وأخذني صاحبي من ذراعي متجها بي نحو المحطة، وأخذت أحدث نفسي صامتا. إنها حماقة لا مثيل لها، وماذا أعرف عن تجارة الأقطان، وما أدراني كم قنطارا عنده؟
وقلت له في هدوء: أرجوك أن تأذن لي أن أذهب إلى بيتي أولا. الساعة الآن العاشرة وأظن القطار لا يأتي إلا في الساعة الثانية عشرة. ألست دائما في إيتاي البارود؟
فقال: لم تنس بعد يا سيد أفندي؟ سأنتظرك هنا، وكنا أمام قهوة مظهر، فواعدته أن أعود إليه قبل مضي ساعة، وأسرعت منطلقا إلى شارع «أبو الريش» لعلي أعثر على حمادة الأصفر، وكنت لم أصادفه في هذه الأشهر الأخيرة، وبعد دورة طويلة عثرت عليه في خمارة بزقاق مظلم دلني عليها صبي القهوة التي تعودنا أن نجلس فيها، وجررته معي في شيء من القسر، وذهبت به إلى البيت لآخذ ما هناك من النقود، ثم ذهبنا إلى القهوة لنلقى محمد الشرنوبي.
وكنت في أثناء السفر إلى إيتاي البارود أحدث نفسي في حيرة عما أنا مقدم عليه، وامتلأت رهبة، ولما وصلنا إلى عزبة الشرنوبي اجتمع علينا الفلاحون وشاركوا زميلي القديم في خدمتنا والترحيب بنا حتى نسيت قلقي وداخلني شعور بارتياح ممزوج بالزهو، وذهبنا إلى مخزن القطن وكان فيه خمسون قنطارا كاملة.
وهمس لي حمادة: قطن عال ولكنه وسخ قليلا. خمسون قنطارا يا سيد أفندي!
فقلت هامسا: كم يساوي؟
فقال: لا أقل من اثني عشر جنيها. لقطة!
ففكرت في نفسي. ماذا أصنع؟ وهل يصدق ظن حمادة الأصفر؟ ألا يكون مغاليا في الثمن؟ ألا ينزل سعره في مدة يوم أو يومين قبل أن نحمله لبيعه في دمنهور؟
ولكني ملكت نفسي ولم أظهر ترددا.
ولما أتى الليل أعد لنا صاحبي فراشا في حجرة عليا فوق المخزن، وذبح لنا جديا سمينا وقضينا في الدوار مدة طويلة في سمر قبل أن نذهب إلى غرفة النوم، ولكنا لم نذق للنوم طعما واضطررنا أنا وحمادة إلى قضاء ما بقي من الليلة في الحديث؛ لأن لسعات البعوض والبراغيث لم تدع لنا فرصة للرقاد، وكان مما زادنا اضطرارا إلى الأحاديث أن المطر بدأ يهطل بعد نصف الليل، فكان لا بد لنا أن نجلس في الركن الذي لا يتسرب الماء إليه، ونستند بظهرينا إلى الجدار، وكان حديث حمادة مسليا برغم التعب ومضايقة اللسعات، وكان كل الحديث عن أهل المدينة، ولست أدري كيف عرف حمادة كل هذه الأسرار التي أخذ يحكيها مع أني لا أعرف منها شيئا وأنا أعيش معه في المدينة نفسها، وكان ينتقل من حديث إلى آخر ذاكرا من عيوب عظماء المدينة ما لا يكاد يصدق، وقد أخذت ذلك كله على أنه قصص من نسيج الخيال أو من رغبة التشنيع، وهي طبيعة تلجأ إليها النفوس المحطمة، وهل كنت لأصدق أن السيد أحمد جلال يقترن سرا بامرأة ساقطة، أو أن محمد باشا خلف يعيش من ثروة امرأته التي تضربه بحذائها؟
Unknown page