جزعت والحق يقال، وسقط قلبي في قدمي مخافة أن ينفذ الوعد. يا عم يا يونس ما كنا قاعدين في أمان الله، ماذا دار في عقلك النجس ليقلب سلامنا هذا إلى لحظة الرعب هذه حتى ليبدأ الجو يحفل برائحة الدم واللحم المفروم.
تطويل الروح لم يعد يجدي. ماذا تريد يا أيها القومندان؟ - يا لله.
ولأنني ضامن أني سأكون على حق في تساؤلي رفعت صوتي مستغيثا مستعينا بالله من هذا الهول الذي لا أعرفه: إزاي بس يا بيه أنا في عرضك! إزاي؟! - زي الناس. هكذا قالها. - زي الناس إزاي؟! - زي الناس يا ابن ال... ويا بن ال... ماذا تفعل الناس؟ - ولكنها تفعلها مع الناس والإناث الكبار، وهذه نملة! - ولو. اعتبرها ناس، اعتبرها إناث. - حاضر.
قافزا الفلاح الخبيث إلى نجدتي مرة أخرى قلت: حاضر يا بيه.
وعملت أني فعلا أزاول ما أمرني به، وأنا، زيادة في الاندماج، قد رسمت على وجهي ابتسامة سادة. استيقظت منها على صوت نبوت يشرخ، يشرخ الهواء. ويشرخ ظهرا من ظهور «التلامذة» إلى جواري. التفت على الصرخة، أهذه صاعدة من عظام الأقدام لكائن حي إنسان صغير يتألم؟! انفجر قلبي وتدفق منه الدم الفائر غصة ولوعة. - لا تمثل يا بن الكلب، اندمج. أتضحك علي؟ اندمج. أنت خالع الآن ملابسك وهذه أنثى، نملة مش نملة لا يهم. هذه أنثى. اندمج. وسأراقب وجهك وملامحك، وأقسم برحمة أمي إن لم أرك تفعل ما قلته سأشرح تلاميذك وأنت وكلكم معه. وأنت تعرف وكلكم تعرفونني.
وكان واضحا من وجهه المسمر بالجديري القديم أنه لا يهزل، حاولت أن أجد فرجة احتمال أو عشر احتمال للتهاون فلم أجده، هذا إنسان مجنون وقد تقمصته حساسية المجانين للحقيقة، ولن يصدق غيرها ولن أستطيع أبدا خداعه وعلي أن أفعلها. حاولت. ولكني في منتصف المسافة استدركت وطلبت منه العذر.
وجمعت نفسي وبأقصى ما أستطيع من قدرة على أمر النفس أمرتها. أحسست أن شهبا كشهب الجنون تتراءى لعيني، ومن فرط الانضغاط بدأ العقل في مخي يطقطق. مجنون أمر، وأمر مجنون، ولا بد أن أستجيب، ومجنونا لا بد، لكي أستجيب، أن أصبح. أنا فعلا رجل ضخم، وهذه نملة ، وبكل كياني علي أن أصغر نفسي وأستحيل من إنسان إلى حشرة، وعلي التخيل أني ذكر نملة، تستثيرني أنثاي أنثى النملة، وأنام معها. وكلما فشلت، كلما توقفت، كلما غام وعيي بالمشهد وباستحالة التحول. وأحسست التهديد يحوم كغربان البين حول التلامذة الصغار وحول الطابور أتصاغر وأتصاغر ويكسوني العرق وتطقطق عظامي وتتدشدش دون أن تصبح كفي في حجم ساق النملة، وساق النملة لا يكاد يرى ولا بد أن أهوى بوعيي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي ورأسي وبطني وساقي وعنقي وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القادمة، مستسلمة، في يدي. هكذا، رأيتها، بألف عين دقيقة لي تكونت، قد استجابت، وكفت عن الحركة، ووقفت واضطجعت. لو كانوا قد عذبوني وقطعت الجبل كله، لو ربطوني إلى ذيل حصان جرى بي القطر كله من أقصاه إلى أقصاه، ألف جلدة، لو فعلوا ما هو أكثر وأكثر لما أحسست بربع معشار ما مر علي من عذاب حتى أفلت الزمام ولم أعد أستطيع الكف وجسدي يمضي يتصاغر ليصبح نملة ويستمر نملة ويعيش ويحب ويزاول الحب نملة. وعند لحظة النهاية فقدت الوعي.
قالوا لي إنهم حملوني حملا إلى الليمان.
وإنهم خافوا من صراخي أثناء الليل واستجار الزملاء من عضي وتمزيقي لملابسهم وملابسي، وحملوني إلى مستشفى سجن مصر، ومن هناك إلى هنا. وهمس لي التومرجي الأسمر العجوز وأنا في الطريق إليكم أنهم يفكرون في الإفراج الصحي عني. ولو، ما الفائدة، وقد نمت مع النملة واعترفت، وكان الذي كان؟
ولأن لا أبشع في السجن للمنتظرين المحاكمة من كلمة اعتراف، فقد وقفنا على أطراف تحفزنا أنا وحمزة ونحن نسأله بماذا اعترف ولماذا اعترف.
Unknown page