دارت عادة الاعترافات دورة تامة منذ وجدت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلى أن دخلت في نطاق الطب النفساني والجسماني قبل نحو ثلاثين أو أربعين سنة.
وقد اشتهرت الاعترافات في الهياكل على عهد الحضارة البابلية قبل ميلاد السيد المسيح بعدة قرون، وكانت في حقيقتها ضربا من العلاج الجثماني الذي يتطلبه المريض من الطبيب؛ لأن البابليين كانوا يعتقدون أن المرض والبلاء على اختلافه عقوبة إلهية يقتص بها الأرباب من أصحاب الذنوب والخطايا، وأن الذي يبوح بخطيئته ويندم عليها يشفى من دائه بوساطة الكهان والأحبار، فكان الاعتراف بهذه المثابة ضربا من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث.
وهكذا عاد كما بدأ، في أوائل القرن العشرين، فشاع الكلام عن الكبت، وعن العقد النفسية، وعن أثر التنفيس عنها بالاعتراف، والكشف في شفاء الأبدان والنفوس، فتمت الدائرة في حلقة مفرغة من أيام البابليين إلى أيامنا هذه من القرن العشرين.
ولن يكون الاعتراف اعترافا في رأي بعضهم، إلا إذا كان اعترافا بأمر يغلب على الناس إنكاره وكتمانه، فلا يفهمون من الاعتراف إلا أنه إعلان لخبيئة في النفس تشين صاحبها، وتدعوه إلى إخفائها.
لكنها على التحقيق مغالطة من مغالطات «العرف» التي تواضع عليها أبناء آدم وحواء على سنة الكذب والرياء، فهم جميعا سواسية في الخطايا والعيوب التي يخفونها ولا يعترفون بها، ومتى صدق عليهم قول السيد المسيح: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر.» فلا حاجة بهم إلى الحجارة ولا إلى الرجم، ولا معنى لخجل قوم وشموخ آخرين، وما لم يكن الإنسان مجرما غارقا في الإجرام أو نذلا مغرقا في الخسة، فعيوبه وخطاياه «قاسم مشترك أعظم» بينه وبين الآدميين جميعا من قبل الطوفان إلى نهاية الزمان.
وحسبي اعترافا في هذا الصدد أن أحدا من الناس لم يسلم من عيوبي وخطاياي؛ فهل في وسعهم جميعا أن يدعوا مساواتي في جميع فضائلي ومزاياي؟
من شاء أن يدعي فليدع ما يشاء، ولكنني لا أرى من الإنصاف أن أستهدف للحجارة، وعندي حجارة مثلها أقابل بها كل حجر بعشرة من أمثاله حين أريد أو حين أستطيع.
وأنا بحمد الله لا أريد ولا أستطيع، فلتكن حجارتي محفوظة في محجرها الأمين، وليكن اعترافي نوعا من التعريف الذي يفيد، أما تبادل الحجارة طردا وعكسا، وعكسا وطردا فهو عبث لا يعيى به راجم ولا مرجوم، وهو كذلك لا يفيد.
أعترف بالخصائص النفسية التي تدل الناس على بعض الحقائق في الطبيعة الإنسانية، وذلك - ولا ريب - أجدى من الاعتراف بالعيوب والخطايا التي يتشابه فيها أبناء آدم وحواء على السواء أو على مقربة. •••
وأول ما أعترف به أنني مطبوع على الانطواء، وأنني - مع هذا - خال بحمد الله من العقد النفسية الشائعة بين الأكثرين من أندادي في السن ونظرائي في العمل، وشركائي في العصر الذي نعيش فيه.
Unknown page