ها هو وجهه يذكرك بإنسانيتك، بأنك أنت مهما كنت، ومهما كانت أوضاعك فأنت هو الإنسان، أنت العظيم وسط هذا الكون الهائل الفراغ والظلام.
ذلك أن هذا النظام نفسه يؤكد أنك سيد هذا الكون، أنك الوحيد بين مكوناته القادر أن تتحرك بإرادتك المستقلة وبحريتك في أي اتجاه تختاره، إنك السيد، وكل ما تفعله عظمة الكون كلما عن لها أن تؤكد نفسها فإنها في نفس الوقت تؤكد عظمتك، أنت عظمة السيد.
فجأة، رأيت القمر.
لا أعرف لماذا كانت بعض الديانات القبلية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا تخصص أياما محددة من العام تجتمع فيها القبيلة كلها ومن كافة الأنحاء، في مكان محدد عند هضبة جبلية، هناك حيث يعسكر أهل القبيلة، ويقضون الوقت في تأمل صامت للشمس وهي تشرق وتميل ثم تغيب، والقمر وهو يعتلي قبة السماء ويتغير شكله وطبيعة نوره لا أعرف، ولكن الدارسين لهذه العبادات والقبائل يؤكدون على أن الغرض من هذا كان عمل نوع من الاتصال بين الإنسان والكون، بحيث يبقى للإنسان ذلك الاتصال الكوني الروحي الذي يزوده بزاد يكفيه حتى حلول العام القادم.
لا أحد يعرف إذن ماذا يعنيه هذا الاتصال بين الإنسان والكون، أو بالضبط ماذا يحدث للنفس البشرية إذا أجبرت على الابتعاد عن الظواهر الكونية أو إذا عاشت واختلطت بتلك الظواهر. لا أحد بالضبط يعرف ماذا يحدث للإنسان ولكن الذي لا شك فيه أن الإنسان «الكوني» أقوى بكثير من الإنسان من بلا بعد كوني، فالإنسان ذو البعد الكوني إنسان أقرب إلى حقيقته الإنسانية وطبعه البشري، أقرب إلى فطرته وأصالته، أقرب إلى تفرده وتسيده من ذلك الذي غشي عليه فلم يعد يرى أمسه من غده، أو ليله من نهاره.
فجأة، رأيت القمر.
رفرفت في صدري أجنحة عصفور زقزق في قلبي كالزغرودة وهفهف بجناحيه مرحبا، وكأن الأمر عيد يهش له.
وبدا كما لو كنت أستعيد حياتي كلها في شريط سريع أمام القمر أو بالضبط أمام لحظة القمر.
لا أعرف، ولكن، لأمر ما، كل شيء يأخذ حجمه الطبيعي، بل بدأت أنا نفسي آخذ عند نفسي حجمها الطبيعي، أو ذلك الذي أبدو فيه أكبر من كل مشاكلي. تلك الصورة التقليدية التي يبدو فيها الإنسان، ومهما كان التحدي القابع أمامه، منتصرا، أو على وجهه علامات الانتصار الأكيد.
فجأة، رأيت القمر.
Unknown page