قالت أديليد: «ثمة الكثير يدور بعقلها بسبب الحادث. لقد تناولنا طبقا من شرائح اللحم ليلة أمس. طهوته في الفرن مع الذرة الكريمية، وكم كان شهيا.» «حسنا. فرانسيس تعده مع الخبز.» «نعم أنا أعده هكذا أيضا. هذه الطريقة لذيذة أيضا، فأنا أحب التغيير أحيانا. لقد رأيت والد ذلك الصبي الذي قتل في الحادث، ابن أوهير، وهو خارج من محل الحانوتي. كم كان مريعا أن أراه، يبدو في الستين من عمره.»
قالت والدة فرانسيس: «لا بد أنه كان يرى الجثة.» ثم قالت لفرانسيس: «إعداد الأومليت سيكون كافيا.» «حقا؟» قالتها فرانسيس التي لم تكن تطيق فكرة العودة إلى الشارع من جديد. «أجل، ووفري كوبونات التموين.» «أليست غير ذات نفع كوبونات التموين هذه؟ لن يسمح له برؤية الجثة بعد، ليس قبل العمل على تجهيزه، لا بد وأنه كان يختار التابوت.» «نعم، على الأرجح.» «كلا، لن يكون قد جرى تجهيزه بعد، سيكون لا يزال راقدا على خشبة الموتى.»
كانت الطريقة التي قالت بها أديليد «خشبة الموتى» لافتة للنظر، قالتها بقوة ملحوظة، لفظتها وكأنها تقذف سمكة رطبة ضخمة على المنضدة أمامهما. كان لها عم يعمل حانوتيا في بلدة أخرى، وكانت فخورة بقرابتها له وبمعرفتها بأسرار المهنة. وكما هو متوقع، بدأت تتحدث عن عمل هذا العم مع ضحايا الحوادث، وعن فتى سلخت فروة رأسه من جراء حادث، وكيف أعاد عمها شكل رأسه الطبيعي، بذهابه إلى الحلاق وجمع قصاصات الشعر من سلة المهملات، ثم خلط الصبغات ليحصل على اللون المناسب تماما وصبغ قصاصات الشعر بها، وعمله على ذلك طوال الليل. لم يصدق والدا الصبي أنه من الجائز أن يبدو طبيعيا هكذا. وقالت أديليد إنه لفن أن يعرف سائر الحانوتيين عملهم مثلما يعرفه عمها.
كل ما جال بخاطر فرانسيس حينها أنها يجب أن تخبر تيد بهذا، فغالبا ما كانت تحكي لتيد أمورا قالتها أديليد.
قالت أديليد بعد أن أوضحت مجددا كم هو متدن أداء هذا الحانوتي مقارنة بعمها: «بالطبع يمكنهم إغلاق التابوت لو أرادوا ذلك.» ثم سألت فرانسيس: «هل كان هذا هو الصبي الوحيد لدى ماكافالا؟» «أعتقد هذا.» «أشعر بالأسى تجاههما، كما أن ليس لهما أي عائلة هنا. إنها حتى لا تتحدث الإنجليزية بطلاقة، أليس كذلك؟ طبعا بما أن الزوجين أوهير كاثوليكيان، فلديهما أربعة أو خمسة أبناء آخرين، أتعلمين، لقد جاء القس ومارس عليه تلك الطقوس التي يمارسونها، حتى لو كان الصبي قد مات وانتهى أمره.»
قالت والدة فرانسيس باستنكار: «يا إلهي، يا إلهي.» ولكن هذا الاستنكار لم يكن يحمل عداء حقيقيا تجاه الكاثوليكيين، وإنما هو شيء من كياسة البروتستانتيين بعضهم تجاه بعض. «لست مضطرة للذهاب إلى الجنازة، أليس كذلك؟» استقرت نظرة قلقة على وجه والدة فرانسيس كانت تظهر كلما كانت هناك مناسبة تجبرها على الاقتراب من مرضى أو أموات. «ما اسمهما؟» «أوهير ...» «نعم، إنهما من الكاثوليك.» «وماكافالا.» «لا أعرفهما، أليس كذلك؟ هل هما غرباء؟» «فنلنديون. من أونتاريو الشمالية.» «هذا ما ظننت؛ فالاسم يبدو أجنبيا. لست مضطرة إذن إلى الذهاب.» •••
اضطرت فرانسيس للخروج من المنزل مجددا؛ إذ كان عليها الذهاب إلى المكتبة في المساء لتجلب الكتب لوالدتها، فكل أسبوع كانت تجلب لوالدتها ثلاثة كتب جديدة من المكتبة. وكانت أمها تحب شكل الكتاب الضخم المشوق، فتقول إنها تقرأ فيه طويلا وكأنها تتحدث عن ارتداء معطف أو التدثر ببطانية لفترة طويلة. وفي الحقيقة، كان الكتاب بالنسبة لها مثل اللحاف الكثيف الباعث على الدفء، تلقيه عليها وتتدثر به. وعندما توشك على الانتهاء من قراءته - ويقل سمك طبقات اللحاف التي تحتمي به شيئا فشيئا - كانت تحصي الصفحات المتبقية وتقول: «هل أحضرت لي كتابا آخر؟ أجل. ها هو ذا، تذكرت. ما زال أمامي ذاك الكتاب الآخر عندما أفرغ من هذا.»
ولكن دائما يأتي الوقت الذي تفرغ فيه من آخر كتاب ويكون عليها الانتظار ريثما تذهب فرانسيس إلى المكتبة وتجلب ثلاثة كتب أخرى. (لحسن الحظ، كانت فرانسيس تكرر إحضار نفس الكتاب بعد فترة قصيرة، مثلا بعد ثلاثة أو أربعة أشهر. وكانت والدتها تنهمك في قراءته مجددا، وتقدم حتى بعض المعلومات عن السياق والشخصيات، وكأنها لم تقابلهم قط من قبل.) وكانت فرانسيس تقترح على والدتها أن تستمع إلى الراديو خلال انتظارها الكتب، ولكن مع أن والدتها لم ترفض قط عمل شيء يطلب منها، فإن الراديو لم يكن يسليها فيما يبدو. وفي الوقت الذي لا يكون بحوزتها أي كتاب تقرؤه، ربما تذهب إلى غرفة المعيشة وتسحب كتابا قديما من مكتبة المنزل - وقد يقع اختيارها على «جيكوب المخلص» أو «لورنا دون» - وتجلس بانحناءة على الكرسي القصير، ممسكة به وتقرؤه. وفي أوقات أخرى، قد تنتقل من غرفة إلى أخرى، دون أن ترفع قدميها عن الأرض، إلا إذا صادفت عتبة، فتتشبث بالأثاث، وتتخبط بالجدران، ولا ترى شيئا لأنها لا تضيء الأنوار، وتتحرك بضعف لأنها لم تعد تسير الآن، يباغتها قلق مرعب أو نوع من نوبات الاهتياج بطيء الإيقاع لو لم يكن لديها كتب تقرؤها أو طعام تتناوله أو حبوب منومة تصرفه عنها.
أحست فرانسيس بالمقت تجاه والدتها الليلة لأنها سألتها: «ماذا عن كتب المكتبة؟» شعرت بالاشمئزاز منها بسبب قسوة قلبها، وأنانيتها، وضعفها، وعمرها الطويل، وساقيها وذراعيها الصغيرتين الضعيفتين المترهلتين. لكن لم تكن والدتها أكثر قسوة منها. مرت فرانسيس من أمام مكتب البريد الذي خلا الآن من أي أثر للحادث، مجرد ثلج حديث متراكم، ثلج يهب على الشارع من ناحية الجنوب، من ناحية لندن (سيعود مضطرا، مهما حدث، سيعود). شعرت بالغضب الشديد من هذا الطفل، من غبائه، ومجازفته الحمقاء، من تباهيه، من اقتحامه حياة الآخرين، حياتها. لم تكن في حالة تسمح لها بالاستماع إلى وجهة نظر أي أحد الآن، وجهة نظر أديليد مثلا. كانت أديليد - قبل رحيلها - قد لحقت بفرانسيس إلى غرفة نومها حيث كانت فرانسيس تخلع بلوزتها الستان، لأنها لم تكن لتعد العشاء بها، فكانت قد فتحتها من الأمام، وتفك أزرار الكمين. فوقفت فرانسيس أمام أديليد مثلما كانت تقف أمام تيد قبل فترة وجيزة.
سألتها أديليد في صوت هامس متوتر: «فرانسيس، هل أنت بخير؟» «أجل.» «ألا تحسبين أن هذا انتقام منك ومنه؟» «ماذا؟»
Unknown page