والآن تقترب نهاية القصة على فجأة كما تنتهي القصص الرديئة، وإن كنت أعتذر عن هذه النهاية المفاجئة بأنني لم أتعمدها؛ لأن المقادير هي التي جعلتها تنتهي فجأة، المقادير تصرف شئون الحياة كما تريد هي لا كما يريد الأحياء، بل إني أستطيع أن أعتذر عن المقادير نفسها، فأقول: إنها لم تدبر لهذه القصة نهاية بل دبرت لقصة جديدة. هكذا الحياة تسير في سلسلة من القصص التي تنتهي كل منها إلى بداية أخرى، ولا يستطيع أحد أن يعلل حوادث المقادير مهما أوتي من الحكمة، فكيف أستطيع أنا أن أعللها وما أوتيت من الحكمة شيئا؟ كل ما أفخر به أني آمنت بأن الحياة نادتني وأن للأقدار حكمة وأننا نتجه في الحياة كما توجهنا أسرار صغيرة عظيمة أو مواقف تافهة خطيرة، لا ندرك قيمتها في لحظتها، ولا نعرف أنها هي التي وجهت حياتنا إلا بعد أن نمضي على الطريق، ويصبح من المحال علينا أن نعود أدراجنا.
قد يقول البعض: إننا نملك مصائرنا، وإن الحوادث التي تقع لنا ما هي إلا نتائج محتومة لمقدمات ثابتة، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن نهاية هذه القصة تخالف هذه السنة على ما بدا لي، وما أزال أراها من الأمور الغامضة التي تبعث الدهشة والعجب، ولقد بلغت بي الحيرة أنني عددتها كرامة من كرامات الأولياء أو معجزة من معجزات الإرادة الإلهية، وإلا فكيف كنت أتصور كل ذلك الانقلاب في الأسابيع القليلة التي قضيتها في القاهرة بعد عودتي من دمنهور؟
فقد اتفق وقوع حادثين في وقت واحد، بل في ساعة واحدة، وكانت فيهما نهاية القصة.
في صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو وقعت الحادثتان معا، وأنا أسجلهما هنا؛ لأن بهما تنتهي هذه القصة، أو بقول آخر تبدأ قصة جديدة.
فأما الحادث الأول فهو أنني كنت جالسا إلى جانب المذياع أستمع إلى قرآن الصباح وإلى أخبار اليوم الجديد، فإذا صوت ينطلق معلنا قيام ثورة من الجيش! الجيش! الله أكبر! الجيش الذي كنا نخشى أن يكون هو عماد الطاغية الرهيب؟
الجيش يعود مرة أخرى ليثبت أنه من أبناء الوطن، وأن الطاغية يسخر منه كما يسخر من الأمة، ويعبث به كما يعبث بالأمة! إنها لكرامة من الولي الذي جاورته في هذه الأشهر الماضية، وكنت أذهب إليه كل صباح لأؤدي صلاة الفجر بعين دامعة، وقمت مسرعا لأصلي في مسجد الحسين؛ لأني في دهشة المفاجأة آمنت بأنها كرامته، وإلا فكرامة من؟ الأمة كانت لا تستطيع إلا ثورة مثل التي وقعت في يوم 26 يناير، ولكن هذه ثورة أخرى، ثورة بيضاء تعرف غايتها.
وأما الحادث الثاني فإني ما كدت أعود إلى شقتي المتواضعة في باب الخلق حتى وجدت برقية تنتظرني! «تم الاتفاق وفي انتظارك اليوم حسب الاتفاق. منى.»
وسرت كما أنا بوضوئي وخشوعي ودهشتي قاصدا إلى المحطة مخترقا طرق القاهرة المزدحمة بأمثالي من الذين خرجوا إلى الطريق ليسأل بعضهم بعضا في دهشة: «كيف حدث هذا؟»
وسافرت إلى دمنهور في قطار الصباح، وكنت على طول الطريق أفكر خاشعا وأسأل نفسي: «كيف يحدث هذا؟» واستقبلتني منى باسمة، وفتحت لها ذراعي، وكانت هي الأخرى تقول إذ تندفع إلى صدري: «كيف يحدث هذا؟»
Unknown page