خيل إلي أني حقيقة لم أسمع، وكيف أسمع، وما طلبه لا يمكن أن يمر إلا من عقل مجنون، حتى المجنون نفسه يخجل أن يطلبه. - نعم؟!
الكرباج مرفوع فوق رأسي والنبوت يهيأ للانقضاض ويونس بحري تجمدت نظراته النارية على هيئة الأمر الذي أمره، والدنيا، وسور العساكر حاملي المدافع، والطابور، والبازلت والجبل والصخر والطريق، وكل شيء سكت وصمت وتآمر يستحثني أن ألبي.
انتفض الفلاح الخبيث الذي في يقلب الموقف الجاد الرهيب وقلت فجأة: بس دي دكر يا بيه!
لم يضحك، ولا أحد من القريبين أو البعيدين ضحك، بكل صرامة قال: روح هات واحدة نتاية.
وكالذي نومه المنوم المغناطيسي استدرت وقصدت كومة «التراب» وعسعست بيدي. طبعا كان أول ما خطر لي أن أبحث عن نملة أنثى، ولكني كدت أضحك من نفسي لأني انسقت وراء المشهد فعلا وأخذته جدا، وسألت نفسي: كيف أعثر على الأنثى، وما الفرق بين النملة الذكر والنملة الأنثى، بل هل توجد نملة أنثى ونملة ذكر. المقصود عدت إليه ووقفت أمامه وفتحت قبضتي على نفس النملة وقلت: ها هي نملة أنثى.
قال: يالله ... - يالله ماذا؟
سألته. قال: تاني ... اسمع ...
وفوجئنا بجعجعة أوامر تقرقع، واقترب سور العساكر حتى أطبق على طابور المعتقلين، واستقر أفراد فرقة الضرب فانتصبت واقفة مشرعة أسلحتها الفاتكة الرهيبة، وهوى الكرباج من خلفي وسمعت صفيره وهو يشرخ الهواء كالسكين القاطع مغورا في جلدي ولكن يونس بحري تلافاه، في آخر لحظة وأمسك باليد المهوية وقال بصوت مخيف صوبه إلى كل أذن تسمع: اسمع، أنا لا أريد ضربك، فأنا أعرف أنك من النوع الحميري الذي لن يؤثر فيه أي ضرب أو تعذيب ولكني سأضرب تلامذة ابتدائي هؤلاء.
أشار.
والحراس يعرفون إلى من يشير؛ فقد كان ثمة خمسة صبيان صغار لا يتجاوز أيهم السادسة عشرة، معنا في الطابور، إذا ضربوا يصرخون بل يصوصون كالكتاكيت المذعورة وتغور صرخاتهم في لحمنا الحي بحيث يصبح أهون لأي منا أن يقطع بالسواطير ضربا ولا يسمع صرخة الواحد منهم.
Unknown page