وأخذنا نتحدث معا عن الأسواق وأسرارها، فتلقيت في هذه الجلسة أول دروسي في تجارة الأسواق، وخرجت بفوائد لا تتاح إلا لمن يتبادلون أنفاسهم مع الناس، ويعرفون من الحكم ما لا تعلمه لهم القراءة أو التأمل، وعزمت فيما بيني وبين نفسي أن أحفظ ما أسمع من هؤلاء الذين لا يتلقون ما يقولون عن أحد. إن كل كلمة يقولونها تصدر عن حكمة متواضعة لا تدعي الحكمة، وهي التي يتعلمونها من وخزات الحوادث وغمرات المآزق.
وبلغنا الدلنجات آخر الأمر، ونزلنا نتدفق من العربة إلى الفضاء الواسع متجهين إلى السوق، وكل منا يحمل في يده ما أعده للبيع أو للشراء، وكنت لا أحمل في يدي إلا ميزانا في كيس من أكياس الخيش، وكان منظر هذا الجمع الكبير وهو يتجه في صف طويل أشبه بمنظر الجيش الزاحف.
وكان حمادة يجتهد أن يبقى قريبا مني، مع أني تعمدت ألا ألتفت إليه عندما نزلت، وكان يحمل على كتفه كيسا لا أعرف ما فيه، وينظر نحوي في شيء من التردد كأنه يريد أن يجد سبيلا إلى أن يكلمني، ولما لم يجدني التفت إلي تجرأ وقال لي: ألست في حاجة إلى من يساعدك يا سيد أفندي؟
وكان في صوته انكسار زادني إشفاقا عليه وقلت له: في أي شيء يا حمادة؟
فشجعه جوابي واقترب مني قائلا: في أي شيء، أحمل لك ما تشتري أو أساعدك في الشراء، وأنا خبير بالأسواق.
ثم همس قائلا: ومن أجل المساعدة أيضا، فوالله إني لم آكل منذ الأمس إلا هذه اللقمة التي رأيتها في يدي.
فقلت له عاطفا: وهل تجيء إلى السوق في مثل هذا الصباح بغير وجهة؟
فقال: وماذا أعمل؟ أقصد باب الله يا سيد أفندي. هو العمل الذي أقدر عليه ما دام الناس لا يريدون أن أعمل معهم. كل من أعمل عنده يطردني. لماذا؟ لا أدري. نحس. شؤم، بختي زفت.
فقلت باسما: وتريد أن تجرب حظك مرة أخرى معي؟
فقال: خليها على الله! والله يا سيد أفندي هو البخت. لكن يمكن. يمكن بختك يغلب يا أخي. جرب يا سيد أفندي، والله كلهم كسبوا وربحوا معي ولكني منحوس ، فازوا بالمكاسب وطردوني، ومد يده إلي ليأخذ مني الكيس الذي حملت فيه الميزان فقبضت ذراعي وقلت له: هذا ميزاني وأنا أولى بحمله. أين موضع السوق؟
Unknown page