ولما جاء عبد الحميد في ساعة الظهر كانت دهشته عظيمة لزيارتي المفاجئة، وسألني: متى جئت؟
فقلت: في قطار الصباح.
فصاحت منيرة: وأين كنت؟
فأجبت في نشوة: عند منى. ألم تبعثي إلي أنها متألمة مني؟
وأخذت عبد الحميد لنجلس في غرفة الجلوس، وأفضيت إليه بكل ما قلت وما قيل لي، فخبط على كتفي قائلا: لأول مرة تستحق احترامي.
ودخلنا في مناقشة طويلة بعد ذلك عندما ذكرت له تنازع أفكاري بين إجابة رغبة منى وبين تلبية نداء المعركة التي تناديني.
فما كاد عبد الحميد يسمع كلمتي حتى انفجر ضاحكا وقال: لا تكن أحمق بهذا القدر، تستطيع أن تكتب ما تشاء وأنت هنا، ولكنك لا تستطيع أن تقف إلى جنبها إلا هنا.
والمناقشة تخرج في كثير من الأحيان إلى مكابرة يندفع إليها كل من طرفيها مع الكبرياء، كأنها معركة يخشى كل منهما الهزيمة فيها، وهذا ما وقع بيننا لمدة ساعتين حتى جاء وقت الغداء وكل منا متمسك بآرائه، ومن العجيب أنني كنت أجادل صاحبي وأنا أحس في الوقت عينه بسرور خفي كلما وجدت في حجته قوة، كأنني كنت أريد من المناقشة أن أقنع نفسي بأن عملي سيكون في نظر الناس طبيعيا لا موضع فيه للسخرية.
وكان اليوم التالي من أسعد أيام حياتي، فذهبنا جميعا إلى العزبة وهي لا تبعد عن دمنهور بأكثر من عشرين كليومترا، وكانت قطعة جميلة من الهندسة والخصب والذوق الجميل، في تنسيق طرقها ونضرة زرعها وبهاء المسكن الأنيق الذي بناه السيد أحمد جلال قبل موته بعام واحد، وذهبت مع الأماني إلى أبعد مذاهبها عندما تخيلت نفسي مقيما في ذلك القصر مع منى، ومن حولنا ذلك الريف الجميل في معزل عن الناس جميعا، ومرحنا في ذلك اليوم السعيد، كأننا جميعا عدنا إلى الطفولة، حتى إن السيدة الكبيرة وأمي نفسها نسيتا أن للسن أو لآلام المرضى ضرائب لا بد من الاحتياط لها، ولكن العاقبة كانت على غير انتظار خاتمة طيبة لليوم السعيد، فقد عادت أمي من تلك الرحلة بذخيرة من المرح والنشاط كما عادت السيدة الكبيرة تسير على قدميها كما تنبأت منى، والشيء الوحيد الذي عكر بعض صفاء تلك الرحلة أن السيدة استمرت تجادل منى على طول طريقنا في العودة، وتصر على الاحتفاظ بالعزبة مهما كانت الظروف، ولكن منى تخلصت من المناقشة الحادة بضحكتها الوديعة قائلة: نستطيع أن نشتري أحسن منها. ولما عدت إلى القاهرة كانت الدنيا تبدو في عيني بألوان أخرى غير التي تعودت أن أراها، وبدأت أنظر إلى الأمور نظرة جديدة غير التي كنت أنظر بها.
كانت الحكومات تتعاقب في أسابيع قليلة، وكل منها لا تدري أين تضع أقدامها، وسألت نفسي مرارا أين تنتهي هذه المهازل التي يمثلها صغار في أسماء منفوخة، أساليب واحدة وإن تعددت الأدوار التي يمثلها كل منهم والنتيجة المحتومة واحدة، كنت كل يوم أسأل نفسي: «إلى أين نصير؟» ولم يكن لهذا السؤال إلا رد واحد: ثورة أخرى مثل التي وقعت في 26 يناير الماضي، ولم لا؟ غير أني كنت أعود دائما فأقول: «وماذا نجني من مثل تلك الثورة؟» وماذا يجني الجسم العليل الذي تسممت دماؤه من انفجار جلده بالقروح ذات الصديد؟
Unknown page