بالقيام، ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفى. ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله، قال:
رأيت الجنة والنار (1)».
رؤيته (عليه السلام) لأصحابه من وراء ظهره رؤية حقيقية، ثم الرؤية المذكورة في هذه الأحاديث مذهب الجمهور، وهو الصواب المختار أنها على ظاهرها، وأنها رؤية حقيقية، وإدراك حقيقي، اختص به (صلى الله عليه وسلم)، انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا عمل البخاري، فإنه أخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن أحمد وغيره خلافا لمن حمل الرؤية فيه على الرؤية القلبية، وهي رؤية البصيرة، وإن صح أو على العلم إما بوحي بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإما بإلهام بأن يلهمه الله تعالى حالتهم وهيأتهم، فإن ذلك بخلاف ما تظاهرت عليه الظواهر التي لا يحيلها عقل، ولا يعارضها شرع، ولو كان المراد العلم لم يقيد بقوله: (من وراء ظهري).
ومنهم من حملها على أنه كان يلتفت يمينا وشمالا التفاتا يسيرا، لا يلوي فيه عنقه، يدرك به حال من وراءه، ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عن الظاهر بلا موجب مع ما فيه من ارتكاب ما لا يليق بالمقام، وقد أنكره أحمد على قائله، والظاهر أنها كانت من غير عضو ولا مقابلة، ولا شيء مما جرت به العادة بناء على مذهب أهل الحق، وهم أهل السنة من أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا شعاع، ولا تتوقف على ضوء، ولا على قرب، كما لا تتوقف على الآلة المخصوصة التي هي العين، وإنما هذه أمور عادية يجوز عقلا حصول الإدراك مع عدمها، ولذا حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافا لأهل البدع بوقوفهم مع العادة.
وجوز بعضهم كونها برؤية عينية، وإنه انخرقت له فيهما العادة أيضا، وصحح آخرون كونها بعين خلف ظهره يرى بها من ورائه، لا يحجبها الثياب ولا غيرها، وبعض المتكلمين أن تكون بإدراك خلق له في القفا أعم من كونه في بنية أم لا أخذا من قوله في بعض الروايات: «إني لأبصار من قفايا كما أبصر من بين يدي».
Page 106