وهكذا كان لا بد أن أعثر أخيرا على ذلك الركن القريب من الفندق الكبير الذي ركبت معك من جواره. مكان وشغلانة لوكس. الركن إشارة. تقف العربات عند النور الأحمر، في سرعة أكون قد مسحت ركاب العربات الواقفة وسائقيها قبل أن يضيء النور الأخضر وينطلق المرور، ولكني اكتشفت أن الإشارة لا تستمر طويلا بحيث لم أكن أتمكن من تكملة مسح العربات كلها. وهكذا في يوم ذهبت إلى العسكري الواقف عند الإشارة ولم يأخذ الأمر سوى كلمتين اتفقت معه بعدهما أن يطيل من فتح النور الأحمر حتى «أمسح» العربات كلها وحين أعطيه أنا «إشارة» من رأسي أن كله تمام يفتح هو «الإشارة».
يا ابن الإيه! هكذا قلت له. وقلت لنفسي أهذا هو السبب إذن في غياب تلك الإشارة وربما غيرها من الإشارات؟
ووجدتني أسأله: وكنت تعطي العسكري؟
قال: طبعا، خمسين ستين قرشا كل يوم. - أمال أنت بتطلع بكام؟ - مش كله، اثنين تلاتة، ممكن أكثر شوية خمسة ستة في يوم المرور زحمة. - طب والنهاردة مالك هربان ليه؟ إيه اللي حصل؟ - النهاردة يوم موسم كل سنة وأنت طيب. والشغل كان على ودنه، وقلت أهرب قبل ما ييجي العسكري يشاركني فيه.
ولكن (هكذا قال الأسطى) تفكرت في الموضوع وقلت له: طب ما هو العسكري بكره ح يقفشك يا حدق.
ونظر لي بابتسامته الشابة الحدقة المصرية الساخرة وقال: لا، بكره فيه عسكري تاني باتفاق تاني. ده كان آخر يوم للعسكري ده في الحتة دي.
قال الأسطى: كنا قد وصلنا المكان، عندك يا اسطى وقفت. كان الحساب 43 قرشا. أعطاني خمسين قرشا، سبعة قروش بأكملها بقشيش وقال لي: لو تبقى كل يوم تعدي على الإشارة دي الساعة عشرة كده وتوصلني ح أديك خمسين قرش.
عن الرجل والنملة
بعيون فاغرة فاها رحنا نراقب الباب وهو بالعصبية الشديدة يفتح والكتلة البشرية تدفع من خلاله لا نتبينها إلا حين فقط تستقر في ركن الزنزانة الفارغ. حتى السباب المعتاد الذي كان لا بد يصاحب الفتح والإغلاق والتكويم، من فرط الدهشة، لم نتبينه؛ إذ قد حل الصمت لا نجرؤ على قطعه مخافة أن يجد جديد وأن يكون وراء البداية ما وراءها.
يتغامق الظلام في العادة بعد التمام. الخامسة بالضبط موعده. النزلاء صامتون لمقدمه إذ المفروض أن يحل الصمت ليتمكن حراس الليل من التغيير مع حراس النهار ويتمكن شاويش النهار من تسليم شاويش الليل، صمت يهيئ للصراخ أن يتعالى إذا حدث الخطأ وأفلت نزيل من الإحصاء وارتبك العدد. الباشاويش هو المخطئ ولكن الشتائم تنهمر فوق رأس النزلاء، وثمة جري، وصوت الكوالين الحديد يزأر وأبواب أخرى تنهمد حتى لتكاد تدك الحائط الحجري، وأخيرا، يجري الأزيز النهائي لمفصلات باب العنبر الكبير، وتخفت الأصوات مع الأقدام مبتعدة، ويحل الصمت. ويستمر، للتأكد أنهم جميعا ذهبوا، وأن النهار المتعب انتهى. وكأنما فجأة، تنفجر من الصدور الزعقات والقهقهات والشتائم مكونة مولد المغربية المعتاد.
Unknown page