وقال حمادة: أجلس أنت هنا كالأمير ودعني.
ثم ذهب إلى وسط الطريق وأخذ يصفر صفيرا عاليا بمهارته التي عرفتها منه، فلم أستطع أن أقاوم الضحك، واستمر بعد ذلك يصفق ويصيح قائلا: هنا تجارة الأمانة! هنا تجارة الأجواد! هنا تجارة سيد أفندي زهير!
وكان الفلاحون ينظرون إليه في دهشة، ثم يقفون حوله فيشير لهم نحوي، وقمت إلى ميزاني فسويته، واتخذت هيئة التاجر المجرب، فكل من أتى إلي بما معه من الأرطال وقفت أنظر فيها وأقلبها ثم أزنها وأكتب الوزن على ورقة وأكتب أمامها اسم صاحبها، ثم يجيء حمادة فيفحص مرة أخرى ويساوم في الثمن حتى يرضى البائع فأصرف له النقود.
ولم تمض إلا ساعة قصيرة حتى فرغت نقودي ولم يبق معي إلا ما يكفي للعودة بما اشتريناه إلى دمنهور، وأخذ حمادة يعد الكيسين الذين معه ليعبئ فيهما القطن واستأجرنا عربة لتحمله إلى المحطة، واستطعنا أن نعود ببضاعتنا إلى دمنهور في قطار الظهر، وهكذا مر اليوم الأول من تجربة حظي في التجارة مع حمادة الأصفر، وكان ربحنا فيه عظيما لا يقل عن خمسة جنيهات فوق كل ما صرفناه في سفرنا وأجرة النقل وثمن الأكياس، وكان حمادة سعيدا في آخر النهار عندما أعطيته خمسين قرشا، ولم يتركني حتى تعاهدنا على أن نذهب معا في كل مرة إلى أسواق القرى المجاورة.
وكان سرور أمي من هذه المغامرة الأولى عظيما، وقالت توصيني بحمادة: تمسك بهذا المسكين، فمن يدري يا ولدي، لعل هذا رزقه!
الفصل الخامس
مر ما بقي من موسم القطن في ذلك العام وأنا دائب على الذهاب إلى الأسواق المحيطة بدمنهور في صحبة حمادة، نشتري دائما على طريقته، ثم نجمع ما نشتري ونحمله على عربة نسير إلى جنبها حتى نصل إلى أقرب محطة للقطار فنرسله منها إلى دمنهور، وكان حمادة يتفنن في وسائل الإعلان واجتذاب الأنظار، وكان هو بشخصه علما يسترعي الأبصار والأسماع بقامته القصيرة وصفيره العالي وتصفيقه وفكاهته، وصرنا بعد قليل من أشهر من يرتاد الأسواق، وأصبح اسم سيد زهير وتجارة الأمانة والأجواد مما يجري على ألسنة أهل القرى، وإن كان متجرنا في كل مرة لا يزيد على ظل شجرة على جانب الطريق، واستطعت أن أقتصد من أرباح هذه التجارة أكثر من مائتي جنيه فوق الجنيهات العشرين التي كانت معي من قبل، بعد كل ما أنفقته على البيت حتى حل الموسم الجديد، ولا شك في أن الفضل الأكبر في نجاحي هذا يرجع إلى حمادة، ولا أدري ماذا كنت أصنع لو لم أصادفه في أول يوم على غير موعد.
وما أجدر هذه الإنسانية الضعيفة أن تتواضع وتعرف موضعها من المقادير، وما أكثر الأدلة التي تدلنا على أن النجاح والإخفاق يتوقفان على عوامل عدة أقلها إرادتنا، وكان حمادة مادة عزيزة للتأمل في ذاته، فكنت أراه وأستمع إليه كأنه كتاب حي من الكتب الصفراء القديمة التي تحتوي على كنوز من المعارف؛ فهو يعرف الناس ويتعمق حقائقهم بفطرته الساذجة التي لا تخدعها مظاهرهم ولا يضللها ما تعارفوا عليه من المعايير التي خلقوها لأنفسهم، وقد حيرني منه أنه لم يستطع أن يشق له طريقا في التجارة ويستقل بنفسه فيها مع أنه كان بغير شك صاحب الفضل في كل نجاح أصبته في تجاربي، وقد سألته يوما في ذلك فلم يقل سوى أنه مولود في ساعة نحس.
فقلت ممازحا: جرب معي حظك وابدأ بمشاركتي.
فقال ساخرا: قلت لك دعني ولا تخاطر بنفسك.
Unknown page