قتل الإنسان ما أكفره ... صدق الشاعر وصدق الطبيب، ولكن الشاعر لم يصب في اختيار «الحيثيات» كما أصاب في الحكم على المتهم، فقد يشتاق الإنسان في الشتاء إلى الصيف، وقد يشتاق في الصيف إلى الشتاء، ولا يستحق وصف الكفر والكنود من أجل هذا! ولا يقال فيه إلا أنه يصبر إلى حين، ثم يخذله الصبر بعد ذلك الحين.
فتقسيم الفصول في الدنيا لم يقصد به الدوام، ولم تجمع الخيرات كلها في موسم واحد، بل وزعت على الفصول كلها، وجعلت في بعض الأقطار فصلا واحدا لا تختلف مواسمه على طول السنة، فلا يلام الإنسان إذا هو تمنى بعض الخير الذي غاب عنه، أو شكا بعض الشر الذي ألح عليه، وقد يمهد له العذر في ذلك «أن الحال من بعضه»، وأن الكرة الأرضية نفسها تتقلب في دوائر الفلك، فلا تصبر على صيف أو شتاء، ولا تقنع بربيع أو خريف ...
وحتى لو كانت «الفصول» رضى النفس في كل موسم لا أحسب أن الملل منها يدل على «الكفر والكنود» كما يدل على طلب التقدم وحب الاستطلاع، فإن الإنسان يترقى ويتقدم لأنه يترقب حالا بعد حال، ويطمح إلى المزيد من الخير الذي يحصل في يديه، ولولا ذلك لبقي على نقصه وسوء حاله، ولم يرتفع إلى طبقة بعد طبقة في تاريخه، ولو جاز لنا أن نلوم الإنسان؛ لأنه يتغير ويحب التغير، لجاز لنا أن نلوم الطفل الذي ينتقل إلى الصبا، ونلوم الصبي الذي ينتقل إلى الشباب، ونلوم الشاب الذي يبلغ كمال الرجولة مع الزمن، ثم لا يقنع بذلك حتى يتمنى الخلود.
كلا أيها الشاعر الحكيم الذي صدق في حكمه ولم يصدق في حيثياته، فقل ما شئت في كنود الإنسان وكفره بالنعماء، ولكننا ندع لك «حيثياتك» تعيد النظر فيها على مهل، ونقول لك: يا صاح، إننا نحن أيضا نطلب الصيف في الشتاء، ونطلب الشتاء في الصيف، ونعرف لكل فضله وحسنه، وسبب اختياره، فنحسب هذا العرفان «عرفانا بالجميل»، ولا نحسبه من الكنود والكفر بالنعماء.
وإذا لم يكن بد من طلب الدوام ... فليدم لنا فصل الشتاء وليذهب عنا الصيف حيث شاء إلى أقصى الأرض أو أطراف السماء! •••
يقال إن الناس يختلفون في تفضيل الفصول على حسب اختلافهم في المولد وموعده من تلك الفصول، فمن ولد في الصيف فهو صيفي الهوى والمزاج، ومن ولد في الشتاء فهو محب للبرد مستريح إليه! ...
فإن صدق هذا الزعم فليصدق على من شاء من مواليد الصيف، ولكنه - مع الأسف - لم يصدق علي قط ولا هو صادق علي الآن؛ لأنني ولدت في أشد أيام الصيف من شهر يونيه بمدينة أسوان - ولا يزعجني شيء كما يزعجني الصيف إذا ارتفعت حرارته فوق حرارتي على الخصوص، وتقدم من «الثلاثينات» إلى حدود الأربعين، وهي - كما يقولون - سن النضج، وقد صدقوا ... ولكنه نضج الجلود لا نضج الأعمار ...
ولا تزعجني منه مضايقة المزاج فقد تعودنا من الدنيا مضايقات كثيرة أشد على النفس من هذه المضايقات، وإنما يزعجني منه أنه «يتعب الكبد» حقيقة ومجازا، وتعب الكبد - والعياذ بالله - غاية الإزعاج، وقلب المزاج ...
وقد سألت كثيرين ممن ولدوا مثلي في هذا الفصل الخانق، وإن لم يوصف بأنه بارد، فكان لسان حالهم أنهم نسوا مولدهم فيه، ويخيل إليهم أنهم سيموتون فيه! •••
ومن نقائض الصيف أن يمتد فيه وقت العمل، وتقصر فيه القدرة عليه عند معظم العاملين، فيبلغ النهار أربع عشرة ساعة، وتهبط الطاقة إلى بضع ساعات، فلا هو بالموسم العامل، ولا هو بالموسم المريح، وإذا احتالوا عليه في الغرب بتقديم الساعات، فهذه الحيلة في الشرق قلما تقدم أو تؤخر؛ لأنه يطالب أبناءه بالقيلولة في الظهر الأحمر كما يقولون، فينامون في النور الساطع، ولا ينامون في الظلام الحالك، وينقلب ليلهم بنهار، وهم يفرون من الديار ولات حين فرار.
Unknown page