وكذلك كنت في العشرين وأصبحت في الأربعين، فكنت أرى كل متعة حقيرة زهيدة شوقا إلى ما بعدها وارتيابا في قيمتها، وأن تكون هي كل ما تزلفه الحياة لأبنائها، ثم أخذت نفسي بأن أتناول ما على المائدة تناول رجل لا يفوت الحاضر، ولا يحب أن يفوته المستقبل، والعجيب أنني كنت متنطسا عازفا عن الدنيا حين كانت عندي كلها مادة وحيوانية، وأنني أقللت من التنطس والعزوف حين رأيت في الدنيا شيئا غير المادة والحيوانية...وإنما يبدو هذا عجيبا في الظاهر الذي نراه لأول نظرة دون الباطن الذي نراه بعد إنعام النظر، فإن العزوف الأول كان عزوف عاشق ساخط يطلب من الحياة الكثير ، فإن لم يأخذه أنف من القليل ... ومن طلب صاحبته كلها لم يقنع منها بنفاية ما تعطيه! ... فالفرق ظاهر بين هذه العلاقة وعلاقة العشرة الهينة التي تقوم على رأي بشار:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وبعد، فما النصيحة التي ينصح بها رجل في الأربعين للشبان الناشئين؟
أحسب أن الشيوخ أولى مني بنصيحة نافعة في هذا المقام، وتلك هي أن يجتنبوا اللجاج في النصح للشبان الناشئين؛ لأنه أضيع شيء عندهم ولا لوم عليهم؛ إذ ليس في وسع الشاب أن يعيش في عمرين مختلفين، ولا في وسعه أن يجمع بين حياة المجرب وحياة غير المجرب، كائنا ما كان نصيبه من اليقظة والذكاء، ولو كانت النصيحة تغني عن التجربة كل الغنى، لكانت الحياة عبثا ضائعا ولاستطاع الفتى في العشرين أن يعلم ما قد علم الشيخ في الستين أو الثمانين؛ فالشيخ الذي يحاول أن يلقن الشاب الناشئ حكمة الشيخوخة كالبستاني الذي يحاول أن يغرس نبات الشمال في حرارة خط الاستواء، فهذا وذاك على خطأ لا يليق بالمجربين. •••
إنما النصح أن توجه ذهن الفتى الناشئ إلى ناحية من الحياة توضحها له ما استطعت التوضيح، فأنت تصوب النور أمام عينيه، ولكنك لا تعطيه النظر، ولا الرغبة في المسير، ولا القدرة عليه، وهذا هو مدى النصيحة المعقول، من تعداه من المجربين فتجربته عبث، وهو - قبل الناشئين - في حاجة إلى الناصحين! (2) وحي الخمسين
من كلمات «فيكتور هيجو» - على ما أذكر - أن الخمسين شيخوخة الشباب، ولكنها شباب الشيخوخة.
وفي هذه الكلمة حقيقة أكثر من مجازها، على خلاف كلمات هيجو التي يكثر فيها المجاز وتقل الحقيقة، ذهابا مع الجرس أو إيثارا لمحاسن التشبيه ...
فذو الخمسين شاب بين الذين نيفوا على السبعين أو الثمانين، يشعر بهذا كما يشعرون به وإن لم يقصدوه ويتعمدوه؛ فإذا اجتمع مجلس من المجالس التي يختار لها الأعضاء ممن جاوزوا الأربعين، كبعض المجالس النيابية وبعض المجامع العلمية والأدبية، رأيتهم يتصرفون في التقديم والتأخير والإيثار بالراحة والرعاية، تصرف الأبناء والآباء في الأدب والمعاملة وهم دون ذلك في السن بكثير، ورأيت أبناء الخمسين، وربما بدرت منهم «شيطنة» التلاميذ في معاملة الأساتذة الذين يوقرونهم ويحبونهم، ولا يخلونهم من فلتات «الشيطنة» مع ذاك!
ولا حاجة بنا إلى إطالة التذكير بتلك الحقيقة الخالدة التي لا ينبغي أن تنسى في مقام، ونعني بها أن المسألة اعتبارية إضافية في جميع الأعمار والعلاقات، فما يصدق على الخمسين عند فريق من الناس، قد يصدق على غيرهم، وعلى الستين عند آخرين، فإنما الكلام في هذه الأمور على الإجمال، ولا يتأتى أن يساق الكلام فيها على التفصيل لكل فرد من الناس على حدة. •••
Unknown page