أصبح بينهما المكتب مرة أخرى، نفس المكتب الذي كان دائما بينهما في الصباح هما على طرفيه ممتلئان بابتسامات الزيف وفي العمل يفصل بين المقالب التي يدبرها لمرءوسه، والعرائض والشكاوى المجهولة التي يدبرها لرئيسه. والآن هو موجود ولكنه لا يحول بينهما، بعده انطلقت صفعة يده كلها بوجهه، بأصبع واحدة فقط صفعه، فالآخر كان قد استدار وامتلكه وإلى صدغه وجه صفعة قوية مليئة متمكنة. أبرقت الدنيا في عينه وصفرت أذنه. أيكون هو الآخر كان ينتهز الفرص لينفجر. هذه «بونية» تصيب أذنه، من المؤكد خرقت الطبلة. يا ندل تأخذني على خوانة! هكذا سمعه. خذ وخذ وخذ وخذ. لم تعد علقة نوى أن يعطيها ويفض يده منه ومنها، أصبحت معركة تكاد تتعادل، الآن فقط يتأكد أن الآخر ليس جبانا بالدرجة التي كان يتصورها. ذعره الأول أصبح واضحا أنه ذعر المفاجأة ليس إلا، الآن هو يطلب العراك. وعليه عقد العزم. ما تصوره هكذا أبدا، طول عمره يراه فأرا رعديدا لا يحتمل الصمود لمجرد سباب وإن كان يبدو في قوة الأسد. ولو! حتما سيأكلها. فأر أو أسد سيخرج منها بعاهة مستديمة على الأقل. بجماع قوته لكمه. انثنى الآخر وتأوه. وتلذذ. بركبته رفعها كالطلقة شلفطت وجهه وأسالت الدم من أنفه. اعتدل. طار صوابه واعتدل. عيونه يشع منها بريق الشر والجريمة. كالثور الهائج أقبل، إلى اليمين زاغ منه. ولكن لان ذراعه أول ناله وبضربة من قدمه هوى على الأرض كالكتلة. المقص أصابني أنا يا حمادة. فلم أكن الأسرع. الركلات تنهال كالمطر، الجبان، بالحذاء. يسددها لوجهه، فقد العقل، فقد الإحساس بالضرب والألم. همه أصبح أن يغلب، لو مات حتى قد غلب أو غالب لما همه. المهم أن يخرج من الصراع غالبا، ولو ممزقا إربا يخرج، أمسك بالقدم، الضربة إلى صدره، بشدة أمسكها بيديه وبقوة عظمى ثناها. سقط الآخر يتلوى، يتأوه، اندفع يرقد وبيديه يحيط رقبته السميكة عازما أن يكتم للأبد أنفاسه. اختنق الوجه بالاحمرار وبحلاوة الروح دفع أصبعه السبابة في عينه. لنكن مجرمين أصبحنا. إما قاتل أنت أو مقتول. الرعب أمده بقوة أعظم. تخلص من الأصبع. رعب آخر جعله بانتفاض يديه بعيدا حتى ليرتطم رأسه بحامل الخزنة بل وتسقط على قدمه. تماسكا ظلا يتضاربان، حتى لاحت فرصة وأمسك لحم كتفه بأسنانه. بأنيابه، بكل ما يملك من حقد وغيظ، وجنون وفتوة أنشب فكيه في لحمه. أحس بطعم اللحم نفسه من خلال حرف البدلة، صراخ آخر مكتوم لم يعد يعادله إلا ضرباته. ضربات وحش لا يرحم، عينه يحس بها أغلقت تماما ولم يعد يرى بها، أنفه تورم وبالتأكيد تدشدش، دم الآخر سال، وبدأ يصرخ وبدأ هو الآخر يصرخ، الضرب اشتد وعنف وتشعب أهو يضرب أم يضرب، أهو المهزوم أم المنتصر، كل ما أصبح يحسه أنه متعب وأن التعب يتكاثر عليه حتى لم يعد يقوى على أخذ النفس. أصبح همه كله أن يتنفس لم يعد يتنفس. الهواء لا يدخل صدره. غير قادر أن يحرك الضلوع ليدخل الهواء. على الأرض تمدد بغير حراك، سكون، وهناك حين استطاع بطلوع الروح أن يعود يلتقط النفس، بدأ يدرك أن الآخر أيضا لا يضرب، وبنظرة لمحه مكوما أسفل ركبته، مغمض العينين، بدأ بالكاد يلهث بالنفس. كتلتان من الأنسجة المبعثرة والملابس الممزقة وبقع الدم ممددتان على الأرض في مكتب ليس به سواهما بعد ظهر ذلك اليوم.
من مكانه راح يرمق الآخر. عشر سنوات وهو بغير الحقد لا يرمقه. من مكانه راح ينظر إليه ويتأمل. إنه لأول مرة يرى قاع رأسه ويدرك أن الشعر في منطقة قمة الرأس خفيف تماما، بل يكاد يكون بلا شعر.
ووجد نفسه يتمتم: من كان يتصور هذا. بعد عامين على الأكثر سيكون الصلع قد شمل رأسه كله. مسكين.
حكاية مصرية جدا
تلك اللحظات القليلة، غريب يلتقي بغريب، وكل منهما يلعن الحظ بطريقته، ويتلاءم أو يتصارح، بطريقته أيضا.
ذلك السائق الطيب. سمين وملظلظ وأب لثلاثة طلبة في الجامعة، ويجيد رواية الحديث والنكتة.
قال: كنت سائرا قريبا من شيراتون، وفجأة في تقاطع شارعين، وجدت شحاذا مقطوع الساقين يعترض بجسده «أو بالأصح بالباقي من جسده» طريق العربة. وقفت. وفوجئت بذلك الإنسان، وبقدرة هائلة كقدرة القرود والزواحف، يقفز من حيث كان أمام العربة إلى حيث الباب المجاور لي ويفتح الأكرة وينزلق بجسده إلى جواري وهو يلهث ويقول: اطلع يا اسطى.
أطلع ازاي؟ قلت له. معقول أن أعطيك حسنة، أما أن أوصلك حسنة فهو ما لم يسمع به أحد! قال: يا اسطى أنا عايز أروح شبرا الخيمة أو شبرا المظلات، من فضلك وصلني. أنا زبون ولست شحاذا اطلع بسرعة أرجوك.
ترددت قليلا ولكن إلحاحه الشديد، ثم قبضة النقود التي أخرجها نصف إخراجة من جيبه أقنعاني أن أطلع. وطلعت. سرت على كورنيش النيل أتأمل الزبون، ملابسه مقطعة، جسده قذر، شاب لا يزال ولكن شعره منكوش بطريقة تضيف إلى عمره عشر سنين. ولعب الفأر في عبي مرة أخرى فأوقفت السيارة وقلت له: أنت إيه حكايتك بالضبط. مش ماشي إلا لما تقول لي.
قال: تشرب كوكاكولا؟
Unknown page