فقال بغير اهتمام: اسأل حضرة الضابط.
فقلت في شيء من الغضب: وأين هو؟
فأغلق الباب قائلا: سأسأله.
وكدت أثب لأمنعه من إغلاق الباب بالمفتاح ولكنه سبقني فأغلقه، وعدت إلى المكتب فوثبت جالسا فوق ظهره وجلست أنظر إلى المارة من بعيد وهم يتحركون في اتجاهات شتى، شاب يركب دراجة في وسط الطريق ويمر بخفة بين السيارات وهو يتلفت يمينا ويسارا كأنه بهلوان في سرك، ما أمهره في الركوب وما أشد مخاطرته! كأني به يستهين بحياته أو يتمتع بشعور المخاطرة، ولم لا يخاطر الناس بحياتهم في كل شيء؟ إن المخاطرة تبعث إلى النفوس نشوة النجاة دائما، فتكون الحياة كلها حية مثيرة إلى أن يحين القضاء المحتوم. الرقابة تحيل الحياة إلى سجن مثل هذه الغرفة التي أنا فيها، ولكن إذا كان هؤلاء الفتيان الذين يحاورون السيارات في الطرق من فوق دراجاتهم لا يريدون بعملهم هذا إلا أن يشعروا بأنهم يقومون بمغامرة، فلماذا أغضب أنا من أني أواجه مغامرتي؟
ومضى علي وقت طويل وأنا أتأمل وجوه المارة في الطريق، وأقرأ على كل منهم المعنى الذي تدل عليه مظاهرهم؛ فمنهم من يسير مسترخيا كأنه يحلم، ومنهم من يسرع كأنه يريد أن يدرك قطارا على وشك السير، ومنهم من كان لا يريد أكثر من التلفت إلى وجوه الآخرين.
وكان مما استرعى نظري أيضا طفلان؛ صبي وفتاة لا يزيد عمرهما على العاشرة، وكانا يقطعان الطريق ذهابا وإيابا، ويعبرانه من جانب إلى جانب كأنهما قطان ضالان، وكان كل منهما يحمل في يده علبة من الصفيح معلقة في ساعده بخيط، فيما يكاد يرى «عقب» سيجارة يسقط على الأرض حتى يهبط إليه كأنه صقر، وجعلت أتأمل وجهيهما وأتصور ما يكون شكلهما إذا زال في الوسخ عن وجهيهما ولبسا ثيابا غير الخرق الممزقة التي ترف فوق جسديهما النحيلين، ولم أشك في أنهما يكونان ظريفين رشيقين لو أكلا ولبسا كما يفعل الآدميون، ولكن أحقا يتغيران إذا غسل عنهما الوسخ؟ هل يمكن أن يتحولا إلى طفلين ظريفين؟ وكيف يمكن أن تزال الأوساخ التي تسربت إلى أعماقهما؟
وانقبض صدري عندما تمثلت الألوف الكثيرة التي وقع عليها بصري في كل مكان من هؤلاء الأطفال، وسألت نفسي كيف نستطيع أن نتمتع بالطعام والشراب، وكيف نطمئن في بيوتنا ومع أفراد أسراتنا وهناك ألوف من هؤلاء المساكين يسيرون هكذا كالقطط الضالة؟ وقطع علي تفكيري فتح باب الغرفة، ورأيت الشرطي الذي جاء بي إلى القسم وسمعته يسألني: أما تريد شيئا؟
فشكرته من أعماق قلبي، وقلت له: «هل تتكرم بأن تشتري لي رغيفا من الخبز وأي شيء يؤكل معه؟» ومددت يدي إليه بنصف ريال، ثم نظرت إلى ساعتي وكانت ما تزال الخامسة، كل هذا الوقت ساعة واحدة منذ دخلت في الغرفة؟ إن الذين يقيسون الوقت بالساعة لم يدخلوا إلى مثل هذه الغرفة ليسجنوا بها، أليس الزمن خرافة من تأليف العقل البشري كما قال صاحبي عبد الحميد عباد؟
وذهب فكري إلى دمنهور ومرت بذهني صور كثيرة، يا ترى كيف حال أمي وأختي؟ والحمد لله على أنهما لا تعلمان أني هنا، ومنى؟ هل تبلغها تحياتي التي أبعثها إليها كل صباح وكل مساء مع إشراق الشمس وطلوع النجم؟ لا بد لي من أن أسافر إليها غدا أو بعد غد إذا فرغت من هذا التحقيق السخيف، ولن أنسى غدا إذا قابلت الأستاذ علي مختار أن أعتب عليه عتبا شديدا؛ لأنه لم يعبأ بالحضور ليقف إلى جانبي أو قريبا مني، بل إنه لم يعبأ أن يرسل سكرتيره ليسأل عني.
وفتح الباب مرة أخرى ودخل شرطي جديد لم أره من قبل، فقال لي بصوت جامد: تعال يا أفندي.
Unknown page