187

وقام حمادة بغير أن يتم حديثه، وكان وداعه حارا، وسار يتعثر في ذيل معطفه الذي استعاره من عوض الله ليستخفي به، وغاب وراء ركن البناء بعد قليل، وبقيت وحدي جالسا على الكرسي الطويل سابحا في تأمل هذا الرجل العجيب حمادة الأصفر، لم أستطع أن أعرف حقيقته منذ كنا أطفالا، ولا عندما كان يتمرغ في الأوحال، ولم أستطع أن أعرف حقيقته بعد وهو يتخطى الأسوار ويعرض نفسه للمتاعب من أجل زيارتي.

وقطعت الأخت مرسيديا كبيرة الممرضات سلسلة أفكاري عندما جاءت لتأخذ عينة الدم من ذراعي، وتعطيني الحقن كما كانت تفعل كل ليلة.

وقلت لها ضاحكا: أهي مؤامرة لنزف دمي؟

وكانت لها طريقة ظريفة في معاملتي تشبه طريقة الأم إذا أرادت أن تتغلب على مقاومة طفلها العنيد في رفق، فاستسلمت لها حتى فرغت والتفتت إلي قائلة: هذه مكافأة صغيرة على طاعتك. أظنها قصة تعجبك وهي من أحدث ما ظهر.

فقلت وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب: أتعجبني من أجل هذه الصورة؟

وكانت صورة امرأة غجرية حسناء تكاد تكون صورة فطومة.

فقالت مرسيديا: هذه «ردمويا»، هي امرأة متوحشة لم تفسد المدنية طبيعتها الأصيلة؛ ولهذا تنطق بما يقول قلبها.

فأخذت أقلب الصفحات وأنظر إلى الصور الأنيقة التي فيها، وهي تمثل الغجر الذين يقيمون في خيامهم في قلب المدينة كما كان يعيش الإنسان الأول.

وكانت قصة مسلية مؤثرة في وقت واحد، فتاة غجرية حسناء يتهافت على خطبتها شباب القبيلة، وكان أحرصهم على الفوز بها «نمرادا» ابن شيخ القبيلة، وهو فتى ممشوق القامة، جميل الصورة، ولكن «ردمويا» رفضت حبه وقالت له تتحداه: «دمائي لا تألفك.»

ولم أستطع أن أقاوم ميلي للقراءة برغم تحذير الأخت مرسيديا، ألا أطيل السهر، وأخذت أقرأ في تمهل بغير أن أجد في مدخل القصة شيئا يسترعي اهتماما خاصا، ثم بدأت صور الأشخاص تتمثل في ذهني كأنها تخرج من وراء ضبابة، وبدأت آنس إليها وأعرفها، ولم أشعر بمضي الوقت حتى شعرت بيد تخطف القصة مني، وسمعت صوت مرسيديا تقول في غضب: الحق علي أنا! ألم أقل لك ألا تقرأ هذه الليلة؟ أهكذا تسهر إلى الساعة الواحدة من الصباح؟

Unknown page