتنا عن عصر ما قبل التاريخ في مصر بصورة محددة، نرى أنه من المهم أن نبين باختصار صورة عن تكوين الأفكار الفطرية القانونية في المجتمعات الناشئة؛ فالإنسان يصبح مالكا للشيء الذي يكون في قدرته أن يحافظ عليه؛ ولذلك لا يتأتى له إلا بعد أن يضعه بيده أو يستولي عليه من الغير؛ ولذلك فإن كل رجل يصبح مالكا لامرأة أو عدة نساء قد استولى عليهن. وتختلف العلاقات بين الرجال والنساء حسب عيشة القوم الرحل؛ فإنهم إما يكونون جماعات أو متفرقين، ففي الحالة الأولى يسود الاختلاط الجنسي؛ ومن ثم يصبح والد الطفل مجهولا، وينسب إذن الولد لأمه، وكانت تلك هي الحال السائدة، غير أن الأمومة هي نتيجة لحقيقة وقعت، والمرأة تجري وراء حماية أخيها لها، والأخ بدوره يقف بجانبها بهذا المظهر نفسه. وقد كان ذلك يحدث في زمن كان فيه كل من الحماية والملكية لفظين مترادفين، فكان الأخ بذلك سيد أخته ورب أطفالها.
والواقع أن الحاجة للأمن ولسيادة السلام بين رجال الجماعات قد أفضت إلى إيجاد قاعدة أساسية ترتكز على أفكار تسحر القلوب، وسرها الاختلاط الجنسي. بذلك كانت عادة عدم التزوج من خارج أفراد الأسرة أو العشيرة لتجنب قيام المشاحنات بين الرجال، وتحديد عدد النسوة اللائي كان يمكن لكل رجل أن يستولي عليهن. ومع ذلك نجد أن الأسرة عند الرحل المتفرقين - وكان هذا أمرا مؤقتا - تظهر تحت سيطرة الرجل الذي كان يصحب معه في ترحاله امرأة أو عدة نساء؛ فكان بطبيعة الحال يسهر على حمايتهن وحماية أطفاله الذين ولدوا له منهن. ومن هذا نرى أن أول صورة كانت ترتكز على ملكية الرجل للمرأة، ومما لا شك فيه أنه من نتائج المؤسسات الزراعية الأولى الاستقرار مؤقتا في بقعة من الأرض، وهو أمر حتمته الزراعة. على أن هذا الاستقرار تفريق لشمل الجماعات؛ ومن ثم كان تكوين الأسرة؛ فالرجل يعيش على حقوله ومعه زوجات، ولكن الزراعة تحتاج إلى أيد عاملة، وبذلك تصبح الأولاد ثروة له. ومنذ ظهور تلك الخطوة تصير الأسرة أكثر ارتباطا؛ إذ يحرص الرجل على استمرار بقاء أولاده معه؛ لأنهم صاروا أعوانه في مهام الحياة. وقد استقر المصريون بصورة نهائية في وادي النيل في العصر الحجري المتوسط، والنتائج الشرعية لاستقرار العشيرة عديدة مركبة؛ فالنظام الأسري الذي كان قد تكون نهائيا في ظل النظام الشبه الزراعي أو الشبه الرعائي، كان من نتائجه تأليف جماعات من الأسر تربطها ببعضها البعض رابطة الدم. وقد تكون فيها عشائر منحدرة أو شبه منحدرة من جد واحد مشترك، ففي مثل هذه الأسر يكون الأب هو صاحب السيادة المطلقة والمالك لزوجته وأولاده، وهو الممثل الوحيد لكل أهله، كما أنه يكون سيدهم وقاضيهم الذي يفصل بينهم، ويظهر سلطانه المستمد من قوته عليهم في بادئ الأمر بصفة ملموسة.
على أن هذا السلطان لا يستمر مدة طويلة إلا بقدر استمرار قوته على جعل نفسه محترما بينهم، فإذا طعن الأب في السن أو خارت قواه، فإن ابنه الأكبر يحتل مكانته، وأولاده الذكور يؤسسون أسرات متميزة بعضها عن بعض. وتكوين العشائر التي تنحدر من جد واحد تأتي بنتائج جديدة؛ فوجود العشيرة مفروض فيه حتما وجود اجتماعات تعقد بين رؤساء الأسرات؛ فيجتمعون لتقرير مصالحهم المشتركة؛ وهم بذلك يتعاضدون معا للمحافظة على سلطانهم المتبادل، ويؤلفون مجلسا يمثل فيه كل عضو أسرته، على أن ذلك التمثيل لا يدل على أن هذا العضو هو أقوى فرد في أسرته، ولكن يدل على أنه الوالد فحسب؛ ومن ثم تكتسب السلطة الأبوية بهذه الصورة صبغة خلقية، هذه الصورة لا يرجع أصلها للقوة ولكن للتشريع؛ فكل خلاف ينشأ داخل الأسرة يفصل فيه الأب بسلطان لا ينازعه فيه أي منازع، ولكن إذا قامت منازعات بين الأسر نفسها فليس لإنسان ما السلطان الكافي للفصل فيها؛ ومن ثم كان لا مناص من إشعال نار الحروب الداخلية بين الأسرات.
وقد أنشئ مجلس آباء الأسرات أو مجلس شيوخهم ليتوسط في حل المنازعات، ولكن لما كان هذا المجلس ليس له أية سلطة مباشرة على الأسرات، فإنه كان يلتجئ إلى العاطفة الدينية لمساعدتهم، وهذه العاطفة ترجع في أصولها إلى قرابة الدم التي كانت موجودة بين أعضاء العشيرة كلها، والأفراد الذين على الفطرة لهم آراء دينية يعتنقونها، فهم يعبدون قوى الطبيعة العظيمة ويهابونها، وهم يخافون الموت، ويخشون بأس الأموات وبخاصة أمواتهم؛ وذلك لأنه من بين هؤلاء الأموات جد العشيرة؛ أي أول والد للأسرة، وهو الفرد الذي يتعبد إليه كل نسله، فهو الذي تتجه إليه كل تضرعات العشيرة، ويرجع إلى سلطانه لسيادة السلام بين الأسرات، كما أن سلطة الأب تجعل الوئام يسود بين أولاده وأحفاده. ومن ذلك نرى أن الأمن يصبح ممثلا في الجد المشترك للأسرات، فهو الضامن للسلام؛ لأن الكل يخافه ويحترمه، فباسمه يمكن لمجلس شيوخ الأسرات أن يتدخل بصورة ظاهرة عند قيام أي عداء، ويرشدهم للسلام بدلا من استمرار الحروب الداخلية أو الشرع في إشعال نارها، فيتقاضون فيما بينهم، ويعقدون معاهدات صلح، يشترط فيها أن يدفع المعتدي دية للمعتدى عليه. وهكذا في صورة هذه الوثيقة ظهرت فكرة العقد الذي به يدفع أحد المعتدين ثمن نزوله عن الانتقام الذي يتخلى الطرف الثاني عن القيام بتنفيذه ضد عدوه. وهذا العقد الخاص يكون مصحوبا باستنجاد الجد حتى تحل لعنته على من يخل بالتعاقد؛ فالعقد إذن قد ضمن احترامه «لليمين»؛ ومن هذا يتضح لنا أن عبادة الجد ليست هي المنبع الأصلي للتشريع، بل هي تصديق للقانون، وكما أنه لا يوجد قانون من غير تصديق عليه، فإنه كذلك لا يوجد قانون إلا لأفراد متدينين بدين واحد، الذي يرتكز على وحدة الدم، ثم تنزل عنها رويدا رويدا لاعتناق وحدة التعبد لدين واحد تصبح وحدة قانونية. وكما أن جماعات من الأسر تؤلف عشيرة، فإن مجموع عشائر يكون كذلك قبيلة. على أننا لا نتكلم هنا عن جماعات غير معينة قد خلقتها الصدف، بل الواقع أن القبيلة هي طائفة جماعات؛ أي جماعات دينية وقانونية يجمعها نظام خاص، غير أنه في داخلها تحتفظ كل عشيرة باستقلالها، ومن الجائز أن هذه العشائر يكون بينها صلات دم تربطها، وقد تكون تلك الصلات معدومة، وقد يجوز أن سبب اختلاط تلك واحد مشترك، أو راجع إلى رابطة قرب الجوار، أو يرجع إلى ضرورة حتمها حب الدفاع عن النفس، والضرورة تقضي أن تأخذ القبيلة لونا، وتتميز بعبادة واحدة. وقد رأينا أنه لا يوجد قانون إلا بين عباد إله واحد. والواقع أن القبيلة في الأصل هي جماعة من الناس يربط أفرادها بعضها البعض رابطة وثيقة، هي الدفاع عن النفس، ولها قوانين والتزامات، وعلى ذلك لابد لأفرادها أن يعتنقوا ديانة واحدة فضلا عن عبادة جدهم الأكبر، وهذه الديانة إما أن تكون ديانة عشيرة أقوى من العشائر الأخرى التي ضمن القبيلة، وإما أن تكون ديانة جديدة، قد أخذت عن قبيلة أجنبية، أو عبادة قوى من قوى الطبيعة.
وبهذه الطريقة تتسع فكرة التماسك الديني، ويوضع فوق الجد المقدس عند العشيرة إله آخر أعظم منه قوة يسيطر على كل القبيلة؛ وذلك لأن كل نفوذه يكون أعظم انتشارا، وليس لهذا الإله الجديد صبغة عبادة الجد؛ ومن ثم تنفصل الديانة الحقيقية عن عبادة الجد القديم، فهي ليست متصلة بروابط الدم، كما أن سلطانها الذي هو في الواقع أعلى وأسمى معنى من ديانة الجد يرتكز على قوة الإله.
وعلى ذلك نجد أن القانون الذي يرتكز على العبادة قد خطا خطوة عظيمة، وامتد سلطانه على كل الذين يتعبدون إلى نفس الإله سواء أكان المتعبدون أقارب فيما بينهم أم غير أقارب. ونظام القبائل قد تأسس في عهد الفطرة، ولا شك أن المصريين الذين استوطنوا وادي النيل وقتئذ كانوا مقسمين إلى قبائل.
واستيطان القبيلة في مكان معين يضع أمامنا سلسلة مسائل جديدة: (1)
يجب على القبيلة أن تجعل عشائرها يعيشون على أرض إقليم محدد. (2)
Unknown page
يجب أن نضمن سلامتها.
أما فكرة الإقليم التي لم تكن قد نشأت بعد قط، فإنه كان لابد من إبرازها إلى حيز الوجود؛ إذ كانت القبيلة بأكملها تهتم بالمحافظة على كيانها.
ويضاف إلى الفكرتين السابقتين - وهما رابطة الدم والديانة - رابطة ثالثة جديدة أوجدتها البيئة التي تعيش عليها القبيلة.
وكان على القبيلة أن تنظم نفسها لتضمن حمايتها من كل شر؛ فالرئيس الحربي الذي لم يكن ينتخب فيما سبق إلا في الأوقات العصيبة أصبح الآن ذا وظيفة ثابتة، وتمتد سلطته في زمن الحرب على كل الرجال الأشداء آباء كانوا أم أولادا. وعلى ذلك ظهرت بجانب سلطة الوالد سلطة أخرى أسمى مكانة هي سلطة رئيس الإقليم، وتلك السلطة تكون أول سلطة للقوى العامة. وهكذا ينفصل القانون العام، والقانون الخاص - والثاني خاضع للأول - عن بعضهما شيئا فشيئا. ولما كانت القبيلة مهددة في استمرار بقائها، فإنها كانت تنظم لنفسها مكانا مختارا متفقا عليه لمقاومة المعتدي؛ فكان رئيسها الأعلى يتربع عرش رئاسة جمعية القبيلة المؤلفة من رؤساء العشائر والأسرات. وفي هذا المكان المختار يحتفل القوم بإقامة الصلاة على مذبح إله القبيلة، وعندما يصبح هذا الرئيس موطد القدم في مكانته، فإنه يصير بطبيعة الحال ملكا على كل القبيلة. وهو بهذا الوصف لا يخرج عن كونه الرئيس الأول لرؤساء العشائر، أما باتخاذه صفة الكاهن الأكبر والقائد للجيش، فإنه يصبح صاحب سلطة في القبيلة لا ينازعه فيها منازع، وعندما تتعبد القبيلة أو عند اتحاد عدة قبائل لمعبود واحد، وتكون على دين واحد منفرد، وتكون في الوقت نفسه ملتفة حول ملك واحد، فإنها تنتقل إلى ما نسميه المدينة أي المقاطعة. على أن العشائر تستمر في المدينة متميزة بعضها عن البعض الآخر، وأهل تلك العشائر هم الذين تتألف منهم المدينة.
وتقسم المدينة أو القبيلة أرضها المنزرعة في نوبات معينة بين العشائر، كل منها حسب حاجتها؛ حتى يتسنى لها بذلك استمرار بقاء جميع أعضائها، ولكن قد دفع العشائر على مر الأيام حب استقرارهم في إقليمهم، كذلك حب الأمن الذي كان يزداد في نفوذهم قد دفعهم إلى تحسين مؤسساتهم وإتقانها؛ فحل بذلك البيت مكان الكوخ الذي كان يأوي الأسرة المتناسلة من جد واحد ملتفة حول مذبح الأسرة. وكان يقام بجوار بيت الأسرة مباشرة حظيرة؛ لتقي قطعانهم وأنعامهم، وكان البيت والحظيرة الملاصقة به يبنيان من جذوع الأشجار والحمأ المسنون واللبن، وهذه الأشياء هي عقار قد صنعه أعضاء العشيرة؛ فهي إذن ملك لهم، كما يملكون مثلا مواشيها أو المحصول الناتج من أرضها. وعلى ذلك أصبحت هذه الأشياء ملكا للعشيرة، لا يمكن أحد أن ينتزعها منها. ومن جهة أخرى صار لا يمكن تقسيم الأرض التي في حوزة العشائر بالدورة من جديد فيما بين أفرادها؛ لأن كل واحد منهم أصبح له مركز، وبيته في وسط قطعة الأرض التي هي نصيبه الخاص، وحينما تصير هذه الأرض في قبضة العشيرة نهائيا فإنها تصبح بهذه الكيفية متاعها، ولم يكن لها فيها من قبل غير «الاستيلاء»؛ ومن ثم برزت إلى حيز الوجود فكرة العقار الثابت، ولكن بيت العشيرة يصير في القريب العاجل غير كاف لإيواء سكانه؛ فالأسر إذن - التي تقسم العشيرة أرضها بينها - تقيم بدورها بيوتا لنفسها؛ وبهذه الطريقة تنتقل الملكية الثابتة من العشيرة للأسرة التي يمثلها رئيسها وهو الأب. وقد تصبح الأسر كلها متساوية، وتبقى كذلك إلى الوقت الذي ينقطع فيه تقسيم الأراضي بين الأسرات في دورات معينة، وعندئذ تتفاوت عن بعضها البعض. وتبقى الأراضي مدة طويلة لا يمكن أحد أن يتصرف بالبيع، ولكن يستولي عليها الابن بعد موت أبيه، وعندئذ تقسم إلى أنصبة يختلف عددها بقدر عدد الأسر الجديدة التي تنشأ من نفس الأسرة.
وكانت الإناث ترث العقار المنقول، ولكن كن بطبيعة الحال لا يشتركن في إرث الأرض؛ وذلك لأنهن - بسبب زواجهن - ينقلنها إلى أسرة ثانية. وقد كان هذا من الأمور المستحيلة؛ لأن الملكية كانت لا توجد إلا إذا كانت تحميها ديانة الأسرة. وعلى ذلك فإنها كانت مرتبطة ارتباطا لا انفصام له بعبادة الجد؛ أي النسل من الذكور، ولم يلبث أن أوجد موضوع الوراثة بين الأسرات عدم مساواة كبيرة؛ فدل ذلك بوجه خاص على أن بعضهم كان أكثر إنتاجا من البعض الآخر.
وبذلك أصبح العقار الثابت يفصل الأسرات التي من عشيرة واحدة إلى أغنياء وفقراء؛ ومن ثم ظهر عدم المساواة الاجتماعية؛ فاستيطان الأرض إذن من نتائجه أن يجعل التربة الأساس للحياة العامة والحياة الخاصة ، وذلك عندما يجلب معه فكرة الحقوق العامة للأقاليم، وفكرة الحقوق الخاصة لملكية العقار الأسري الثابت، وزيادة على ذلك ينتج عن الاستيطان في الأرض ضمان جديد، وأعني به ضمان الجوار؛ إذ لا يمكن لأسرتين متجاورتين أن تعيشا جنبا لجنب دون أن تختلطا معا؛ فمجاري المياه ونظمها وحرم الأراضي لا بد أن تنشأ بينهما منافع مشتركة منذ القدم؛ ومن ثم نشأ ضمان قوي بينهما. وليس من الضروري أن تكون هاتان الأسرتان من عشيرة واحدة؛ فالضمان الذي ينشأ من الجوار لا يجب أن يكون منشؤه وحدة الدم أو احترام ديانة الجد. على أن هذه الرابطة لا تقضي على الرابطة القديمة التي نشأت عن رابطة النسل وهي تختلط معها أحيانا، ولكن من جهة أخرى تنتزع منها صبغتها الاجتماعية، ورابطة النسل تستمر في إيجاد رابطة دينية بين أفراد العشيرة. أما رابطة الجوار فإنها توجد بين المتجاورين مهما كانت حالتهم من روابط اجتماعية؛ فرؤساء الأسر المتجاورة يجتمعون فيما بينهم ليقرروا إنشاء الطرق وحفر الترع، وكذلك لتبادل محاصيلهم الزراعية؛ فينظمون من أجل ذلك سوقا مشتركا تقام له الطرق الموصلة له، وكذلك يبنى له مأوى لحماية الأهلين والحيوان عند نشوب حرب أو نزول كارثة؛ ومن ثم تنشأ القرية. وعلى ذلك فإن المدينة لا تعتبر بعد مؤلفة من اتحاد العشائر، بل كذلك يحتمل على وجه خاص أنها مؤلفة من اتحاد القرى.
ويعد أقوى الذكور الذين يعيشون في قلب هذه القرى - وأعني بذلك الأغنياء منهم - هم رؤساء الأسر الذين ينسبون إلى جد واحد، أما الطبقة التي أقوى من أولئك فهم السادة والأشراف. والعضو الغني في عشيرته أو الشريف فيها يجعله شرفه أو غناه رئيسا. والظاهر أنه كان لكل من المقاطعات في العصر التاريخي مجلس سراة، وهذا المجلس تشير متون الأهرام إلى أنه يرجع إلى عصر ما قبل التاريخ، فهل يسوغ لنا أن نقرر أن أشراف هذه القرى الذين عاشوا في الأزمان السحيقة في القدم قد انتخبوا من بين رؤساء العشائر القديمة؟ والواقع أن الأرض قد أصبحت في أهميتها - بصفتها عنصرا اجتماعيا - تقوم مقام رابطة الدم. والظاهر أن المقاطعة قد تم تكوينها تكوينا حقيقيا في العصر الذي كانت فيه القرية بصفتها فكرة إقليمية، كانت قد أصبحت العنصر الهام في تكوين المدينة، واسم المقاطعة بالمصرية «سبات»؛ أي إقليم محدد، كان يمثل بالعلامة
وهي تفسر بوضوح أن المقاطعة كانت مقسمة إلى مراكز مرسومة على الخصب؛ أي مقسمة إلى قرى. وقد أراد بعض المؤرخين أن يرى في هذا الرسم صور ترع، ولكن إذا فرضنا أن الحق في جانبهم، فإن حفر الترع من جهة أخرى لا يمكن إلا أن يكون نتيجة تضامن منافع قد تولدت عن حسن الجوار، وقد وصلت الحضارة في المقاطعة عند ظهورها لنا لأول مرة إلى مستوى عال لا بأس به، فكانت آلاتهم - فضلا عن أسلحتهم وأوانيهم المصنوعة من الحجر المصقول - تشمل الخزف والآلات، وأدوات الزينة المصنوعة من العاج والذهب والعظم والنحاس، أما النباتات فقد كان يزرع منها القمح والشعير والكتان والأذرة وغير ذلك، وحيواناتها التي كانت تربى تشمل الضأن والمعز والبقر والكلاب والحمير، وقد أقيمت السدود ومخرت السفن عباب النيل. أما وادي النيل نفسه فقد أصلح، وكانت المقاطعة في نظر بعض المؤرخين هي حوض ري استخدم كإطار لإقليم زراعي، وهذا ما يؤكد بوضوح وجود نظام القرى قديما.
وإذن قد كان للأرض القدح المعلى في نمو العشائر المصرية؛ إذ هي التي قد حددت القرى، ومن المحتمل أنها قد وضعت الحدود النهائية للمقاطعات؛ فتغيرت بذلك الأقسام القديمة التي كانت بين القبائل والعشائر، وعلى ذلك يكون من المحقق أن المقاطعات المصرية في الوقت الذي تكون فيها اسمها قد وصلت إلى معرفة حالتيها القانونية والاجتماعية، وهاتان الحالتان هما اللتان نشأ عنهما في وقت واحد الضروريات التي تنجم عن نظام زراعي قد وصل إلى حد ما من الكمال.
Unknown page
أصل المقاطعات وتكوينها
والواقع أنه ليست لدينا أية وثائق مدونة عن أصل نشأة الشعب المصري القديم إلا ما قصته علينا الخرافات والأساطير التقليدية المتوارثة، وكل ما يمكن معرفته في هذا الصدد هو أن البلاد المصرية على ما يظهر كانت تعيش في زمن العصر الحجري القديم عيشة القوم الرعاة على أديم الهضبتين اللوبية والعربية؛ أي الغربية والشرقية اللتين تكتنفان وادي النيل. ولا بد أنه بعد نهاية هذا العهد قد تكونت طبقات من الغرين على أديم الوادي، حيث كان القوم ينشئون مؤسسات قد كشفت عنها الحفائر التي قام بها العلماء حديثا تحت تربة البلاد على عمق يتراوح بين 20 و30 مترا من سطح الخصب الحالي؛ مما جعلنا نقدر عمر تلك المؤسسات بما يقرب من 16000 سنة على وجه التقريب أو التخمين.
وتدل المعلومات الأثرية التي في متناولنا حتى الآن على أن البلاد المصرية كانت مقسمة إلى أقسام إدارية منذ عصر ما قبل الأسرات؛ مما يدل على أن التقسيم الإداري والسياسي الذي ظهر في العهد التاريخي كان سائدا في البلاد معمولا به قبل ظهور الكتابة؛ فقد وجدنا أن الشارات التي كانت تعتبر فيما بعد أسماء للمقاطعات المصرية في العهد التاريخي مرسومة على أواني الفخار التي عثر عليها من عهد ما قبل الأسرات.
وقد لاحظنا كثرة بعض هذه الشارات عن غيرها؛ مما دل على أنه من الجائز كان لها أهمية تفوق غيرها في المكانة، وذلك ما أثبتته النقوش التاريخية فعلا فيما بعد، يضاف إلى ذلك أن هذه الشارات الرمزية الدالة على تلك الأقسام السياسية قد بقيت طوال عصور التاريخ المصري تدل على نفس الإقليم الذي رمزت له رغم ما حدث في البلاد من تقلبات سياسية وتغييرات إدارية ودينية واجتماعية.
والواقع أن معظم هذه الشارات الدالة على الأقاليم المختلفة التي قسمت إليها البلاد، كانت كل منها في الأصل شارة لعشيرة أو قبيلة كانت قد تكونت في وادي النيل قبل العصر التاريخي، وهذه الشارات كانت إما صور حيوان أو شجر أو شيء آخر يدل على مظهر من مظاهر الطبيعة التي كان يلجأ الإنسان لعبادتها في بادئ الأمر لميزة خاصة امتازت بها، وذلك قبل أن يتكون ضميره، وينظر إلى العالم الداخلي في نفسه، ويفهم معنى الله على حقيقته؛ ولذلك كانت هذه الشارات في بادئ الأمر بمثابة معبودات عند المصري في أول ظهوره على أديم وادي النيل.
والواقع أننا في بداية عصر ما قبل التاريخ نجد أن البلاد المصرية كانت مقسمة إلى عدة أقاليم أو مقاطعات كما سميت بعد. وقد سمى المصري المقاطعة بلغته «سبات»، وهذه اللفظة تعني في الأصل قسما، ونفس كتابتها بالمصرية القديمة يدل دلالة واضحة على معناها؛ إذ هي عبارة عن شكل مستطيل قسم بخطوط متوازية وأخرى عمودية عليها هكذا .
وقد وجدنا عددا عظيما من شارات هذه المقاطعات على فخار ما قبل الأسرات، ووجدنا واحدة منها على لوحة «نعرمر» التي يعد من أوائل ملوك الأسرة الأولى. وقد وجدنا بعض هذه المقاطعات مكتوبة لأول مرة في نقوش أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الثالثة وهو المسمى «متن». وفي عهد الأسرة الرابعة عثر الأستاذ «ريزنر» في معبد الملك «منكورع» على عدة مجاميع من التماثيل الثلاثية، كل مجموعة منها تعتبر رمزا لمقاطعة، وكانت كل مجموعة تمثل الملك والملكة، ثم الإله أو الإلهة التي يرمز بها للمقاطعة، ويشاهد على رأس هذا الإله أو الإلهة رسم الشارة التي تدل على اسم المقاطعة؛ مما يدل على أن هذا النظام الإداري في تقسيم البلاد إلى مقاطعات كان متبعا في طول البلاد وعرضها؛ فمثلا نجد أن الأرنب كان يرمز به للمقاطعة الخامسة عشرة من الوجه القبلي «الأشمونين الحالية»، وكذلك الصولجان كان يرمز به للمقاطعة الرابعة وهي الأقصر الحالية. غير أنه مما يؤسف له جد الأسف أن تلك المجاميع المنقطعة القرين التي عثر عليها الأستاذ «ريزنر» ليست كثيرة؛ إذ لم نجد منها إلا أربع مجموعات كاملة، وقطعا من مجموعات أخرى، وتوجد ثلاث من المجموعات السليمة في متحف القاهرة والرابعة في متحف «بوستون». وفي عهد الأسرة الثامنة وجدنا لأول مرة في التاريخ المصري منذ البداية حتى ذلك العهد قائمة تامة بأسماء مقاطعات الوجه القبلي، وعددها 22 مقاطعة، كما وجدناها في القوائم التقليدية الدينية فيما بعد.
هذا، وقد وجدنا بعض أسماء المقاطعات في الوجه القبلي والوجه البحري مذكورة في نقوش «متون الأهرام»، والمتون التي عثر عليها في عهد الدولة القديمة . وقد أشير في متن مقبرة «عنخ بي» مدير الرسائل الذي يرجع تاريخه إلى الأسرة السادسة، بأن هذا العظيم كان يحكم مقاطعات مصر الوسطى؛ أي من المقاطعة الثانية عشرة إلى الثانية والعشرين تقريبا من الوجه القبلي.
والواقع أننا لم نعثر على قائمة تامة بأسماء المقاطعات جميعها في الوجهين القبلي والبحري إلى أن عثر على القائمة التي في معبد «سيتي» الأول بالعرابة المدفونة، وأخرى في معبد «رعمسيس» الثاني في نفس الجهة، وثالثة في معبد «الكرنك» غير أنها مهشمة. على أننا لم نتعرف من تلك القوائم العدد الرسمي التقليدي الذي كان يظن أن البلاد منقسمة إليه منذ عصر ما قبل التاريخ (؟) وهو 42 مقاطعة، منها 22 في الوجه القبلي و20 في الوجه البحري. وهناك طائفة كبيرة من علماء الآثار والتاريخ المصري القديم يظنون - بل يعتقدون - أن هذا هو العدد الأصلي للمقاطعات؛ وذلك استنادا إلى ما جاء في النقوش التي يطلق عليها الآن خطأ اسم «كتاب الموتى»، وهو الذي بدأ يظهر في عالم الوجود في عهد الأسرة الثامنة عشرة؛ إذ يذكر لنا أنه كان يجلس في محكمة «أوزير» يوم القيامة اثنان وأربعون قاضيا، كل واحد منهم يمثل مقاطعة من المقاطعات التي انقسمت إليها البلاد كما يدعون وقتئذ، غير أن ما لدينا ممن القوائم التي عثر عليها من عهد الأسرة التاسعة عشرة لا ينطبق على هذا العدد، وبخاصة فيما يخص الوجه البحري؛ إذ كل ما لدينا من وثائق لا يدل على أن عدد المقاطعات في العهد الفرعوني حتى الأسرة التاسعة عشرة لم يتخط أكثر من 16 مقاطعة. نعم، وجدنا أن قائمة «سيتي الأول» بالعرابة المدفونة الخاصة بالوجه البحري قد رسم عليها ثلاثون شخصا جغرافيا، يمثل كل منها النيل، وكل واحد منها يحمل على رأسه اسما يدل على إقليم أو مكان جغرافي، وذلك بدلا من العشرين مقاطعة التقليدية التي وصلت إلينا من عهد البطالسة، ولكن عندما فحص العالم «دارسي» هذه الأشخاص وما تحمله من أسماء وصل إلى معرفة أن سبعة منها تمثل فروع النيل التي ذكرها مؤلفو اليونان والرومان فيما بعد، وقد بقي من هذه الأسماء ثمانية لم تحقق بعد. وكذلك لوحظ في هذه القائمة أن أسماء المقاطعات 17، 18، 19، 20 لم تذكر في هذه القائمة بين المقاطعات كما نعرف أسماءها فيما بعد. والواقع أن هذه القائمة لم تذكر لنا إلا 16 مقاطعة، وربما كانت السادسة عشرة هي المهشمة في هذه القائمة.
أما مقاطعات الوجه القبلي فقد بقي عددها لا يتغير منذ الأسرة السادسة، ويجوز قبل ذلك؛ وربما يرجع السبب في هذا أن وادي النيل بين «منف» و«أسوان» كان ضيقا، مما ساعد على تثبيت عدد المقاطعات تثبيتا لا تغير فيه من الجنوب إلى الشمال؛ ولا غرابة في ذلك إذ إن الصحراء التي تكتنف الوادي من جانبيه كانت عائقا منيعا، ولا تزال حتى الآن كذلك عائقا في توسيع رقعة الأرض المنزرعة، وتغيير عدد المقاطعات تبعا لذلك، وسنعود إلى الكلام في هذا الموضوع ثانية.
Unknown page
أما في الدلتا فإن الأحوال كانت مختلفة تمام الاختلاف؛ إذ أن الأرض الخصبة فيها كانت شاسعة الأرجاء، ويمكن بشيء من المجهود القليل اكتساب أرض منها للزراعة وضمها إلى رقعة الجهات المعمورة؛ ومن أجل ذلك نجد ترتيب المقاطعات وعددها مختلفا في كل القوائم التي وصلت إلينا من العهد الفرعوني، وهذا خلافا لما نجده في الوجه القبلي؛ إذ نرى أن المقاطعات مرتبة من الجنوب إلى الشمال كأنها عقد نظمت حباته، كل في مكانها الأصلي، على حين أننا نجد حتى في القوائم القديمة جدا أن الترتيب في الوجه البحري في وضع المقاطعات مفقود، وبخاصة في القسم الشرقي من الدلتا؛ فنجد مثلا أن المقاطعة الأولى منها تجاور المقاطعة الثالثة عشرة، والمقاطعة العشرين تجاور المقاطعة الرابعة عشرة وهكذا.
كل هذا يدل على أن تنظيم الدلتا الإداري والسياسي لم يتم إلا ببطء كبير، وأن عدد مقاطعاتها كان لا يزال 16 حتى عهد الأسرة الثانية عشرة، وحتى في الأسرة التاسعة عشرة لم تتجاوز هذا العدد، وذلك إذا صدقنا ما جاء في قائمة «سيتي» الأول - أما من جهة الترتيب فكان كذلك يختلف من قائمة لأخرى، اللهم إلا في القائمتين اللتين عثرنا عليهما حديثا؛ فيظهر لنا أن الترتيب فيهما كان متفقا في كليهما، ولا يمكننا الجزم بذلك؛ لأن بعض المقاطعات في كل قد وجد مفقودا، ولكن شواهد الأحوال تشعرنا بأنهما كانتا متفقتين في الترتيب تقريبا.
ومع أن عدد المقاطعات في الوجه القبلي كان ثابتا في العهد الفرعوني، فإننا على الرغم من ذلك نجد فيه أحيانا بعض الشذوذ؛ فنجد العدد قد يزيد أو ينقص ولو ظاهرا؛ فمثلا نجد في بعض القوائم أن المقاطعتين 11، 19 قد حذفتا من العدد الأصلي؛ ويرجع ذلك لأسباب دينية، وتفسيرها أن هاتين المقاطعتين كانتا تنسبان للإله «ست» الذي يمثل الشر؛ فكان الكاتب يحذفهما تشاؤما، وعاصمة المقاطعة الأولى منهما هي بلدة «شطب» الحالية، وعاصمة المقاطعة الثانية بلدة «البهتا». كذلك من جهة أخرى نجد في قائمة «رعمسيس الثاني» بالعرابة المدفونة أنه قد زيد إقليمان جديدان على عدد المقاطعات الاثنتين والعشرين، واحد منهما بين المقاطعة الرابعة والخامسة؛ أي بين «الأقصر» و«قفط»، والثاني بين المقاطعتين 14، 15؛ أي بين «القوصية» و«الأشمونين».
ويمكننا من كل ما سبق أن نستخلص أن العدد الرسمي للمقاطعات وهو 42، قد يجوز أنه كان موجودا في العهد الفرعوني في صورة دينية، وإن لم نعثر عليه بصورة كاملة في العهد الفرعوني في القوائم التي وصلت إلينا إلى الآن. على أن القوائم التي ذكرت لنا أسماء المقاطعات كاملة ترجع كلها للعهد الإغريقي الروماني، ولا بد أنها ترتكز على أصل ديني توارثه القوم منذ أقدم العهود، كما هو شأن المصري يحافظ على القديم ويضيف إليه ما يستجد دون مساس به. ولا أدل على ذلك مما حدث في عهد «بطليموس التاسع» وهو الإسكندر الأول؛ إذ قد وصل عدد المقاطعات في عهده إلى تسعين مقاطعة؛ فقد دون هذا الملك على الجزء الأسفل من واجهة السور الداخلي لمعبد «إدفو» قائمة بأسماء المقاطعات التي انقسم إليها القطر المصري، غير أننا نجد أنه قد أضاف إلى العدد التقليدي - وهو ال 42 للوجهين القبلي والبحري - 28 إقليما، منها 14 للوجه القبلي و14 للوجه البحري. ومما يلفت النظر في ذلك أن المصري قد راعى في ذلك الموازنة في القسمة بين الأرضين - أي الوجه القبلي والبحري - كما كان يفعل في كل الأمور. على أن هذه الأقسام الجديدة أو المراكز كما يسميها بعض الجغرافيين ليست إلا أقاليم انتزعت من المقاطعات الأصلية، ثم أصبحت مستقلة في إدارتها، وربما قد حدث هذا التغيير لأسباب اقتصادية وزراعية استلزمتها أحوال البلاد؛ فيلاحظ من هذا أن المصري كان يعمل كل تغيير يريده مع المحافظة على التقاليد، وبخاصة ما كان يمس الدين.
على أن هذا التغيير المستمر في عدد المقاطعات كان أمرا طبيعيا؛ فقد ذكر لنا كتاب الإغريق أعدادا مختلفة تزيد وتنقص حسب الأحوال الاقتصادية؛ فقد ذكر لنا «استرابون» مثلا أن عدد المقاطعات كان 36، وذكر «بليني» أنه كان 48، وقال «بطليموس»: إنه وصل إلى 47.
وإذا كانت القوائم التقليدية التي وجدناها بأسماء المقاطعات على جدران معابد البطالسة ترجع في أصلها إلى منبع فرعوني ديني قديم - وهذا لا شك فيه - فإن التفسيرات الملحقة بهذه القوائم تكشف لنا النقاب عن حقائق جغرافية ودينية واجتماعية لم نعثر على جميعها بعد في نقوش العهد الفرعوني التي وصلت إلينا حتى الآن. ونحن نستقي تلك المعلومات من القوائم التي نقلها الأثري العظيم «هنري بركش» في قاموسه الجغرافي عن قوائم بمعبد «إدفو» وغيره ص1358؛ فهو يذكر لنا أولا الأسماء الرسمية لمقاطعات الوجه القبلي، كل بشارتها، وعاصمة كل منها، والعضو الذي دفن فيها من جسم الإله «أوزير»، والآلهة المحلية التي كانت تعبد في المقاطعة، ثم أسماء معابدها، ولقب الكاهن الأعظم، والكهنة الآخرين الذين كانوا يخدمون في المعبد، ثم يذكر لنا اسم الكاهنة العظيمة، ثم اسم سفينة الإله التي كان يحمل فيها وقت الأعياد، واسم الشجرة المقدسة التي كانت تقدس في عاصمة المقاطعة، ثم يذكر لنا قائمة بأسماء الأعياد المحلية التي كانت تقام احتراما للآلهة، ثم يذكر لنا أسماء الأشياء المحرم إتيانها، ثم اسم الثعبان المقدس الخاص بكل مقاطعة، وهو الذي كان يقوم بحراستها من الأعداء.
أما عن طبيعة المقاطعة نفسها فتذكر لنا تلك القوائم أولا: اسم القناة أو الترعة التي تروي المقاطعة، ثانيا : الإقليم الزراعي، ويتألف من حقول وكروم تزرع، وهذا الإقليم هو أرض تروى بالنيل، وبعضها يكون مرتفعا وبعضها منخفضا، حسب موقعها من النيل؛ فكأنه إذن يعطينا صورة طبيعية للإقليم. ثم تذكر لنا الأراضي الواقعة على حدود المقاطعة عند حافة الصحراء، وتشتمل على مناطق للرعي وأخرى لصيد البر وصيد الماء؛ لأنها غالبا تكون مستنقعات؛ فالمقاطعة في الواقع هي منطقة تستغل زراعيا من جهة، ومن جهة أخرى تصرف منها الأمور الإدارية، حيث كانت السلطة التقليدية في يد إله العاصمة الذي كان يحمل لقب «نب»؛ أي رب المدينة، ويدير شئون حكومة هذا الإله حاكم المقاطعة أو الفرعون حسب الأحوال السياسية التي كانت تسود في البلاد. والواقع أن السلطة في كل مقاطعة كانت في جوهرها دينية، وكان حاكم المقاطعة أو الملك يمثل في هذه الحالة الإله.
كل هذه التفسيرات وجدناها ملحقة بقوائم المقاطعات التي وجدت منقوشة على جدران معابد عصر البطالسة والعصر الروماني، غير أننا لم نعثر على مثلها مجتمعة في العصور الفرعونية كما ذكرت من قبل، وقد أخذها علماء الآثار على أنها كانت كلها بتفصيلاتها منقولة عن أصول مصرية عريقة في القدم؛ أي أن المصري كان جامدا لم يتزحزح قيد شعرة عما كان عليه منذ عصر ما قبل التاريخ. والواقع أن المصري كان في الحقيقة محافظا على القديم، غير أنه في الوقت نفسه كان يتمشى مع الزمن وما تقتضيه الأحوال وسنن الرقي، وإلا ما وصل إلى ما وصل إليه من الحضارة التي تعد بحق الآن المنبع الأصلي لكل مدنيات العالم القديمة، وهي تلك الحضارة التي بني عليها مجد العالم الحديث، ولا أدل على تمشي المصري مع مقتضيات الأحوال والزمان والمكان في رقيه وحضارته بخطى ثابتة تدرج نحو الرقي، من أننا إذا قرنا أحواله في عصر من العصور بما يليه لوجدنا أن الفرق شاسع، وأنه ليس بالفرد الجامد الذي رسم لنفسه دائرة منذ القدم ولم يخرج عن طوقها طوال عصور تاريخية.
ولدينا وثيقة هامة عن نظام المقاطعات المصرية في عهد الأسرة الثانية عشرة تثبت لنا صحة هذا الرأي. وقد أمكننا بعد نظرة خاطفة أن نستخلص منها بعض حقائق هامة ذات علاقة وثيقة بالبلاد المصرية من الوجهة الجغرافية والدينية والزراعية، غير أن هذه النواحي لا تزال تحتاج إلى درس طويل عنيف، ربما استغرق زمنا طويلا، ولكني بعد محاولات شاقة في درس متون هذه الوثيقة سأجتهد في أن أضع أمامكم أهميتها، وما يمكن أن يؤدي إليه درسها دراسة وافية من نتائج جديدة لتاريخ البلاد من الوجهة الجغرافية والدينية والزراعية.
والوثيقة التي أشير إليها، هي قائمة فريدة في بابها بأسماء مقاطعات القطر المصري في أوائل حكم الأسرة الثانية عشرة، وقد عثر عليها في ظروف غريبة في بابها جاءت عن طريق محض الصدفة. وتفصيل ذلك أن المهندس «شفرييه» - مدير أعمال معبد «الكرنك» - عندما كان يشتغل في إصلاح البوابة الثالثة التي أقامها الفرعون «أمنحوتب الثالث» في معبد «الكرنك» للإله آمون، اتضح له أن حشو هذه البوابة كان يتألف من أحجار معبدين: الأول منهما كان قد أقامه الفرعون «سنوسرت الأول» ثاني ملوك الأسرة الثانية عشرة، والثاني أقامته الملكة «حتشبسوت وتحتمس الثالث» زوج ابنتها حتشبست لنفس الإله «آمون» في الأسرة الثامنة عشرة. وقد وجدت أحجار المعبد الأول الذي يرجع إلى الأسرة الثانية عشرة كاملة تقريبا، وقد عثر على أحجار كثيرة من المعبد الثاني. ولا ندري لماذا استعمل «أمنحوتب» أحجار هذين المعبدين في بناء بوابة لنفس هذا الإله، أكان ذلك خوفا على أحجارهما من الضياع على يد العابثين أم كان ذلك اقتصادا في قطع الأحجار؟
Unknown page
وعلى أية حال فإن ما فعله «أمنحوتب الثالث» كان خدمة عظيمة للتاريخ لا يقصدها؛ إذ لم يعثر للآن على قائمة كاملة بأسماء المقاطعات المصرية في عهد الدولة الوسطى، وكذلك لم نعثر على مثل تلك القائمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، اللهم إلا ما أسعدنا به الحظ من العثور على بعض أحجار من معبد «حتشبسوت وتحتمس الثالث» عليها أسماء عدة مقاطعات من الوجهين القبلي والبحري. وتمتاز أسماء هذه المقاطعات بأن كلا منها محمول على صورة تمثل إله النيل أو آلهة النيل. وقد ساعدتنا هذه الأسماء على الوصول إلى بعض نتائج هامة. والآن نشرح قائمة الملك «سنوسرت» فنقول:
قسمت هذه القائمة إلى ست خانات الواحدة تلو الأخرى من أعلى إلى أسفل، ففي الخانة الأولى نقشت أسماء المقاطعات مبتدئة من «أسوان» التي تعتبر في نظر المصري المقاطعة الأولى، وهكذا حتى ينتهي بالمقاطعة الثانية والعشرين من مقاطعات الوجه القبلي، ثم يبتدئ بذكر مقاطعات الوجه البحري بالمقاطعة «المنفية»، وينتهي بالمقاطعة الثامنة عشرة (؟).
أما في الخانة الثانية فيذكر لنا اسم الإله الذي يعبد في المقاطعة واسم العاصمة، وأحيانا يكتفي بذكر الإله فقط.
أما الخانات الأربعة والأخيرة فقد ذكر فيها مساحة الأراضي المنزرعة التي تحتويها هذه المقاطعات، غير أني لم أتثبت بعد، هل هذه المقاطعات كانت هي الخاصة بوقف الإله آمون فحسب، أم كانت كل الأراضي المنزرعة في المقاطعة، وبخاصة إذا علمنا أنه عند ذكر اسم المقاطعة كان أحيانا يذكر معه القسم المنزرع أو الأرض المنزرعة. والواقع أن هذه الخانات تحتاج إلى إمعان في الفكر طويل قبل أن يحكم الإنسان على كنهها بالضبط.
وعند فحص خانة أسماء المقاطعات - وهي الخانة الأولى في القائمة - ومقارنتها بمعلوماتنا عن أسماء المقاطعات، وجدنا فيها بعض اختلافات أدت إلى كشف حقائق طريفة تختلف عن التي استقيناها من قوائم عصر «البطالسة»، التي كانت مصدرنا الرئيسي في هذه الناحية.
أولا: نجد أن قائمة «سنوسرت» قسمت البلاد المصرية إلى قسمين رئيسيين، كل واحد منهما تحت سماء واحدة منفصلة؛ ولذلك نجد في الوثيقة أن مقاطعات الوجه القبلي قد غطيت بسماء تبتدئ بالمقاطعة الأولى، وتنتهي عند المقاطعة الثانية والعشرين، وكذلك الحال مع مقاطعات الوجه البحري نجده تحت سماء منفصلة أيضا؛ مما يدل على أن كلا من القطرين كان عالما منفردا قبل توحيد القطرين. ومن جهة أخرى نعرف أن الوجه القبلي قد انقسم إلى قسمين رئيسيين داخليين: القسم الأول يبتدئ بالمقاطعة الأولى جنوبا وهي مقاطعة «آبو»؛ أي «الفنتين» إلى أن نصل إلى المقاطعة العاشرة، وهي التي تسمى مقاطعة «وازيت» وعاصمتها مكان أبو تيج الحالية، ثم نلاحظ أن المقاطعة الثانية والعشرين التي تسمى مقاطعة السكين في قوائم البطالسة قد ذكرت في قائمة «سنوسرت» باسم المقاطعة الفاصلة «حنت»؛ أي التي تفصل بين القطرين الرئيسيين الوجه القبلي والوجه البحري. والواقع أن تقسيم الوجه القبلي إلى قسمين كان معروفا في المتون المصرية قبل عهد «سنوسرت». وقد فهم بعض علماء الآثار هذا التقسيم ضمن المتون المصرية؛ فمثلا نجد في نقش من نقوش الأسرة الحادية عشرة أن مصر العليا كانت تشمل المقاطعات من أول «الفنتين» «أسوان»، إلى المقاطعة «وازيت» وعاصمتها أبو تيج الحالية وكوم أشقاو. وقد سميت في المتن نفسه بأنها باب الشمال؛ أي باب مصر الوسطى، وكذلك نجد أن أسيوط كانت تسمى «تب شمع» «رأس الجنوب» أو نهايته.
وهذا التقسيم قد ذكره مؤلفو اليونان في صورة أخرى؛ فقد قالوا: إن مصر العليا - أي الوجه القبلي - منقسم إلى قسمين: «الطبياد» و«هبتا مونيا» «أي مصر الوسطى»، وذلك من أسوان إلى أسيوط، ومن أسيوط إلى منف في الوجه البحري.
وعند ذكر مقاطعات الوجه البحري نجد أن الكاتب رغم أنه حددها بسماء واحدة، وأراد زيادة في التأكيد أن يعرفها لنا بصورة أخرى فسماها مقاطعات الشمال «سبات محت» وقال: إنها تبتدئ ببلدة «برحعب»؛ أي بيت النيل وهي «الروضة الحالية»، وتنتهي عند بلدة «بحدت» أو «برأمون» وهي بلدة البرمون الحالية. ومما يؤسف له أن أسماء مقاطعات الوجه البحري قد وجد فيها فجوة بعد المقاطعة التاسعة جاء بعدها اسم المقاطعة «المنديسية» «تل الربع الحالية بمركز السمبلاوين»، وهي المقاطعة السادسة عشرة حسب قائمة عصر البطالسة، ثم جاء بعدها مباشرة المقاطعة الثالثة عشرة بدلا من ذكر المقاطعة السابعة عشرة، وجاء بعد ذلك اسم المقاطعة الرابعة عشرة، ثم ترك مكان مقاطعة خاليا، مع ذكر اسم إلهها في خانة الآلهة وهو السبع، وتلك المقاطعة تقابل «التاسعة عشرة» في قائمة البطالسة، وأخيرا ذكرت مقاطعة «بحدت» وهي المقاطعة السابعة عشرة في قائمة البطالسة؛ وبذلك تكون المقاطعات الناقصة عندنا في قائمة «سنوسرت» هي 18، 20. وأعتقد أن المقاطعة الثامنة عشرة كانت في تلك الفترة تكون جزءا من المقاطعة الثالثة عشرة، وبخاصة إذا علمنا أن معبوداتها مذكورة ضمن معبودات تلك المقاطعة، وهي الإلهة «باست» أي القطة.
وعند فحص أسماء المقاطعات في الوجه البحري، ظهر لنا بجلاء أنها كانت تنقسم إلى قسمين رئيسيين، كما هو الحال في الوجه القبلي، مع الفارق أن قسمي الدلتا كان شرقا وغربا بدلا من جنوبا وشمالا في الوجه القبلي. وقد أوضح المصري نفسه هذا التقسيم بتسمية القسم الأول «واحد غرب»، ويحتوي على كل المقاطعات التي في غرب الدلتا، ويشمل المقاطعات 1، 2، 3، 4، 5، 6، والمقاطعة السابعة وهي التي في نهاية الحدود الغربية وعاصمتها «متليس» التي يقول عنها «دارسي»: إنها بلدة «مليج الحالية» القريبة من «فوه».
أما القسم الشرقي فيشمل المقاطعات من 88 إلى 200، وقد سمى قسم «واحد شرق»، والمقاطعة الثامنة هي التي تسمى «واحد شرق» وعاصمتها - على ما أعتقد - هي «تل اليهودية» الحالي. ونشاهد أن ترتيب المقاطعات في القسم الغربي كان يجري على نظام منطقي؛ إذ نشاهد أنه يبتدئ بالمقاطعة الأولى وهي مقاطعة «الجدار الأبيض» أي «منف»، ثم المقاطعة الثانية تصاعديا من الجنوب إلى الشمال إلى أن يصل إلى البحر، ثم يعود ثانية من الجنوب بالمقاطعة الرابعة، فالخامسة فالسادسة شمالا إلى أن يصل إلى البحر، ثم يذكر لنا المقاطعة السابعة التي هي واحد غرب؛ أي نهاية حدود هذا القسم الغربي. أما في القسم واحد شرق فنجد اختلافا في ترتيب كل قائمة وصلت إلينا عن الأخرى، وبخاصة في قوائم عهد البطالسة؛ إذ لا نجد فيها أي نظام قط في الترتيب، فنجد المقاطعة الأولى مثلا ملاصقة للمقاطعة الثالثة عشرة وهكذا.
Unknown page
وهنا يجب قبل أن ننتقل للخانة الثانية أن نلفت النظر إلى الحقيقة الجغرافية الآتية عند المصريين، وذلك أنهم عندما كانوا يريدون تحديد الجهات الأربع لم يتفقوا معنا في وجهة النظر؛ إذ كانوا على العكس منا ينظرون إلى الجنوب فيكون الغرب على يمينهم والشرق على يسارهم؛ ومن هنا كان يجيء في الصف الأول من حيث الأهمية الجنوب والغرب؛ وسبب ذلك أن المصري كان أول جهة ينظر إليها هي الجهة التي ينبع منها نيل مصر وهي الجنوب، وكانت هذه الجهة هي منتهى أفقه؛ إذ كان يظن أن النيل ينبع من بين حجرين في منطقة أسوان، التي كان يرى أنها في بادئ تاريخه نهاية العالم عنده وليس بعدها أقطار أخرى.
وكان يرى أن الجهة الغربية هي المكان الذي تذهب إليه روحه في عالم الآخرة؛ ولذلك كان يسمي الأموات أهل اليمين أي أهل الغرب.
ننتقل بعد ذلك إلى الخانة الثانية، وهي التي ذكر فيها أسماء الآلهة التي كانت تعبد في كل مقاطعة؛ فيذكر لنا في نفس الخانة أسماء عواصم المقاطعات كل منها على حدتها؛ فنجد بمقارنتها بما لدينا من أسماء الآلهة والعواصم في عصر البطالسة اختلافا ظاهرا في بعض الأحيان؛ وذلك يرجع إلى أسباب عدة:
أولا:
دلت البحوث العلمية على أنه كان لكل مقاطعة شارة ورمز، فشارة المقاطعة كانت أقدم من رمزها؛ وذلك لأن الشارة ترجع في أصلها إلى عبادة الجد الذي كانت تنسب إليه العشيرة أو القبيلة، ثم بعد انضمام العشائر والقبائل بعضها إلى بعض وتأليف مقاطعة منها، كانت شارة العشيرة صاحبة السلطان هي التي تسود كل شارات العشائر الأخرى التي تتألف منها المقاطعة، ولما كانت هذه الشارة ترمز للجد الأصلي الذي كانت تلتف حوله هذه العشيرة وتقدسه، فإنها كانت تؤلهه وتعتبره كمعبود يعبد في كل المقاطعة؛ ولذلك كانت توضع هذه الشارة على حامل وأمامها إناء فيه المأكل والمشرب كما يفعل مع الآلهة.
على أنه من الجائز أن يكون للمقاطعة معبود آخر أجنبي أتى إليها من الخارج فيعظمه كل أفراد المقاطعة بالتساوي، غير أن ذلك كان لا يقضي على تأليه شارة المقاطعة الأصلية، وكان هذا الإله الجديد الذي تعبده كل المقاطعة بدرجة واحدة يعتبر الرمز الديني لها؛ فكان بذلك يوجد في المقاطعة في معظم الأحيان رمز وشارة جنبا لجنب، غير أن الأول - وهو الإله - كان له الأفضلية.
ثانيا:
دلت الأبحاث التاريخية على أن أرض الدلتا قد بدأ تطورها نحو الرقي قبل الوجه القبلي؛ إذ تدل الأبحاث الجديدة والنظريات القريبة من الصواب، أنه قد تكون في أرض الدلتا عدة أحلاف ضمت إليها عددا لا يستهان به من المقاطعات، منها الحلف الغربي، وقد كان يتكون من بعض مقاطعات الدلتا الغربية، ثم حلف الإله «عنزتي» الذي كان مقره أبو صير القريبة من سمنود، ثم خلفه في نفس هذا المكان الإله «أوزير»، وكون حلفا عظيما شمل معظم مقاطعات الدلتا، ثم حلف «حور»، ثم أحلاف أخرى انتهى الأمر بأن جمعت كل جهات الدلتا في حلف واحد على رأسه مدينة «بونو» «أبطو الحالية مركز دسوق». وهذه الأحلاف كانت قد تكونت إما بالمصادفة بين المقاطعات المتجاورة التي كانت تربطها ببعضها رابطة الدين، أو تربطها ببعضها مصالح مشتركة كالتجارة والزراعة، أو كانت المقاطعة القوية عندما تكتظ بلادها بالسكان تسعى في استعمار المقاطعات الضعيفة أو الأماكن غير الآهلة بالسكان، وبذلك كانت تتسع رقعة أرض الحلف.
ولما ضاقت البلاد ذرعا بأهل الدلتا اتجه سكانها إلى استعمار مقاطعات الصعيد التي كانوا يعرفونها عن طريق التجارة؛ ومن ثم نشب الشجار بين «حور» و«ست» والأول هو ملك الوجه البحري، والثاني هو ملك الوجه القبلي، كما ذكرت لنا ذلك الأساطير المصرية القديمة. غير أن «حور» ومن قبله «أوزير» قد تمكنا من إرسال مستعمرين إلى مقاطعات الوجه القبلي؛ فكونوا بذلك رابطة بينهم وبين مقاطعاتهم الأصلية في الدلتا؛ مما أدى إلى زيادة التجارة بين القطرين. ولا أدل على ذلك الاستعمار ورسوخ قدمه في الوجه القبلي من أننا نجد أن المستعمرين الذين وفدوا من الدلتا كانوا ينقلون معهم معبوداتهم؛ إذ نجد أن المعبودات التي كانت تعبد في الدلتا قد أخذت لها مكانة في مقاطعات الوجه القبلي؛ فنجد مثلا أن عبادة الإلهة «وازيت» التي كانت تصور في شكل ثعبان أو بقرة كانت تعبد في المقاطعات العاشرة والسابعة والاثنين والعشرين من الوجه القبلي، وهذه الإلهة وفدت مع المستعمرين الذين أتوا من «بونو» بالوجه البحري، وهي التي كانت تعد أعظم مدنه في عصور ما قبل الأسرات، وكذلك نجد أن الكبش قد انتقلت عبادته إلى الوجه القبلي في المقاطعة الحادية عشرة، وهي التي كان معبودها الأصلي الإله «ست»، وكذلك انتقلت عبادة الإله «أوزير» من «أبو صير» مقره الأصلي إلى المقاطعة الثامنة وعاصمتها العرابة المدفونة، وقد كان معبودها الأصلي الإله «خنت أمنتي» وكان يصور في صورة «ذئب».
ثالثا:
Unknown page
كانت بعض المقاطعات ذات شأن؛ وبذلك كان يرتفع معها إلهها «فيسود» على ما حوله من المقاطعات الضعيفة، ويصبح ضمن معبوداتها فضلا عن معبودها الأصلي؛ ومن هذا نرى أنه في مختلف العصور المصرية القديمة قد تتزايد المعبودات في مقاطعة واحدة فيصبح عددها عظيما؛ وبذلك يختلط المعبود الأصلي بالمعبودات التي انضمت إلى المقاطعة، وهذا ما نجده في عصر البطالسة؛ ولذلك كان من الأمور الهامة أن يسعدنا الحظ بالعثور على وثيقة قديمة تمكننا من معرفة أصل المعبودات القديمة التي كانت تعبد في المقاطعات، وهذا ما وجدناه في وثيقة «سنوسرت الأول».
رابعا:
تدل أسماء العواصم التي عثرنا عليها في قائمة «سنوسرت الأول» أنها تختلف اختلافا ظاهرا في بعض الأحيان عما نجده في الوثائق التي وصلتنا من عهد البطالسة، بل نجد فضلا عن ذلك أسماء عواصم جديدة لم يرد ذكر اسمها قط، وتحتاج إلى درس دقيق وبحث طويل، وسنذكر بعضها عند عرض قائمة «سنوسرت».
أما الخانات الأربعة الأخيرة فتدل على أرقام قد تؤول على أحد تفسيرين: فإما أن تكون مساحة الأرض المنزرعة في كل مقاطعة، وإما أن تكون مساحة الأراضي التي كانت محبوسة على كهنة «آمون» لتقديم القربان من خراجها لهذا الإله، كما نشاهد ذلك الآن في الأوقاف التي تحبس على الأولياء مثل السيد البدوي وسيدنا الحسين ... إلخ.
ونتساءل الآن في نهاية هذه العجالة، لماذا قسمت الأراضي المصرية إلى مقاطعات؟ ثم نتساءل هل كانت أنظمة الحكم في كل مقاطعة واحدة؟ والجواب على ذلك هو أنه توجد عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية دعت إلى تقسيم البلاد إلى مقاطعات، ثم دعت إلى اختلاف أنظمة الحكم في كل من مقاطعات الوجه البحري ومقاطعات الوجه القبلي؛ فكان الحكم في الأولى حكما ديموقراطيا، وفي الثانية حكما استبداديا (أرستقراطيا)، وإليك تلك العوامل التي أدت إلى ذلك:
أولا: يلاحظ أن وادي النيل الذي تتألف منه البلاد المصرية هو شريط مترامي الأطراف، يمتد ما بين أسوان والإسكندرية، فدرجة حرارة هذا الإقليم الطويل تختلف اختلافا بينا بين هذين البلدين، يضاف إلى ذلك أن حياة أهل الإقليم كانت ولا تزال تتوقف على ماء النيل؛ ومن هنا كان الارتباط الشديد بين المصري والطين الذي يروى بماء النيل. وليس أدل على هذا الارتباط من أن المصري منذ نشأته كان يؤله هذا النهر في كل مقاطعة من المقاطعات التي انقسمت إليها البلاد؛ فكان يرسمه في شكل رجل عظيم الجسم ضخم الثديين، أو في صورة امرأة ممشوقة القوام تحمل على يديها ما تنتجه أرض المقاطعة من خيرات، وكذلك مثله في الإله «أوزير» الذي كان يمثل الخضرة والنماء، فكان يحيا كل سنة مع الفيضان ويموت عند التحاريق، كما أن المصري مثل الصحراء القاحلة بالإله «ست» قاتل الإله «أوزير»، وهذا هو السبب الذي جعل الإغريق يمثلون أوزير بإله الخير وست بإله الشر. وكذلك عبد المصري كل الحيوانات التي لها علاقة بالنيل كالتمساح والضفدعة والسمكة؛ لأنها من مظاهره شرا كانت أو خيرا.
وكان من لوازم اختلاف مميزات البيئة المحلية - سواء أكان مناخيا أم طبيعيا في هذا الإقليم الطويل - تأليف جماعات يتفق سكان كل منها في الأمزجة والمشارب والأخلاق؛ فلم تكن رابطة العشيرة أو القرابة أو الجوار هي العامل الأكبر في تكوين المقاطعات، بل كان أعظم العوامل عاملان هما عامل المناخ وعامل الدين، وكانا يؤثران في المصري معا؛ فنجد نفس الإله الذي كان يعبد في المقاطعة - وهو الذي كانت تلتف حوله قلوب كل الأفراد - كان ينتخب من نفس طبيعة البيئة التي يعيش فيها أهل المقاطعة؛ فنجد مثلا أن الإله أوزير الذي يمثل الخصب والنماء كان يعبد في وسط الدلتا التي هي أكبر مظهر للأقاليم الزراعية في مصر، وكذلك نجد المصري عبد الثور في الدلتا؛ لأنها كانت أراض تزخر بالمراعي، وكان الثور يساعد الفلاح على حرث الأرض، وكذلك نجده عبد البقرة لنفس هذا السبب، فضلا عن أنها كانت تغذي المصري بألبانها وتمثل الأم الحنون، وكذلك نجده عبد في الدلتا اللبؤة والسبع اللذين كانا يعيشان على حافتي الصحراء في الدلتا، حتى إنه قد أطلق على المقاطعة التاسعة عشرة مقاطعة السبع، وعاصمتها يشغلها الآن «تل المقدام» مركز ميت غمر، وكذلك الثعبان كان يعبد في أراضي مستنقعات الدلتا، وهي المكان الذي يفرخ وينمو فيه بكثرة، وسميت باسمه بلدة «وزيت»؛ أي الثعبان، وهي قرية «أبطو» الحالية في مركز دسوق «وبونو» عند المصريين.
وكذلك عبد في الدلتا التمساح باسم «سبك»، وبخاصة في الجهات التي كان يكثر فيها المياه بين فرعي الدلتا في مديرتي المنوفية والغربية. وقد بقي إلى الآن أدلة مادية تقرر حقيقة ذلك؛ إذ نجد حتى الآن بلادا في وسط الدلتا تسمى باسم هذا الإله مثل «سبك التلات، وسبك الأحد، وسبك الضحاك، وشبرا امساح».
ونشاهد في الوجه القبلي أن المصري كان يعبد في الجهات القريبة من الصحراء الثعلب والذئب وابن آوى؛ وذلك درءا لشرها أو طلبا لمنفعة منها. وعلى أية حال نجد أن المصري كان يتعبد لهذه الآلهة؛ إما طلبا لمنفعة أو درءا لشر، وفي ذلك القول نجد فلسفة كل الأديان.
ومما سبق نرى أن تقسيم البلاد إلى أقاليم منعزلة بعضها سياسيا واجتماعيا كان أمرا تستلزمه العوامل الجغرافية المحضة؛ إذ هي التي كيفت كل مقاطعة بطابع خاص وعادات خاصة ودين خاص؛ ولذلك نرى أنه من خطل الرأي عندما نعثر على وثيقة فيها بعض العادات الخاصة أن ننسبها إلى كل البلاد، إذ ربما تكون في معظم الأحيان خاصة بإقليم واحد بعينه. ولقد كان المصري نفسه يشعر بالاختلاف البين الذي كان بين أهالي الصعيد وأهالي الدلتا؛ إذ قال كاتب قصة سنوهي المشهورة عندما كان يريد أن يبين أن الكلام الذي يقال لا يفهم، «كأن إنسانا من الدلتا يخاطب آخر من «الفنتين» «أسوان» أي بكلام لا يفهم؛ لأن الفرق بينهما كان عظيما»، ولعمري! فإن هذا أمر نشاهده نحن الآن بين ظهرانينا، فهل إذا تكلم فرد من أهالي جرجا بلهجته الخاصة لقاهري يكون كلامه مفهوما؟!
Unknown page
أما الأنظمة الحكومية في الوجه القبلي والبحري فكانت بطبيعة الحال تختلف في القطرين كل الاختلاف؛ إذ إن الوجه القبلي كان في أصله بلادا زراعية، وقد أدخلت فيه الحضارة بعد الدلتا بزمن طويل، وكانت الدلتا معظمها مؤلف من مدن سكانها يشتغلون بالتجارة والصناعة؛ ومن أجل ذلك كانت أغنى البلاد المصرية سكانا وأعرقها حضارة. وتدل البحوث التاريخية على أن نظام الحكم في الدلتا كان ديموقراطيا، كما أن الحكم في الوجه القبلي كان أرستقراطيا استبداديا غاشما، ولدينا من الوثائق ما يثبت ذلك.
لقد بقي تاريخ بلاد الدلتا غامضا أمامنا لقلة ما لدينا من المصادر الأثرية؛ ولذلك كانت كل البحوث تتجه برمتها لبلاد الوجه القبلي. وقد استمر الحال كذلك إلى أن وقعت في أيدينا وثائق ذات أهمية ممتازة، تسهل علينا درس مدن الوجه البحري واقتفاء أثر أنظمتها على وجه عام، وفهم أصل نشأتها الاجتماعية منذ عصر ما قبل الأسرات وعصر الإقطاع الإهناسي.
ففي عصر ما قبل الأسرات ألقت اللوحات الأثرية التي تركها لنا ملوك الجنوب نورا خاطفا على مدن الدلتا؛ فقد مثل على واحدة منها ملوك هذا العهد وهم يهدمون بعض تلك المدن. ولوحة الملك «نعرمر» - الذي يختلط اسمه باسم الملك «مينا» مؤسس الوحدة المصرية - لها أهمية عظيمة جدا في موضوعنا هذا؛ فقد مثل هذا الملك وهو يضرب عصاة الدلتا وهو مرتد تاج الوجه القبلي، وهؤلاء العصاة هم طائفة من المصريين يسمون «رخيت» أي سكان المدن، وكانوا من الخوارج على هذا الملك؛ فذبح منهم خلقا كثيرا، وبعد ذلك قهر بلدة «متليس» «بالقرب من فوه» البحرية التي كانت ثائرة عليه، وهذه البلدة تميز على لوحة «نعرمر» برمزها الخاص بمقاطعتها وهو الخطاف الغربي، وقد أمر الملك بإزالة جدرانها وقطع رقاب العشرة الرجال الذين كانوا يديرون شئونها. وهذا النصر كان بلا شك حاسما؛ لأن الملك كان في تلك الآونة يلبس التاجين الأحمر والأبيض.
على أن توحيد البلاد في عهد «مينا» لم يجعل الأمور تستقر في بلاد الدلتا نهائيا؛ وذلك لأن ذكرى استقلالها القديم كان يعاودها فتقوم بثورات ضد السلطة الملكية، كما جاء خبر ذلك في حجر «بلرم». وأخيرا قضت الأسرة الثالثة على كل مقاومة من ناحية مدن الدلتا؛ فلم نعد نجد بعد أثرا للعشرة الرجال الذين كانوا يحكمون كل مدينة منذ أربعة أجيال مضت. وكانت هذه المدن قد وضعت تحت إدارة حكام ملكيين يحمل كل منهم لقب «عزمر»؛ أي المشرف على حفر الترع، وربما كان حفر الترع هذا أهم عمل يستحق العناية في الدلتا في ذلك الوقت، ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن الدلتا كانت في حاجة إلى توزيع المياه والعناية بها في كل الأزمان، وسنرى أن النيل في الدلتا كان من الأسلحة التي يشهرها الملك على كل بلدة تعصيه؛ وذلك بحجز المياه عنها بإقامة سد فيه فيعطل تجارتها وري الأراضي التي حولها، وبخاصة إذا علمنا أن مدن الوجه البحري كانت تعيش فيما بينها على التجارة بالنيل وترعه. والظاهر أن هذه المدن كانت لا تزال تحتفظ بعض الشيء باستقلال قضائي وقانون مالي يختلف عن الجهات الزراعية الأخرى في البلاد. والواقع أن سكان مدن الدلتا «رخيت» رغم أنهم كانوا يخضعون تدريجيا للقانون العام في البلاد كلما تمركزت السلطة الرئيسية في يد أسرة قوية، إلا أنهم كانوا قد حافظوا طوال حكم الدولة القديمة على طابع خاص بهم من الوجهة الاجتماعية لم ينثنوا عنه.
ومن الأمور الهامة في تاريخ العهد الإقطاعي مدة الأسرة التاسعة؛ إذ رأينا أن العشرة الرجال الذين شاهدناهم في لوحة «نعرمر» بصفتهم حكاما يحكمون المدينة قبل تمركز السلطة الملكية في يد «مينا»، قد ظهروا ثانية في متن تعاليم الملك «خبتي» لابنه «مريكارع». وهذا المتن له أهمية خاصة في كشف النقاب عن سيادة نظام الحكم الديموقراطي في بلاد الدلتا، وتمسكهم به طوال تاريخهم كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
ومن هذا المتن نعرف أن الدلتا في العهد الإقطاعي؛ أي حينما انحلت عرى اتحاد البلاد، كانت على العكس من مصر الوسطى مقسمة بين كبار رجالها، وكانت تتألف من مراكز «سبات» لكل منها مدينة عظيمة، وفي كل من هذه المدن كانت السيادة في أيدي عشرة رجال من كبرائها، وكان الحاكم يستمد إيراداته من الضرائب المختلفة، أما الكاهن فكان له حقل بصفة مرتب له.
ويصف لنا المتن مدينة «أتريب» بنها الحالية تقريبا «بأنها من أهم المدن، وتقع في وسط الدلتا على الفرع الأوسط للنيل، وهي المركز الرئيسي للطريق الذي يؤدي إلى البلاد الأجنبية، وأسوارها وجنودها كثيرة، ويبلغ تعدادها عشرة آلاف رجل - أي من الذين ينطبق عليهم صفة المواطنين - أحرار لا يدفعون ضرائب؛ ويعني بذلك الضرائب أو السخرة للملك؛ إذ المتن في الواقع يشير إلى الضرائب التي تدفع إلى حكومة المدينة.
ولهذه المدينة حكام منذ زمن الحاضرة أي منذ عصر الإله «أوزير»؛ أي عصر ما قبل التاريخ الذي تنسب إليه اللوحات المنقوشة، وهي التي عرفنا منها هؤلاء الحكام؛ أي العشرة الرجال الذين كانوا يحكمون كل بلد، وحدودها ثابتة وقوية، وحاميتها مؤلفة من جم غفير من رجال الشمال. وبلاد الدلتا تنتج القمح بلا قيد ولا شرط، وهذا القمح ملك لمن يزرعه. حقا كانت هذه هي الميزة الأساسية لبلاد الشمال.»
ولا نزاع في أن هذه الأسطر القليلة من هذا المتن تظهر لنا بوضوح حال مدن الدلتا؛ فكان يدير شئونها حكام، وهم العشرة الرجال؛ وعلى ذلك كانت المدينة بالنسبة للملك كإقطاعة ولكن ليست تابعة لأمير إقطاعي؛ وهذا ما يدل على أن الدلتا لم تكن مقسمة إلى إمارات إقطاعية يحكم كل واحدة منها أمير وراثي كما كان الحال في الوجه القبلي، ولكن كانت مقسمة إلى مدن منظمة في صورة جمهوريات تتمتع كل منها بحكم ذاتي وتحت سيطرتها الأراضي الزراعية، وكان سكان أهل هذه المدن يتألفون من مواطنين أحرار، ساكنين داخل أسوار مدينتهم، وفي حوزتهم الأراضي التي تحيط بالمدينة، أما مصدر حياتهم فكانت التجارة، وقد كانت القوافل البرية تلتقي في هذه المدن، وكذلك كانت تلتقي فيها السفن التي كانت تجري في النيل إلى مرافئها، وفي أراضي هذه المدن لم يكن نظام عمال الإقطاعات «التملي» موجودا، بل كان القمح ينتجه الزراع بكل حرية وما تخرجه الأرض من محصول يكون ملكا خاصا لزراعه.
وسكان تلك المدن يتألفون من الطبقة الوسطى الحرة، ولم يكونوا قط من طبقة الأشراف، وكان يتألف من هذه الطبقة «الوسطى» أحزاب سياسية تتطاحن فيما بينها بعنف وشدة. وهذا هو السبب الذي جعلنا نعتقد أن العشرة الرجال الذين كانوا يديرون شئون كل بلد، كانوا ينتخبون من أهل البلد نفسها. وفي فقرة من متن «خبتي» الذي نحن بصدده يفسر لنا الملك كيف أنه انتهز الفرصة لإجبار المدن على الخضوع له؛ وذلك أن مدن الدلتا كانت دائما في حروب مستمرة فيما بينها؛ فمثلا نجد أن مدينة «أتريب» قد أقامت ضدها مدينة «إهناس» حاضرة الملك سدا في النيل لأجل إخضاعها، وهذا السد طبعا يكون في عرض النهر؛ لأجل وقف الملاحة لإجبار المدينة الناهضة على التسليم والخضوع. وهذه نفس الطريقة التي يشير إليها الملك عند قوله بأنه يمنع المدن من أن تثور ضده لأنه سيد النيل، وأنه بإرادته يمكن أن يأتي النيل أو لا يأتي إلى مدن الدلتا.
Unknown page
ومن ذلك نعلم أن فيضان النيل وسده كانا العاملين الفعالين للسيادة على المدن العاصية؛ إذ إن إغراق الأراضي بالمياه يعوق زرع الغلال فيها، وهي مادة التجارة في المدن، وحبس المياه يمنع الملاحة؛ ولذلك يصف لنا الملك «خبتي» الحرب التي شنها على الدلتا فيقول: «أقم سدا ضد نصف البلاد واغمر النصف الثاني بالمياه بما في ذلك مدينة «أتريب».» فهذه الجملة مع إيجازها لها أهمية استثنائية؛ إذ تبرهن لنا أن كل المدن في الدلتا كانت تتوقف حياتها على النيل؛ لأنه الطريق العظيم للتجارة التي منها تعيش، وحافظت به على حريتها في داخل أسوارها.
ونجد من عرض نظام الحكم في مدن الدلتا في العهد الإقطاعي المصري، أن تعاليم «خبتي» لابنه «مريكارع» تحتل - على ما يظهر لنا - مكانة تاريخية ممتازة ذات أهمية فريدة في بابها.
فاللوحات التي من عهد عصر ما قبل الأسرات قد أثبتت لنا وجود الحكم الذاتي الديموقراطي في مدن الدلتا قبل عهد «مينا»، وتعاليم «خبتي» قد وصفت لنا الحياة الديموقراطية الصاخبة التي كان يتمتع بها أهل تلك المدن، وكذلك تبرهن لنا على أنه في خلال الفترة التي بين عهد ما قبل الأسرات إلى نهاية الدولة القديمة، لم ينس مصريو الدلتا ما فطروا عليه من حب الاستقلال الذاتي؛ فعادوا ثانية إليه عندما أتتهم الفرصة؛ ومن ذلك نعلم أن الدلتا كانت تلعب دورا غاية في الأهمية في تاريخ نظام الحكم في العالم لم يسبقها إليه غيرها. غير أن هذا الدور الذي كان يختلط مع الحياة العامة المصرية في عهد الإمبراطورية فيغمره، كان يبرز إلى عالم الوجود في الدلتا كلما رجعت البلاد إلى سيرتها الأولى من الانقسام والانحلال، وإعادة حكم الإقطاعات؛ فكانت مدن الدلتا تعود إلى حكوماتها الديمقراطية، ومقاطعات الوجه القبلي ترجع إلى عهد حكم الأمراء المستبدين.
وقد كان أكبر مظهر لعودة الحكم الديموقراطي في مدن الدلتا بعد العهد الإهناسي ما تمتعت به تلك المدن من الحكم الذاتي، عندما انحلت البلاد ثانية في عهد العصر الإقطاعي الثاني الذي استمر في البلاد من عهد الأسر 21-25؛ إذ أصبحت في تلك الفترة كل مدن الدلتا تدين بالحكم الديمقراطي.
وهكذا نرى أن النظام الديموقراطي في الوجه البحري كان يحيا ثانية في مدنه كلما انحلت عرى الاتحاد في البلاد، وعادت إلى سيرتها على ما كانت عليه منذ عصر ما قبل التاريخ. والواقع أن مدن الدلتا كانت تشبه الجزر التي تحيط بها الأراضي الزراعية من كل جهة، تتمتع بحكومات مستقلة ذات سيادة بفضل تجارتها وملاحتها؛ مما منحها حرية كانت لا تختلف في مقدارها عن تلك الحريات التي كانت تتمتع بها مدن سهل لومبردي والفلندرز في وسط الحكومات الإقطاعية، التي كانت تحيط بها منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر. وبعد ذلك كله، أفلا يحق لنا أن نقول: إن أمجد النظم الحكومية كان منشؤه في مصر، وكان مهده الأول فيها الوجه البحري الذي لا بد قد تسرب منه إلى العالم القديم؟!
الفصل الأول
مقاطعات الوجه القبلي
المقاطعة الأولى
شكل 1-1: اسمها بالمصرية «ناستي» يعني مقاطعة القوس أو حامل القوس.
هذه المقاطعة هي بداية مقاطعات الوجه القبلي، أو بعبارة أخرى أول مقاطعات البلاد المصرية من جهة الجنوب، تمشيا مع مجرى النيل، وتبعا للسنة المصرية في تعرفهم الجهات الأصلية؛ فهم يتجهون إلى جهة الجنوب ويكون الغرب على يمينهم والشرق على يسارهم، ولا غرابة في ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن أهم جهة تتجه إليها أنظارهم هي الجهة التي ينبع منها نيلهم العظيم. ولدينا من المبررات ما يثبت ذلك القول؛ فهم أولا يسمون الغرب جهة اليمين، يضاف إلى ذلك أن اسم هذه المقاطعة يكتب كذلك: (انظر شكل
Unknown page
1-1 )؛ أي بداية المقاطعات، والعاصمة كانت تسمى «سبات-حات» (مدينة المقاطعة الأولى)،
1
وهذه المقاطعة تشغل جزءا عظيما من بلاد النوبة السفلية التي كانت تبتدئ في العهد الفرعوني عند السلسلة شمالا.
وقد ذكرنا أن العاصمة هي «تا. ستي»، وقلنا إن معناها أرض القوس أو أرض الرامي بالقوس. غير أن بعض فقهاء اللغة المصرية قالوا: إن معنى هذا التعبير أرض المعدن «ستي» وهو معدن يستعمل في التلوين، غير أن لونه غير متفق عليه. والواقع أن الأمثلة التي في متناولنا تدل على أن القوس أقدم من هذا المعدن. وتسمى كذلك هذه العاصمة في أقدم العصور «آبو» أي جزيرة العاج، وقد ترجمها الإغريق بكلمة «الفنتين»، وهي ما تسمى الآن «جزيرة أسوان» الواقعة قبالة بلدة أسوان الحالية، وقد بقي الاسم المصري القديم في الإغريقية وفي بعض أسماء مركبة مثل «خنم. سيد الفنتين» «خنوم نبيب».
2
وقد استمرت «الفنتين» العاصمة حتى العصر الصاوي. ويقول الأستاذ «زيته»: إن في اسم جزيرة الفيلة دليلا على تقدم المصري في نشر حضارته من الشمال إلى الجنوب؛ أي إنه أخذ في نشر حضارته إلى أرض الفيلة عند الشلال الأول. والدليل على ذلك أن المصري كان يعتقد أن النيل ينبع من هذه الجهة من بين صخرتين، وفي ذلك برهان على عدم معرفة المصريين الشيء الكثير عن حضارة تلك الأقاليم النائية في بداية تاريخهم.
المدن التي بقي اسمها في العربية حتى الآن:
أسوان: (سوان، سونو) وفي العصر الصاوي الأثيوبي حلت مدينة أسوان محل عاصمة المقاطعة الأولى، وهي كما ذكرنا تقع قبالتها على الشاطئ الأيمن للنيل. وقد ذكرت في النقوش العبرية باسم «سوونه»، كذلك ذكرت في الآرامية وبقيت في الإغريقية، وفي اللاتينية وفي القبطية وفي العربية «سوان» أو «أسوان»، ويحتمل أن يكون معنى هذا الاسم مكان التجارة، وهو مشتق من الفعل «سون» بمعنى يتجر.
كوم أمبو: (نبيت) وهي مدينة عريقة في القدم، تقع في المقاطعة الأولى التي نحن بصددها على الضفة اليمنى للنيل، ولأهميتها أصبحت في العهود المتأخرة عاصمة لمقاطعة مستقلة «تبي»، وقد سماها الإغريق والرومان «أومبت». وقد أقاموا فيها معبدا مزدوجا للإله «حور بن إزيس»، والإله «سبك» (التمساح). وقد حفظ الاسم المصري القديم لهذه البلدة في الإغريقية
Ombos
Unknown page
وباللاتينية
Ombos
أو
Ambos ، وحفظ في القبطية باسم
Mbw
أو
wmbon
أو
Embw ، أما في العربية فهو «كوم أمبو». وقد فسر بعض العلماء هذه الكلمة بأنها تعني «مدينة الذهب»، وفرضوا أنه كان هناك طريق يخرج منها عبر الصحراء الشرقية؛ ليصل إلى مناجم الذهب في بلاد النوبة.
3
Unknown page
المعبودات
الظاهر أن أول معبود قدس في هذه المقاطعة هو الإله «حور»؛ كما يدل على ذلك أقدم قائمة عثر عليها حتى الآن بأسماء المقاطعات؛ وأعني بها «سنوسرت الأول». وفي الدولة الحديثة نجد أن الإله «خنوم» وزوجته «ستيت»، «وعنقيت» كانت تقدس في هذه المقاطعات. وقد أقام لهذه المعبودات أسرة «تحتمس» و«أمنحوتب» معابد، غير أنها خربت واتخذت حجارتها للبناء. وفي هذه المقاطعة يوجد مقياس النيل الفرعوني شاهدا على العهد الذي كان يحتفل فيه كل سنة مدة سبعة أيام في مدينة «الفنتين»، حيث كانت تقام الأعياد الفخمة تعظيما لإله النيل المقدس، الذي كان يظن أنه ينبع من بين صخرتين في هذه الجهة، وكان يلقى فيه كأس من الذهب وآخر من الفضة، وبعض تماثيل للنيل وزوجه، لا بنت بكر كما هو الشائع الآن.
المقاطعة الثانية
شكل 1-2
اسم هذه المقاطعة بالمصرية «أمنتي» أو «أمنتي حور»، ومعناها الغربية أو مقاطعة حور الغربية (انظر شكل
1-2
قبلي).
تدل أقدم القوائم التي عثر عليها حتى الآن، على أن رمز المقاطعة الثانية من مقاطعات الوجه القبلي هو نفس رمز المقاطعة الثالثة من مقاطعات الوجه البحري (انظر شكل
1-3 )؛ وعلى ذلك لا بد أن تقرأ علامة تلك المقاطعة بلفظة «أمنتي» أو «حور. أمنتي»، غير أننا نجد في قائمة «سنوسرت» الأول التي تكلمنا عنها هنا أن بعد لفظة «أمنتي» (الغربية) كلمتين هما «ش. جس»، ومعناهما القسم المزروع أو الذي يرويه الفيضان. والظاهر أن هذه الجملة قد ذكرت بعد علامة المقاطعة؛ لأنه يوجد في القائمة قسم خاص بمقدار الأراضي المزروعة في كل مقاطعة. ونجد كذلك رمز هذه المقاطعة في قائمة الملكة «حتشبسوت»، وهي التي عثر عليها في أحجار البوابة الثالثة التي أقامها الملك «أمنحوتب الثالث» في معبد «الكرنك» - كما أسلفنا ذكر ذلك - غير أننا نجد أن الرمز الدال على هذه المقاطعة كان يكتب «ونست حور»؛ أي عرش الإله حور، وذلك حسب القوائم التي عثر عليها في العصور المتأخرة. ونجد أن الأمثلة التي أوردها «جوتيه» في قاموسه قد كتبت بعلامة البلد لا علامة المقاطعة وفيها تاء التأنيث، عدا أمثلة قليلة كتبت من غير علامة التأنيث أو العلامة الدالة على البلدة (
Dic. Geogr. Gauth. Vol. I P. 210 )، فهل يدل ذلك على أنه في العصر الإغريقي قد اختلط اسم المدينة «أدفو»، وهي العاصمة، مع اسم المقاطعة نفسها، وأصبح الجزء يطلق على الكل كما يحدث أحيانا؟ أو أن هذه المقاطعة قد بقي اسمها في اسم «حور أمنت» أو «أمنت» حور («غربي حور» حسب ترجمة جوتيه). ويقول عن هذا المكان: إنه مركز من المراكز التي تكونت في العصر الإغريقي الروماني، ويظهر أنه تابع للمقاطعة الثالثة من الوجه القبلي
Unknown page
Latopolite . وقد كان موقعه قبالة مركز آخر يسمى «حور أبتت»: «شرق حور» ويقع في الإقليم الجبلي الشرقي الذي يواجه إقليم أدفو وإسنا (
Dic. Geogr. Vol. I. 17 P. 76. & Vol. I V P. 36 )، ويمكننا أن نستخلص من ذلك على وجه التأكيد تقريبا، أن هذين المركزين «غربي حور» و«شرقي حور» كانا في قديم الزمان - أي قبل عهد البطالسة - ضمن المقاطعة الثانية، وبعد فصلا عنها، وسميت المقاطعة «وتس حور» باسم المدينة عاصمتها؛ ولذلك نجد «جوتيه» يقول في كلامه عن هذين القسمين: يظهر أنهما تابعان للمقاطعة الثالثة . غير أنه ليس متحققا من قوله هذا، والظاهر أنهما كانا فعلا ضمن المقاطعة الثانية، وبخاصة إذا علمنا أن الجزء الغربي منها كان هو الجزء الخصب المزروع؛ ولذلك أشارت إليه قائمة «سنوسرت» بالنصف الغربي الخصب. ويقول لنا «جوتيه»: إن الجزء الشرقي كان جبليا؛ ويدل على ذلك نقش كتابة الكلمة (مخصصة بالجبل)، ثم يحدثنا «جوتيه» أن هذا المركز أو الإقليم يواجه إقليم أدفو وإسنا؛ أي المقاطعة الثانية بصفة مؤكدة.
أسماء البلاد
واسم العاصمة هو «وتس حور» في العهد الإغريقي على ما نعلم، أما في عهد الأسرة الثانية عشرة فكانت تدعى «بحدت» كما جاء في قائمة «سنوسرت»، وهي مشتقة من كلمة «بحدو»؛ أي «عرش» لا من كلمة «دبحت» يتوسل، كما ذكر ذلك «إرمان»؛ وعلى ذلك يكون معناها «مدينة العرش»، وهذا الاسم في الواقع قد أطلق على عدة مدن في مصر كان كل منها يحتوي على محراب للإله حور، ولكن أهمها هي عاصمة المقاطعة الثانية التي سماها الإغريق
Apollinopolite
نسبة لإلههم «أبولو» الذي يقابل «حور» عند المصريين، وكانت كذلك تسمى هذه المدينة
Apollinopolis ، وقد كان الاسم السياسي للعاصمة «أدفو» «زبو» وبالقبطية «تبو»، من هنا جاء اسم «أدفو» الواقعة على الشاطئ الأيسر للنيل.
معبودات المقاطعة
كان الإله الذي يعبد في هذه المقاطعة هو الإله حور في كل العصور، وقد كون ثالوثا مركبا من «حور» نفسه، وكان يسمى «حور اختي»؛ أي «حور الأفق» ومن زوجه الإلهة حتحور، ثم ابنيهما الإله الطفل «احي» (انظر شكل
1-2 ).
Unknown page
المقاطعة الثالثة
أطلق الإغريق على هذه المقاطعة اسم لاتوبوليت
Latopolite
نسبة إلى اسم السمكة التي كانت تقدس فيها في صورة الإلهة حتحور برأس سمكة «لوت»، وكانت عاصمتها في بادئ الأمر بلدة «نخبت» التي ترجمها اليونان بلفظة
Eileithyiaspolis ، وهي الآن بلدة «الكاب»، أما في العهد الإغريقي الروماني فكانت العاصمة إسنا
Senit-Latopolis
ولفظة «نخن» التي تدل على اسم المقاطعة يظهر أنه هو النطق الأرجح. وقد ورد في قائمة «سنوسرت» بلفظة «نشن» (شكل
1-3 )، وهذه الكلمة تدل في الأصل على مبنى مستدير الشكل، كان مخصصا لعبادة الإلهة «نخب»، معبودة الكاب التي كانت تمثل في صورة نسر، وتقع هذه البلدة على الشاطئ الأيمن للنيل. أما «نخن» فتقع على الشاطئ الأيسر للنيل، وقد أصبحت على توالي الأيام نواة لبلدة عظيمة، وكذلك أصبحت فيما بعد يطلق عليها اسم «هيرا كنبوليس» عند الإغريق، ولا تزال آثارها باقية تشاهد في التل الأحمر الواقع قبالة مدينة الكاب الحالية. والظاهر أن «نخن» يرجع تاريخها إلى عصر ما قبل الأسرات، والواقع أنها أقدم بكثير من بلدة «نخب» التي كانت تناهضها الشهرة، وقد كانت العاصمة الأولى لهذه المقاطعة، وكانت عبادة «حور» هي السائدة فيها. وفي نهاية العهد الإغريقي؛ أي في حكم «بطليموس الحادي عشر» على الأرجح - وهو الذي ضاعف عدد مقاطعات القطر كما ذكرنا - أصبحت «نخب» من جديد عاصمة لإقليم منفصل من المقاطعة الثالثة، وكان يطلق على هذا الإقليم اسم «بكت» أي الصقر الجاثم، وسميت المدينة بذلك الاسم أيضا أي بلد الصقر «بكت»؛ ومن ثم جاءت التسمية الإغريقية
Hieraconpolis
وبعد ذلك كانت العاصمة.
Unknown page
شكل 1-3: اسمها بالمصرية «تن» (؟) أو «نخن».
الكاب: «نخبت»، وتقع على الشاطئ الأيمن، وكانت عاصمة مملكة إلهة النسر، وقد اعتبرت الحامية للوجه القبلي كما كانت الإلهة «وازيت» «الصل» في مدينة «بوتو» «ابطو الحالية» حامية الوجه البحري. وكانت تسمى عند الإغريق «اليو تو بوليس»، أما عند العرب فكانت مدينة «الكاب» هذه تسمى «انكاب». وقد بقيت هذه المدينة عاصمة تلك المقاطعة طوال العصر التاريخي للبلاد بعد «نخن»، إلى أن حل عصر البطالسة ونقلت العاصمة إلى إسنا، وهي بالمصرية «سنى» وبالإغريقية
Latopolis ، ولا يزال بها معبد كان يقدس فيه الكبش «خنوم».
ومن أهم البلاد التي بقي اسمها في العربية غير ما ذكرنا ما يأتي:
برخنس:
بخانس الحالية (معناها بيت الإله «خنسو» أي القمر)، وتقع في مركز نجع حمادي.
تا-ست-ان حولو: «الحلة» الحالية، وتقع قبالة إسنا على الشاطئ الأيمن للنيل.
كوم مره: «بر مرو» وتقع بين إسنا والكوم الأحمر على الشاطئ الأيسر للنيل، وقد بنيت في العهد الإغريقي. وقد برهن «دارسي» على أن هذه البلدة هي «كومير»، ومرادفها «برعنقت» بلدة الإلهة «عنقت »؛ مما يدل على أنها كانت تعبد في هذا المكان.
أصفون «المطاعنة»: «حسفنت»، وتقع على الشاطئ الأيسر للنيل شمالي إسنا، وقد أقيمت في أواخر عهد البطالسة
Asphynis .
Unknown page
أما الآلهة التي كانت تعبد في هذه المقاطعة فقد ذكرت لنا قائمة «سنوسرت» الإلهة «نخبت» فقط.
المقاطعة الرابعة
تسمى هذه المقاطعة «واست»: «الصولجان»، كما يدل رسمها عليها (شكل
1-3 )، وعاصمتها «طيبة» وهي التي تشغل الآن مكان الأقصر والكرنك. وقد كان اسم هذه المقاطعة يطلق من طريق التوسع أحيانا على كل إقليم «الطبياد»، وعاصمته كذلك تسمى «واست»، وهي
Thebes
عند الإغريق؛ أي «طيبة» التي بقيت عاصمة للبلاد المصرية مدة طويلة المرة بعد المرة، وكانت مبانيها مقامة على ضفتي النهر. والظاهر أن الرمز البسيط كان يدل على مدينة الأحياء، وكان وقتئذ على الشاطئ الأيمن. وأما الرسم المركب كما نراه في اللوحة، ويشمل الريشة التي تدل على معنى الغرب، فكان يدل على مدينة الأموات الواقعة على الشاطئ الأيسر، ويشمل الجبانة والمعابد الجنائزية. غير أن هذا التمييز بين القسمين قد تنوسى ولم يعد يستعمل، وأصبح الشكلان يدلان على المدينة في مجموعها. وقد أحد الإله «آمون» الذي كان أكبر معبود في هذه المقاطعة، والإله زيوس
Zeus ؛ وبذلك أطلق المؤلفون الإغريق كلمة زيوسبوليس
Diospolis ؛ أي مدينة الإله «زيوس» أو مدينة «آمون» على مدينة «طيبة».
وكانت مدينة «طيبة» أحيانا «المدينة» فقط «نوت»، وكذلك كانت تسمى «مدينة المدن»، و«مدينة الأبدية»، و«المدينة القوية»، وغير ذلك من الأسماء مما لا يدخل تحت حصر.
أما الآلهة التي كانت تعبد في هذه المقاطعة، فتدل قائمة «سنوسرت» على أن الإله الأصلي كان المعبود «منتو» إله الحرب، وهو الذي أدخل ملوك الأسرة الحادية عشرة اسمه في تركيب أسمائهم، مثل «منتو حتب» الأول والثاني إلخ. وكذلك كان الإله «سبك» يعبد فيها وهو التمساح، وفي خلال الأسرة الثانية عشرة بدأ انتشار عبادة الإله «آمون» في صورة الإله «مين»، وكذلك الإلهة «موت» التي كانت تتخذ أشكالا متعددة كاللبؤة والقطة وغير ذلك، والإله «خنسو» إله القمر، ومن الثلاثة تكون ثالوث طيبة: الأب «آمون» والأم «موت » والابن «خنسو». وذكرت لنا قائمة «سنوسرت » إلها آخر اسمه «وق» في صورة «أرنب».
Unknown page