مقدمة
الصحصاح ينازل ملك الروم
حصار العرب لعاصمة الروم
العودة إلى وادي الحجاز
مولد فاطمة بنت مظلوم
انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين
مولد بغداد
الحجاز وبغداد
مأزق ذات الهمة
مرض أم المجاهدين
هروب الحارث من انتقام ذات الهمة
ولادة عبد الوهاب
المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة
عبد الوهاب يبدأ جهاده!
الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!
زواج عبد الوهاب بالحجاز
هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!
الأمير عبد الوهاب يشفى من جراحه!
ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية
العصر الذهبي لهارون الرشيد
الرشيد يعتقل ذات الهمة
النكبة الدامية للبيت البرمكي
خوارق البطال
حفيد ذات الهمة يحكم الأندلس
مقدمة
الصحصاح ينازل ملك الروم
حصار العرب لعاصمة الروم
العودة إلى وادي الحجاز
مولد فاطمة بنت مظلوم
انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين
مولد بغداد
الحجاز وبغداد
مأزق ذات الهمة
مرض أم المجاهدين
هروب الحارث من انتقام ذات الهمة
ولادة عبد الوهاب
المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة
عبد الوهاب يبدأ جهاده!
الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!
زواج عبد الوهاب بالحجاز
هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!
الأمير عبد الوهاب يشفى من جراحه!
ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية
العصر الذهبي لهارون الرشيد
الرشيد يعتقل ذات الهمة
النكبة الدامية للبيت البرمكي
خوارق البطال
حفيد ذات الهمة يحكم الأندلس
الأميرة ذات الهمة
الأميرة ذات الهمة
أطول سيرة عربية في التاريخ
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
سيرة الأميرة ذات الهمة
تعد هذه السيرة العربية أطول سيرة في التاريخ؛ ذلك أن حجم مخطوطاتها المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني ومكتبة الدولة ببرلين بألمانيا الغربية يصل إلى 23 ألف صفحة، وتغطي أحداثها لحروب قارية متصلة لأربعة قرون بين العرب المسلمين من جانب، والتحالف الأوروبي البيزنطي، أو كما تسميه السيرة: بالتحالف الرومي من الجانب المقابل، كما تغطي أحداثها حقبة مطلع الإسلام وانتشاره؛ فسيرة الأميرة ذات الهمة تبتدئ أحداثها بأزهى عصور الخلافة الأموية في دمشق، والعصر الذهبي لعبد الملك بن مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، الذي طارده أبو مسلم الخراساني عقب هروبه إلى مصر، إلى أن لحقه واغتاله في أبو صير بمصر الوسطى، مرورا بمطلع العصر العباسي وصراع السلطة المحتدم المتبلور في أزمة أو فاجعة البرامكة الفرس؛ حيث تستفيض هذه السيرة التاريخية العملاقة في إعادة سرد تلك النكبة السياسية بين العرب والفرس.
وتنتهي أحداثها في عصر الخليفة العباسي الواثق بالله، برغم أنه يرد ضمن أحداثها وعلى لسان راويها.
إن سيرة الأميرة ذات الهمة الفلسطينية كانت تروى بتمجيد شديد على الخليفة الواثق بالله العباسي، وإن ذلك الخليفة كان كثيرا ما يستوقف راويها مستفسرا عن أبطالها وأحداثها، تلك التي تؤرخ لحياة وبطولات تلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة؛ لذات الهمة كقائدة محاربة لعبت أهم الأدوار في الدفاع عن مطلع الدولة أو الخلافة الإسلامية، فكان سكان الثغور البحرية الفلسطينية كطلائع ساحلية على طول تاريخهم أكثر نبضا وتوقدا واستشعارا للخطر الخارجي المتربص على الدوام بالعرب، سواء أكان الشرق الأوسط المعاصر، أو الأدنى القديم، أو ما يعرف بالعالم العربي بعامة، ومركزه الشام وفلسطين والجزيرة العربية.
وهو بالضرورة أمر طبيعي أن تجيء الطلائع البحرية الساحلية من لبنان وفلسطين أكثر استشعارا وترصدا للأخطار المحيطة عنها بالنسبة للبلدان والحضارات الزراعية أو البدوية الرعوية، حتى ولو من مدخل أن تلك الأخطار والغزوات التي لا بد وأن تكون في معظمها بحرية.
وقبل أن نستطرد في سرد الوقائع والأحداث ذات الصبغة السياسية للحقبة أو العصر التاريخي الذي تؤرخ له السيرة، وبدءا على التقريب من مطلع القرن الثامن الميلادي، نعود إلى أهمية وقضية هذه السيرة العربية العملاقة.
وللقارئ أن يتصور أن «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب» لا تزال إلى أيامنا مخطوطة مفتقدة، منذ أن نسخها مؤلفها - أو مؤلفوها الحقيقيون - كتراث أو تاريخ شعبي أقرب إلى أن يكون فلكلورا من حيث الافتقاد للمؤلف اليقيني الفرد.
ولا تزال هذه السيرة مخطوطة في عشرات الأجزاء المتتابعة الحلقات، التي تصل في مجموعها إلى 23 ألف صفحة من القطع المتوسط.
والنسخة الأصلية المحفوظة بمكتبة الدولة ببرلين كمخطوطة لم تصلها بعد يد المطبعة، وهي لهذا مصدر فخر لا يبارى لمكتبة برلين المركزية، واحتفى بها أشد الاحتفاء؛ لإنقاذها من الدمار عقب الحرب العالمية الثانية الأخيرة.
هذا على الرغم من أنه كان لهذه السيرة الملحمية أكبر التأثير في مجمل الآداب البيزنطية منذ ما قبل القرون الوسطى، كذلك نقلت أو ترجمت إلى الفارسية والتركية منذ أوائل الغزو العثماني، وعرفت باسم «سيد البطال»، وهو اسم بطلها الخارق المحارب صاحب الألاعيب والخطط الحربية البارعة، التي أوصلت بطلة السيرة وشخصيتها المحورية «ذات الهمة» لأن تصل بمعاركها وانتصاراتها الحربية التاريخية إلى حد أسر الإمبراطور الروماني «ميخائيل»،
1
ودخولها على رأس الجيوش العربية إلى القسطنطينية؛ لتصبح وتتوج إمبراطورة لفترة - ليست بطويلة - على القسطنطينية.
وكما ذكرنا، فإن الهدف الجوهري لهذه السيرة الفلسطينية هو التأريخ لسيرة دمار تلك الأسرة الفلسطينية وحروبها وتصديها للغزو الخارجي، كمقاتلين على الثغور والمداخل البحرية، طالما أن الغزو لا بد وأن يجيء - في ذلك العصر الوسيط الإسلامي البيزنطي - بحريا. «فالصحصاح»، جد الأميرة ذات الهمة، يشارك في الحرب ضد الروم، والمعروفة باسم «حرب الروم» من وجهة نظر التأريخ الشعبي بالطبع، في تلك الحروب الأموية التي اندلعت ضد الروم «البيزنطيين»، ومنها حملة مسلمة بن عبد الملك، وما توالى من خلفاء وحروب متصلة لتأمين حدود الدولة الإسلامية الوليدة.
كذلك لم تغفل سيرة ذات الهمة أن الحصار الذي ضربه العرب حول القسطنطينية امتد لبضعة أعوام، مما اضطر الجيوش العربية إلى تشييد مدينة ضخمة في مواجهة القسطنطينية، تعارفوا عليها باسم «المستجدة».
وهو الحصار الثالث للقسطنطينية الذي وقع تاريخا، كما لم تغفل عنه السيرة في عهد الخليفة «سليمان بن عبد الملك»، وفي ذلك الحصار تبدت طاقات البطل الشعبي المخادع أو الميكافيللي «سيد البطال»، والذي كما ذكرنا، فهو بطل تاريخي استشهد بالفعل في الحروب العربية ضد الرومان عام 122 هجرية، وهو يرد في السيرة كبطل أو قائد محارب ماهر في إنشاء ونقل وتموين خطوط الجيوش العربية إلى مداخل أوروبا الجنوبية، بالإضافة إلى الأندلس أو شبه جزيرة أيبريا بكاملها، التي وصلت الدول والدويلات السورية الفلسطينية - في الإطار العربي القومي العام - فيها إلى أكثر من 46 دولة وكيانا.
فالسيرة تؤرخ لحرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين، وطلائعهم أو حكامهم من أسرة ذات الهمة ضد الدولة البيزنطية عبر بضعة أجيال متعاقبة. تتخذ الأميرة جندبة بن الحارث الكلابي رأسا لها، وابنه الصحصاح، الذي تبدت أولى أعماله البطولية - كما تذكر السيرة - في إنقاذه لابنة الخليفة الأموي من مختطفيها، ثم بعد ذلك نراه يشارك في قيادة الحروب العربية ضد بيزنطة، بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان لحين مجيء ذات الهمة، واسمها الحقيقي «فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن الحارث الكلابي».
ولدت وتربت فاطمة تلك التي عرفت أو لقبت بذات الهمة في الخفاء أو البرية، ومنذ شبابها المبكر تصدت للاعتداءات القبلية الداخلية لقبائل طي، دفاعا عن شرفها ودفاعا عن قبيلتها؛ ومن هنا اشتهرت بذات الهمة، إلى أن أحبها ابن عمها الحارث بن الأمير ظالم، وكان فارسا لا يمل المغامرات والدفاع عن قومه، إلى أن أنجبت ذات الهمة منه ابنا سمته عبد الوهاب، وأراد الخليفة الواثق تعيينه واليا على القسطنطينية فرفض عبد الوهاب.
2
والهدف الرئيسي لسيرة ذات الهمة هو التأريخ لسلسلة الاعتداءات والحروب الخارجية الطامعة في الدولة الإسلامية الوليدة، وهي الحروب الرومانية أو الرومية البيزنطية، وهو ذات الدور الذي اضطلعت به سيرة
3
عمرو النعمان في مواجهة الأخطار والاعتداءات الآرية الفارسية آسيا الصغرى، وكذلك سيرة الأمير حمزة البهلوان.
بمعنى أن الهدف الأسمى لمثل هذه السير، وكذلك المناخ الذي توجد وتتكاثر فيه هو بالتحديد الأخطار المحدقة الخارجية، ومع هذا لم تغفل سيرة الأميرة ذات الهمة التسجيل والتأريخ للأحداث الداخلية ذات الصبغة السياسية، ومن ذلك أزمة نكبة الفرس البرامكة في مطلع الخلافة العباسية، التي يرد ذكرها من منطلق التأريخ الشعبي في سياق أحداث السيرة، وهي الأحداث التي وقعت منذ القرن التاسع الميلادي، حين أقدم الخليفة هارون الرشيد على اغتيال جعفر بن يحيى البرمكي وزيره الأول أو رئيس وزرائه.
وترد تلك الحادثة ضمن أحداث السيرة مرتبطة بإحدى العواصم أو الثغور التي استعمرها البحارة الفلسطينيون، وهي جزيرة مالطة، وكيف أمر الخليفة هارون الرشيد ببنائها وتعميرها وهو في طريق عودته من إحدى غزواته إلى حاضرة خلافته بغداد «حين جمعوا الصناع والبنائين من سائر البقاع».
4
وحين عاد إلى بغداد حدثت الواقعة أو الوقيعة بين الرشيد والبرامكة.
ولا تغفل السيرة ربط نكبة البرامكة بأحد أبطالها المحاربين، وهو الأمير عبد الوهاب، الابن الوحيد الوريث لذات الهمة، والخصم الأزلي لشخصية ترد خائنة متآمرة
5
تقف في صف الروم، ويدعى عقبة، وكيف أزعجته العلاقة بين جعفر بن يحيى الوزير الأول، وبين الأمير عبد الوهاب الفلسطيني ابن ذات الهمة، فدس خطابا بمساعدة الفضل بن أبي ربيعة مليء بالتآمر ضد الخليفة بين طيات عمه جعفر بن يحيى البرمكي، اكتشفه الخليفة وأنزل النكبة الانتقامية بالبرامكة، التي أحدثت بالتالي أثرها بالنسبة لمجرى أحداث سيرتنا هذه «ذات الهمة»، التي تجري أحداثها المركزية ما بين الثغور الفلسطينية العربية وبين دمشق وبين جزيرة مالطة - أو مالطية - المتاخمة لشمال فلسطين.
كذلك لا تغفل السيرة عن ذكر بناء وتعمير المدن؛ مثل: مالطة، وأيضا بغداد حين شادها الخليفة المأمون على نهر دجلة، حين أعجبه الموقع فأسماها باسم راهب كان يسكنها وأرضه «باغ-داد».
6
كذلك يرد في السيرة بكثرة ملفتة ذكر المدن والثغور الفلسطينية: غزة، حيفا، يافا، بالإضافة طبعا إلى مالطة المتاخمة، والتي كانت في موقع الدفاع الأول عن الساحل الفينيقي - من فلسطيني وسوري ولبناني - على طول عصورها، وبخاصة أكثر من مطلع العصور الوسطى التي تؤرخ لها سيرة ذات الهمة العملاقة، التي لم تجد بعد الرعاية الكافية.
وفيها يرد تطور أسلحة الحرب والقتال بدءا من المفرقعات التي تدعوها السيرة بالنار الإغريقية، كما يرد الكثير من الوصف الإنثوجرافي للكثير من المدن والكنائس والكاتدرائيات، ومنها كنيسة آيا صوفيا، وحياة الشعوب والكيانات الأوروبية، بدقة مدهشة، منذ مطلع القرن التاسع الميلادي.
شوقي عبد الحكيم
الصحصاح ينازل ملك الروم
ذاع صيت الأمير العربي الفلسطيني «جندبة» بن الحارث، حتى أصبح حديث القبائل تتناقل مأثوراته وأخبار مروءاته وفود الشعراء والحكواتية والمداحين على طول ربوع الشام والجزيرة العربية بأسرها.
كان جندبة دائم التفكير في الأخطار المحدقة المحيطة بالعرب والمسلمين، أخطار تقلقه وتقض مضاجعه.
فعبر البحر قاتم الزرقة تنسج المؤامرات وتحاك الخطط للهجوم على الخلافة الإسلامية الوليدة، وكم بعث الأمير الهرم جندبة برسله إلى خلفاء بني أمية ليطلعهم على ما يحمله هواء البحر من أخطار أقوام الروم البيزنطيين وحشودهم، وعيونهم غير الغافلة عن تلك الصحارى والوهاد، التي لا بد يوما وأن تطأها جحافلهم الهمجية.
كان جندبة قد استقر رأيه في الأيام الأخيرة على ضرورة شد الرحال إلى الأراضي الحجازية؛ لطرح الأمر وأخذ المشورة.
هب جندبة من غفوته متخذا طريقه عبر ردهات قصره إلى مخدع زوجته «الرباب»، مستهديا طريقه بنصحها، ورجاحة عقلها، وبصيرتها الصائبة.
وحين تحسست أذن الرباب حفيف أطراف عباءته صرفت من فورها جارياتها، بعدما أمرتهن بإعداد القهوة والفاكهة وحليب المساء.
ومن فورها عاجلته بما يعتمل في خاطره ذلك المساء: هل آن أوان الرحيل للحجاز؟ - نعم يا رباب ... فرأس المشورة وتاجها الراجح بالحجاز وأم القرى.
ضحكت الرباب وهي تأخذه بيده ليحط إلى جوارها على أريكتها: أنا جاهزة.
ضاحكها قائلا: أنت دائما جاهزة يا رباب ... رغم ...
لم يكمل جملته، فقد التفت من فوره محيطا بيديه الاثنتين خصرها في حرص شديد: ليتني يا رباب يمتد بي العمر ... حتى أشهد وليدنا ...
اندفعت الرباب معلنة: الصحصاح.
قبل جندبة بطنها: أجل، هو الصحصاح.
كان فكر الرباب منشغلا بالقرار المفاجئ الذي اتخذه زوجها «جندبة» بالرحيل إلى الحجاز، وهي على هذه الحال من الإعياء حامل في شهرها السابع تعاني آلام حملها الثقيل.
ورغم أن هذا الفصل من السنة كان أشقها على جميع خلق الله، قيظا وسهلا، فإنها لم تعط بالا لآلامها ومعاناة حملها.
بل هي كانت مشغولة البال، غائبة عن وعيها لا تجد لها ناصحا أو معينا؛ فزوجها «جندبة»
صحيح أنه لم يجهر لها بشكواه مما يعانيه من آلام المرض الذي ألم به كاسرا باطشا على هيئة حمى في البداية، إلى أن حملت الرباب خبر مرضه إلى شيوخ القبيلة وحكمائها، دون أن تجرؤ على استقدام حكيم يطببه ويحقق له الشفاء.
كان جندبة يكره الحكماء والمطببين، لا يثق أبدا في وصفاتهم وما يشيرون به،
•••
كانت «الرباب» تدرك أن الطريق إلى الأراضي المكرمة محفوف بالمخاطر، والقيظ يطبق على الأنفاس، وهي لم يسبق لها أبدا معارضة رغبة أو قرار لزوجها، الذي أصبح مثقلا بهموم المسلمين مهما كانت بساطة ذلك القرار وتلك الرغبة، فما العمل والرغبة هذه المرة هي الرحيل وهدم المضارب؟
تسندت الرباب على كتف إحدى جواريها المقربات بعدما أفضت لها بهواجسها، واندفعت من فورها متخلية عنها، مشيرة إلى نسائها وجواريها بجمع حاجيات زوجها أولا، والحرص على ملابسه وخصوصياته وعتاده وكتبه التي أوصاها أول ما أوصاها بالحفاظ عليها، خاصة خزانة الخرائط التي لم تكن الرباب تفهم منها شيئا بأوراقها الصفراء وجلودها الملونة، والتي كان جندبة يفرد بعضها متدارسا مع بعض فرسانه ليلا في أيام الشباب الخوالي.
تنهدت الرباب: رباه.
فالله وحده يعلم ما بها من آلام الحمل والخوف من مخاطر الطريق وشروره، لكن ما باليد حيلة إزاء رغبة زوجها المتلهف للرحيل إلى مكة، ودون أدنى اعتبار لما وصل إليه من وهن
كيف العمل وآلام حملها هي أصبحت لا تترك لها لحظة صفاء، وكأن وليدها - الذي وافقها زوجها جندبة على تسميته بالصحصاح - يعاني هو الآخر في أحشائها معركة ضارية في سبيل تحقيق تواجده وبقائه.
وحين تذكرت الرباب وليدها القادم الصحصاح انفرجت أساريرها فرحة مستبشرة، وهبت من فورها في حماس مفاجئ، معطية أوامرها بالإسراع بالرحيل. •••
بل إن الغريب في الأمر أن «جندبة» كلما خاض معركة في حرب أو منازلة فروسية وألم به جرح كبير أو بسيط، يدفع به إلى ملازمة فراشه، نهبا للآلام القاسية التي يعانيها، لم يكن يسمح للرباب بإحضار حكيم أو طبيب مداو. وما أكثرهم على طول مضارب القبائل!
فكانت في كل مرة تقارب فراشه سائلة: لا حل لجرحك وما تعانيه يا جندبة سوى الإسراع باستحضار الطبيب، إلا أن جندبة ظل على الدوام، وكما لو كان بينه وبينهم عداء، لا أمل من التئامه يوما.
لكم تذكر الرباب جراحه التي ألمت به على طول ما خاضه من معارك ومنازلات على طول الثغور والموانئ، التي كان جندبة يعاني الأمرين في أهمية تأمينها ضد كل غاصب.
هي تذكر جراحه في الأناضول، وتذكرها في الحمراء وغرناطة، وكريت ... وآمد ... وعمورية.
لكم عانت الأمرين وزوجها وابن عمها مستلق طريح فراشه، يتألم في صمته وفي وحدته دون حتى أن يسمح لزواره من شيوخ القبائل ورسل الخليفة أمير المؤمنين في دمشق بزيارته وهو في أقصى حالات آلامه، مطلقا العنان لأفكاره وهواجسه المصاحبة لمسير المعارك واتجاه الحرب الطاحنة الدائرة، التي لم تكن لتغيب عنه وعن مخيلته أحداثها وأطوارها لحظة بلحظة.
إلا أن الرباب لن تنسى ما حيت لحظات عودة جندبة المنتصر مجللا بأقواس النصر، ودماؤه تنزف على جسده وساعديه كمثل أرجوان أحمر دام. •••
نزل الأمير جندبة وزوجته الفاتنة «الرباب» بواد مزهر بأرض الحجاز، ونصب جنده وحرسه المضارب على قمة ذلك الوادي الفسيح، المخضب بروائح المسك ونبات الريحان والورود البرية، تخالطها روائح الذبائح المشوية، وأقيمت الاحتفالات الليلية التي كانت توليها «الرباب» عناية خاصة لإدخال السرور على قلب الأمير المثقل بعذابات العرب على طول صحاريهم ووهادهم؛ لما يحيطهم من أخطار لم تخفت نيرانها يوما، أو حتى لحقبة أو لومضة.
ارتفعت أصوات الموسيقى وإيقاع رقصات الدبكة يخالطه إيقاع المجرودات والمعلقات العربية، وجاء صوت الشاعر مشحونا معبرا وهو يصف الغدر المكين لحربة «جساس بن مرة» تخترق ظهر الجد الأكبر، عمود السرايا، «كليب» ملك العرب:
ضربه بها وتمكنت في حشاه
نفد الخشب قرطين من سرته.
يا لها من لحظة غادرة دائما ما يكرهها «جندبة»، وتسيل لها دموعه مدرارا على وجنتيه!
وفي تلك الليلة القمرية اشتدت شجون «جندبة» لزوجته وابنه الذي أسمياه قبل ولادته ب «الصحصاح»، فانتقل إليها وتمدد في إعياء داخل خبائها، وأفاض في الحديث عن ولده، وأهمية إرضاعه منذ المهد كره الأعداء مع لبن الأم.
ومات «جندبة» قبل أن يكمل مشواره، وشقت عليه البنات والأمهات الصدور، وبكته النائحات،
•••
وحين ولد «الصحصاح» متخليا عن بطن أمه الرباب، ولد في العراء ... بريا كوحوش الصحراء.
ولد يتيما مغتربا محاطا بحنان الأم الكسيرة، التي أرضعته عبر شواطئ البحار القاتمة البعيدة.
ومنذ نعومة أظفاره تربى «الصحصاح» وشب على ظهور الخيول العربية التي أحسن اختيارها ومعاشرتها، تربى على عتاد الحرب والجهاد انتظارا لليوم المشهود الذي تنبأ به الأب الراحل يوما عبر وهاد الحجاز.
وهي النبوءة التي أطلت برأسها يوما باتجاه التحقق على رمال الصحراء.
تلحف «الصحصاح» اليافع بالعراء، وغفا ثم تيقظ على شبح شيخ مسن بيده مقبض جواد شهير عالي الهامة بين العرب يدعى «اللاحق»، وهو من أمهر خيول «بني مرة»، هامسا في أذنه: ما خابت التربية فيك يا «صحصاح» يا ابن «جندبة».
وأغدق ذلك الشيخ المحسن العطايا «للصحصاح» من خيول وجمال بأحمالها، وخيول ورءوس أغنام ورعاة وجند وسيوف عواقل.
ومنذ شبابه المبكر، تبدت فروسية الصحصاح بين القبائل حين تصدى لملوك حضرموت في عشرين ألف فارس، وحين حالفه التوفيق فأنقذ ابنه الخليفة «مروان بن عبد الملك» وامتطى فرسته الشهباء، فكافأه الخليفة بالمجيء إلى عاصمة الأمويين.
ودخل أبواب دمشق محاطا بجنده من أبناء الأمراء وهم يرشونه بالملح والجوهر والبلخشن، إلى أن دخل قصر الخلافة، فاحتضنه الخليفة سائلا عن حاله، فأنشد:
إن كنت من أرض الشام مناظري
نحو الحجاز مخيم لا يطرف
ليلي بليلى طال حتى إنه
في كل جارحة فؤادي يزحف
وأغدق عليه الخليفة الهدايا والعطاء، وعقد عزمه على جنده، ورافقه في رحلات صيده وقنصه، وهو يعده عاقدا العزم على أن هذا الفارس الفتي «الصحصاح» هو المنوط به منازلة تحالف الأروام المتربصين، وملكهم المتآمر «برجيس».
حصار العرب لعاصمة الروم
وأعدت الجيوش والرجال ... وانطلق الصحصاح والأمير مسلمة ابن الخليفة عبد الملك بن مروان على رأس جيش جرار لمقاتلة الروم والبيزنطيين، وكان زاده شجاعة لا حد لها، وخبرة في الخرائط التي ترسم الجزر والثغور والمسالك البحرية الصعبة ... ولكن كان بانتظاره فخ نصبه الأعداء له.
لكن لم تفلح الحيلة المكيدة التي دبرها الأعداء للإيقاع بالأمير الصحصاح وهو الخبير العالم بخداع وتآمر أعدائه المنهزمين ... وكيف أن الحرب في عمومها خدعة.
لذا ما إن دوى صوته عاليا مكبرا حتى أحاطت كتيبة مدربة من جند المسلمين بالمغارة من كل جانب، مما أوقع الهلع في قلوب العساكر الرومية، فولوا الأدبار طلبا للهرب، بعد أن عملت فيهم سيوف الأميران الصحصاح ومسلمة، فتساقطت الرءوس الواحدة بعد الأخرى، وأولهم الرسول المتآمر، ومن قدر له بلوغ رأس المغارة تلقته سيوف الكتيبة التي سبق للصحصاح إعدادها ومراقبة ما يحدث خفية.
بل إن هذه الواقعة المكيدة ترسبت غائرة في أعماق ذات الصحصاح، مواصلة ترددها بين صفوف بقية كتائب العرب على طول الجزيرة، فدقت طبول الحرب والرحيل، وزحفت صفوف المسلمين إلى سطوح الكتائب والمراكب والعمائر الرابضة على طول السواحل؛ لتسد كل المنافذ على جند الأعداء.
وعلت الأصوات مكبرة ومعلنة: إلى القسطنطينية ... إلى القسطنطينية.
وعبر أمواج البحر الهادر، أعاد الأمير الصحصاح قسمه ووعده لأمير المؤمنين الخليفة الأموي. «والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح القسطنطينية وأبني فيها مسجدا للخلافة.»
ولازم الصحصاح أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان، لا يغيب عن صحبته ليل نهار، وهو يحكي له تفاصيل خططه الحربية التي لم تكن تخلو من الحيل والمكائد والكمائن التي تفرد بمعرفتها الصحصاح، ودون حياء، طالما أن الحرب هي من مجملها خدعة كبرى.
وكان الخليفة عبد الملك بن مروان كلما استعذب حديث الصحصاح، ومدى ما ركبه من صعاب للوصول إلى أهدافه العزيزة المنال، كلما طالبه بتدوين ملاحظاته وتوثيقها بالخرائط؛ لتحفظ في خزائن الدولة، ولتكون معينا لا ينضب عطاؤه لأجيال العرب من قادة وفاتحين، طالما أن الأروام لن يحدث ويستسلموا أبدا لما حل بهم من هزائم.
كانت أمنية الصحصاح عسيرة بعيدة المنال، وهو القائد المتمرس بالموانئ والثغور المحيطة بالقسطنطينية، بل هو على معرفة يقينية بعاصمة التحالف الرومي البيزنطي، ومدى ما تمتاز به أسوارها وحصونها من تعزيزات تكسرت أمامها نصال كل غاز وطامع في النفاذ والعبور إلى ساحاتها.
بل يكفي في هذا الأمر القنوات المحيطة التي كثيرا ما أغرقت أعتى الجيوش المدججة، ومنها أيضا بعض الفيالق العربية التي غرقت بكاملها داخل سراديبها ومسالكها التحتية العميقة الأغوار.
كان الأمير الصحصاح على معرفة بمدى صعوبة ووعورة ما سبق له أن قطعه على نفسه في بلاط أمير المؤمنين، وكبار وزرائه وحاشيته، بألا يعود إلى أرض العرب قبل أن يفتح القسطنطينية.
وعبر تأملات الصحصاح الليلية لأمواج البحر الفسيح الهادر، التي تمخره السفن العربية المحملة بالجنود من كل كيان وقبيلة وقوم، ما بين المقاتلين العرب الحجازيين والنجديين والطائيين، جنبا إلى جنب مع القبائل الفلسطينية والسورية والمصرية واللبنانية، وهم البحارة بناة السفن الذين عرفوا هذه الطرق البحرية وجابوها منذ الأزل، فأنشئوا المدن والثغور البحرية،
والذين وصل ثراؤهم إلى حد أثقال الفضة التي صنعوا منها هلوبا لسفنهم المشادة من أخشاب أرز لبنان، تتوسطها الصواري الشاهقة الارتفاع إلى حد مناطحة السماء.
كان يحلو للأمير الصحصاح مواصلة التأمل لما يجري، حتى القديم السالف الذي عشقه منذ صباه، لتعرفه على مكنونات وأسرار أعماق الكتب القديمة وسير الرواة، عن حياة البحر، وعن مدن الأجداد والأسلاف التي شادوها، كما أشادوا بعلبك وصيدا وصور، تلك المدن التي لا تزال شاهقة تشهد بأمجاد الأجداد القدماء على طول الساحل والثغور.
فقرطاج والبندقية وكريت كانت على الدوام تفيض بالصناعات والمنسوجات والعمائر العربية، وتعج بالتجار، وتزخر بمنتجات الشرق، فتحملها جاهزة مجهزة إلى مدن الغرب وموانئه الغارقة في أعماق التخلف وحياة الكهوف.
كان الصحصاح يبذل خارق الجهد في الاستزادة من المعرفة بسير الجدود القدماء وتطلعاتهم وفتوحاتهم البحرية مشرقا ومغربا.
كان يبعث برسله لنقل كتاب مخطوط قديم من شواهق الهند وفارس والبندقية.
لكن دون أن تغفل عيناه عن جنده وواجبه كقائد يقظ مؤتمن على حياة جند المسلمين، وتلك الثقة المشوبة بالحذر التي أحاطه بها أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان.
إلى أن جاءت لحظة حماسه وانجرافه ذات يوم في حضرة الخليفة، وأمير الحملة ولده المقرب الأمير مسلمة، حين انتصب واقفا على قدميه الاثنتين، رافعا ذراعه عاليا على رءوس الأشهاد، مطلقا قسمه وتعهده، الذي أصبح بسببه لا يذيق عينيه غفوة الراحة والنوم مثل بقية خلق الله: «والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح عاصمة الروم قسطنطينية، وأبني فيها مسجدا لأمير المؤمنين.»
وحين حطت قوافل العرب وبوارجهم وعمائرهم على تخوم عاصمة الروم البيزنطيين، بدت المدينة مظلمة ضئيلة الحركة وكأنها مدينة للموتى، وليست عاصمة للتحالف الأوروبي بأكمله المتربص منذ الأزل بالعرب والمسلمين، انتظارا لتحين فرص الوثوب لفرض الإذلال والهيمنة.
بل إن دوام الحصار دفع بالصحصاح إلى إعلان شارات التحدي لملك الروم وقادته صباح مساء دون مجيب، حتى إذا ما طال أمد ذلك الحصار العربي لعاصمة الروم، وبدا الملل بين صفوف الجند والكتائب، استشار الأمير مسلمة الصحصاح بالشروع فورا في إنشاء الحصون والأبنية المجاورة للعاصمة، التي واصلت مع توالي الأيام والسنين النمو والتكاثر والازدهار، إلى أن شرع الأمير مسلمة في إطار العزم والمثابرة وإطباق الحصار «في بناء مدينة مقابل القسطنطينية أسماها المستجدة، وقسم لكل طائفة طرقا وأحياء فيها ... وعمرت المدينة وصارت متسامقة عالية البنيان والأسوار، مليحة الأركان كأنها مدينة نبي الله سليمان».
وعمرت بالأسواق والمعاهد ومعاقل الجند والحمامات. كل ذلك يحدث تحت أعين جنود الروم ومليكهم لاوون، الذين أرهقهم الحصار، وقطع المؤن، وضرب كل إمداد، وانتشار الخوف والهلع في نفوس السكان.
وحين طال أمد حصار جيوش المسلمين للقسطنطينية الذي فاق أربعة أعوام، لم تغفل فيها عين الأمير الصحصاح عن زوجته وحبيبة قلبه الوفية «ليلى»، التي كان قد علم بوضعها لولديه ظالم ومظلوم، على مدى سنوات الحرب المستعرة التي لم تترك له يوما لرؤيتهما منذ رحيله عن أرض الحجاز إلى دمشق، وزيارته الخاطفة لها عقب فتح مالطة، إلا أن الحصار المديد لعاصمة الروم أعاد إلى مخيلته الحنين الجارف إلى زوجته وولديه، فتمنى مشتهيا رؤيتهم والتعرف على أحوالهم.
فدأب على إرسال الرسل المحملة بالهدايا من ملبس ومأكل وتحف وجوهر إليهم، بل هو كثيرا
وكانت أخبار الانتصارات العربية تتوالى إلى عاصمة الخلافة مدوية شاحذة للهمم، حتى إن الخليفة عبد الملك بن مروان دأب على إذاعتها بين العواصم العربية أولا بأول، ودأب على مراسلة ابنه الأمير مسلمة وقائد حملات جيش المسلمين الأمير الصحصاح يحثهما على التقدم والجهاد والسهر على حراسة ثغور الخلافة دون هوادة.
وحتى عندما اشتد عليه المرض فلزم فراشه، حرص على استقبال الرسل وسماع الرسائل، ورد عليها بنفسه مسديا المشورة، منبها الأذهان إلى أهمية إخفاء مرضه ولزومه فراش الموت؛ حتى لا يتسرب إلى صفوف الأعداء فتقوى عزائمهم، ويطمع طامعهم.
ورغم حنينه وهو يعاني سكرات الموت وأطيافه إلى مجرد رؤية ولده المظفر مسلمة، ظل مفضلا بقاءه لمواصلة حراسة تخوم خلافة المسلمين، إلا أن الخليفة المحتضر عبد الملك بن مروان أوصى
ومن جانبه فضل الوليد إخفاء وصية الأب طمعا في الخلافة التي مارسها بالفعل طيلة فترات مرض الخليفة الوالد.
العودة إلى وادي الحجاز
بل هو - أي الوليد بن عبد الملك - كشف عن نواياه الدفينة لأتباعه ومريديه بالحيلولة دون تسرب خبر الوصية إلى أخيه الأكبر مسلمة، والعمل على إبعاده أكثر بالحرب، دون العودة ولو للمشاركة في شعائر وجنازة دفن الخليفة.
وظل يكاتبه باسم الخليفة الوالد لمدة خمسة أعوام متخوفا من جنده البالغ عددهم خمسون ألفا، ومن انتصاراته والتفاف الأمصار من حوله كبطل فاتح.
وفي العام السادس، عاد الأمير مسلمة بعدما تحقق فتح القسطنطينية واستسلام ملكها لشروط المسلمين، وأقيمت الزينات والأفراح على طول عاصمة الأمويين دمشق، ودخل الأمير مسلمة وقائد الجند المنتصر الأمير الصحصاح قصر الخلافة المزين بأقواس النصر، وحين عانقه الخليفة الجديد الوليد بن عبد الملك بن مروان مقبلا سائلا عن حاله، أنشد الصحصاح:
أقول وقد طال اشتياقي إليكم
وقد غبت عنكم في جهاد العدا دهرا
وضاقت علي الأرض شوقا إليكم
ولم يبق لي من بعدها صبرا
ودامت أفراح الانتصار ومباهجه أياما وبذل الخليفة الأموي الجديد الوليد بن عبد الملك كل جهد في محاولة إخفاء وصية والده أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بن مروان، التي سبق له اقتناصها وإبعادها عن الإشهار، والتي أوصى فيها بالخلافة من بعده لابنه مسلمة، الذي كان بدوره مشغولا بالحرب والجهاد بعيدا عن عاصمة الخلافة وما يعتمل داخلها من صراعات تملك السلطة، وهو الصراع الذي احتدم لهيبه طيلة فترة مرض أمير المؤمنين وانشغال الأذهان والمشاعر بالحرب المستعرة التي يقودها الصحصاح والأمير مسلمة.
فالحرب هنا ليست بالعادية، بل هي حرب قارية تشمل جبهتها الفسيحة كل آسيا الصغرى ومداخل أوروبا الجنوبية، وتمتد أطرافها إلى عاصمة التحالف الأوروبي الرومي؛ القسطنطينية من جهة، ومن جهة أخرى المغرب العربي والأندلس، وهو ما لم يتح للحظة واحدة للأمير مسلمة «الخليفة الشرعي» مجرد التفاتة خاطفة إلى الخلف؛ للتعرف على ما يجري داخل عاصمة الخلافة، وعلى ظروف مرض الخليفة الوالد سليمان بن عبد الملك بن مروان، ووصيته له بالخلافة من بعده، باعتبار أن الحرب الضارية التي يخوض رحاها هو والصحصاح ستهبه كل خبرات ممكنة تعود بالنفع على أمن المسلمين وكياناتهم الوليدة، بدءا من حدود وتخوم الصين، مرورا بالشرق الأدنى القديم وحتى شبه جزيرة أيبريا (الأندلس).
على هذا النحو كان يجيء تفكير الخليفة الراحل سليمان بن عبد الملك بن مروان، باعتبار أن البلدان العربية والإسلامية في أشد احتياج لقائد مجاهد صقلته ظروف الحرب وأدمته المعارك قبل أي شيء.
وهو ما لم يعره التفاتا شقيقه - الخليفة الحالي - الوليد بن عبد الملك، الذي اجتذبته إغراءات السلطة والتسلط في غيبة مسلمة.
ومن هنا تكاثرت الهموم التي لا تخلو من مخاوف على الخليفة الوليد بن عبد الملك، منذ أن تواترت إليه الأخبار بعودة أخيه مسلمة برفقة قائد الجيوش العربية الصحصاح تحيط بهما أقواس النصر المتوهجة، وهما يتصدران مطالع الجيش العربي الزاحف، محملين بالعروش والتيجان وأسلاب الأسرى من قواد وأمراء جيوش الروم، ما بين يونانيين وبلغار ورومان وغاليين - أو فرنسيين - يرفلون في حجلاتهم وأصفادهم وقيود سبيهم.
وهم يتحركون عبر شوارع دمشق وساحاتها محاطين بالعيون التي أبهجها النصر، بينما تكبير الآلاف المؤلفة من المسلمين يصم الآذان على عتبات وبوابات قصر الخلافة، وعلى مسمع من الوليد وحاشيته، الذين لم يجدوا بدا ولا مهربا من مواجهة ذلك النصر العارم والحماس المتدفق سوى المشاركة، والتظاهر بالفرح والتبجيل للجيش المنتصر العائد.
إلا أن الخليفة شحذ كل فكره في الكيفية التي عليه أولا اتخاذها لإخماد ذلك التدفق بالحماس الذي سرى من أطراف عاصمة الخلافة، ومنها تواتر إلى بقية أشلاء وكيانات الأقوام العربية.
ولم يجد الوليد بن عبد الملك منفذا سوى الإسراع بعزل القائدين، وشق وحدتهما: أخيه الأمير مسلمة، والأمير الحجازي القائد الصحصاح.
فما إن انتهت أيام احتفالات النصر، ووزعت الأسلاب وكنوز مغانم الحرب، وأفضى الصحصاح للخليفة الوليد بن عبد الملك برغبته المتأججة بالعودة إلى موطنه الحجاز، الذي فارقه طويلا نظرا لظروف الحرب والجهاد، ولرؤيته زوجته وولديه ظالما ومظلوما، حتى وافق الخليفة من فوره مجزلا له العطاء والتكريم؛ لمواصلة رحلته إلى وادي الحجاز.
مولد فاطمة بنت مظلوم
وبانتهاء دور الأمير العربي الصحصاح بفتح عاصمة الروم البيزنطيين القسطنطينية، وتأمين الثغور ضد الطامعين، وعودته والأمير مسلمة مظفرين إلى عاصمة الخلافة، خبا نجمه تخوفا من سطوته، حتى إنه لم يعمر طويلا، مقضيا بقية حياته في غياهب الظل بوادي الحجاز.
وكبر ولداه ظالم ومظلوم، اللذان لم يشهد لهما طفولة وصبى انشغالا بالحرب والجهاد، وهكذا
مظلوم ابنة جميلة تسمت بفاطمة، إلا أنه على عادة العرب تلقى خبر مولدها كأنثى مكتئبا، حتى إنه لم يطق رؤيتها، بينما واصلت الأم رعايتها، فعهدت بها إلى جارية قابلة تدعى أم مرزوق، فكانت تحملها ليلة بعد ليلة سرا؛ لتدفع بها إلى صدر أمها لرضاعتها، وتعود بها إلى خبائها في الخفاء.
وفي العام السادس من عمر فاطمة، أغارت بعض قبائل اليمن بريادة بني طيء، على مضارب والدها وعمها ظالم ومظلوم، ووقعت فاطمة أسيرة لدى قبائل بني طيء، فتربت هي وجاريتها سعدى في مضاربهم إلى أن كبرت وشبت على رعاية الجمال والخيول عبر عواء المراعي.
وكانت فاطمة منذ صغرها تهيم بما يصلها من أخبار جدها الأمير الصحصاح فاتح القسطنطينية، فأولعت بالفروسية العربية متخلية عن كل ما يربطها بعالم البنات والنساء.
فتعلمت منذ الصغر أساليب الحرب من مدافعة وممانعة، وكشفت شخصيتها عن الكثير من العجب والانبهار لكل من شاهدها أو سمع بها، حتى إنها أصبحت محط أنظار الشباب والفرسان من أقرانها.
فتهافت عليها الخطاب وراغبو الزواج منها متكاثرين على بوابات مولاها الأمير «البجير»، الذي كان كلما عرض عليها الأمر رفضت بإباء، مدعية أنها لم تخلق للزواج وحياة الفراش، بل لها جلد الرجال.
حتى إذا ما واصل مولاها الضغط على فاطمة لقبول أحد راغبي الزواج منها من شباب العرب المرموقين ذوي السطوة بين القبائل، اضطرت إلى الفرار خفية من مرعاها، متخذة لنفسها ومع جاريتها مأوى معززا في الخلاء، واصلت منه السطو وفرض الجزية إلى أن عظم شأنها، وتضاعف نفوذها، فهجمت ذات ليلة مع أتباعها على قبيلة والدها وعمها ظالم، الذي نازلها فأوشكت أن تقضي عليه بسيفها، إلى أن تدخلت أمها مانعة كاشفة عن شخصيتها.
وانتهى الأمر بالتعرف عليها، وعودتها إلى حظيرة ودفء قبيلتها، فعرف الجميع أن فاطمة أو الدلهمة أو الداهية، أو داهية بني طيء، وهو اللقب الذي عرفت به بين القبائل، ما هي إلا فاطمة ابنة مظلوم.
وهكذا أقيمت الأفراح ابتهاجا بعودة «الدلهمة» إلى ربوع قبيلتها بعد طول الأسر والغياب، لكن حظ فاطمة أو الدلهمة لازمها من جديد حين وقع ابن عمها ظالم
حتى إذا ما تفرسها الحارث - ابن عمها ظالم - عن قرب، وبهره جمالها ونبل شمائلها وحديثها، أخذ منه العشق الدامي مداه؛ فطلب من والده الزواج منها وهي ابنة عمه، وواصل الشكوى والإلحاح لأمه «الجمانة» بطلب الزواج من فاطمة، مما اضطر الوالد إلى الانتقال إلى قبيلة أخيه مظلوم ومكاشفته بأمر الزواج.
وحين عرض والدها مظلوم الأمر عليها اشتد جنونها إلى حد التهديد بالعودة والفرار من جديد إلى البراري، بل إن فاطمة تعممت واتشحت بزي الرجال، وخرجت بنفسها إلى عمها ظالم وابنه الحارث، شارحة أمرها، معبرة بوضوح عن معالم شخصيتها، وكيف أنها ليست مجرد أنثى تصلح للبيت وتربية الأطفال والطهو، بقدر ما هي محاربة في عالم قوامه المفترس والفريسة، أو الغالب والمقهور: فاعلم أنني ما خلقت إلا للنزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعدة حربي ... وكحل غبار النجع مرادي.
وأمضت معهم الدلهمة الوقت في محاولة للتعبير عن نفسها، وعن طموحاتها القومية العربية إلى اكفهرار الشمس والإيذان بالرحيل.
فلم يحدث حديثها البسيط الجلي في نفس ابن عمها العاشق سوى تأجيج نيران حنينه الجارف إليها أكثر، وهكذا ما إن عاد عمها وابنه إلى مضاربهما حتى أعادا الكرة والمحاولة، والتقدم بمختلف مباهج وإغراءات الترغيب من هدايا الذهب والفضة والأموال والسلاح والخيول، دون جدوى ترجى من فاطمة، التي لم يزدها الأمر سوى مواصلة الرفض والتعلل، في محاولات من جانبها بالتبصير للأخطار المحدقة ليس فقط بقبيلتهما، بل بالعرب جميعا.
وكان الحارث ابن عمها يكمن إليها مستمعا مع الحاضرين من وجهاء القوم، يحتسون القهوة العربية، ويتجادلون في مختلف الأمور ومناحي الحياة الضاربة من حولهم، ما بين صراعات تولي السلطة عقب موت أمير المؤمنين، وما يصلهم من احتدامها في عاصمة الخلافة، وأخطار الرومان المتربصين التي تتوالى أخبار حشودهم على طول الثغور البحرية، وأخبار ومأثورات الجد الصحصاح
الغريبة وشعورهم المرسلة، ما بين صفراء وحمراء قانية وشقراء، وذلك الذعر الذي يملأ أحداقهم وقد انحنوا مستسلمين في أغلالهم وأصفادهم يملئون الأرض، ويتضرع شيوخهم بالرحمة والعفو، وبعضهم يهيلون تراب الطريق على رءوسهم.
والناس من كل جانب يتطلعون إليهم غير مدركين أو متفهمين لرطاناتهم ولغتهم الغريبة، بينما
الثمينة من أموال ذهبية وجوهر وغالي الديباج، والمصنوعات الغريبة التي لم يسمع بها سلفا؛ ليضع كل هذا تحت قدمي أمير المؤمنين زاهدا حتى في المشاركة في الأسلاب وأخذ نصيبه.
لحين الوصول إلى حدث فاجعة موته الغامض الذي أشيع بين العامة، وكيف أنه عقب تقاعده بنواحي الأراضي الفلسطينية هلك خلال صراعه مع النمور البرية.
وكانت ذات الهمة التي عرفت برجاحة عقلها لا تقبل هذا القول وتستبعده ساخرة، مدعية بأن جدهم الصحصاح لم تهلكه أبدا النمور البرية البريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب: بل هي النمور البشرية.
وكانت كلماتها الأقرب إلى الواقعية تجد صداها في قلب ابن عمها الحارث حول الكيفية التي أفضت بحياة جده الصحصاح.
ومن هذا المنطلق يتزايد حبه لابنة عمه الداهية.
وتزايدت شهرة فاطمة، وتناقلت القبائل العربية في دمشق وحلب وبغداد أخبار فروسيتها، ورغبتها في استعادة أمجاد جدها الصحصاح في الدفاع عن الثغور العربية ضد الطامعين. وهنا أرسل لها من العراق بنو العباس وتابعوهم برسول لمعرفة رأيها في خلافة أعدائهم الأمويين الذين سلبوهم في دمشق أحقيتهم في الخلافة والقيادة.
أما الأمير الحارث فقد واصل حبه لابنة عمه فاطمة أو ذات الهمة، وحاول كثيرا التقرب منها بالزواج، إلا أنها رفضته على مشهد من القبائل؛ مما تسبب في مرضه، وانقطاعه عن الناس، وملازمته الفراش.
انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين
وعاد رسول العباسيين مفكرا مستبشرا، تدور في مخيلته عبر رحلة عبوره للسهول والوهاد كلمات الأميرة ذات الهمة الملتهبة حماسا، إلى حيث مضارب ومخابئ بني العباس.
وعاد الأمير ظالم إلى ابنه العليل الحارث ومضاربه، لا يعرف كيف يتخير كلماته لزوجته وابنه مبررا رفض فاطمة ابنة أخيه مظلوم من جديد للزواج، إلا أنه لم يتمالك نفسه إعجابا برجاحة عقل ذات الهمة، واتساع بصيرتها، واستشفافها للأخطار الوليدة - التي سرعان ما سيتسع مداها - المحدقة بأمة العرب.
كانت قد ظهرت الفتنة في أعقاب الموت المفاجئ لسليمان بن عبد الملك بن مروان، فتولى بعده أمر الخلافة ابنه الوليد، وكان ضعيف الشخصية برغم دمويته وتنكيله ببني العباس، فلم يتمالك عن
بنواحي دمشق؛ لذا نفرت منه الأمم، واستبشعت فعلته إلى حد رفض ومقاطعة بعض البلدان والأقوام الإسلامية.
وحتى عندما تجمعت النساء العباسيات ورحلن إلى دمشق طلبا للشفاعة، حين اعترضن موكب الخليفة المهيب وقبلن الأرض بين يديه ليطلق لهم سراح الإمام الشيخ المريض، رفض مروان بن محمد، وعبر وفودهن بخيوله وجبروته على مشهد من الجميع.
وهكذا تجمعت الأحقاد واستشرت المؤامرات، فخرج أحد أتباع الإمام الأكبر إبراهيم: أحمد بن صالح، وأخذ العهود من أنصاره، وبايعهم على الخلافة، وتذمر أهل خراسان، وبخاصة تلميذه الوفي القائد الفاتح أبو مسلم الخراساني، فواصل جمع الأنصار في البصرة والكوفة، واتخذوا لهم علامة، وهي الاتشاح بالسواد، تعبيرا عن الاستشهاد والأحزان الدفينة.
وخرج 120 من أخلص أتباع الإمام إبراهيم السجين وتفرقوا في البلدان الإسلامية بحثا عن ولدي الإمام الفارين ومعهم 90 من الأنصار، إلى أن توصل أحد رسلهم - ويدعى قحطبة،
وحين تقدم الرسول إليهما مسلما متعرفا على ابني الإمام المظلوم، هذا أبو العباس السفاح، وهذا جعفر المنصور، سلم عليه الاثنان بالمبايعة في ذات الآن.
فرحل الرسول من فوره إلى دمشق، إلى أن وصلها بعد 30 يوما مع موعد خروج موكب الخليفة الأموي مروان، معترضا الموكب باكيا ساجدا: أغثني يا مولاي ... أغثني.
إلى أن ترجل موكب الخليفة سائلا عن حاله، فأخبره بأنه قبل رحيله إلى الأراضي الحجازية جمع ماله وما يملك وأودعه أمانة عند رجل مسن، وحين أودعه ماله وما يملك يقبع الآن بسجن أمير المؤمنين، وواصل بكاءه ونحيبه مقعيا تحت سنابك خيل الخليفة، إلى أن أمر الخليفة بزيارة السجين في حضرة الحراس.
وكتم قحطبة فرحه في قلبه مواصلا نحيبه وسوء حاله، إلى أن قاده الحراس إلى سجن الإمام في أغوار سرداب ينتهي بمطمور، إلى أن وصل إليه فوجده لاهثا مريضا خفيض الصوت، فبادره: السلام عليك يا إبراهيم.
وحين عاجله الإمام: من أنت؟
أردف: أنا من أنت أعرف الناس به، جئت من أجل الوديعة التي آن أوان استردادها.
فأغمض الإمام الشيخ متنهدا ... مدركا.
بينما عاجله قحطبة متصنعا الحزم: أخبرني هي عند من حتى أطلبها؟
فقال الإمام: يا هذا ... وديعتك عند ابن الحارثة؛ فامض إليه.
فتصنع قحطبة بمكره ودهائه أنه لم يسمع جيدا ما قاله الإمام المريض بادي الضعف والوهن والإعياء، وهو يزفر معانيا في قيوده وأصفاده الثقيلة التي كانت تحدث أصواتا وأزيزا يضاعف من وحشة المكان نصف المظلم، الذي حبس داخله الإمام الشهيد إبراهيم بن العباس.
تصنع قحطبة أنه لم يسمع جيدا ما ذكره الإمام، محاولا في غيبة من الحراس المتصنتين لكل ما يجري بينهما داخل المطمورة الموحشة، التي زج فيها بالإمام الأكبر، معاودا الصياح والولولة دفاعا عن حقوقه، وتلك «الأمانة» التي هي محصلة شقاء العمر من كد وكدح، والتي سبق لقحطبة أن أسلمها له كاملة لحين عودته من زيارة قبر رسول الله، ليجد أنه لم يحفظها له، بل هو أسلمها لآخر ربما رفض تسليمها وردها إليه، وهو صاحبها الفقير لله، والتي حفظها لأولاده، معاودا الصياح وتصنع البكاء سائلا: وديعتي عند ابن الحارثة، وأين لي بابن الحارثة؟ هل هذا يصح يا سيدنا؟ إن وديعتي أمانة في عنقك قبل أي شيء.
فأعاد الإمام الأكبر تأكيد مقولته ... وقد تفهم ألاعيب الرسول قحطبة، ذاكرا في تأكيد هذه المرة: هي عند ابن الحارثة ... فامض إليه.
وحين حاول قحطبة معاودة الصراخ وتصنع النحيب وهو يدق جدران سجن الإمام الأصم: أهكذا تهدر الأمانة؟ يا عالم ... يا هوه، تدخل الحراس من فورهم ، فجروا قحطبة في عنف ليصعدوا به سلالم الدرج الحجرية، وليعودوا من فورهم لإخبار الخليفة بما سمعوه ورصدته عيونهم.
أما قحطبة - وكان ماهرا في التنكر واختلاق الألاعيب - فعاد من فوره يتوسل إلى الحراس لتذليل مقابلته للخليفة وشكره، وتقديم شكواه ضد ذلك الشيخ المسن المعتوه الذي أفقده حقه ووديعته، بإيداعها عند آخر بدلا من ردها لأولاده وقبيلته.
فنهره الحراس من فورهم طالبين إبعاده، ذاكرين أن لا حاجة لهم في ذلك ... وإذا استعصى الأمر فليتوجه بشكواه للقضاء بدلا من إشغال وقت أمير المؤمنين.
وما إن تنفس قحطبة الهواء النقي في شوارع دمشق وباحاتها حتى اندفع من فوره ممتطيا صهوة جواده، مطلقا العنان لأفكاره، بعد أن وفق في تحقيق مأربه، متخذا طريقه قفزا إلى سمراء - أو سر من رأى - مفضيا إلى بائع حلوى البقلاوة، الذي بداره الإمامان: السفاح والمنصور، فأغلق حانوته واقتاده في حذر إلى سردابهما، حتى إذا ما وصل إليهما واجههما سائلا: من منكما صاحب العلامة؟
فوثب السفاح كاشفا من فوره عن خاصرته اليمنى، وإذا عليها شامة سوداء.
هنا بايعه الجميع.
وهكذا رجع الرسول من فوره إلى حيث مضارب أبي مسلم الخراساني، فأخبره بما حدث،
واحتاروا في اتخاذ قرار الخروج سرا أم على رءوس الأشهاد.
وهكذا رجع قحطبة من جديد فسأل أبا العباس السفاح، الذي أمر بالخروج علنا على رءوس الأشهاد، فأقيمت السرادقات، وامتدت الزينات، وخرج السفاح ممتطيا فرسته «النوبة» ومن خلفه المنصور.
واجتمعت الأمم والملوك لاستقباله، وأعلنت الحرب التي امتدت طويلا إلى أن دخل أبو مسلم الخراساني دمشق، فهرب مروان بن محمد إلى ديار مصر، وتبعه أحد أنصار بني العباس المقربين، وهو عبد الله بن علي، الذي قاتل قتالا ضاريا، وكان يصرخ عبر معاركه في مصر العليا: يا لثارات بني هاشم، إلى أن تمكن من إلحاق الهزيمة به، بعد أن عبر النيل في إثره وقتله في أبو صير بمصر الوسطى، وقطع رأسه وعاد بها إلى دمشق ثم البصرة إلى السفاح، الذي توفي بعدها في 132 هجرية، وتولى بعده أخوه المنصور. •••
وكانت الأميرة ذات الهمة تشارك برأيها الصائب فيما يعتمل ويجري من أحداث داخل الخلافة، بينما عينها لا تغفل عن تحركات الأعداء المتربصين عبر الثغور بانتظار لحظة الانقضاض على العرب والمسلمين.
كانت تجوب الأسواق وتجمعات الرجال متزيية كمثل فارس شاب، تشارك عيون قومها وعشيرتها ما يحدث ويستجد من أحداث انتقال الخلافة الإسلامية من دمشق الأموية إلى بغداد العباسيين.
وكانت ترى منذ البداية الوقوف إلى جانب العباسيين، وتحث على الدوام عمها ظالما وأباها على الرحيل إلى العراق وتأييد الخليفة الجديد، الذي وعد منذ توليه شئون المسلمين إعطاء الأولوية لحماية ثغور المسلمين ضد الأعداء الطامعين.
أما ابن عمها الحارث، فكلما التقى بها وتسمع حميتها وحماسها للجهاد تضاعفت نيران عشقه الدفين لها.
بل إن ذات الهمة من جانبها حاولت التقرب منه ومصادقته، والكشف له عن أبعاد شخصيتها، فهي لا تزهد أبدا في ابن عمها الحارث، بقدر أن ما يشغلها هو عدم الاستسلام للصراعات العربية، مما يتيح لأعداء العرب شحذ قواطعهم التي لا بد يوما وأن تلحق الرقاب. ومن هنا فلا مكان في فكرها للحب والعواطف بينما ملك الروم يدق الأبواب، كل الأبواب العربية، معلنا تحديه المشهر على رءوس الجميع.
وكانت ذات الهمة تدعم أقوالها وآراءها بتقديم الأخبار الموثقة التي بدأت تتواتر وتصل تباعا إلى كل الأسماع، بل هي كانت تتعمد حمل وثائقها المدونة المدعمة بالرسوم التخطيطية للثغور المتاخمة للأقوام الإسلامية، التي بدأت تتهافت وتتقوض تحت ثقل جيوش التحالف الرومية من كل الأقوام، والتي لا تجمعها لغة واحدة، كما هو حال العرب المسلمين، فلا علاقة تذكر بين الأروام وبين الغاليين، ولا بين الساكسون والكلت واليونانيين.
كل ما يجمعهم ويقرب بينهم هو الرغبة في العدوان، وفرض الهيمنة والتسلط على العرب والمسلمين.
كانت تصل بها الحدة ويغلبها الحماس إلى حد تذكير الجميع بالمذلة التي كان يرزح تحتها العرب فيما قبل الإسلام.
واليوم ها هم نفس المعتدين يواصلون تجميع فيالقهم للزحف والنفاذ من كل شبر وثغر لتقويض الرايات العربية، وإجبارها على الانتكاس.
ورغم أن الدلهمة كانت كثيرا ما تتبدى وكأنها تنفخ في جراب مقطوع، أو كما لو أنها تؤذن في مالطة؛ حيث لا يسمعها أو يستجيب لها أحد من جماهير الغافلين اللاهين بتأمين حياتهم اليومية مأكلا وملبسا، دون تفهم لما يجري من حولهم، خاصة عبر البحار والمحيطات الغامضة، برغم أن الخطر لا يقدم إليهم ليطولهم في مضاربهم ودورهم إلا عبر تلك البحار والمحيطات المحيطة.
لذا بدأت من فورها في تملك نفاد أعصابها في تفهيم الجميع، وإيصال دعواها إلى عقولهم نصف المغلقة، الغائبة عما يحدث، ويوما إثر يوم أشار عليها حكماء العرب بأهمية تدريس وجهات نظرها
وهكذا أصبح لذات الهمة طاقم من المعلمين والمربين الذين حملوا لواء دعوتها إلى أهمية المبادرة بإعداد كتائب وفيالق الجهاد المرتقب، ودون تجاهل أو عزلة لأهمية ما يسود من معارف حول العلوم البحرية، من سفن وموانئ ومراكب وطبيعة بحرية.
ومع إعطاء كافة الاهتمامات لطبيعة البلدان التي يتجمع وينطلق منها أعداء العرب المتجمعون من كل ملة وصوب، عاداتهم ومعتقداتهم وملابسهم وأساليب حربهم، وطبيعة ما دأبوا على اتخاذه واستخدامه من أسلحة، لا تقف بحال عند المتعارف عليه لدى العرب من سيف وجواد ومقلاع.
وكانت ذات الهمة تجد في كتابات ومدونات وخرائط جدها الصحصاح، فاتح القسطنطينية، مادة قيمة شديدة الندرة والغزارة في تدريسها لنواة جيشها العربي من شباب المحاربين، ما بين عرب حجازيين ونجديين وسودانيين وسوريين وفلسطينيين، قدموا إليها من مختلف البلدان تحدوهم الآمال في المثابرة والجهاد والدفاع عن حصون وحرمات المسلمين ضد كل طامع.
بذلت ذات الهمة من جانبها كل جهد في الاختلاء بابن عمها بعيدا عن العيون وهي تلاطفه مشفقة حقا على ما به.
وكان الحارث مفتونا بابنة عمه إلى حد السفر والترحال باحثا متخيرا لها عما يمكن أن يدخل السرور والقبول إلى قلبها من هدايا نفيسة، ما بين سوارات عربية يطوق بها معصميها، وملابس وأردية من غالي حرير الهند، وأرجوان وعسجد من دمشق.
فكانت بدورها تتقبل هداياه ممتنة ولا ترفضها، إلا أنها كانت تتصدق بها على بنات أعمامها وجواريها زاهدة، وهي التي ترفض حتى مجرد التمثل بلبس النساء وزيناتهن.
وذات مرة، اقتنى لها الحارث سوارا هنديا مصاغا من الذهب الأحمر، وحمله فرحا إلى خبائها، وأصر كعادته على إدخاله في ساعدها كمثل حية رقطاء طيعة، فضاحكته ذات الهمة بأنه سبق له إحضار عشرات السوارات القيمة التي ما زالت تحتفظ بها داخل صندوق ملابسها.
هنا استدار الحارث إلى صندوقها الصدفي الشاهق الجميل، واندفع إليه فاتحا منحنيا مدخلا رأسه بكامله باحثا عن هداياه وسواراته، لكنه لم يجد شيئا منها سوى ركام من الأسلحة، ما بين السيوف العربية والخناجر.
وحين استدار إليها سائلا: أين؟
قالت عاتبة: هنا.
وحين أعاد المحاولة أعادت بدورها محادثته ومناقشته بأنها لا ترغب في أدوات زينة النساء، بقدر ما هي ترغب في مصادر الحماية والقوة لقبائلهم ومواطنيهم؛ للآلاف المؤلفة من أطفال ونساء وشيوخ القبائل العربية، التي أصبحت مطمعا لكل طامع.
ومنذ تلك الواقعة تحولت هدايا الحارث لابنة عمه من الذهب والجوهر وغالي الثياب إلى السيوف والحراب والنصال، لكن دون جدوى.
مولد بغداد
لم ينقذ ذات الهمة من براثن ذلك الزواج المفروض عليها فرضا من جانب ابن عمها الحارث سوى ما جد من أخبار، وهو الزوج الذي أصبحت بالفعل تكرهه وتمقت ذكره، ولا تطيق تواجده في مكان واحد يجمعهما معا، بعدما حدث في حضرة الخليفة؛ حيث تم تحويل جلسة اللقاء الأولى معه للتبصير بالخطر الداهم، ومحاولة جمع الشمل العربي، وطرح قضية الاستعداد للجهاد، إلى قضية ذاتية شخصية، وهي الضغط عليها من كل المنافذ والجهات، حتى من جانب والدها نفسه مظلوم؛ لحملها على الاستسلام للزواج، الذي لم يتطرق إلى فكرها لحظة واحدة.
لم ينقذ ذات الهمة سوى الأخبار التي داهمت الجميع مرة واحدة كمثل كابوس قوي جاثم في عاصمة الخلافة، وهي خروج الروم البيزنطيين، بعد توحيد صفوفهم وجحافلهم الجرارة في تسعين ألف محارب، تتقدمهم سفنهم ومراكبهم، بعدما تساقطت ثغور المسلمين، الذين أبلى جدودهم في فتحها وتأمينها بتشييد الحصون والمتاريس وكافة الإنشاءات الدفاعية الحربية.
بل زاد من فداحة الأمر سقوط حملات جيوش المسلمين أسرى في قبضة الروم يسومونهم صنوف العذاب ألوانا، بمختلف وسائل الانتقام، عن طريق قتل شيوخهم وأطفالهم وشبابهم المحاربين دون أدنى رحمة أو شفقة.
وقدمت وفود الرسل التي تمكنت من الفرار في جحيم الاجتياح الرومي للثغور إلى عاصمة الخلافة، محملة بالأخبار والمعلومات الحربية، خاصة ما يتصل بالأسلحة الجديدة التي أدخلها الأعداء في الحرب، وحققوا بها انتصاراتهم في غفلة من العرب المتناحرين، منها: القنابل النفطية،
بل إن ما ضاعف من آلام ذات الهمة وكمدها هو مدى المشقة التي بذلتها أياما في حضرة أمير المؤمنين الخليفة المنصور وجمع وزرائه وقواده ومقربيه ومجلس حربه، تشرح لهم مدعمة كلامها ووجهة نظرها بمختلف الوثائق والخرائط والأسانيد التي جلبتها معها، ومنها مخطوطات وكتابات جدها الصحصاح حول أساليب تجهيز جيوش الأعداء لاجتياح ثغور المسلمين، وتهديم حصونهم،
منهم.
صحيح أن الخليفة تبدى لها على معرفة عميقة بما ساقته له من خطط الأعداء، وما يمكن تلافيه وكسر أمده في المهد باليقظة في وضع خطط عربية مواجهة، إلا أن الأمر لم يحتمل بعد التروي ولا التسويف.
وها هو ما ارتأته الدلهمة، ونفذت إليه بصيرتها الثاقبة، وحذرت مرارا وتكرارا من وقعه يوما ... يجيء فاجعا داميا إلى حد تعريض أمن العرب والمسلمين لكل الأخطار المحتملة.
وحين عادت بها مخيلتها إلى ذلك الاجتماع المطول مع خليفة المسلمين، وما انتهى إليه من ذلك التنكر المخادع الذي اتخذه الحارث ووالده - عمها - ظالم، ومن انحراف بالقضية الكبرى، وإلى كيفية اقتناصها هي تحت تأثير سخافات الحب واللوعة، التي انتهت كلها إلى زواج تمقته من أعماقها؛ استبد بها الغيظ إلى أقصى مداه.
فعلى هذا النحو غير المتوقع بدأت ذات الهمة تساق إلى مصيرها المحتوم بالزواج من ابن عمها رغما عنها، عن طريق الإحراج الشديد الذي أوقعها فيه الخليفة الطيب القلب والنوايا المنصور.
فما إن تولتها نوبة الغضب المفاجئة من مراسم الاستعدادات لإقامة فرحها أو عرسها، بالغناء والرقص والموسيقى، ونحر الذبائح، وإقامة الزينات، وذكر اسمها ذاته فاطمة العروس، حتى امتشقت سيفها، واعتلت صهوة جوادها، وأحس الجميع ما بها فولوا الأدبار في كل صوب واتجاه.
حينئذ لم تجد ذات الهمة لها مهربا سوى الفرار في شعاب عاصمة الخلافة ووديانها، طلبا للنجاة بجلدها من جحيم - وليس عرس - ما يحدث.
وهكذا حققت الداهية انتصارها، وفرضت سيادة أفكارها حول أهمية وحتمية التبصر بالخطر الذي تلوح معالمه في الأفق.
فما إن بزغت شمس اليوم التالي حتى تواترت الأخبار لتصبح على كل فم ولسان: الجند الرومية أعلنت الحرب الغادرة. - وفود الروم أسقطت واجتاحت آمد وقبرص ومالطة وقرطاج. - الأسرى المسلمون بالآلاف في أيديهم. - يقتلون الأطفال ويبقرون بطون الحوامل والأمهات، ويصلبون المحاربين العرب. - الأعداء في الطريق إلى البصرة ذاتها.
ولم يجد أمير المؤمنين منفذا سوى جمع وزرائه وقواده وطرح الأمر الغادر المستعجل، واتخاذ إجراءات وقرارات إعلان الجهاد والحرب.
بل إن الخليفة تذكر من فوره كلمات وتحذيرات الأميرة ذات الهمة، فأرسل من فوره في طلبها هي وعمها ظالم، وقادة بقية الأقوام من بني عامر وسليم وبني الوحيد؛ لمشاورتهم في الأمر وإعلان الجهاد.
وعقد الاجتماع المفاجئ الطارئ في مقر الخلافة دون أن تحضره ذات الهمة في البداية، لحين دخول كبير وزراء الخليفة «أبو أيوب» معلنا وصول الداهية.
وهنا تعلقت أنظار الجميع على مدخل القاعة الكبرى؛ حيث اندفعت ذات الهمة داخلة متعممة متشحة بزيها العسكري، متقدمة محيية أمير المؤمنين، الذي رحب بها مفسحا لها؛ كي تجلس إلى جانبه على مرأى من الجميع، حتى من ابن عمها الحارث الذي غرق من فوره في هواجسه، معانيا مما يعتمل في أعماقه من تلك العروس الهاربة.
وانتهى الاجتماع بإعلان الجهاد العاجل، فدقت طبول الحرب، وتحولت عاصمة الخلافة إلى خلية نحل لا تهدأ ليل نهار لإعداد الفيالق والكتائب، وصفوف الجند والسلاح، وشحن السفن الراسية، استعدادا للإقلاع والرحيل.
وتبدت على الفور شجاعة وحماس ذات الهمة في تلك الحملات التي بدأت بفك حصار «آمد» واجتياحها، وفك وثاق الأسرى، ثم التقدم إلى جزيرة مالطة، التي فيها امتد الحصار لشهور طويلة، نتيجة للتحصينات الهائلة التي بناها وشادها الأعداء، إلى أن اضطر الخليفة إلى إرسال حملات التعزيز والرسائل الشخصية لذات الهمة، التي بذلت شهورا متوالية كل جهد يعجز عنه أعلى الرجال شأنا.
وظل الحال على هذا المنوال إلى أن اندكت أسوار المدينة وحصونها وتم فتحها، وسمعت على الفور هتافات التهليل والتكبير بالجيش العربي القادم، من حناجر أفواه أسرى المسلمين المغلغلين في الأصفاد.
وهكذا تساقطت بقية الثغور الواحدة تلو الأخرى، وكانت كلما فتحت جزيرة أو ثغر - ميناء -
ورفضت ذات الهمة العروض التي تقدم بها الأمراء والقادة لإطلاق اسمها على ما يتم تحريره من مدن وجزر وقلاع.
بل هي آثرت إطلاق الأسماء العربية عليها، مثل: قلعة المنشار، وقلعة المنجية، وقلعة المشرفة وهكذا.
وكانت أخبار انتصارات ذات الهمة وفتوحاتها تصل عاصمة الخلافة متواترة من عاصمة عربية وإسلامية لأخرى؛ لينشدها الرواة والمداحون أولا بأول في الأسواق والساحات والتجمعات الشعبية المتعطشة لكل انتصار يحقق أمن العرب والمسلمين.
بل إن ذات الهمة كشفت خلال تلك الحملات عن مهاراتها المتوارثة عن آبائها وجدودها حراس الثغور، على صعيد الخدع وإحداث فرقعات «النار الإغريقية» والبخور المركب، وطرق ومؤامرات قطع الماء التي كان يلجأ إليها الأعداء للإيقاع بجند المسلمين.
وهو ما لم يفت على بصيرة وذكاء ذات الهمة أو الداهية، وهكذا تمكنت الأميرة ذات الهمة من
إلا أن اتساع بصيرة الخليفة المنصور جعلته يفكر يوما في نقل عاصمة الخلافة، وإعادة تحصين موقعها.
وذات يوم، خرج أمير المؤمنين لرحلات قنصه وصيده وتريضه، واستكشاف أحوال رعيته على عادة الراشدين، إلى أن قادته قدماه إلى موقع حصين على نهر دجلة خال من الناس، سوى من شيخ سرياني وقور مسن. استدعاه الخليفة سائلا عن اسمه فقال: اسمي «باغ» يا أمير المؤمنين، وأشار الخليفة متطلعا إلى اتساع رحابة ذلك السهل الشاهق الممتد على نهر دجلة، سائلا الشيخ: وما اسم هذه الأرض يا باغ؟ ثم استدرك أمير المؤمنين قائلا: لولا مشاكل كيفية التحكم في الماء هنا ... لبنيت مدينة وأسميتها باسمك، فأدعوها: بغداد.
حينئذ أخبره الشيخ السرياني الذي كان على معرفة واسعة بطبيعة الأرض هنا، وكيفية التحكم في منسوب مائها: أنا أخبرك يا مولاي.
وعندما اقتنع الخليفة بوجهة نظر الرجل السرياني الطاعن في السن، الواسع المعرفة، أقدم من فوره على إشادة مدينة بغداد على نهر دجلة، فأحضر إليها المهندسين والبنائين والفنانين، وبنيت المدينة واتسعت أسواقها وأنشطتها تحت اسم ذلك الشيخ السرياني: «باغ-داد».
الحجاز وبغداد
وغنمت ذات الهمة وجندها الكثير من الأموال والغنائم والسلاح والخيول والأشياء النفيسة، التي كانت مكدسة في قلعة الأميرة الرومانية باغة، وبسقوط آخر القلاع سقطت تلك الكنوز والذخائر في أيدي ذات الهمة وكتيبتها.
وعلى الفور قرر عمها ظالم حمل غنائم الحرب والعودة بها إلى مقر الخلافة في بغداد، ورافقه أخوه مظلوم وأمير الحملة المعين من قبل الخليفة، الأمير عبد الله، الذي فوض ذات الهمة في أخذ مكانه، خالعا عليها سلطانه كحاكم للجزيرة المفتوحة وما يتبعها من أقوام وجزر.
واتخذ الركب طريقه ذات يوم مقلعين إلى بغداد بالأسرى والغنائم والأموال والسفن الرومانية المكدسة، لكن ما إن وصلوها وحطوا رحالهم حتى أدهشهم ما آلت إليه عاصمة الخلافة نتيجة للموت المفاجئ الذي أنهى حياة أمير المؤمنين الخليفة المنصور، وتولى أمر الخلافة من بعده الخليفة الهادي، الذي استقبلهم بالترحاب رغم تراكم مهامه الجديدة، وسألهم عن أحوالهم في الجبهة، وكيفية سير المعارك والخطط الحربية، وما يعانونه من نقص، سواء في العتاد أو الرجال.
وأطلعهم الخليفة الجديد على ظروف مرض المنصور، وكيف أن أركان الدولة، وعلى رأسهم الخليفة ذاته، وجدوا أن من دواعي الحرص والأمن التستر على مرض الخليفة واعتزاله في الأشهر الأخيرة، حتى لا يتسرب الأمر إلى أسماع الأعداء وعيونهم، فتزداد مؤامراتهم وشكيمتهم وعدوانهم.
ووافقه الجميع، ومنهم: الأمير عبد الله، ووالد ذات الهمة، وأقاموا شهورا بعاصمة الخلافة
وهكذا تحدد موعد عقد اللقاءات بين الخليفة الهادي وبين قادة المعارك العرب، تمهيدا لتدارس الوضع الجديد على جبهة القتال، مع مراعاة الاستفادة من الأخطاء السابقة التي باعثها الخلافات والانقسامات العصبية والقبائلية التي تفت من عضد ووحدة الجيش الواحد، في مواجهة عدو لا يرحم في تصيده لأي ثغرة يواصل منها النفاذ، أملا في تعميق الجروح المفضية إلى إضعاف صفوف جيش المسلمين.
وكانت ذات الهمة قد زودت أمير الحملة المعين من قبل الخليفة العباسي، ووالدها مظلوما بالكثير من المعلومات الموثقة بالخرائط والخطط التي تمهد الطريق لفتح عاصمة الروم القسطنطينية، مع دراسات وافية لاحتياجات الجيش وإمداداته وأسلحته، وما يكفيه خلال أشهر الحصار الطويلة، وأنسب فصول السنة الملائمة للعبور.
بل إن ذات الهمة لم تنس حتى عادات وتقاليد الروم، سواء في الحرب والقتال، أو ما يتصل بأعيادهم الموسمية وكرنفالاتهم الشهيرة، وما يسيل فيها من أنهار الخمور التي يواكبها فقدان الوعي، والرقص الخليع أو التهتك عبر مدنهم ومضاربهم ومعسكراتهم.
وهكذا لم يفت ذات الهمة الكثير مما يستلزم المعرفة الوافية به لتحقيق النصر، والتي كانت تشمل عاداتهم المتوارثة في الحرب والسلم، وخاصة طبيعة الأسلحة التي يشهرونها في وجه العرب، والتي يبدع علماؤهم ومهندسوهم في تطوير أساليب فتكها بالأجساد العربية.
ومن كثرة المعلومات والوثائق التي زودت ذات الهمة القادة العرب لعرضها على أمير المؤمنين لتدارس الوضع، أمر الخليفة من فوره بتشكيل أكثر من لجنة، واستقدام وفود خبراء الحرب والأسلحة من مختلف الأقطار، من دمشق والقاهرة والأندلس وبيروت وإيران والصين؛ لتدارس الأمر والاستفادة من فترة الهدنة الملفقة التي ألح ملك الروم في عقدها؛ لشحذ المزيد من العتاد والسلاح.
وكالعادة ... فما إن هدأت الحرب لبرهة تمهيدا لإعادة تجددها واشتعالها، حتى بدأت واندلعت على الفور حرب أخرى من المؤامرات والدسائس واستنفاذ الأحقاد الدفينة، كان أكثرها وأخبثها التهابا تلك الحرب المندلعة داخل أغوار نفس الحارث، وما اعترى حبه السابق لابنة عمه ذات الهمة من كره يصل إلى حد المقت، والرغبة في تدميرها وتقويض هيبتها.
وسنحت بالفعل فرصته حين تقاعس عن مهامه في حراسة سفن ومراكب المؤن والذخيرة، فاتخذ له قصرا مسورا واتسعت سلطاته ونما أتباعه، وأصبح يجد أن مناسبات رحلات واحتفالات الصيد والقنص والتريض واللهو ميسرة له دون حسيب أو رقيب.
فمن جانب ذات الهمة ... لا بأس، طالما أنه بعيد عنها لا يقلقها تواجده، وترصده لها باعتبارها زوجته كما هو المتبع.
إلا أن الحارث لم يكن لينشغل عنها، وعن تسمع أفعالها وسكناتها، بل وزفراتها اليومية التي يحملها إليه بصاصوه وعياروه وعيونه المنبثة داخل مضاربها دون هوادة، طالما أن الحارث يخلع عليهم فاخر الثياب والأموال والجواري الرومية والرتب.
وهكذا تسابق الجميع إلى خدمته، وهو المنوط به حراسة عتاد الحرب وخطوط تموين الحملات، وما يقع في أيدي المسلمين من سبي وغنائم وثروات.
ومن هنا اتسعت سلطات الحارث، وعم ثراؤه إلى الحد الذي أصبح به مضرب الأمثال، فأصبح يقتني الخيول العربية الأصيلة، ويرتدي أفخر الثياب، ولا ينثني ليلة عن إقامة الموائد والاحتفالات، ورحلات التريض الخلوية من بحرية وبرية.
وضرب عرض الحائط بكل أقوال وتوجيهات ذات الهمة في التيقظ للأعداء، وعدم الاستسلام لحياة التهادن والمهادنة الرخوة، فما حدث من انتصار على الثغور ليس إلا حلقة بسيطة من سلسلة متصلة، مداها الوصول إلى أصل الداء ومنبعه؛ وهو العاصمة «القسطنطينية».
لم يلق الحارث بالا ولا التفاتا لكل هذا، مدعيا أن من حق المحاربين الخلود للراحة والترفيه المؤقت إلى أن يحين داعي الجهاد.
كل هذا وعينه لا تغفل عن ذات الهمة، وكيفية الوصول إلى منالها ... حلمه الدفين، الذي ينام ويصحو على تحقيقه يوما، ولو لمجرد استعادة ثقته في نفسه كرجل وابن عم وزوج، وهو ما أصبح يتوق إلى بلوغه وتحقيقه بسبب النظرات الساخرة الصادرة من عيون أقرب مقربيه، مما تقوض ضلوعه وجوانحه انكسارا وتهافتا.
لقد كان الحارث يحس في أعماق نفسه بمدى الهوة العميقة الفاصلة بينه وبين ابنة عمه، فهو أبدا ليس ندا لها، لا من حيث السمعة وعلو المنزلة التي أحرزتها منذ أن كانا في موطن الأهل والصبا ... وادي الحجاز، ولا من حيث القدرة على اتساع البصيرة وتوقع الأخطار المحيطة بالعرب، والعمل على مواجهتها قبل تضخمها واستفحالها، ولا من حيث القدرة على النزال والفروسية التي تفوقت فيها الدلهمة، حين نازلته مرارا وتكرارا، وفي كل مرة كانت تصرعه صرعا تحت سنابك جوادها على مشهد من جميع الأهل والقبائل.
فكيف للحارث أن ينسى كل هذا لذات الهمة؟ كيف؟! •••
وهكذا واصل إحكامه في السيطرة على دخائل قصر الأميرة ذات الهمة، إلى حد استقدام حارسها وخادمها الخاص الملاصق لها، الذي لا يبتعد عنها لحظة منذ أن تربت في براري الحجاز وفلسطين، وهو مرزوق، ابن مربيتها ومرضعتها أم مرزوق، التي لازمتها حتى في غياهب الأسر منذ الطفولة.
لذا فالوصيف مرزوق هو في موقع الأخ لذات الهمة، الذي شرب ونهل من ذات الصدر الذي أرضعها.
تمكن الحارث من الوصول إلى خادمها مرزوق ومصادقته والركون إليه، وكأنه يشتكي له ما به من حب جارف لابنة عمه وزوجته شرعا بشهادة وتشريف أمير المؤمنين.
حتى إذا ما آنس إليه الحارس طيب القلب مرزوق، مشفقا على ما به كزوج وحبيب مجروح لا ينام الليل مما يعانيه ويعتصره، بادره بمشروع غريب، بعدما أطلعه على سره ومكنونات نفسه، عاجله الحارث
حولا.
وأتبع الحارث هذه القارورة الصغيرة بألف درهم من الذهب الصحيح الأحمر، رفضها مرزوق من فوره، إلا أنه قبل الشروع في المهمة لاقتناعه وثقته في مشاعر الحارث ومعسول كلامه ونواياه، وانطلق من فوره مخبئا الزجاجة الصغيرة بين طيات ملابسه، متحينا الفرصة التي تتيح له مجرد
وما إن ترجلت نازلة عن حصانها مندفعة إليه وبيده كأس شرابها المفضل، وهو الليمون البنزهيري
خطت خطوتين قبل أن تترنح عند العتبات، فجرى إليها مرزوق مرتعدا مسندا حتى أوصلها بمساعدة جارياتها إلى فراشها.
حتى إذا ما احتواها الفراش تراخت ذراعاها، وعلا شخيرها، وهي التي كما يعلم مرزوق والجميع لا يعلو لها صوت، حتى أيام وليالي أعتى المعارك التي أصبحت على كل لسان.
تأملها مرزوق مكفهرا متخاذلا وأصابعه تتحسس القارورة - الطلسم - في جيبه، وعاد فأغلق باب جناحها منسحبا في توجس، مانعا عنها بقية وصيفاتها، مغمغما: تعبانة.
أما مرزوق فلم يفق إلى فعلته وما اقترفت يداه بإيعاز من ابن عمها الحارث إلا بعد أن شاهد ذات الهمة وقد استبد بها الإعياء والضعف، إلى حد أنها لم تعد تدرك ليلها من نهارها.
تحسس القارورة المسمومة في جيب سرواله، واندفع خارجا من فوره عبر بوابة قصر ذات الهمة، من دون أن ينتبه حتى لرد تحية الحراس من أعلى الأسوار.
واصل مرزوق سيره لا يعرف له مأوى محدد يتجه إليه بعدما أطبق الليل البهيم على شوارع مالطة وأزقتها التي خلت من الحركة، سوى من مصابيح الشوارع والميادين وبعض الأسواق وأماكن تجمعات اللهو والأكل، وهو الذي لم يسبق له مرة التخلي عن أميرته ذات الهمة، التي هي في موقع أخته في الرضاعة.
كيف يتركها متخليا هاربا فارا على هذا النحو، تعاني سكرات المرض والهزال التي قد تنتهي بها إلى الموت.
تساءل وقد داخلته المخاوف، وحطت عليه الشكوك من كل جانب، عن هدف ابن عمها الصحصاح.
ولم يفق الخادم مرزوق من أفكاره وهواجسه إلا عندما انتهى به المسير ليلا إلى مضارب الأمير الحارث؛ للوقوف على نواياه، وعندما سأل عنه ولم يجده عاد أدراجه مرتبكا متعثرا لا يعرف له مسلكا.
مأزق ذات الهمة
كان الحارث على معرفة ودراية كبيرتين بتفاصيل ومنافذ القصر الذي اتخذته ذات الهمة مقرا لها ولمجلس حربها في ذات الوقت.
وكان قصرا حصينا حقا؛ نظرا إلى موقعه المطل على البحر، وكان مرفقا به كل وسائل الدفاع والتحصين، نظرا إلى أنه هو ذات القصر أو الحصن المنيع الذي عانت طويلا الجيوش الإسلامية في حصاره وإسقاطه الأمرين.
كما أنه ذات القصر الذي تحصنت به الأميرة باغة ابنة الملك «لاوون»، وأتخمته بفاخر الأثاث والمفروشات الثمينة التي لم يسمع بها من قبل.
جلبتها «باغة» من مختلف الأقطار والأقوام الأوروبية المتحالفة تحت شارة «الصليب»، والمصنوعة من فاخر الأخشاب، والطنافس، والقناديل المشعلة، والديباج، والعطور، والأحجار المرمرية، والتماثيل والصور والتحف النادرة.
وكم تمنت ذات الهمة خلال مواسم حصارها للقلعة الحصينة التعرف على جنبات ذلك القصر الساحر المطل على البحر الأبيض، والمليء بالنافورات الهائلة والشلالات ومجاري الماء بألوان قوس قزح، بالإضافة إلى النواعير وسواقي رفع الماء التي كانت تحدث أصواتا موسيقية متناسقة الإيقاع، تسمع من بعد فتثير الشجن في النفوس، خاصة جند المسلمين القادمين من أغوار الشام وغوطات دمشق الغناء، ومجاري مياه صور وصيدا والدامور.
فكان عندما يجن الليل وتحط الظلمة تنبعث من جنبات ذلك القصر الحصين موسيقى عالية صاخبة، يغلب عليها المجون، يصاحبها حفلات الرقص المحموم التي كانت تقيمها الأميرة «باغة»، فتترامى إيقاعاتها وألحانها على طول الجزيرة مستغرقة الليل بطوله، وكأن ما يحدث لا علاقة له بظروف الحرب الضارية التي لم تتوقف رحاها على مدى السنوات الطوال منذ عهد جدها الصحصاح.
لكم تمنت ذات الهمة واشتهت من أعماقها النفاذ إلى جنبات وساحات تلك القلعة المنيعة المدججة بالسلاح والرسم وفاخر الأثاث والمروج والنغم، ليس طمعا فيما تحويها من نفيس المفروشات وحياة اللهو؛ بل لأن مبعث ذلك رغبتها المنطلقة من واقع الإعجاب بموقع القصر - العدو - وصموده وجبروته المنيع الاقتحام. وهو أمر لم يحصل إلا بالحيلة والخداع.
حتى إذا ما تحقق لها ما تمنت وحلمت به طويلا، وتمكنت كتائبها بالخداع والتنكر تحت زي الرومان وسحنهم ولحاهم وصلبانهم ورطانتهم من اقتحام القصر وإسقاطه، ومنازلة قائدته الأميرة باغة وقطع رأسها، أجمع مستشاروها على أهمية انتقال الدلهمة وحاشيتها إلى هذا القصر، حتى الأمير عبد الله بن سليم ذاته، أمير أمراء الحملة من قبل أمير المؤمنين، طالبها باتخاذه مقرا، والاستفادة مما يحويه من معدات استطلاع للمداخل البحرية، وحركة الرياح، والتيارات البحرية والموجات، وطرق الإنذار المتقدمة التي تفوق فيها الرومان، بل هو أقسم عليها لحسم الأمر أن تتخذه مقرا لها.
ووافقت ذات الهمة على الانتقال بعد أن رغبت في تغيير ملامحه ومحتوياته التي لا تليق بمحاربة، بل بغانية.
وهكذا ما إن وطئت قدماها عتبات ذلك القصر الحصين، وفي أعقابها حاشيتها وبعض حرسها من المقربين وجارياتها، حتى اندفعت متنقلة في جنباته وساحاته؛ حيث هالها ذلك الثراء المترع الذي لا يخلو من جشع التي كانت تعيش فيه قبلها؛ غريمتها الأميرة الرومانية «باغة».
وكانت هناك أكداس من المجوهرات والشموع والشمعدانات والأيقونات البديعة، والأحجار النفيسة التي جلبت لها من كل بقاع العالم، ناهيك عن السراديب والمخازن التي تعج بكل ما لذ وطاب من فاخر الطعام والمفروشات، من ديباج وسجاد وستائر وأثاث فائض عن كل حاجة.
ومن فورها صرخت ذات الهمة في حاشيتها مطالبة برفع كل هذا، واستبداله بالأثاث والاحتياجات الحربية العربية التي اعتادتها دون حاجة لمخلفات سابقتها.
كان الحارث على دراية واسعة بدهاليز القصر الحصين ومسالكه وخباياه، وحتى منافذه البحرية وخزائن مؤنه وعتاده، فهو الذي عمل داخله هو ورجاله في نقل أسلابه ومؤنه إلى بوش المسلمين وعتادهم.
لذا ما إن تحقق الحارث من غرضه في شرب وتجرع ذات الهمة للمخدر من يد وصيفها وابن مربيتها السودانية مرزوق، حتى عاجل بالدخول إلى مخدعها.
وذلك حين عاد إليه مرزوق مضطربا مستوضحا عما ألم بالأميرة ذات الهمة عقب تجرعها للشراب، وما أصابها من تخاذل وإعياء حتى لم تعد تعرف الليل من النهار، متسندة مستلقية تغط في سابع نومها، وجرى إليها مرزوق محركا ذراعيها فوجدها متصلبة كالخشب.
وبالطبع طمأنه الحارث مهدئا من روعه، معيدا عليه لهيب حبه لزوجته ... ابنة عمه فاطمة التي مكانها أغوار قلبه.
وهنا عاد الاطمئنان ثانية إلى قلب مرزوق، بل هو يسر له سبل اختراق مسالك وتحصينات قصرها الحصين، بحجة المرض المفاجئ الذي ألم بأم المجاهدين.
وهكذا وجد الحارث نفسه داخل جناح نوم ذات الهمة؛ حيث تمكن من بلوغ قصده في النهاية، الذي هو من حقوقه الكاملة كزوج شرعي.
في الصباح الباكر، أفاقت ذات الهمة متقلبة في إعياء واضح في فراشها، خالعة عنها أفكارها الليلية وكوابيسها وهي تتطلع عبر شرفتها الفسيحة إلى البحر المتلاطم الهادر عبر الأفق.
لكم حلمت ذات الهمة طويلا منذ الصغر، ومنذ أن كانت في الحجاز، بركوب هذا البحر والإلمام بأسراره ودفائنه!
كانت على معرفة منذ البداية، كان البحر هو على الدوام ومنذ الأزل مصدر الخطر الأول للعرب والمسلمين.
لذا انكبت منذ البداية على قراءة ودراسة كل ما يصلها من علوم بحرية.
وتحقق لها غرضها ومرماها حين عادت إلى قبيلتها الفلسطينية بعد الأسر، وعثرت على بقايا موروثات جدها الصحصاح، فاتح القسطنطينية، ثروة لا حد لأهميتها من الكتب التي تتخذ من البحر وأسراره وعلومه وأخطاره مادة لها.
فاندفعت ذات الهمة من فورها منكبة على قراءة ودراسة تلك الكتب والمخطوطات والخرائط والتقويمات سنوات مطولة.
بل هي طالبت أباها مظلوما أن يهبها تلك الكتب، على أن تحفظها كما هي بكل حرص في خزينة كتبها.
ومنذ ذلك التاريخ لازمتها تلك الثروة البحرية، لا تغيب عن بصرها، تعاود مطالعتها وحفظها عن ظهر قلب كلما أقدمت على التحضير لرحلة أو غزوة بحرية.
بل إن ذات الهمة لم تتوقف في قراءاتها ومطالعاتها لعالم البحر وأسراره، بل قرأت الكثير من عادات وتقاليد ومناحي حياة الشعوب البحرية، من يونانيين وأتراك ورومان وغيرهم.
وكان يحلو لذات الهمة كلما داعبت عينيها الخيوط الذهبية الأولى للشمس المشرقة، سماع تدريبات جند المسلمين وتكبيرهم العالي، وهم يدقون الأرض بالأقدام، ويتنادون وهم يتبادلون مهام حراساتهم للموانئ والثغور.
وكانت من فورها تبدأ في التفكير بخطط اليوم دون تأخير وتكاسل، وإرجاء لعمل اليوم إلى الغد، لحين الإيذان بدخول جواريها وتناول الإفطار معها، مشاركين إياها الموائد الفسيحة التي استبدلتها من فورها عندما فتحت القصر، رافعة موائد سالفتها وعدوتها اللدودة الأميرة باغة، التي لا تتيح للجائع العربي راحة؛ نظرا إلى ارتفاعها ومقاعدها المفتعلة.
بل هي ضاحكت أحد حراسها من السودانيين لحظة استبدالها قائلة له: «ما لنا والخواجات؟ نحن بساطنا أحمدي.»
إلا أنها صبيحة هذا اليوم قامت من نومها على غير العادة، فحين حاولت فتح جانب ضنين من عينها اليسرى لاستطلاع الشمس ومعرفة الوقت عبر النافذة لم تستطع، فعاودت الإغفاء والاستسلام لخدر النوم وتسلطه، وكأنها لم تذقه منذ دهر.
عاودت الاستسلام لأحلامها وكوابيسها الخانقة لدرجة أثارت شكوك ومخاوف وصيفاتها خارج الغرفة؛ مما دفع بأقرب وصيفاتها - وكانت امرأة مسنة تفيض حنانا لها - إلى طرق الباب مرات، وحين لم يفتح اقتحمته المرأة داخلة مندفعة من فورها إلى فراش ذات الهمة الممددة الغارقة في حشرجاتها.
وما إن قاربتها موقظة: مولاتي فاطمة. حتى شهقت المرأة فزعة مما وقعت عليه عيناها المشدوهتان.
مرض أم المجاهدين
ما إن انتصبت ذات الهمة فجأة جالسة في منتصف فراشها حتى فقدت صوابها وهي ترقب ما حل بها، فأيقنت تماما ما حدث، فنشبت أظافرها في جدائل شعرها، مشيرة بذراعها كله إلى حسامها صارخة: سيفي ... مرزوق.
استدارت جاريتها العجوز الرباب وقد استبد بها الفزع من ثورتها وغضبها، محتارة أيهما تسرع في تنفيذه؛ السيف المعلق إلى جانب الفراش، أم الإسراع في استدعاء مرزوق، أينما كان.
ولم تمهلها ذات الهمة، بل هي اندفعت من فورها نازلة عن فراشها، مختطفة حسامها من غمده، منطلقة صارخة في أبهية قصرها بملابس النوم : مرزوق، مرزوق.
بهتت الوصيفات والجواري مما ألم بالأميرة الغاضبة، وأسرعن منطلقات هنا وهناك بحثا عن مرزوق الذي لم يسبق له الابتعاد لحظة عن ذات الهمة، ملازما لها كظلها أينما تواجدت، وتحت أي سماء.
بل إن ما أعجز ذات الهمة، وألهب غضبها، وضاعف من مرضها وهزالها حقا، ليس ما فعله الحارث بها، بل ما أقدم عليه خادمها وصديقها المقرب «مرزوق»، حين تذكرت ذات الهمة لحظة التغير المفاجئ الذي اعتراها كمثل ومضة مشعة في سماء ليل ثقيل الظلمة.
وهي لحظة لن يغيب أبدا مداها العميق عن ذاكرة ذات الهمة ووعيها، مهما واصلت الحياة والتنفس وخوض المعارك، وتلقي أخبار الهزائم والانكسارات، وما تتطلبه الحرب من خداع ومؤامرات، حتى لو استدعى الأمر التنكر تحت جلد الروم بغية التسلل إلى قلاع الأعداء واحتلالها.
هي لحظة تسطع لتخبو في ذات الوقت وكأنها مولود عانى ارتعاشة موته المصاحبة لمولده.
لحظة أن ترجلت عن جوادها مع مدخل عشاء البارحة فاغرة فاها تعبا: عطشانة، فقدم إليها
إلا أنها لم تتراجع عن تجرع كأسها من يد مرزوق، وكيف لفاطمة أن ترد لمرزوق صديق صباها، وعطر طفولتها كأس علقم أو سما قابضا لكل حياة؟ كيف لها أن تراودها الشكوك فيمن تبادل معها لبن الأم؟!
إذن لما عاد في هذا العالم الفسيح المتلاطم خبرا يرجى، ولتمرح مخلوقات الخيانة وحيواناتها وجراثيمها لترتع في كل جسد، وتومض في كل عين عبر اللحظة الخاطفة، التي تقود كل منا من كبير إلى حقير إلى مهان، إلى حتفه وسقوطه من أعلى عطائه وتألقه.
كيف لفاطمة ابنة مظلوم التي عانت مرارة الأسر، وضيق الحاجة، وطحن الرحى، وجرش الملح، ورعي الجمال والإبل البرية في وهج الصحراء جنبا إلى جنب مع مرزوق، أن يخالجها الشك والتراجع عن كأس ماء تقدمها يده الممدودة لها في حنو، لتتجرعها كمثل بلسم عشية يوم قائظ يعصر فيه عصرا عرق الجبين.
تقلبت في فراشها بعدما أيقنت قبل الجميع من اختفاء مرزوق، وهي تعيد التساؤل المؤلم إلى حد غياب النوم عن عينيها المسهدتين، لكن دون أن تعثر لها في النهاية على مرفأ آمن يشفي غليل تساؤلاتها حول ما أقدم عليه ذلك «النذل» ... مرزوق.
وعندما لم يعثروا لمرزوق على أثر، عم صمت ثقيل استردت فيه ذات الهمة أنفاسها، إلى أن تجمعت الأخبار من هنا وهناك حول ما حدث ليلة الأمس.
حين عادت من مهامها وتريضها، ولم تذق للأكل طعما عقب تناولها لشرابها من يد الوصيف، فترنحت لا تعرف لها تواجدا، وما إن أوصلوها فراشها حتى لازمها ذلك النوم الثقيل الكابوس، لتجد نفسها على هذا الوضع وقد انحل عنها كل ستر.
انحطت مستسلمة على فراشها، مشعثة الشعر، غائرة العينين، وقد ألمت وأدركت بتفاصيل ما حدث، حين تواتر إلى أذنيها اسم ابن عمها الحارث، ومجيئه إلى القصر عقب صلاة العشاء؛ بحجة زيارة زوجته وابنة عمه التي ألم بها مرض فجائي، وأنها هي التي استدعته عاجلا، كما أوهم حراسها وأتباعها في غيبة عن والده وعمه والدها.
وهكذا تجرع الجميع من ذات الكأس المسمومة التي لفقها الحارث، ووصل بها إلى مخدعها الذي لم يسبق له أبدا دخوله، لينفذ فعلته الشنيعة التي لن يمحوها سوى جز رأسه، على هذا النحو.
أجل ... على هذا النحو المهين الجارح، يصل الأمر بذات الهمة، التي أذلت أعناق أعالي الرجال المحاربين والفرسان تحت سنابك خيلها: دماغي، رأسي.
كان قد ألم بها صداع طاحن أسال خيوط العرق مدرارا على وجهها وجسدها بكامله.
ولم تجد الرباب وبقية الفتيات سوى تطويق رأسها، والإحاطة بها كمثل ذبيحة، وتجفيف أنهار العرق المتقاطرة من كل بدنها دون جدوى.
وحين أشارت الرباب باستدعاء طبيبها، هبت ذات الهمة معترضة منبهة: لأ ... لأ ... حذار.
وتبادل الجميع النظرات الخجلى والترحم الصامت لما انتهى إليه مصيرها بين القبائل ... العرب.
من جديد تنبهت مهددة تطلب وصيفها الذي هو في موقع أخيها - في الرضاعة - والذي
وعاد إليها الجميع من حرس ووصيفات بخبر انشقاق الأرض وابتلاعها لمرزوق الذي لم يعثر له على خيال.
وعلى الفور أصدرت ذات الهمة أمرها بالتحرك البحري لسد كل المنافذ البحرية للجزيرة بكاملها في وجه الفارين، وإحضار كل من ابن عمها الحارث وخادمها مرزوق أحياء أو قتلى، لكن دون جدوى.
ذلك أن الحارث بعد أن وصل إلى مبتغاه وحلمه القديم تولته رعشة عاتية، دفعت به إلى جمع حاشيته وحاجاته وأقرب مقربيه، قافزا منتفضا إلى أول سفينة صادفها هاربا مصطحبا مرزوقا، ووسط أمواج البحر الضاربة لم يعرف له طريقا إلى أن استقر رأي الجميع على الإبحار عائدين باتجاه الوطن، والحط في جزيرة آمد؛ حيث وصلت الأخبار بعودة والده وأخيه إليها.
وما إن وصلوها دون أن تلحق بهم سفن ذات الهمة المطاردة حتى تنفس الحارث الصعداء، مقررا إطلاع والده على ما حدث وإسلام مقاليد الأمر إليه.
إلا أن والده ظالما ما إن وقعت عيناه على ابنه الحارث مسرعا على صهوة جواد، ثم ترجله عنه مسلما مقبلا جبينه، حتى ظن الوالد من فوره وكذلك أخوه مظلوم، بأن كارثة وقعت خلال أشهر غيبتهما.
بل إن مظلوما تصور من فوره أن أعداءهم الرومان أعادوا شن غاراتهم على مالطة، وشتتوا الشمل العربي، فاتجه من فوره إلى الحارث سائلا في جدة: ماذا حدث؟ - خير.
عاجله: وذات الهمة؟
أطرق الحارث منتفضا مغمغما: بخير.
إلا أنه اختلى بوالده الأمير ظالم، الذي تحسس ما به وما يعانيه، فتفرسه: فاطمة ... مرة أخرى!
هنا اندفع الحارث مفضيا لأبيه بتفاصيل ما حدث مع ذات الهمة، إلى أن وصل به إلى لحظة تملكه لها وهي نائمة غائبة عن كل وعي.
هو يعرف ذات الهمة، وخاصة حين يتملكها الغضب الذي يفضي إلى العناد، الذي لن يمحوه أبدا سوى الانتقام وسفك الدماء بين أفراد القبيلة الواحدة، الجسد الواحد، الأخ وأخيه.
ويكفي إصرارها وعنادها على رفض الزواج من ابنه الأمير أعواما إثر أعوام، رغم التوسل بكل غال وعزيز عليها لمجرد الامتثال والقبول، فحتى الخليفة ذاته الذي أشار عليها بأنه ليس للمرأة سوى بعلها، وشهد بنفسه على العقد والزواج الذي وقع وأتم رغم أنفها، وضد رغبتها، لم يتمكن من الوساطة أكثر من ذلك.
فهو يعرف ابنة أخيه حين تكتشف ما حدث لها؛ شرفها، وكيف أنها لن يهدأ لها بال إلا إذا أقامت الدنيا وأقعدتها ضد ولده الطائش الحارث، بل وضده هو ذاته عمها، وتذكر على الفور منازلاتها
إلا أن الوالد الغارق في هواجسه عاد من فوره مستديرا لابنه، مشفقا عما يعتمل داخله، قائلا: فاطمة زوجتك بشهادة أمير المؤمنين.
وبدا الحارث كمن لم يسمع، مواصلا شحذ أبيه والتوسل بمختلف الأعذار، كاشفا للأب عن طاقات حقده الدفين لابنة عمه ذات الهمة، التي أصبحت متكبرة متعالية وكأن ما على هذه الأرض سواها، ولا أمجاد سوى أمجادها، ولا حديث لعربي سوى عن خوارقها وانتصاراتها.
وكيف أنها لم تعد تراه طيلة غيابهم، وكم حاولت إبعاده عن طريقها مرارا! بل هي حرمت دخول عتبات مقرها عليه، وهو الزوج وابن العم.
والأب الواجم يستمع منصتا مفكرا، فلعلها اللحظة الوحيدة التي يصل فيها ظالم إلى دفائن أسرار ومكنونات ابنه الحارث نحو ابنة عمه ذات الهمة.
لعلها اللحظة الوحيدة التي يكتشف فيها الأب مدى مخالطة الكره للحب في حالة ابنه الحارث.
وضع ظالم قدميه في مداسيه مختطفا عباءته، متجها من فوره إلى مضارب أخيه مظلوم.
هروب الحارث من انتقام ذات الهمة
لم يجد الأمير ظالم له مهربا مما أقدم عليه ولده الحارث من إجبار ابنة عمه ذات الهمة، وإخضاعها له دون إرادتها.
وكان الأمير ظالم غائبا وقتها في صحبة أخيه إلى مقر الخلافة؛ لتقديم السبايا والغنائم واستشارة أمير المؤمنين في شئون ومسار الحرب.
تردد طويلا خلال الطريق في كيفية مفاتحة شقيقه مظلوم فيما حدث خلال تغيبهما.
صحيح أن ما حدث اعتبره الحارث في حدود الشرع المتعارف عليه بين زوجين معقود كتابهما بشهادة أمير المؤمنين، إلا أن الأسلوب المقتحم المخادع الذي أقدم عليه ولده الحارث أفقده كل حق وشرعية، بالإضافة طبعا لظروف ذات الهمة، وحالة الحرب الضاربة التي تخوضها من موقع القائدة الذي فرضته على الجميع بإقدامها ومهارتها في وضع الخطط، وإيقاع الهزائم تلو الهزائم في صفوف الأعداء.
وهو ما يختلف فيه الأب مع ابنه، الذي تحول حبه لابنة عمه إلى حقد أصفر، ليس مكانه بحال جبهة الحرب والجهاد في مواجهة عدو يبدع كل يوم في الخداع والتربص بالعرب والمسلمين، يضاف إلى هذا، التوصل إلى مختلف أسلحة الإبادة والفتك التي أصبحت هذه الحرب الطويلة مرتعا سجالا لتجريبها على أيدي الرومان البيزنطيين.
وهي جميعها أسلحة أفسدتها بصيرة «الداهية»، واقتنصتها عنوة من بين أيديهم، وبكل ما تتيحه الحرب من قدرات على الإقدام والمنازلة والفروسية، وما تتيحه أيضا على الوجه الآخر من قدرات على الخداع والمراوغة والتلصص والتجسس والتنصت والاقتناص والاختفاء، من أجل الفوز بالنصر الذي افتقده العرب طويلا قبل وصول ذات الهمة إلى هذا الموقع.
لكم اختطفت ذات الهمة عوامل النصر، وخاصة السلاح، من أيدي أعدائها وأعداء جيش المسلمين؛ ليصبح مصدر قوة في أيدي العرب.
ولعل الأمير ظالما شارك بنفسه في اختطاف ذلك الأسير السوري، الذي سبق الجميع في التوصل إلى اختراع القنابل النفطية، التي توقع بالهلع في قلوب الكتائب والفيالقة المحاربة، فيصيبها الذعر من هول النيران المتفجرة التي لم تسمع بها، ولم تر مثيلا لها من قبل، فتلقي بأسلحتها من سيوف ومقاليع وخناجر ورماح ودروع، بعد أن تناقص أثرها؛ لتجري ذعرا مولية الأدبار.
كيف شارك ظالم بنفسه في اختطاف ذلك الأسير السوري من داخل أغوار حصون القسطنطينية، وعاد به مع بقية العيارين والبصاصين سالما معافى إلى حيث مضارب ذات الهمة، وبحسب ما أشارت وأمرت!
وكيف أدى اختراع ذلك الأسير السوري إلى ترجيح كفة جيوش أمير المؤمنين، وحسم بأسلحته الجديدة فرص النصر على الجانب العربي.
لقد كانت مهمة عسيرة شاقة تلك التي اضطلع بها ظالم حول إعادة أسير سبق أن اختطفه الأعداء، وأثاروا حوله ضجة هائلة.
وكثف الأعداء كل عيونهم وحراساتهم حول ذلك المخترع، عندما أصبح بين أيديهم، يواصل تجاربه على تطوير كل أسلحة الفتك الموجهة إلى صدور بني جلدته من العرب والمسلمين لصالح الأروام.
بل إن ظالم حين أفلح في استرداد ذلك الأسير السوري من أعماق معسكرات الأعداء داخل القسطنطينية، وعاد به سالما، بحسب ما أشارت به ابنة أخيه ذات الهمة، أصبح موضع التكريم المتواصل، سواء من جانبها أو من جانب أمير الحملة ... أو أمير المؤمنين ذاته، الذي وصل إليه الخبر في عاصمة الخلافة، فبعث برسالة خطية خاصة له يكيل له الثناء.
فلم يعد السلاح الحاسم في هذه الحرب قاصرا على السيف والمقلاع، بل داخلتها أساليب نارية، وغازات مسمومة توقع الجمال والخيول العربية قبل الرجال صرعى.
وهو التفوق الذي عقده الجميع على هيئة أكاليل على رأس ذات الهمة، تلهج به الشفاه، وتحققه ظالم بنفسه في عيون الآلاف المؤلفة من المؤمنين، والذين أصبحوا اليوم ينامون ويصحون، على الإنشاد والدعاء لذات الهمة، ويتحاكون سيرها التي فاقت سير القدماء.
ليت الحارث كان معه في بغداد والحجاز ليتحقق بنفسه مما أوصلتهم إليه ابنة عمه، حينئذ كان قد تروى وفكر كثيرا قبل الإقدام على فعلته التي أغضبتها، هناك في مخاطر الجبهة وعلى مرأى من الجميع، حتى بصاصين الأعداء وجواسيسهم لن يغيب عنهم ما حدث.
ناهيك عن انكسارها، وعما سيجد من حمل وتغيب عن المهام العسيرة التي تتحملها ذات الهمة، وتنام وتصحو عليها، من إعداد للجند، وتطبيب للجرحى، وبحث في كتبها القديمة على عادة جدها الصحصاح، لاستشفاف الطرق والمنافذ والثغرات، سواء في جبهة المسلمين أو أعدائهم.
كيف يطرح الأمر على مسامع أخيه الأصغر مظلوم؟ وكيف السبيل إلى إقناعه بإعادة جمع الشمل، وإقناع ابنته التي أصبح يخشاها ظالم إلى حد عدم القدرة على مواجهتها فيما بعد؟
وتصور ظالم وهو يدوس مضارب أخيه برفقته حرسه وعياريه وكلابه، أن من الأفضل التراخي في العودة إلى مقر ذات الهمة في «مالطة»، فالأيام والليالي هي الوحيدة الكفيلة بإخماد نيران الانتقام والغضب.
ويا له من غضب سيعاني منه هو وابنه طويلا ... طويلا! •••
وحين خرج مظلوم لاستقبال أخيه مرحبا في عبوس لا يخلو من أحزان دفينة، وهو يطرق كفا بكف أسفا، عرف ظالم ما به.
ذلك أن حارس ذات الهمة مرزوقا كان قد رافق والد ذات الهمة إلى مضاربه، وحكى له مرتعدا تفاصيل ما حدث من الحارث وذات الهمة في غيبتهما، بعد أن أقنعه الحارث بشرعية اجتماعه بابنة عمه وزوجته، لحين فراره بصحبة الحارث إلى هنا؛ هربا من غضب وثورة ذات الهمة أخته التي تربى معها منذ المهد.
وبكى مرزوق مهيلا رمل الصحراء على رأسه ولحيته، حتى رق قلب الأمير مظلوم لما أصبح يعانيه الخادم حسن النية والمقصد.
واختصارا للوقت والجهد، أفهم الأب أخاه بمعرفته بتفاصيل ما حدث، وأن الخير فيما اختاره الله، ووافقه على أهمية تأخير سبل الرحيل إلى مالطة؛ أملا في إخماد غضب ذات الهمة، وحتى لا يأكل الأخ لحم أخيه تحت سمع وبصر أعدائهم الطامعين.
وعرض مظلوم على أخيه أهمية مكاشفة أمير الحملة عبد الله بن سليم على ما حدث، والكيفية التي يراها لمداواة الجرح الأليم الغائر الذي أصاب الجميع في غير وقته.
خاصة وأمير الحملة يتمتع بمنزلة خاصة لا تعلوها منزلة في أعماق فاطمة.
وتحرج ظالم في البداية بعض الشيء في قبول هذا الأمر بإيصال ما حدث إلى أمير الحملة، مدركا مدى حب وتقدير الأمير لشمائل ومزايا ذات الهمة، لكنه لم يجد بدا من الموافقة والتعجيل
وهكذا اتخذ الشقيقان طريقهما إلى مضارب أمير الحملة، التي لا تبعد سوى مسيرة ساعات منهما، طالما أن الخير في المشورة حقنا لدماء الأشقاء قبل استفحال الأمر. •••
وما إن حط ركبهم المهموم على غير العادة داخل مضارب أمير الحملة ورأس قبائل بني سليم، حتى تبادلت الخيول وكلاب الحراسة الصهيل والنباح؛ مما أفزع الأمير فهب من إغفاءته مستطلعا الأمر، إلى حد تصوره لأخطار من جانب العدو حلت بالجميع ودون سابق مقدمات.
تبادل معهما تحية المساء، متفرسا في وجهيهما، سائلا من فوره مظلوم: خير؟ - يفعل الله كل خير.
وحين دخلا ديوان الأمير عبد الله بن سليم ودارت أقداح القهوة العربية، أشار مظلوم لرجاله بإدخال حارس الأميرة ذات الهمة الخاص مرزوق، وكان قد اصطحبه معه ضمن رجاله دون أن يلحظ أخوه الأكبر ظالم ذلك.
وما إن أشار عليه بإعادة حكاية الواقعة، حتى جثا الخادم السوداني المرتعد تهيبا من أمير الحملة الذي طمأنه بنفسه؛ تعطشا لمعرفة ما جرى في غيابهم.
وما إن أفاض مرزوق في إعادة حكاية ما حدث لحين توصله إلى خطة الاغتصاب،
للاطمئنان على صحة ذات الهمة قبل كل شيء، بل تمادى في غضبه إلى حد السب
بل إن الأمير اندفع خارجا مصفقا بيديه، طالبا من بعض جنده وطبيبه الخاص بالتوجه ليلا إلى مقر الأميرة ذات الهمة وملازمتها والإسراع برعايتها، وإبلاغه معجلا بتفاصيل صحتها وحالة جند المسلمين في الجزيرة البعيدة.
وحين عاد إليهم عقب إصداره لأوامره العاجلة، أعاد الاطمئنان إلى ضيفيه،
وأخذ الأمير عبد الله على عاتقه أمر ترضية ذات الهمة وتطييب خاطرها، حتى ولو
ولادة عبد الوهاب
لزمت الأميرة ذات الهمة قصرها وفراشها أياما بعد أن حط عليها مرض ثقيل أشاع الخدر في أطرافها، وأحدث لها تحولات بدنية لم تكن تعرفها من قبل حين كانت فتاة، وهي التي لم تذق للراحة طعما من قبل، ولم تعتد على حياة الكسل والتراخي، ومع ذلك دأبت على أداء حتى أبسط واجباتها اليومية بكل حرص ونشاط.
إلا إنها كلما استرجعت دقائق وأبعاد ما حدث يحوطها على الفور حزن دفين، يدفع بها إلى حالق الاكتئاب الذي لا قرار له، فتمضي تضرب أخماسا بأسداس سخطا على ابن عمها وحارسها المقرب، بل والقصر بأسره، بكل من فيه من كبير وصغير، الذين وصل بهم التهاون إلى حد السماح حتى لأبيها ذاته باقتحام ودخول مخدعها دون علم منها، وهي التي تحرص على أرواح أبسط جنودها، بل وحتى أسرى حروبها، بل وحياة ابن عمها الحارث ذاته، فحين حق لها قتله وإزهاق روحه في ميدان المنازلة على مرأى من شهودهما، اكتفت بإلقائه عند سنابك خيلها؛ حيث وضعه اللائق دون التسبب في قتله.
كانت ذات الهمة حزينة لأن التسيب قد عم، فرغم أن لهيب الحرب المستعرة قد انحسر، إلا أن الهدنة لن تستمر طويلا ما دام الطامعون ما زالوا يحملون السلاح، ويتحينون الفرص للعدوان والغزو، وما زالت رغباتهم الطموحة تدفع ملوكهم وحكامهم إلى محاولة التسلط والسيطرة على بلاد المسلمين.
وكانت كلما تمادت في أفكارها ازدادت اكفهرارا ومرضا، وملازمة للفراش، ورفضا لتناول الطعام، سوى أقداح العصير التي تعدها لها وصيفتها التي هي في موقع أمها الرباب، وتتجرعها ذات الهمة لمجرد ترطيب حلقها الجاف وجوفها، لتغط من جديد في نومها نهبا للكوابيس الثقيلة المحاصرة، والتي كانت ترى فيها نفسها في كل الحالات مجرد أسيرة محاصرة بالأعداء من كل جانب، حتى وجوه وسحن أقرب مقربيها.
وبدأت مع توالي الأيام تعيد استرجاع ما يدخل أمعاءها.
وهنا عرفت جاريتها الرباب مكنونها وما ألم بها من آلام، من تلك التي عادة ما تصاحب الحمل في أشهره الأولى.
ورأت المرأة بصائب بصيرتها أن من الأفضل عدم إخبار ذات الهمة بأسباب مرضها وأعراضه، وإلا حطت عليها الهموم، واستبدت بها الهواجس التي قد لا يعلم أحد مداها، خاصة وهي على ما هي فيه من هزال وقنوط، ورفض دائم لتناول وجبات طعامها، وإذا حدث واشتهت صنفا أو فاكهة معينة سرعان ما تعيدها من فمها مترنحة لا تدري ما بها.
ورغم ذلك لم تتخل ذات الهمة عن واجباتها في متابعة أخبار الجبهات والتحصينات، والرد على الرسائل، وصرف المؤن، بل والتحامل على امتطاء صهوة جوادها والخروج مخفية في صعوبة بالغة معاناتها على أعين الجند والجميع.
وأفزعها في البداية تحسسها نظرات وإيماءات العيون المحيطة بها، هل إن الجميع على دراية بما حدث؟
وبالطبع تجرأ على التقدم إليها عشرات المظلومين من تصرفات ابن عمها الحارث، شاكين من الظلم والتجبر، وكانت كلما سمعتها من فم شاك أو مظلوم ازدادت إعياء فوق إعياء.
فكانت تسرع الخطا إلى ملازمة مضاربها وفراشها وحيدة صامتة اليوم بطوله، وزاد من فداحة
يحدث يا رباب؟ ماذا دهاني؟
وحاولت الرباب تكتم رغبتها الدفينة في الإفصاح، وتغيير ما تراجع عن ذكره لسانها، وأشارت عليها بأهمية إحضار طبيب مداو أو حكيم؛ لاستطلاعها والتعرف عما بها.
وتمادت في ذكر محاسن «وشطارة» طبيب أمير الحرب المعين من قبل أمير المؤمنين عبد الله بن سليم، الذي وصل إلى هنا خصيصا بتكليف منه للكشف عليها. وكانت ذات الهمة قد رفضت مجرد استقباله هو ومرافقيه الذين قاموا على عجل محملين بالهدايا، وادعت أنها بخير ولا داعي للحكماء والأطباء الذين لم تعتدهم أصلا من قبل.
وأعادت الرباب التوسل لاستقبال حكيم الأمير المرسل، فرفضت ذات الهمة رفضا صارما، وكادت أن تطرد الجارية الحنون التي اتخذت منها أما، وصرخت: قلت ... لأ.
عاودت الرباب انشغالها بتحضير شرابها العشبي الساخن مبتعدة، حين عاودت ذات الهمة التساؤل عما بها، وكأنها تخفي عن نفسها أسباب ما حط عليها من داء: تراه ...
من جديد رمقتها الرباب في إشفاق دون أن تنطق مفصحة عن أعراض ما بها.
قالت: ترينه الحمل.
وتصورت على الفور سلسلة لا متناهية من ومضات ما سيحدث ويحل بها، وما يسببه لها توالي ظروف الحمل وأشهره التسعة إلى حين أوان الطلق والوضع، وما سيستجد من كوارث.
وحين وافقتها جاريتها اعتراها من جديد الغضب والهياج المكتوم الذي لم يخفت لهيبه سوى الاستسلام للنوم المضطرب المتقطع؛ لتصحو آخر الليل وحدها تتحسس بطنها المنتفخة، متصورة وصول ما بها من ضعف وإعياء إلى مسامع الرومان: ذات الهمة القائدة حامل. إنها لكارثة! •••
وتحققت نبوءة ذات الهمة وهواجسها ، فالأمر على هذا الوضع ينذر بالكارثة التي ستحل فوق رءوس الجميع، وذلك حين حملت إليها الأنباء المتدفقة التي تجمعت من أفواه بصاصيها ومكاتباتهم، وأخصهم عيارها القزم صاحب «الملاعيب» «أبو الحصين»، الذي ظل على مقربة منها وعيناه على مدى البحر الشاهق، لا تغيب عن تحركات عاصمة الأروام القسطنطينية وما يجري بها، وآخرها جمع ملك الروم «لاوون» أمراءه وبطارقته استعدادا لشن الهجوم المفاجئ الساحق على الثغور والموانئ البحرية التي استردها العرب المسلمون، تمهيدا للوصول إلى قلب الخلافة ذاتها.
كل هذا وذات الهمة طريحة تتحسس بيديها الاثنتين بطنها الذي يعلو منتفخا يوما بعد يوم.
كيف التصرف إذن وهي التي حرم عليها مجرد امتطاء صهوة جوادها، وأصبحت تقطع الفراسخ المتباعدة مشيا كلما عن لها المرور اليومي على معسكرات ومضارب ومراسي سفن المسلمين، تحسبا لحالة الحرب القائمة على قدم وساق منذرة بالموت والدمار المعجل الذي يحوم على رءوس الجميع.
ووصل الانزعاج بذات الهمة إلى درجة أن الأعداء لا بد وقد أصبحوا يعرفون ما بها؛ ذلك الذي لم يعد خفيا على أحد، فما بال الأعداء المتربصين؟
كيف أنها حامل في شهورها الأخيرة تعاني آلام وغثيان الحمل والطلق والولادة، وهي الفارسة المحاربة التي أصبحت الآن حبيسة جلسات النساء، من مولدات وقابلات وجوار يقدمن لها النصح والإرشاد؟
تتحرك خطوات داخل أبهاء قصرها متسندة من الإعياء، فكيف لها الآن بقيادة المعارك في مواجهة جيوش أوروبا المتحالفة تحت شارة الصليب، بجنودها وتحفزها وعتادها، ولو من مدخل الانتقام والتحدي، بسبب التجبر الذي أبدته ذات الهمة منذ توليها قيادة تحالف العرب المسلمين؟
ولم تجد ذات الهمة منفذا لوضعها على هذا النحو، بعد أن فشلت ولم تفلح جميع الجهود التي بذلت لإنزال وليدها ... من بطنها قبل حلول أوانه.
وكأن الوليد بدوره يبذل أقصى طاقات صموده ليخرج إلى الحياة، أو وكأنه يتحدى كل محاولات إزهاقه كروح جديدة حق عليها الحياة.
أرسلت الرسل البحرية إلى الخليفة الهادي في مقره الجديد تعلمه بالوضع الجديد، وتخليها عن قيادة أمانة جيوش المسلمين؛ نظرا إلى مرضها، كما أرسلت إلى أمير أمراء الحملة عبد الله ووالدها مظلوم، ولكن لا من مجيب. - ماذا يحدث؟!
بل إن كل من راسلتهم بادر بإرسال طبيبه وحكيمه، ودعاء الاستفسار عن صحتها الشخصية دون إدراك للخطر المحدق. •••
وجاء الفرج حين تزايدت الآلام، ووضعت ذات الهمة ذات غسق مولودها، وهو غلام أسمر اللون، داعج العينين، مفتول الذراعين، لقب من فوره بعبد الوهاب، ودعته بعض النسوة الصالحات: بترس الرسول.
وحين تفرسته ذات الهمة استدارت إليه محاولة قتله وإزهاق روحه، فاختطفته النسوة من
المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
وكالعادة صاحبت مولد عبد الوهاب كطفل قدرات خارقة على خوض المنازعات والمعارك التي دارت رحاها هنا وهناك.
ف «ترس قبر الرسول والأسد الوثاب الأمير عبد الوهاب»، مثلما أسمته النسوة إثر مولده، مثل بقية الأبطال الملحميين العرب: أبو الفوارس عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي، والزير سالم أبو ليلى المهلهل، صاحبت المنازعات والصراعات القبلية مولده ومجيئه إلى الوجود، إلى حد حصول الانشقاق بين أفراد القبيلة الحجازية الفلسطينية الواحدة والتهديد بالحرب، وذات الهمة لا تزال تعاني آلام مخاضها؛ لأن عبد الوهاب جاء على غير لون آبائه ... جاء أسمر اللون كعنترة.
فما إن تفرسته أمه لحظة مولده حتى شهقت متسائلة بينها وبين نفسها بما يعني أن سبب كل آلامها وتخاذلها هو هذا الوليد، الذي صبر وعانى بدوره طويلا داخل أحشائها ضد كل محاولات إزهاق روحه، وكتم أنفاسه، منذ بداية تكوينه كنطفة إلى أن اكتملت أيام حمله وشهوره التسعة، صاخبا مائجا كمن يخوض بمفرده أجيج حرب مستعرة داخل أحشاء ذات الهمة، دفاعا عن أحقية وجوده؛ ليخرج من بطنها صارخا من أعماقه على هذا النحو، وكأنه يجهر معلنا: أنا أكره الأعداء.
بل إن صراخه المدوي لحظة تعثر انزلاقه أوصل آلام ذات الهمة إلى أوجها، فانثنت ترقبه بين أيدي وصيفاتها، مولولة، وكما لو كانت على معرفة يقينية بما ينتظرها من عذابات بسبب عبد الوهاب هذا.
وحين لفته الرباب بغلالة رأسها حانية وهي تضعه إلى جانب أمه، التي غضبت في محاولة يائسة لتقطيع أوصاله تستريح بعدها إلى الأبد، اختطفته النساء جاريات مستبشرات، وهن يرقبن عينيه الخرزتين القاتمتي الزرقة إلى حد السواد الضارب، وجسده المتكتل المفتول وهو يضرب الهواء بساقيه وأطرافه كلها ... رفضا وتمردا كمثل جواد بري هائج.
وكما لو كان يعاني رفضا داخليا متأججا، وينشد بكل جوارحه عالما أفضل، وأكثر استشراقا، وأقل تآمرا، من ذلك العالم الذي يضني الأم إلى حد الإقدام على اغتيال وليدها في فراشه.
كان كل ما في عبد الوهاب الرضيع ينبئ مشيرا بالتمرد، ونبل الآمال والمقصد، حتى إن النساء
تحمله وتضمه إلى صدرها، محاولة تهدئة ثائرة غضبه وهو يركل الهواء بأطرافه الأربع، مطلقا عقيرته بالصراخ، وكما لو كان يبغي العودة إلى حيث دفء فراش أمه ذات الهمة.
وحين حاولت بعض الفتيات التكوم والإطباق عليه وهن يتأملن ملامحه الصارمة، والذي جاء مولده وسط أجيج الحرب المستعرة على كل الجبهات من حوله وأمه، دفعتهن الرباب مبعدة إياهن في حدة: ابعدن ... ابعدن.
كانت الرباب متعثرة، تتحرك مهدهدة الوليد بين ذراعيها، وكانت بحق تعاني مما أصاب ذات الهمة في شهورها الأخيرة، ومنذ أن أقدم ابن عمها الحارث على فعلته الشنعاء وفر هاربا هو وخادمها المقرب، أخوها في الرضاعة مرزوق، مخلفين فاطمة في آلامها وأوجاعها، وما حط عليها من سقم فأحال سمرة وجهها إلى صفرة بادية للعيان.
تركها الحارث ومرزوق تضرب أخماسا بأسداس، تمضي الليل بطوله ذاهلة غائبة عن وعيها لا تعرف لها منفذا مما ألم بها فجأة وعلى غير انتظار، عقب حادثة الاغتصاب المروع، وما ترتب عليه مستجدا، من حمل ثقيل أعجزها عن مواصلة القيام بأعبائها الهائلة التي تفت من عضد وكيان أرفع الرجال الشجعان شأنا في قيادة جيش المسلمين في مواجهة أمم الإفرنج المهاجمين.
كانت مربية ذات الهمة الرباب تعاني من تكتم ما يعتمل في رأس ذات الهمة المشتعل بالتفكير دون هوادة ليل نهار، وكانت تسائل نفسها: مسكينة حقا فاطمة ... ماذا تفعل؟
وكانت قد بدأت تدرك مكنون تلك التحولات الفاجعة التي طرأت على الدلهمة، ومنها تلك النظرات المغموسة من مستنقع الشك والارتياب لكل ما تقع عليه عيناها الفاحصتان الصقريتان.
ما من إنسان لم تعد ترتابه فاطمة وتحذر مأربه، حتى أقرب مقربيها من أمراء وقادة وجند وحجاب وحرس وجوار.
بل حتى هي ذاتها الرباب أصبحت تتلقى نظراتها المتقلبة في محجريها كمثل جمر مشتعل بغضاضة مسرة لنفسها: من حقها. خاصة بعدما حدث بالتحديد من جانب وصيفها المقرب
غفت ذات الهمة في سباتها، وعلا من جديد شهيقها وغطيطها، وكأنها أصبحت تجد في النوم سلواها لترطيب آلامها الجارحة التي ألمت بها على طول الأشهر التسعة الأخيرة.
وهي الآلام التي ترتبت على ما سببه لها الحارث ابن عمها، وبمساعدة صاحبها المقرب مرزوق، والتي لم تبرأ من مصائبها بعد، خاصة بعد ولادة ابنها هذا الذي لم ينقطع بعد صراخه في أذنيها، رغم غلالة النوم والإغفاء التي تجد فيها مرفأها الآمن هربا مما يحدث، وما ستخبئه الأيام والسنون لها من مفاجآت يشيب لها شعر الوليد.
مفاجآت تقصر أمامها وعندها هامات الحرب والقتال والمنازلة التي لم يخف بعد أوراها.
فللقتال والجهاد المضني قوامه، ومعالمه واضحة القسمات والزوايا.
أما قتالها المستجد الذي حط عليها منذ الأشهر التسعة الأخيرة، فلا ملمح ولا قوام ولا معلم له.
ذلك أن مجاله هنا هو الخفاء والإظلام، وأقصى درجات الغموض والتآمر السري والعلني، ومن قومها ولحمها بالذات؛ أي من ابن عمها وعمها بالذات.
قتالها مجاله ذلك الوليد عالي الصراخ الذي يطن في أذنيها، وكأنه يبغي طرد أدنى لحظة صفاء ومهادنة لذات الهمة التي أضناها حمله. - أما من مهرب؟
بدت وكما لو كانت تعاني - في غفوتها - أثقال كوابيس تحيط بها من كل جانب، لا تجد لها منها فكاكا، ولم يكن يصلها من الأصوات سوى بكاء الوليد الذي لم تحجبه الأبواب المغلقة، ولا الشرفات، ولا الستائر المسدلة في إحكام، ولا حتى بصيص الضوء الخافت لشمعدان مثمن الأفرع، لم يشعل منه سوى فتيل مفرد إلى جوار رأسها حرصا من الجميع على راحتها.
وحاولت الرباب إرضاع الوليد إلى أن غفى بدوره؛ مما أتاح للأميرة لحظة نوم وراحة.
عادت الرباب من جديد تتفرس في وجه الطفل عبد الوهاب وهو بين ذراعيها، يضع يده اليمنى الدقيقة الأصابع على وجهه وجبهته كمن يخفي عن الآخرين أمرا، وتمتمت: مسكينة ... فاطمة.
كانت الرباب تعني ذات الهمة، وما لم تعانيه بعد من صراعات ومشاكل ستحط على رءوس الجميع بسبب هذا الوليد الذي هو الآن بين كفيها، والذي حاولت مرارا وتحت إصرار وإلحاح ذات الهمة إجهاضه من بطنها منذ البداية، قالت الرباب لنفسها: حرام.
إلا أنها إرضاء لسيدتها التي أصبحت ومنذ تكون - الغلام - عصبية متوترة الأعصاب، بدأت تنشغل في تحضير الوصفات التي تتيح إجهاض ما بها قبل أوان نزوله وولادته على هذا النحو.
ترددت على مضارب البدو وقابلات ومرضعات الأعراب بحثا عن «وصفات» الإجهاض، دون أن تفصح - بالطبع - عن أن الأمر يخص الأميرة ذات الهمة وحادث حملها ذاك.
وتكسرت جميع المحاولات والنصال للنيل من عبد الوهاب، الذي علا بدوره غطيطه بين ذراعيها كمن آثر الإذعان للحظة صفاء تتيح لأمه المجهدة النوم.
تساءلت الرباب في ترحم: نوم ... من أين يجيء النوم؟
فبعد أن حلت الوقيعة بالجميع أصبح عسيرا مجرد إغلاق جفني العينين ... والنوم.
صحيح أن ذات الهمة تحاول ذلك فتخلد مكومة أكداس الوسائد فوق رأسها، وتكبسها بذراعيها الاثنتين، لكن ما إن يحدث وتنام حتى تعاودها كوابيسه كمثل حصار يكتم كل نفس.
حصار تجد فيه نفسها مهددة بالحارث وعمها ظالم، وطابور طويل من الأشباح لا ملمح لهم من الحاقدين والمتآمرين والمتسلطين والشامتين وموقعي الفتن.
ناهيك عن الأعداء الذين أذلت هاماتهم، وفتحت ثغورهم وموانئهم ومدنهم الحصينة مواصلة تقدمها إلى عاصمة الخلافة، لتعلو بواباتها وحصونها، وكان آخر هذه الأحلام دك أسوار هذا الحصن الحصين لآخر معاقل جند الأروام، واقتحامه بجنودها وكتائبها الخاصة، والوصول إلى غريمتها التي صمدت لها سنوات، والتي عمت شهرتها المشرق قبل المغرب حول قيادتها لجند الأعداء، ووضع الخطط لقطع الماء على جند المسلمين، وإيقاعهم في أسرها، وسبيها الآلاف منهم، إلى أن تمكنت ذات الهمة من التقدم وإلحاق الهزيمة بجنود الأروام، وتحرير أسرى العرب، ومحاصرة قصر أميرتهم وقائدة جندهم «باغة» ابنة الملك ليون الأيزوري - أو «لاوون» - لحين إخضاعه وإسقاطه، والوصول إليها ومنازلتها في الميدان وجها لوجه، إلى أن تمكنت منها فجزت بحسامها رأسها عن جسدها، وقيام عمها ظالم بحمل الرأس ضمن الكنوز المسبية إلى عاصمة الخلافة، استنفارا للهمم، وحلول اليوم الموعود بالوصول إلى أصل الداء والعدوان والتربص؛ أي القسطنطينية - العاصمة - ذاتها، لدك أسوارها، وفض عدوانها المبيت منذ عهد جدها الأول الصحصاح ومن سبقوه من جدود وأسلاف.
وبدا الأمر لذات الهمة فيما سبق شهور وضعها أقرب إلى حلم نبيل، أصبح الآن وبعدما حدث بعيد المنال والحدوث.
فأين هي الآن من الحرب والقسطنطينية؟ إن حربها التي فرضت عليها فرضا وقسرا أصبحت هنا داخل قصرها ... وأقرب إلى مخدعها.
كيف يتسنى لها بعدما حدث إعادة الصحوة وشحذ الهمم للجهاد وصولا إلى الهدف المرتقب ... القسطنطينية، التي لن تقر للجميع عين طالما ظلت تبعث بجيوشها المدججة الموجة إثر الموجة إلى عاصمة الخلافة ذاتها، وحرقها بمن فيها أحياء؟
أين هي الآن من الحلم القديم الذي خبا؟
يكفي ما عانته وما سيستجد عليها من كوارث المولود الجديد، الذي أضفى شرعية ما بعدها شرعية على زواجها من ابن عمها الحارث ... أضفى كل شرعية حتى على أحقية اغتصابها، وتقويض هامتها بين الجميع، الأهل ... قبل الأعداء.
تسندت الأميرة ذات الهمة في إعياء وهي تمد ذراعها إلى آخره، جاذبة كومة التقارير والمعلومات التي جمعها البصاصون والعيارون من داخل المدن الرومية، وخاصة القسطنطينية، حول الاستعدادات الأخيرة التي تفجرت مطالبة بجمع الصفوف وحشد الهمم انتقاما لمقتل أميرتهم «باغة».
وبدت ذات الهمة كالمشدوهة، بل هي غابت بالفعل عن كامل وعيها وهي تعيد قراءة أحد هذه التقارير التي وصلتها من داخل عاصمة الأروام، وبالتحديد من أهم مراكز صنع القرار، وهو قصر الملك لاوون وليون الأيزوري، وفيه يذكر التقرير بوضوح أن الروم الأعداء على معرفة يقينية بما يحدث ويجري لذات الهمة وما أصبحت تعانيه، كما أنهم على معرفة بدور الانقسامات العربية التي وقعت بين الجيوش والقبائل العربية.
أعادت ذات الهمة قراءة التقرير الذي امتلأ وفاض بصنوف الشائعات المغرضة، التي بالغ في إطلاقها الأعداء، إلى حد تصويرها جريحة طريحة الفراش تعاني سكرات الموت المحقق، نتيجة لتعرضها لمحاولة اغتيال من جانب عمها الأمير ظالم وولده. - الموت!
بل والأكثر إيلاما إلى حد الحسرة أن من بين الشائعات، التي أثارها الأعداء وتناقلوها فيما بين عاصمة وأخرى حول ما حل بذات الهمة على مدى السنة الأخيرة من القتال، شائعة تقول: إن ذات الهمة قد خبا نجمها، وإن عمها ظالما ومعه بعض الفيالق والقبائل الحليفة تمكنوا من النيل منها لدى خليفة المسلمين، إلى حد استصدار أمر بتنحيتها عن رأس القيادة للجيش العربي.
تساءلت وهي تتقلب في فراشها: إلى هذا الحد!
هبت من جديد معيدة قراءة صورة التقرير الذي ذيل بتوقيع مزيف لأمير المؤمنين الخليفة المهدي في بغداد، والذي وجه إلى أمير الحملة عبد الله بن علي موليا إياه القيادة العامة بعد تنحية ذات الهمة «التي تعاظم شأنها، وقويت شوكتها في السنوات الأخيرة.»
وهنا خفت حدة غضب واندهاش ذات الهمة إلى حد التهكم الأليم، من الكيفية التي يختلق بها الأروام الأعداء أكاذيبهم وتلفيقهم إلى حد إعادة تصديقها، وإتاحة أقصى درجات انتشارها على طول العواصم الأوروبية المتربصة بالعدوان للعرب: يا له من غل!
وحين وصل صراخ الوليد عبد الوهاب إلى أذني ذات الهمة قطع عليها حبل أفكارها، فبدت وكما لو كانت تنصت إلى أصل الداء ومكمنه، وهنا لم تجد لها مهربا سوى الاسترسال في النوم والاستسلام لسلطانه.
عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة
عندما هبت ذات الهمة من نومها مندفعة جالسة في منتصف فراشها، عقب إغفاءة ولادتها المتعثرة لابنها عبد الوهاب، كمن قررت أمرا خاطفا أصرت عليه، هزت من فورها جرسا معلقا بالفراش بالقرب من
فتح الباب في حذر، وأطلت منه الجواري والوصيفات المستطلعة لما بها، فأشارت لهن بالابتعاد: اتركنني وحدي.
اندفعت الرباب داخلة محتضنة عبد الوهاب بكلتا ذراعيها، بعد أن غسلته وألبسته، متقدمة في حبور من فراش ذات الهمة، التي فتحت ذراعيها لتتلقفه متأملة: يا ربي ... أسمر اللون.
وكانت تلك هي اللحظة الأولى التي صفا فيها بالها لتتأمل غلامها في حنو، وهو إحساس لم تكن لتعرفه أبدا ذات الهمة التي ولدت على الحرب والسبي وحياة الكر والفر والغزو.
هزت رأسها موافقة جاريتها الرباب على أن الخيرة فيما اختاره الله حقا: أبيض أو أسود.
كان وجه الغلام عذبا يفيض سماحة وهو يفتح عينيه في ثبات متأملا وجه أمه وكأنه يقرأ عن يقين ما يعتمل في أعماقها بفراسته المبكرة.
قبلته ذات الهمة وأرقدته إلى جانبها في حرص، ونزلت عن فراشها متجهة إلى حمامها الملحق بمخدعها وهي تئن قليلا في إعياء كظيم.
وحين عادت أمرت الرباب بصرف جميع الفتيات حازمة أمرها على الانفراد وإعمال التفكير المضني؛ بحثا عن أقرب الحلول وأسلمها وأبلغها بالنسبة إلى الوليد عبد الوهاب.
ولم يكن أمامها سوى مسلكين، فإما أن تواجه الجميع متحدية، معلنة وضعها لوليدها عبد الوهاب من الحارث بعلها وابن عمها، وفي مثل هذه الحالة عليها أن تتقبله كزوج ورجل، حتى بعدما اقترفت يداه من عمل خسيس متلصص لا يليق أبدا برجل وفارس، وإما أن تواصل طريق معاداته على ما اقترف، وترصد لحظة الانتقام منه وما أيسرها في حالة ذات الهمة ويدها الطولى، التي لا بد وأن تصل إليه أينما كان، وتحت أي سماء، لتشفي غليلها منه، بل ومن أبيه عمها ظالم ذاته.
وفي الحالة الثانية، عليها تقبل نزع عبد الوهاب ابنها لتدفع به إلى المرضعات ليربى في الخفاء بعيدا عن كل العيون حتى عينيها هي أمه.
وحين استراحت قليلا إلى تلك الفكرة التي أعياها البحث عنها طويلا، تنفست شهيق الراحة بعد طول عناء، ذاكرة لنفسها أن عليها تقبل الرضاء بما حدث، فما الذي ينبغي فعله وقد وقع المكتوب بالأسلوب العاتي المشحون بكل روائح الغدر والجبن والخيانة من جانب ذلك المأزق؛ ابن عمها الحارث: ماذا أفعل؟
لا مهرب لذات الهمة سوى تقبل ما حل عليها من مصاب، ليضاعف ما بها من أعباء جسام تهد أعتى الجبال هدا؛ أن تجد نفسها يوما - ووسط أجيج تلك الحرب المستعرة الجرارة الضاربة - طريحة الفراش حاملا تعاني من ذلك آلام ولادتها على مدى تسعة شهور، كمثل تسعة قرون بتمامها، وحتى عندما يقدر لها وضع مولودها الأول عبد الوهاب مثل كل النساء لا تقدر على إشهاره وحمايته بين صدرها وجوارحها ككل الأمهات.
ومن هنا، فلا مهرب ومرفأ آمنا سوى تقبل هذا الحل الأقرب، وهو أن ينزع طفلها الأول من بين ذراعيها وصدرها ليربى في الخفاء كمثل اليتيم.
وربما كان ذلك الخفاء البعيد هو سهول الحجاز أو نجد أو فلسطين، ودون أن يقدر لها رؤيته ومشاهدة نموه حين يحبو وحين ينطق أولى كلماته ورغباته: ماما.
وحين ألقت ذات الهمة نظرة حانية عابرة على وجه الغلام، عادت فتنفست زافرة عن راحة، متذكرة ما عانته أمهات مثلها قبل.
تذكرت أم النبي موسى حين ألقت وحيدها في أعماق اليم، وتذكرت أم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
آمنة بنت وهب حين دفعت بوليدها إلى مرضعته حليمة، وتذكرت أم عنترة العبسي، وأم الهلالي أبي زيد، وأم إبراهيم الخليل وغيرهن.
وحين أشارت ذات الهمة إلى مربيتها الرباب اقتربت منها على استحياء، وجاهدت في الحديث إليها همسا وصوتها لا يخلو من مرارة، وهي التي لم تعتد الهمس أبدا من قبل، وخصوصا مع جاريتها ومربيتها الرباب: ماذا أفعل؟
إن كلا المسلكين يدميانها إلى حد المرارة التي أصبحت تتجرعها في فمها الجاف كعود الخشب في الأشهر الأخيرة.
وكانت الرباب أقدر النساء على تفهم شخصية ذات الهمة أو «فطوطة» كما كانت تدللها منذ المهد.
تمتمت الرباب: لك ما ترينه يا فاطمة ... ولا داعي للعجلة.
لكم ترددت الدلهمة طويلا أمام معضلة الاختيار في مواجهة أعدائها وتوقيت منازلتهم، ما بين رومان وجرمان وساكسون وكلت وغاليين وبلغار وإسبان وقبارصة، وكل ملل الأرض، إلى حين تحين القرار الصائب واتخاذه في النهاية.
لكنها - وعلى هذا الفراش - تعجز عن اتخاذ قرارها، الذي على ضوئه وهداه تواصل مسيرتها التي انقطعت عنها، إلى حد أن أصبح الوضع على الجبهة ينذر بكل الأخطار.
وها هي تقارير ومحصلة ما توصل إليه البصاصون والعيارون، وبعثوا به إليها من داخل أسوار القسطنطينية، وبقية عواصم الروم من إسبانيا والبندقية وروما وأثينا وصقلية وقرطاج وفرنسا وبلاد الغال.
ها هي المحصلة التي لم تعد تقوى على إعادة تلقي حقائقها الصادمة العسيرة، وهي المسئولة في الأول والآخر عن أمن وأرواح ملايين العرب المسلمين في كل بقاع وكيانات الشرق.
ها هي محصلة تقارير البصاصين التي تنذر بكل الأخطار، التي تراوح ما بين حشود بحرية رابضة عبر البحر الغامض المحاصر، وحشود برية على الأطراف الجنوبية لبلاد الغال، وما بين أسلحة جديدة أصبحت تدفع بها ترساناتهم ليعاد تصويبها إلى الصدور العربية دون أدنى رحمة.
كل هذا والقائد المحارب ذات الهمة طريحة آلام المخاض ... ومضت تنهش خصلات شعرها محتدة: ماذا أفعل؟
صرخت هذه المرة وهي تشد خصلات شعرها بكل عنف؛ مما دفع بالغلام إلى مواصلة الصراخ.
وحين طرقت إحدى الجاريات الباب استئذانا بتقديم الرسائل العاجلة إلى ذات الهمة، لم يسمح لها بالدخول، وهي التي كانت تتعجل رسائل الجبهة واقفة على قدميها، ولو كانت في سابع أطوار نومها: رسائل الجبهة ... أية جبهة؟
قالت متندمة وهي تزم رأسها بشال، ثم تابعت تقول: أية جبهة؟ الجبهة هنا، فرضت علي هنا قسرا ودون سابق إنذار.
عانت ذات الهمة طويلا، الشهور إثر الأيام إلى أن نما جنين قرارها بتكتم أخبار حدث وضعها، وآثرت تربية عبد الوهاب مودعة إياه لدى إحدى القابلات، وكانت المرأة تحضره لها ما بين أسبوع إلى آخر لتراه وتضاحكه كأم، لتعود به آخر الليل إلى مضاربها.
واستراحت ذات الهمة كمن وجد أخيرا صديقا حميما تستأنس إليه، وكانت كلما جيء به إليها
وبدا عبد الوهاب كمن يدرك أبعاد ما بها إلى درجة كانت تربكها وتثير العجب في نفسها.
وكانت كلما استعانت بالرباب لتفهم لغز عبد الوهاب، وهي مربيتها وأمها في الرضاعة، مشيرة إلى طفولتها هي قائلة: إنه ابنك يا فاطمة. - إلى هذا الحد يا رباب؟ - وأكثر ... غدا ترين.
وصبرت ذات الهمة على تربية الغلام بعيدا عن دفء صدرها، إلى أن اشتد ساعده وأصبح قادرا على الخطو والنطق، وأمره ما زال مختفيا عن كل عين حتى عن أبيها مظلوم نفسه، الذي فوجئت به عقب عودتهم إلى مالطة يفاتحها عن الغلام متسللا حذرا طيعا كعادته.
وبدا لها أنه على دراية بتفاصيل قصة إنجابها، بل واسم الغلام: «عبد الوهاب».
وزاد من فداحة الأمر الذي ألهب مشاعر ذات الهمة ما أخبرها به والدها، من أن ابن عمها ظالم يطالب بأحقيته في رؤية الغلام وتأمله؛ لكي تقر له عين.
وكأن انقلابا كونيا قد حدث للعالم، كأن تشرق شمس الصباح حين ينبغي أن تغرب، ذلك أن ذات
ستسيل الدم الواحد أنهارا في تلك الغربة التي يبدو أنها لن تقصر بحال في يوم من الأيام.
وهنا قام إليها الأب محتضنا، مهدئا، واعدا بإصلاح الوضع برمته بين أخيه وابنته.
وعلى هذا النحو الدامي وجد والدها الأمير مظلوم نفسه نهبا للطرفين المتخاصمين، ابنته وأخيه في الصراع حول عبد الوهاب الذي وجد له مكانا حانيا في قلبه، منذ أن وقعت عيناه عليه في ثباته ويقظته، ورؤية ذلك الذكاء المتوقد المشع من عينيه السوداوين المفصحتين، فبدأ يصحبه
بل إن الأب الطيب مظلوما رأى في الغلام الحصيف رابطة دم جديدة تضاف بينه وبين أخيه، وليس العكس، وكان كثيرا ما يمسك عن الإفاضة لأخيه بمآثر عبد الوهاب التي صاحبت مولده وصباه المبكر.
أما ظالم فكان يجد في صفاء قلب أخيه منفذا، مؤكدا على أن رغبته في رؤية الغلام ما هي إلا رغبة جد تجاه حفيده، فهو أرفع وأعز الولد.
بل إن الأمير ظالما تمكن بنعومة حديثه والإعراب دوما عن رغبته في رؤية حفيده من استمالة قلوب الجميع وعطفهم، حتى أمير الحملة ذاتها المعين من قبل أمير المؤمنين عبد الله بن سليم، الذي له دالة كبيرة ومنزلة عميقة لدى ذات الهمة، فوعد بالتدخل لجمع الشمل، خاصة وقد أوشكت الهدنة على الانتهاء بين العرب وبين التحالف الرومي، الذي بدأت فلوله تتسرب وتواصل تحرشها وتقدمها باتجاه مواقع المسلمين.
وهذا هو الأمر الذي نبهت له مرارا ذات الهمة بمبادرة الهجوم والجهاد كأفضل وسيلة للدفاع.
ولكن كيف الطريق إلى التفاف الجميع حول هذا الرأي والخلاف يدب بين الأشقاء، منذرا بحرب داخلية بين أعضاء الجسد الواحد؟
وحين حاول الأمير عبد الله بن سليم إيضاح الأمر لذات الهمة، ولو من مدخل ما هم مقبلون عليه من أخطار وهجوم لرد الأعداء، واصلت رفضها بحدة لم يشهدها قبل، وهو الذي زارها محملا بالهدايا النفيسة لعبد الوهاب، بالإضافة إلى ما وصله من هدايا أمير المؤمنين الخليفة المهدي والأمراء.
إلا أن ذات الهمة لم تجد حجة تسوقها في طرح قضية عبد الوهاب على حكماء عرب الحجاز ومكة، والاستشهاد بصائب مشورتهم في التحكيم بينها وبين عمها ظالم وابنه الحارث.
لكنها نجحت في تأجيل المهمة إلى حين الانتهاء من الاستعداد والخروج لصد الأعداء.
وحينئذ سيجد الجميع متسعا لطرح القضية من مجمل جوانبها وزواياها، بدءا بالزواج الذي فرض عليها وغير مجرى حياتها بكامله كمحاربة تتصدى لقيادة رجال، وهي المرأة التي انشغلت بالجهاد والدفاع عن ثغور المسلمين، وانتهاء بخديعة الحارث واستهتاره في ظروف حرب كبيرة مندلعة حتى مولد عبد الوهاب.
بل إن الأميرة ذات الهمة وجدت الفرصة سانحة لتعريف الممثل الشخصي لأمير المؤمنين، عبد الله بن سليم، على مدى الأضرار الجسيمة التي لحقت بالصفوف العربية في مواجهة الأعداء الأروام نتيجة لفعلة ابن عمها.
لذا آثرت ذات الهمة الاجتماع السري الانفرادي بأمير الحملة في قصرها، فتقبل عبد الله بن سليم دعوتها شاكرا، وهو الذي يذكر لها مدى الدهر إنقاذها لابنه الوحيد، حين وقع وكتيبته بكاملها أسرى في أيدي الأعداء لحين تمكنت ذات الهمة من فك أسره والانتقام له.
وفي اليوم المحدد لاجتماعهما الثنائي السري، أحضرت ذات الهمة في حوزتها محصلة التقارير والوثائق التي جمعها بصاصوها وعياروها من داخل عواصم القسطنطينية، والمتصلة بالشائعات والتقولات التي وصلت مسامع الأعداء وعيونهم، فاتخذوها وسيلة للنيل منها ومن شرفها.
بل إن الأكثر مرارة هو مدى استفادة الأعداء من ذلك التمزق والتصدع الذي اعترى الجبهة العربية، وتعرضها مرات ثلاثا للاغتيال داخل حصنها، مرة بالسم الزعاف، وأخرى بالسيوف والخناجر، وثالثة بإيعاز كاذب من أمير المؤمنين؛ مما جعل أمير الحملة عبد الله بن سليم يستبشع الأمر، إلى حد إعادة قراءة التقرير الخاص بتلك الفاجعة الأخيرة بضع مرات متسائلا: إلى هذا الحد!
غمغمت ذات الهمة في أسى: وأكثر من هذا يا أمير.
قال عبد الله بن سليم: إلى هذا الحد الدنيء تسمم جميع الآبار؟
زفرت ذات الهمة: إنهم يسممون حتى الهواء الطائر الذي نتنفسه.
وعادت فأردفت: وكما ترى يا أمير، نحن الذين نهبهم بخلافاتنا أسلحة التسمم، وزرع بذور الغدر بين الأشقاء.
هنا قاربها الأمير عبد الله بن سليم مثبتا عينيه الصغيرتين في عينيها، موقنا مما تعنيه، إلا أن ذات الهمة آثرت عدم الإفصاح عن الدور المدمر الذي أصبح يلعبه عمها ظالم وابنه الحارث.
ولم يتمالك أمير الحملة نفسه وهو يسترجع معلوماته عن مدى تعاظم قوة عمها الأمير ظالم وابنه وفيالقهما وتحالفهما مع وزير أمير المؤمنين المقرب «عقبة»، والنظر إلى الحرب والجهاد باعتبارهما مصدرا للنفوذ والاستحواذ على الأسلاب، من عروش وغالي الجوهر والثراء، ودون أدنى اعتبار للأخطار المحيطة التي ستؤدي إلى هزيمة وإذلال العرب والمسلمين.
ورغم معرفة عبد الله بن سليم بتفاصيل تلك المخازي وقنواتها المستشرية كمثل سوس ضارب ينخر في أعماق خشب الزان، إلا أنه آثر بحكمته إعادة جمع الشمل مهدئا من روع ذات الهمة وأحزانها الآسية الدفينة.
وحين اجتمع الأمير عبد الله بن سليم بعمها ظالم لإبلاغه بما اتفق عليه مع ذات الهمة، وافق على مضض على تقديم أولويات الحرب والجهاد، إلى أن يحين موعد إعادة مناقشة قضية عبد الوهاب، مع ضرورة العودة به إلى مقر الخلافة وعرب الحجاز ونجد، وزيارة قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
عبد الوهاب يبدأ جهاده!
ما إن ودع أمير الجيوش المعين من قبل أمير المؤمنين عبد الله بن سليم ذات الهمة، وتحرك ركبه عائدا إلى مضاربه آخر الليل البهيم عبر شوارع مالطة القليلة الحركة في ذلك الوقت المتأخر، حتى أحاطت به الهواجس بسبب تلك المعلومات والتقارير الصارمة التي أطلعته عليها ذات الهمة - وهي التقارير والمعلومات التي يجمعها لها عيونها وبصاصوها من داخل أروقة الأعداء، ومنها بالطبع ما هو حقيقي، ومنها ما يزخر بالادعاءات والتلفيقات التي أشاعها الأعداء وصدقوها؛ مثل محاولة تعرضها للاغتيال مرات ثلاثا.
غمغم الأمير وهو يترجل عن ظهر فرسته سحاب متعبا: أماني ... أوهام.
وحين انفرد بنفسه داخل مخدعه معاودا التفكير في قضية الخلاف الكبير بينها وبين عمها ظالم وابنه الحارث؛ بسبب إنجابها لعبد الوهاب، قرر من فوره الكتابة إلى الخليفة المهدي ذاته، وإطلاعه على جلية ذلك الانقسام المهدد للعرب والأعداء يدقون في صلف كل الأبواب.
قال لنفسه وهو يخلع عنه عباءته استعدادا للنوم: لعل خليفة المسلمين أقدر بحكمته وصائب بصيرته على استشفاف الخطر المحدق بسبب الانشقاق العربي، كما أنه الأقدر على ردع الأمير ظالم وفيالقه، وإعطاء الأولوية للجهاد أولا وأخيرا.
ولم تتوقف جهود عبد الله بن سليم عند مجرد إعلام الخليفة بتفاصيل وأعماق الانشقاق الحادث، بل اجتمع في اليوم التالي مباشرة بالأمير ظالم وابنه، وتمكن بعد بذل الكثير من الجهد المضني من تبصيرهما بالخطر الذي لن ينجو منه أحد هذه المرة؛ فها هو الحصار البحري الذي تمكن البيزنطيون من فرضه على طول الشواطئ والمدن البحرية مشرقا ومغربا، مما نتج عنه شل حركة الجيش العربي وقطع الطريق أمامه لتحقيق أي تقدم باتجاه العاصمة القسطنطينية.
وحين دفع عبد الله بن سليم بالرسالة الشخصية التي تلقاها من أمير المؤمنين إلى الأمير ظالم، امتثل من فوره لإعطاء الأولوية القصوى لإعلان حالة التأهب للقتال، الذي بدأ عسيرا مجهدا لجيش المسلمين، والذي امتد ضاريا وطال أمده بسبب تولي الملك لاوون - أو ليون الأيزوري - بنفسه قيادة التحالف البيزنطي، والذي كان قد آلمه إلى حد الجنون مقتل ابنته الأميرة «باغة »، التي كان يعدها لوراثة إمبراطوريته.
أما قيادة التحالف العربي فتولتها بالطبع الأميرة ذات الهمة، التي عادت إلى ساحات الجهاد والقتال أكثر وحشية وتوثبا مما كانت.
وحارب عمها ظالم وابنه الحارث بفيالقهما تحت راياتها، أملا في تحقيق نصر يتيح إعادة طرح قضية عبد الوهاب، الذي وصل تجبر ذات الهمة إلى حد حرمانهما منه كحفيد وابن شرعي بشهادة كبار القوم.
وكما لو أن ذات الهمة بدورها قد تعمدت إطالة أطوار تلك الحرب المستعرة، هربا من المشاكل ومن مختلف صنوف الادعاءات والفتن التي أثارها في طريقها عمها ظالم وابنه الحارث، اللذان أشعلا لهيب حرب خفية من خلف ظهرها المكشوف لهما، لا يخفت لها نيران، ولم تعد أحقادهما خافية على أحد حتى الأعداء وعيونهم وبصاصيهم.
وكانت كلما وصلتها تدبيراتهما وتقولاتهما عليها وعلى ابنها عبد الوهاب، حل بها الوهن، واعتراها الاكفهرار، الذي لم تفلح في إحداثه أسلحة أعتى أعدائها على طول البحر الفسيح الغامض الفاصل بينهما.
فكانت مؤامراتهما وتقولاتهما تصل أذنيها كمثل حد السكين، لتتساءل بينها وبين نفسها في مرارة: هكذا على النحو الملفق الدامي ... وهل هذا وقته وأوانه؟ ... وعلى مرأى ومسمع ممن؟ الأعداء، حشود القتلة المتربصين من كل صوب، ماذا أقول؟
كانت ذات الهمة تنهش جلد وجهها وشعرها صارخة دون صوت: لعل الأعداء وحشودهم ... أكثر رحمة.
بل إن الأكثر مرارة هو استثمار الأعداء أنفسهم لمسار واتجاهات الصراع بين ذات الهمة من جانب، وعمها وابنه الحارث من الجانب المقابل، ورأوا في مثل تلك الوقيعة العائلية أو القبلية مادة خصبة لتعميق أبعادها وأغوارها، وما تفضي إليه - بالضرورة - من انشقاقات منها وعبرها تنفذ فلولهم المخربة.
بل إن وفودهم وسفراءهم تكاثروا على مخيمات وفيالق عمها وابنه، لا ينقطع لهم تواصل باتجاه تعميق أبعاد الجروح الدامية الغائرة، ونشر الفتن والتقولات ومختلف صنوف التآمر.
ومن هنا توزع القتال على أكثر من جبهة؛ مما أطال من عمر الحرب، وشدد من عزم تحالف الأعداء، وأوهن من ساعد الدلهمة وفيالقها المحاربة.
فاستحالت في أيامها الأخيرة إلى شبح عظمي يفيض بالعصبية والسخط على كل ما يحدث ويجري، وما تخلفه الأيام والليالي على كاهلها، فحتى ابنها البكر أصبحت لا تقوى على رؤيته، ولو لتعيد إلى النفس بعض صفائها كأي أم بدوية، ولتبثه أحزانها وأشجانها الدفينة حين تبكي معه على وسادتهما الواحدة.
لكنها ها هي تعيش وحدتها القاتلة محاطة بأخبار ما يتواتر إليها كل يوم من تلفيقات، تؤدي نتائجها بأجساد الآلاف المؤلفة من جند المسلمين وبسطاء الناس العاديين الذين لا حول لهم ولا قوة فيما يحدث من حرب قارية تجري برا وبحرا، وتمتد رحاها على طول الأرض والبحر، بدءا من بلاد الرافدين؛ حيث مقر الخلافة، حتى مالطة وعمورية والأندلس وتخوم القسطنطينية عاصمة تحالف الأروام البيزنطيين.
حرب ضروس أنهكت الأجيال إثر الأجيال منذ جدها الصحصاح حتى اليوم وغدا، وفيها وعبرها تستخدم كل أسلحة الفتك والدمار التي يجريها الأعداء من الإفرنج في الأجساد العربية وجسدها هي ذاته، الذي أصبح في الأيام الأخيرة واهنا مغطى بمختلف الكدمات والخدوش والجراح الغائرة.
وليت أسلحة الأعداء هذه المرة اقتصرت على المتعارف عليه، بل هم تمرسوا وتفننوا في التوصل إلى مختلف أسلحة الفتك والدمار التي كانت تعصف عصفا بسفن المسلمين وصفوفهم ومضاربهم؛ حيث لم يعد ينفع أمامها لا سيف ولا مقلاع ولا منجنيق.
أسلحة جديدة للحصد الجماعي، توصل إليها الأعداء وأتقنوا استعمالها وتجريبها في الأجساد العربية، لتمزقها أشلاء إثر أشلاء على مرأى من ذات الهمة وأركان قيادتها، ومنهم الأمير عبد الله بن سليم الذي لم يملك سوى الكتابة بتفاصيل ما يحدث من إجهاد للمسلمين لأمير المؤمنين، وشيوخ عرب الجزيرة، مستنجدا بالكتائب الإسلامية الجديدة التي تصل إلى ساحات المعارك لتعاود نيران الأعداء الإغريقية حصدهم أفواجا إثر أفواج.
ولم يجد الأمير بصائب تبصره نتيجة للتغير الذي حدث داخل الدلهمة عقب الأحداث الأخيرة، وما عصف بسمعتها وولادتها لعبد الوهاب مهربا سوى مفاتحتها بالأمر، والوقوف منها على أسباب اندحار جيش المسلمين على هذا النحو، الذي أصبح لا ينبئ أبدا ولا يشير إلى أي انتصار، أو حتى مخرج للقوات العربية.
بل إن القوات البحرية البيزنطية المطبقة على جزيرتهم لا تترك لهم منفذا، تساندها فيالق وإمدادات بلاد الغال التي لا ينقطع لها تواصل، والتي تعالت دون استمرار الصمود العربي شهرا بعد شهر، وأسبوعا إثر آخر.
يضاف إلى ذلك الهجوم الانتقامي الذي تصدر قيادته الملك ليون الأيزوري بنفسه، معلنا في كل يوم تحديه للعرب وكل قيادات المشرق، والذي كان يجيء مدججا بالجديد من أسلحة الفتك التي قوامها النيران المستعرة، والانفجارات التي كانت تصل إلى معسكراتهم ليل نهار وكأن السماء تسقط حممها على رءوس جند المسلمين.
كان ذلك الخطر المطوق للفيالق والكتائب العربية لم يوقف لهيب الفتن والمؤامرات الداخلية، من جانب الأمير ظالم وابنه ضد ذات الهمة ووليدها عبد الوهاب، على هذا النحو جاء تفكير أمير أمراء الحملة عبد الله بن سليم في كيفية الوصول إلى أيسر الطرق لرأب الصدع، قبل استفحال الأمر وتزايد الخطر المتربص، ذاكرا لذات الهمة حين انتقل إلى مضاربها أن الجميع هنا يستقلون موكبا موحدا تحت راياتها التي لم يسبق لها العودة منتكسة، وتساءل: ماذا حدث؟
وكانت زيارة أمير أمراء الحرب لمضاربها ومكاشفتها أقرب إلى البلسم الشافي، ذلك أن ذات الهمة طمأنت الأمير بأن الحرب ما هي سوى عطاء وأخذ، وأنهم الآن - أي المسلمين - في مرحلة العطاء الذي أعقب الهدنة الطويلة، تمهيدا للوثوب والحصد.
وأخبرته ذات الهمة بأهمية إعادة صياغة صفوف جند المسلمين، كما أخبرته بأنها بانتظار رسلها وعيونها الذين دفعتهم إلى التسلل إلى القسطنطينية وصفوف الأعداء، وسلب وتهريب ما توصلوا إليه من أسلحتهم التي ستعود يوما إلى نحورهم، بإذن الله.
وحين أخبرها مواربة عن تقولات الأعداء عليها، وتربصهم للحظة سياقتها للسبي مثلها مثل سالفتها «الزباء»، ضحكت ذات الهمة طويلا في مرارة معلمة الأمير أن هذا هو تمني الأهل قبل الأعداء.
وكانت تعني بالأهل طبعا عمها ظالما وابنه الحارث، وحلفاءهما الجدد من كبار الوزراء المقربين لدى الخليفة؛ مثل: عقبة بن مصعب، والفضل بن الربيع، الذين أصبحوا أقرب إلى الجسد الواحد والحليف الواحد.
كما أخبرته أن الأيام والليالي حبالى وستلد، ومن يعش يسمع ويرى.
وتركها أمير الحملة عائدا إلى مضاربه، مهموما لهمومها التي مداها حصد رءوس جند أمير المؤمنين.
فالجبهة مضطربة ينقصها التماسك، والأعداء يأسرون وينكلون بالمسلمين الذين يعلو تحديهم لذات الهمة، وللخليفة ذاته في بغداد.
أما ذات الهمة فكانت على ما هي عليه من أسى يقطر بالمرارة، وهي التي تتصدى للحرب على جبهتين: في الخلف والأمام.
ولم يجد الأمير بدا من معاودة زيارتها وتقصي الأمر معها، حتى إنه استقدم معه ذات مرة ابنها عبد الوهاب ليربى مع أبنائه في مضاربه؛ تشفعا لتفرغها للعدو وأساليبه، وترك أمر عمها ومن في فلكهما له، فهو كفيل بقطع كل لسان يلغو من خلفها، وقال لها مطالبا بالدفاع عن حرمات المسلمين وأبنائهم، ومن ضمنهم طبعا عبد الوهاب وكل أطفال العرب. •••
كان الصبي قد اشتد ساعده، كما انتقلت تربيته وإعداده كفارس إلى مضارب أمير أمراء الحملة، ليتدرب مع ولده عمر على يد أمهر معلمي الفروسية في عصره «داود بن محمد النجار»، مؤلف كتاب الفروسية العربية، الذي شهد له منذ نعومة أظافره بالنبوغ والتفوق.
حتى إن الأمير عبد الله وهب له ابن فرسته السوداء الأصيلة «سحاب».
وتمكن الأمير عبد الله هذه المرة من أن يدخل السرور والتفاؤل إلى ذات الهمة بإحضاره عبد الوهاب لزيارتها ذات مساء.
وبدا عبد الوهاب حقا رزينا مجللا بحكمة الكبار حين ترجل عن فرسه بن الفرسة «سحاب» محتضنا أمه، طالبا منها في توسل البقاء إلى جانبها في الجهاد وهو بعد صبي صغير.
وفرحت الأميرة ذات الهمة إلى حد الاستبشار حين أبدى عبد الوهاب رغبته في الإلمام بأساليب ما استحدثه الأعداء في هذه الحرب من مفرقعات نارية وأسلحة كيميائية وغدارات وهكذا.
وبدا على دراية وإلمام كبيرين في انكبابه على فك أسرار وطلاسم ما يستجد من أسلحة المعتدين الطامعين، مما دفع بذات الهمة إلى إطلاعه على آخر ما عاد به عياروها وجواسيسها من أسلحة، عالجها عبد الوهاب وكأنه على معرفة يقينية بها، وانشغل بأسرارها طويلا تحت رعاية خبراء ذات الهمة، مما لفت إليه الأنظار منذ الصغر، وتواتر صيته حتى إلى آذان المهدي في بغداد.
وكما لو أن عبد الوهاب - وهو سبب ما حل عليها من كوارث - قد أعاد إليها سكينتها، فأصبحت لا تطيق فراقه حتى في مقدمة الصدام وموقع الرأس من جيش المسلمين، وتحققت بعد طول اندحار بوادر نصر متوثب زاحف دفع بصفوف جند التحالف الرومي البيزنطي إلى التقهقر، وإعادة الإلحاح على طلب المهادنة.
هنا ضحكت ذات الهمة: هدنة ... لن تكتحل بها عيونهم بعد اليوم، بل هي عارضت بكل قواها تقبل نوايا الروم، وكتبت إلى الخليفة في هذا مرارا مصرة على مواصلة الحرب السجال، بما لا يتيح لأعدائهم فرصة الخلود لمعاودة التفكير في إدخال تحسينات جديدة على أسلحتهم، التي أبلت ذات الهمة في اقتناصها من أيديهم بالحيلة التي أبدى براعة في رسم خططها وتنفيذها عيار شاب لا يعدو عمره عمر ابنها عبد الوهاب، ويجيد الكلام بمختلف لغات الأعداء وتقمص شخصياتهم «وصبغ حاله سبع صبغات»، ويدعى أبا محمد البطل، والذي حرف اسمه من قبلهم - أي الأعداء - إلى «البطال».
كما نجحت أيضا في الاستيلاء على هذه الأسلحة عنوة من أيديهم كأسرى وسبايا ومختطفين.
وعلى هذا النحو تحدت الأميرة ذات الهمة عمها ظالما والجميع في طلب الهدنة استجابة لمطلب الأعداء، الذين أصبح لا هم لهم سوى التفنن في اختراع مختلف أسلحة الفتك، التي لا مجال فيها لأية فروسية أو شرف أو رحمة.
فجميع أسلحتهم تجيء مصوبة إلى الظهور بدلا من المواجهة.
بل إن ذات الهمة وجدتها فرصة سانحة من جانب العرب، بعد أن حصلوا على أسلحة أعدائهم، لكي يتجمعوا على شكل كتائب ويتدربوا على استخدامها إلى حين مواجهة أعدائهم ودحرهم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل هي طالبت عيارها الجديد أبا محمد البطل، الذي أصبح ملازما لها كظلها في مقر قيادتها ومضاربها، بأسر مهندسي الروم وخبرائهم والعودة بهم أحياء.
وأسبغت عليهم مجزلة العطاء؛ لينكبوا في معسكرات العرب وورشهم على مواصلة تطوير أساليب الأسلحة الجديدة، وتعليم جيل بأكمله من علماء المسلمين ومهندسيهم وخبرائهم أسرار تلك الصناعة التي أصبحت تجلب للعرب والمسلمين النصر، وكان على رأسهم ابنها عبد الوهاب، الذي تفجر حماسة وبطولة منذ الصغر على وهج نيران المعارك والجهاد الضاري.
الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!
واصلت الأميرة ذات الهمة تقدمها وانتصاراتها بفتح المدن والثغور، يرافقها ابنها الصبي عبد الوهاب، الذي رأت فيه خير سند وصديق تحن إلى مشورته في الكثير من أمورها، وذلك لخبرته بفنون الحرب والقتال التي اكتسبها رغم حداثة سنه.
وكان عبد الوهاب قد أبدى اهتمامه المبكر بذلك، فمهدت له ذات الهمة كل إمكانات تعلم وإتقان أسرارها، فدفعت به إلى علماء ومهندسي الورش العربية وأسرى الحرب من مخترعي جيوش الأروام بأسلحتهم تلك الجديدة، وهم الذين عاد بهم عيارها الشاب أبو محمد البطال، فأصبحوا مصدر قوة لهم ضد الأروام. وبالفعل وجد عبد الوهاب في البطال مبتغاه، نظرا إلى ما يتمتع به البطال من ذكاء متوقد ورغبة جامحة في المغامرة، هدفها إحراز النصر للمسلمين على أعدائهم المتجمعين الطامعين من كل صوب.
خاصة وأن البطال شهد بعينيه كيفية تعذيب الأروام لوالده عند اجتياحهم مضاربهم ذات ليلة، تسللوا فيها خلسة وغدرا من البحر؛ إذ قطعوا رأسه عن جسده أمام عينيه الصغيرتين، ليعودوا به إلى كبرائهم وبطارقتهم مع غيرها من رءوس الشيوخ والأطفال والنساء العربيات.
ولم ينس أيضا كيف جرح هو حين لحقته نيرانهم ومفرقعاتهم النفطية، ومن يومها لم تفارق مخيلته ذكرى جثة أبيه الوادع بلا رأس وأطراف، وبقي متذكرا جرحه الدائم الذي أحرق نصف ساقه، فظل شهورا يكشف عنه بطرف سرواله تحسرا لكل من صادفه.
ومنذ تلك الليلة القاتمة السواد والبطال لا ينسى مدى الأخطار المحيطة به في عالم وحشي لا مكان فيه لمغلوب أو مقهور.
فتفجرت طاقاته في الإلمام بلغات الأعداء ورطاناتهم، وفي تغيير ملامحه، وفي المعرفة بأسلحتهم وخططهم ومسالكهم البحرية، واحتفالاتهم الموسمية وكرنفالاتهم الماجنة، وتجمعاتهم لاحتساء الخمر والسكر؛ ليفقدوا كل وعي وإحساس، فيسهل تصيدهم الواحد إثر الآخر، بل إن ما ساعد البطال حقا على اكتشاف قدراته ومهاراته منذ الصغر، خاصة عقب حادث استشهاد والده وأستاذه الأول «ثعلبة بن الحصين»، الذي سبق له إسداء كل معونة حققت الانتصار لذات الهمة.
وكان الحصين عيارا أو بصاصا خارق الذكاء، واسع المعرفة، ملما بتفاصيل حياة تحالف الأعداء الأروام وخططهم وأسلحتهم ومراكز اتخاذ قراراتهم؛ لذا اعتبرته ذات الهمة مصدرا لا ينقطع عطاؤه من المعلومات الصحيحة؛ نتيجة لكبر سنه وخبراته التي اكتسبها عبر رحلاته وأسفاره التنكرية لعواصمهم ومدنهم، يرصد ويدون كل ما تقع عليه عيناه من تحركات وتحالفات.
تلك الخبرة يسرت له رعاية وتربية جيل بكامله من البصاصين والعيارين وجامعي المعلومات، من أشبال أبناء المحاربين العرب، كان أبرزهم أبو محمد البطال، فكانت الأميرة ذات الهمة تتخذ قراراتها الأخيرة في ضوء ما كان يشير به «ثعلبة بن الحصين»، بل وكثيرا ما لجأت هي ذاتها لتغيير خططها أو تأخير مواعيدها عقب استشارته والاجتماع به تحت أقصى درجات التكتم والسرية.
ولعل أفضل نموذج لجيل ذلك العيار العجوز ثعلبة بن الحصين مكيدته التي أحكم تخطيطها وتنفيذها، فتم لذات الهمة عن طريقها اقتحام آخر حصون وقلاع مالطة التي صمدت أمام الجيش العربي طويلا، وهو الحصن الذي احتمت به الأميرة «باغة».
إذا أوقعت الظروف كتيبة هائلة من جند الأروام العائدة مظفرة إلى الحصن، تقود أمامها كتيبة من أسرى المسلمين، وهنا أشار الحصين بقتل قادة الأروام وارتداء ملابسهم على ذات الهيئة التي كانوا عليها، ومواصلة المسيرة إلى الحصن الذي ما إن انفرجت بواباته منفتحة تهليلا بالنصر، حتى تم لذات الهمة وكتائبها الاستيلاء على الحصن وقلاعه الملحقة، والوصول إلى مخدع الأميرة باغة ومنازلتها وقطع رأسها.
وعلى هذا النحو المخادع شرب العيار الجديد أبو محمد البطال من ذات النهل المتوقد الذكاء؛ من أستاذه ثعلبة بن الحصين، إلى أن تفوق عليه مكرا وحيلة، وهو الذي ولد وشب عن الطوق منذ مطلع صباه في أحياء الأروام، فتعلم منهم أكثر مما تعلم من أبناء جلدته العرب.
وساعده في هذا تكوينه الجسدي الرقيق، وذكاؤه المتوقد كحد النصل، وخفة ظله في الإيماء والتحول وجذب الانتباه والسخرية المضحكة.
ومنذ صباه أبدع البطال في جمع المعلومات المفيدة لذات الهمة، إلى درجة دفعتها إلى احتضان الغلام البطال ، وتعهده بالرعاية، وتيسير سبل إلمامه بلغة الأروام، إلى أن أصبح عينا لها يجوب عواصمهم وموانئهم وبلدانهم دون كلل.
بل إن ذات الهمة تعمدت محادثة ابنها عبد الوهاب عنه، والإشادة به كجني صغير ... خارق.
حتى إذا ما التقاه عبد الوهاب متوثب الحركة كجرذ صغير نبتت على الفور بذور صداقتهما وأينعت، إلى حد حال بينهما وبين الافتراق ليل نهار، وعمل الاثنان كفريق متكامل، فتولى البطال
فقد برع البطال في مهامه، وأولها تصيد أسرى الأروام السكارى وهم يتطلعون إليه أو إلى أتباعه في بلاهة واستكانة من تأثير الخمر، فيقودونهم إلى سفن المسلمين المستترة الرابضة، ولتعود بهم وبأسلحتهم الجديدة في جنح الظلام إلى مضارب المسلمين وهم لا يزالون موغلين في سكرهم.
كما تفنن البطال في استخدام البنج والمساحيق أو الشموع المنومة ليتصيد بها فرائسه في وضح النهار، بعد أن يبدأ الحديث معهم ومداعبتهم بلغاتهم التي أجادها نتيجة معاشرته إياهم، ولم يكتف بذلك، بل توصل إلى معرفة مشكلاتهم، ومحاولته اقتراح الحلول لها، وتقديم هدايا المشرق لهم التي كانت تستهويهم بألوانها وتصميماتها وزخارفها البهيجة الباهرة.
وقد ضمت مجموعة هداياه منسوجات دمشق ومصنوعاتها الخشبية والمعدنية، وكل ما هو مصنوع من الفضة والزجاج والسيراميك، فضلا عن الأرجوان وصور الحريري الأحمر، وأكداس الأحجار الكريمة من عقيق سليمان وياقوت وكهرمان حجازي، كذلك المنمنمات الإسلامية على هيئة أيقونات، وأغلفة
لذلك أغدقت ذات الهمة على البطال وأتباعه من العيارين العطاء؛ نظرا إلى أهمية خدماتهم المقدمة إلى جيش المسلمين، سواء ما تعلق منها بأدق المعلومات والخطط الغادرة ضد الجيش العربي، التي كان يبدع في وضعها الأعداء، أو جلب الأسرى من أبرز مهندسي أسلحة الحرب الجديدة ووسائلها وأسرارها الدفينة، من داخل معسكرات وورش صنع أسلحة الأروام المستمرة دائما في التقدم والتحسن لإحراز النصر السريع في مواجهة تقاليد الحروب العربية، التي تستلزم المواجهة والفروسية.
وهو ما لم يعد نافعا لإحراز النصر؛ نظرا لتطور الأسلحة الجديدة التي تعتمد أولا وأخيرا على عنصري المباغتة والحركة، دون أدنى اعتبار لتقاليد الفروسية والمنازلة وجها لوجه.
ومن هنا جاءت رغبة ذات الهمة في امتلاك زمام المبادرة من أيدي أعدائها كلما سنحت لها الفرصة في الاستحواذ على أسرار إنتاج سلاح جديد، سواء كان ناريا أو كيميائيا غازيا، يجيء به البطال كعادته إلى مضارب صديقه الوفي الذي أصبح ملازما له كظله، وهو الأمير عبد الوهاب مازحا متهكما كعادته: نجربه - بإذن الله - في جثثهم في المعارك المقبلة، ثم يقارب عبد الوهاب غامزا: سلاح لم ينزل بعد في أي سوق أو بازار.
وحين يكشف عن سلاحه الجديد لعبد الوهاب وذات الهمة يواصل هزله: كما ترون ... أرزاق.
وقد يضاعف من دهشتهم مصرحا: وهذا هو «المستر» أو «السنيور» المخترع بذاته، لكنه لم يفق بعد ... سكران من فجر الأمس على هذا الحال والمنوال. «ويضحك فرحا».
وقد يمضي ممازحا الأسير المخترع بلهجته، شارحا لعبد الوهاب وذات الهمة ما ينطق به الأسير: يقول إنه مبسوط شوية. •••
وما إن تحقق النصر لجيش المسلمين بقيادة ذات الهمة، وتم رفع الرايات والبيارق الخفاقة على معظم المدن والثغور المناوئة التي أعلنت العصيان والتمرد والتحدي لخليفة المسلمين قبل ذلك، حتى هرع على الفور ملوك الأروام وبطارقتهم طلبا للاستسلام والمهادنة على عتبات الخلافة.
وهي المهادنة التي رفضتها على الدوام ذات الهمة؛ بحجة عدم إعطاء الفرصة للأعداء لشحذ النصال من جديد.
إلا أنها لم تجد في النهاية بدا سوى الامتثال لما يراه أمير المؤمنين وكبار وزرائه، بعد أن قبل الأروام بالامتثال وفرض الجزية، ودفع خسائر الحرب كاملة غير منقوصة، وهكذا فرضت الهدنة عليها فرضا.
لكن ما إن نكست النصال، وعمت أفراح النصر الكبير مختلف الأقوام العربية والرومية، واستراح الجميع خلودا للسلم والاسترخاء، حتى اندلعت حرب جديدة أشد ضراوة ضد ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
إذ جدد عمها ظالم وابنه الحارث مطلبهما المؤجل، حول طرح قضية عبد الوهاب على حكماء الحجاز وبغداد لحسم الأمر ودون إبطاء، ودون إعطاء ذات الهمة الوقت الكافي لترطيب جراحها الثقيلة من أثر المعارك الضارية التي خاضتها.
ولم يجد أمير الحملة عبد الله بن سليم حجة يسوقها سوى ضرورة الامتثال لما اتفق عليه.
كما لم تجد ذات الهمة مهربا أمام إصرار الجميع على إعادة عبد الوهاب إلى مضارب الأهل، حتى أبيها مظلوم ساند أخاه ظالما وابنه، وزاد الطين بلة إصرار عبد الوهاب نفسه على الرحيل إلى مضارب الأهل في مكة والحجاز ونجد - المرية - وهو الذي ولد وترعرع في ساحات الحرب والجهاد والاغتراب بعيدا عن موطنه الحجاز.
وهكذا وجدتها ذات الهمة فرصة أجمعت عليها المشورة، فآثرت الرحيل عقب الانتهاء من تنظيم أمر البلاد المفتوحة، وشحن السبايا والآلاف من رءوس الأسرى وكنوز البلدان المفتوحة إلى عاصمة الخلافة. •••
ويوم الرحيل، استعدت المراكب والسفن المكدسة بالسبايا، والجنود الزائرين لأهاليهم، وثروات الحرب، وعينات الأسلحة الجديدة.
واعتلت هي وابنها عبد الوهاب وأبوها سفينتها.
والأمير عبد الله وابنه عمر، وظالم وابنه الحارث سفنهما.
وأقلعت المراكب العربية عائدة إلى مقر أمير المؤمنين، تسبقهم الأخبار بالنصر وفرض الجزية، فما إن دخلوا عاصمة الخلافة حتى فوجئوا بها مزدحمة كيوم الحشر بالآلاف المؤلفة التي قدمت من كل صوب لاستقبال ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، محملين بالعروش والتيجان، ونفيس الجواهر والهدايا، وصفوف السبايا والأسرى.
فضربوا مضاربهم على مقربة من قصر أمير المؤمنين المهدي - والد هارون الرشيد - الذي سارع لاستقبالهم والترحيب بذات الهمة وعبد الوهاب، متسائلا عما دفع بهم إلى العودة على هذا النحو، دون أن تغفل عينه من تحسس أمر الإسراع بالمجيء بعدتهم وعتادهم وحسم قضية عبد الوهاب.
إلى أن انبرى الأمير ظالم وابنه فطرحا أمر الخلاف حول شرعية زواج ذات الهمة من الحارث، ثم التطرق لانتماء عبد الوهاب ابنهما شرعا وبشهادة الخليفة.
وكان الخليفة قد وجد لعبد الوهاب الشاب مكانا رحبا في قلبه، حتى إنه قربه وباركه، وأجلسه إلى جانبه على مرأى من الجميع.
وبدت مؤامرة التقليل من ذات الهمة واضحة حين تدخل كبار وزراء بلاط الخليفة إلى جانب عمها وقبيلته، وعلى رأسهم الوزير مصعب والفضل بن الربيع.
إلا أن الخليفة استمع مطولا إلى وجهة نظر ذات الهمة، وتفاصيل ما عانته في السنوات الأخيرة من تآمر وفتن وصلت إلى مضربها ومخدعها.
ووصل الأمر بالخليفة إلى حد الغضب والاقتناع بأقوال أم المجاهدين، والأمر بإيداع عمها ظالم وابنه الحارث غياهب سجنه الملحق بالقصر.
وأنعم الخليفة المهدي على ولدها عبد الوهاب أعلى درجات الإمارة، فنصبه أميرا لبني كليب ووحيد وعامر.
ولكن ما إن انقضت أيام ذات الهمة في بغداد، وتحرك ركبها بصحبة الأمير عبد الوهاب إلى مضارب الأهل بالحجاز ومكة، حتى اندلعت ألسنة الفتنة ونسج الأقوال الملفقة لذات الهمة وشوكتها الضاربة؛ تخوفا من أن تشهرها يوما في وجه الخلافة ذاتها، مستعينة بجندها وعتادها ومصادر قوتها التي لا ينضب لها معين، والتي أصبحت مهددة لأعظم الإمبراطوريات رسوخا.
ونجحت الفتن التي شارك في صياغتها وتنميقها وزراء البلاط وحجاب الخليفة ومقربوه، ومنهم الوزير المخادع عقبة بن مصعب، والفضل بن الربيع، في تحويل غضب الخليفة المهدي عن عمها ظالم وابنه الحارث، والإفراج عنهما، وإعادة تكريمهما.
وهكذا لاحقت العيون الحاسدة والحاقدة موكب ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وهما في طريقهما إلى الحجاز ومكة ونجد - المرية.
زواج عبد الوهاب بالحجاز
ما إن انقضت زيارة الأمير عبد الوهاب وأمه ذات الهمة للحجاز ونجد، بعد أن لقيا كل تكريم من شيوخها وكبرائها، حتى آثرت ذات الهمة التمهيد لزواج عبد الوهاب من ابنة أحد أعمامه في الحجاز، وهو الأمير راشد بن حمزة؛ لزيادة ارتباطه بأهله وقبيلته الحجازية، قبل التمهيد للعودة إلى الجبهة في مالطة، وإعداد العدة للوصول إلى القسطنطينية ومحاصرتها وفتحها، كما سبق للجد الصحصاح فتحها وإعلاء رايات المسلمين عليها.
ففاتحت ذات الهمة عبد الوهاب برغبتها الدفينة في تزويجه والفرح به وبأولاده، ولما
مسرعا في عقد القران وإقامة الأفراح.
فأقيمت الاحتفالات التي لم تشهد مثلها الحجاز، وامتدت سبعة أيام احتفالا بالبطل المرتقب عبد الوهاب، المعقودة عليه الآمال العريضة في فتح عاصمة الأروام البيزنطيين، وتحرير العرب المسلمين من أخطارهم، خاصة وأن أمه ذات الهمة بدأت تعاني من تعب المعارك الضارية التي خاضتها الأعوام الطوال.
وبعد تسلمه للإمارة والقيادة التي أضفاها عليه أمير المؤمنين حتى تكشفت قدراته، فأصبح محط كل الأنظار بدءا من أمير المؤمنين وحكماء الحجاز ونجد، ومعظم العواصم العربية مشرقا ومغربا، حتى عواصم الأروام البيزنطيين التي بدأت تحسب له كل حساب. •••
وما إن انتهت الأيام الخوالي التي صاحبتها الأفراح والاحتفالات بزواج الأمير عبد الوهاب بين أهله وعشائره ... بالحجاز، حتى تحركت مواكب ذات الهمة وعبد الوهاب عائدة إلى الجبهة، محاطة بالدعاء والتكبير ووداع الأهل. وما إن وصل ركبهم إلى مالطة ذات مساء حتى تواترت الأخبار حول معاودة الأروام انتهاك شروط الهدنة، وجمع شملهم من جديد بعاصمتهم القسطنطينية، تمهيدا لأخذ المبادرة بالزحف على قلاع المسلمين ومعسكراتهم ومضاربهم؛ استعدادا لإبادتهم تماما.
وسبب هذا يعود إلى الموت المفاجئ للخليفة العباسي المهدي، الذي سبق له مناصرة ذات الهمة وعقد الإمارة لابنها عبد الوهاب، والإغداق عليه بالثروات الطائلة التي عززت مواقعهما بين العرب.
وتولى الخلافة من بعد المهدي أخوه الهادي، الذي نقل إليه وهو على فراش الموت وصيته في رعاية الأمير عبد الوهاب، لما يعقده عليه المهدي من آمال عريضة في مؤازرة العرب في وجه أعدائهم المعتدين والطامعين.
وهكذا وجد الأروام الفرصة سانحة بموت الخليفة لجمع كلمتهم، وتوحيد صفوفهم، تحسبا لمعاودة الهجوم على العرب، وانتهاك شروط الهدنة التي لهثوا طويلا لعقدها.
وخاصة بعد أن وصلتهم الأخبار المحققة من جواسيسهم وعياريهم بتفاصيل ما حدث من انشقاقات عربية، وعودة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى الحجاز والبصرة والكوفة، مثقلين بالمؤامرات والفتن القبائلية الداخلية، التي يعرفها جيدا مختلف أجناس الأروام ومللهم عن العرب وعن طبائعهم، وما يفت في عضد أمتهم من آفات غائرة كانت تتيح لهم على الدوام استثمارها والمتاجرة بها في تحقيق انتصاراتهم الغادرة.
من هنا سرت الأخبار بين العواصم الرومية والأوروبية وما يجاورها عما حدث داخل الصفوف العربية، وأفضى إلى غياب ذات الهمة وابنها عبد الوهاب عن جبهة القتال.
فعقدت اللقاءات وتضاعفت الزيارات السرية لأمراء الأروام وساستهم وبطارقتهم، طلبا في جمع الإمدادت والأسلحة التي استحدثوها في غيبة عبد الوهاب وأمه عن جبهة القتال، انشغالا بالفتن والمؤامرات القبائلية الداخلية.
وهكذا تشجعت الأروام عقب غيبة عبد الوهاب - بالذات - عن الجبهة في تجميع فلولهم،
خطيرة لتطويق الجيش العربي في غيبة قادته.
وتم ذلك عن طريق عقد اللقاءات والزيارات بعيدا عن القسطنطينية، التي أصبحت في متناول الأبصار والآذان العربية، وخاصة البصاص أبا محمد البطال، الذي أصبح بعبعا يخيفون به الأطفال والكبار: ها هو البطال ... يدق الجدران.
فتم وضع صورة له في أبرز ساحات القسطنطينية وبقية عواصم الغرب كمحاولة لتحذير الناس، وتعريفهم بملامحه في مختلف الهيئات التي اعتاد التنكر بها.
وكثرت حوله الأمثلة والمأثورات التي تشير إلى التعجب من قدراته ومهاراته، وهو الذي يلعب «بالبيضة والحجر»، فقالوا عنه: لا فائدة ... إذا لم ينتقل البطال إلى الجبل انتقل الجبل إليه.
فهو ذلك الذي يسرق كحل عيون الأروام، وأسرار خططهم، وأسلحة غدرهم، وعروش ملوكهم ومخترعيهم، وقادة فيالقهم؛ لذلك لم تعد القسطنطينية، وهي العاصمة الرسمية والفعلية للأروام صالحة للقاءات والمؤامرات الرومية الهادفة لتخطيط مسار الحرب ضد المسلمين.
فحددوا أماكن اللقاءات مرة في أغوار ومتاهات البلاد الواطئة، وأخرى في أعالي الجبال الشاهقة المغطاة بالجليد، والتي يخيم عليها الغموض نتيجة وعورة مسالكها المضللة لأعتى العيارين والبصاصين العرب من أتباع البطال وأسلافه، في تلك المهنة الشاقة المحفوفة بالأخطار.
صحيح أن في حوزة العرب ثروة حقيقية من الخرائط وأوصاف وطبائع المدن والكيانات الأوروبية، التي توارثوها عن أسلافهم من فاتحين ورحالة وجغرافيين وخبراء في وصف المدن ومختلف الأقوام وطبائعهم، لكن كيف الوصول إلى تلك الأصقاع المتناهية البعد العسيرة المنال؟
ومن هنا، برع المخططون للجولة المقبلة في الحرص على عدم تسرب خططهم وحديث أسلحتهم إلى العرب، كما حدث في العديد من الوقائع والصدامات الحربية السابقة؛ لذا لجأ الأروام إلى إشاعة الأخبار المغلوطة وتسريبها إلى أفواه العامة؛ ليقع في حبائلها البطال وكتائب عياريه وبصاصيه.
خاصة بعد أن عرف الأروام عنه مختلف حيله، ومنها معرفته الواسعة بكل لغاتهم ولهجاتهم من لاتينية وجرمانية وغالية وسكسونية وإسبانية وهنغارية وسلافية، ناهيك عن معرفته بطبائعهم وتقويمات أعيادهم الموسمية، وخفايا كنوزهم، وأدق ممارساتهم اليومية.
وكيف للأروام أن ينسوا يوما مهازل البطال مع ملوكهم وأميراتهم ودوقاتهم وكبار بطارقتهم؟
كيف لهم أن ينسوا يوم دخوله القسطنطينية ذاتها؟
لذلك تشدد قادة الأروام هذه المرة في سد كل الطرق والمنافذ التي تتيح تسرب أسرار استعداداتهم ومخططاتهم إلى أيدي العرب والمسلمين.
بل حتى سيول الإمدادات من جيوش بمختلف أسلحتها وأموال ومؤن ومخترعات حربية وجدت طريقها للتجمع بعيدا عن العواصم، فكانت تتحرك في أعماق الغابات وضفاف الأنهار على مقربة من الأديرة المهجورة وبداخلها، بعيدا عن الأعين الراصدة لما يجري من إعداد لخطط جديدة، وتجارب لاختراع أسلحة حديثة، دون أن تطالهم ألاعيب البطال وخداعات عياريه وبصاصيه المنبثين ليل نهار، في كل مكان وحانة، وبهو قصر، ومخدع، واحتفال محلي، ودير، ترصد أكثر الأسرار والتحالفات والخطط خفية؛ لتعود بالمحصلة إلى مضارب ومعسكرات ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
ومن يدري بما أصبح في حوزتهم من أسلحة الفتك وما جد عليها، في غيبة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى بغداد ثم الحجاز؛ حيث تم إجراء مراسيم عرس عبد الوهاب، واحتفاء الأهل وقبائل جزيرة العرب به.
من يدري بما أصبح لديهم يشد أزرهم، ويدفع بهم وبملكهم الجديد الذي خلف لاوون «مانويل»، وابنته الشبيهة بالذئبة، التي تظهر العداء والكره ضد العرب المسلمين، ويلقبونها ب «الميرونة».
ولم تطل هواجس ذات الهمة وتساؤلاتها، وخاصة عما استحدث من أسلحة لدى الأروام، الأعداء حتى اندفع الأمير عبد الوهاب مصطحبا أبا محمد البطال في جولة تجسس أخرى، وكان البطال لا يكف أبدا عن المزاح والتهكم من كل ما يراه ويشهده، حتى إنه إذا لم يجد شيئا يحيك حوله نكاته التي أصبح يعرفها الصغير والكبير، التفت إلى نفسه ساخرا مختلقا المأزق، حتى ولو كان في أقصى درجات الخطر الداهم والحصار والسلاسل وغياهب سجون الأروام؛ حيث كان ينفجر هناك ساخرا من طعام لحم الخنزير، حين يقدمون له - جرايته - أو حين يجبرونه على ارتداء الأسمال الممزقة.
إلا إنه كان قادرا على الإفلات من كل الشباك والمصائد والسلاسل والزنزانات المطمورة تحت الأرض، ليعود إلى قومه العرب ضاحكا متندرا ناشرا في كل شبر يحل به السخرية اللاذعة من الأروام «الخواجات» وغبائهم وجبنهم، وغرابة أطوارهم، وأجساد نسائهم وحريمهم.
وكانت ذات الهمة تستبشر بضحكاته حين تصلها عالية صاخبة جامحة لا مبالية، مبددة لكل خطر وتوجس.
بل كانت غالبا ما تعاني الأمرين في كتم ضحكاتها مما يرويه حتى في أكثر حالاتها غضبا، ثم يعيد سرده عليها عقب كل رحلة ومغامرة مع جيشه من البصاصين والعيارين، وهم الذين دربهم على إتقان كل فنون إجادة النطق بلغات ولهجات ولكنات الأعداء من كل صوب وملة، والتنكر باستخدام ملابسهم من رجالي وحريمي، وصبغ وجوههم بالأصباغ، وطرق مشيهم وحركتهم وإيقاعهم وكافة خلجاتهم، وبثهم بعد ذلك في صفوف الأروام حتى داخل أسوار القسطنطينية المنيعة ذاتها، وداخل معسكراتهم وكاتدرائياتهم وقصور ملوكهم ونبلائهم وبطارقتهم، وورش صنع أسلحتهم ومراكبهم وبواخرهم وخماراتهم، وفي كل مكان يرصدون بدقة ما بعدها دقة كل ما تقع عليه العين، وتلحقه الأذن من تحركات أو استعدادات للوثوب والهجوم.
ومن هنا تزايد جيش البطال من العيارين، وغالبيتهم بالطبع من الأشبال المتحمسين المتفجرين ذكاء وإقداما، وبالطبع تزايدت سطوة أبي محمد البطال وذاعت شهرته ونكاته وخوارقه في الإيقاع بالأعداء، والإفلات من أعتى المآزق، إلى حد أشاع الرعب في قلوب الأروام، فوضعوا المحاذير في طريقه وعلقوا صوره في الميادين العامة ودواوين الجند والحكومة والكنائس، وأصبح مصدرا دائما لمخاوفهم في كل مكان.
مما أدى إلى أن يغير البطال أرديته وطرق تنكره؛ حيث أبدع في ذلك، فهو مرة كبير للبطارقة، ومرة أخرى حارس بوابة بالقسطنطينية، أو جندي يوناني، إضافة إلى تظاهره بكونه شحاذا أو سكيرا وهكذا، فأين لهم أن يطولوه وتلحقه سواعدهم وأسلحتهم؟!
لذا ما إن تناهت ضحكاته وقفشاته، التي غالبا ما كانت تشيع بعض الفوضى والتسيب في قصر ذات الهمة حين دخوله، حتى استبشرت مبتسمة آمرة له بالدخول بصحبة الأمير عبد الوهاب.
وما إن دخل أبو محمد البطال وذهبت ذات الهمة لاستقباله حتى بادرها من فوره مستخدما إياها مادة لسخريته: والله عشنا ورأيناك جدة يا أحلى وأروع أميرة.
ثم بادرها أبو محمد البطال بما جمعه وتوصل إليه في غيبتهما من أسلحة ومعلومات استوثق منها بنفسه.
وما إن تساءلت الأميرة ذات الهمة: أين؟ حتى أحال عليها البطال الأمير عبد الوهاب
ولم تملك ذات الهمة سوى أن تكتم ضحكاتها، وهبت من فورها بصحبتهما لترى بنفسها ما أحضره وتوصل إليه هذا «الشيطان» ... البطال.
وما إن عبروا بواباتها باتجاه المرفأ الذي رست فيه سفن البطال حتى علت من جديد سخرياته وقفشاته التي أعادت لذات الهمة استبشارها: اخرس ... يا بطال ... اختشي شوية.
هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!
ما إن اقتاد أبو محمد البطال الأميرة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب ليطلعهما على محتويات السفن الثلاث التي استولى عليها داخل مدن ومعسكرات ومراكز قيادات الأروام الجديدة الخفية، حتى وصل بها الاندهاش إلى أقصى مداه.
وأبدت إعجابها بقدرة البطال على جمع ذلك الحشد الهائل من المعلومات والوثائق، التي عانى الأروام الأمرين في إخفائها لئلا يحصل عليها العرب.
وأثبت هذا حرص البطال وأتباعه على مراقبة تحركات الأعداء خلال فترة تغيب ذات الهمة وعبد الوهاب في عاصمة الخلافة، ثم سفرهما إلى الأراضي الحجازية، وحدث زواج الأمير عبد الوهاب بوادي الحجاز.
فكان كلما وقع بصر ذات الهمة على محتويات سفينة تضاعف إعجابها بقدرات أبي محمد ومهاراته، لما وصلت إليه يده الخفيفة التي تسلب حقا من العين كحلها، هو وأتباعه من العيارين والبصاصين والمقاتلين الشباب، الذين أحسن تدريبهم بحسب توجيهات ذات الهمة، ورجاحة فكر الأمير عبد الوهاب.
وكلما أبدت ذات الهمة رغبتها في الاطلاع على وثيقة أو خريطة أو خطة هجوم سرية وضعها الأروام ضد العرب، أغرقها أبو محمد البطال بفيض لا ينتهي من المعلومات الدقيقة التي كان يسوقها على طريقته الساخرة المرحة، البعيدة عن كل تعال، دافعا ذات الهمة إلى كتم ضحكاتها دون جدوى.
أما تعليقات البطال الساخرة، فكانت منصبة في عمومها على مدى غباء الأعداء وغفلتهم، برغم الحصار الصارم الذي فرضه الملك لاوون - أو ليون الأيزوري - بنفسه هو وقادته على تضليل البطال وأتباعه بمختلف الطرق والوسائل، التي كانت تبدو في نظر البطال ومن جانبه غاية في السذاجة والغباء.
وكانت ذات الهمة تبذل أقصى جهدها للسيطرة على نفسها لئلا تنقاد بسهولة لنكاته التي تضحك الحجر قبل البشر، ولو من أجل التركيز على ما اقتنصه البطال هو وديوانه الملحق من معلومات وخطط حربية، بالإضافة إلى محتويات نفيسة من الذهب والفضة، وعروش وتيجان، وأختام دول، وأسرى من كبار الأمراء والأميرات الأروام، وبطارقة بأزيائهم ولحاهم المرسلة، وأسلحة متطورة ومخترعيها وخبرائها، ووحدات مصانعها، وتصميماتها المجسدة الجليلة، وكيفية تركيبها وتشغيلها وهكذا.
كل هذا والبطال لا يكف عن إعادة سرد وتمثيل ظروف كل عنصر من الآلاف المؤلفة التي اقتنصها وتوصل إليها، وعن معابثة أسراره وسباياه بلغاتهم، حتى بدا الأمر لذات الهمة والأمير عبد الوهاب كما لو أن الأسرى ذاتهم في أغلالهم ومذلتهم يضحكون من البطال وقفشاتهم، وكما لو أنهم يستعذبون نكاته وقفشاته وسخريته منهم، إلى حد أنساهم أسرهم وما أصبحوا فيه من سوء حال وبعد عن أوطانهم وأسرهم.
فكان البطال يضاحكهم ويمازحهم بلغاتهم، سواء أكانت يونانية قديمة، أو قبرصية أناضولية، أو فرنسية دارجة، أو رومانية لاتينية، أو جرمانية، فيغرقون في الضحك والمباسطة، بل كانوا يتبارون في المساعدة لفك أسرار وطلاسم الخطط الحربية المجهزة ضد العرب، وكذلك الإسراع بتقديم ما يلزم من معلومات تيسر الإسراع بفك مختلف الأسلحة المعقدة وتركيباتها.
وكان البطال من جانبه يحسن معاملتهم، ولا يرد لهم طلبا، فيما عدا إطلاق السراح - بالطبع - والعودة إلى أوطانهم، لدرجة أن بعضهم فضل - من جانبه مستسلما - العمل بورش الأسلحة العربية، مقدما خبراته عن رضا، حتى إن ذات الهمة غالبها الضحك ذات مرة من أساليب البطال الناعمة في ترويضهم واستئناسهم إلى هذا الحد، فهمست في أذنه: ما الخبر يا أبا محمد ... هل أنت جندتهم؟
فأجابها البطال: ما تفرق معهم ... هنا ... هناك، المهم العمل للحصول على الرزق حتى في الحرب.
وقفز من فوره مخرجا زجاجة من عب أحدهم، وكان مخترعا وله لحية حمراء جليلة: المهم هذا.
فضحك الرومي الأحمر الشعر واللحية مختطفا الزجاجة في حذر من يد البطال قائلا: هذا ماء.
وأضاف أبو محمد البطال: ماء ... أو مسكر ... المهم أن تعمل هنا.
ثم دفع به إلى مواصلة عمله: المهم ما تصل إليه أيدينا منهم ... أحسن من بلاويهم وكوارثهم.
وضاحكه الأمير عبد الوهاب: المهم أنك جندته يا أبا محمد. - تسعة آلاف من هذه العينة السيئة.
ثم اندفع مشيرا إلى معسكراتهم: المهم أنهم فرحون هنا، وجميعهم يحبون الشرب أكثر من أي شيء آخر.
وضحكت ذات الهمة مستبشرة بما اقتنصه البطال من وافر الأسرى والأسلحة والأسرار، من دون كلل، خلال رحلتها هي وعبد الوهاب إلى الحجاز وبغداد.
بل إن ما أوصل ذات الهمة إلى أقصى درجات اندهاشها من فعل أبي محمد البطال توصله إلى ما أحدثه الأروام من تغيير لأماكن لقاءات وفودهم وقادتهم داخل أوطان لم تسمع بها أصلا، وكاتدرائيات ودوقيات متناهية السرية، ليزرع داخلها جواسيسه وأسماعه من عيارين وبصاصين، والذين تعرض الكثيرون منهم للاستشهاد والأسر وأقسى أنواع التعذيب داخل سجونهم وآلات تعذيبهم، التي لا تعرف معنى الرحمة أو الشفقة.
وكان البطال يضرب بهؤلاء الشهداء وظروف موتهم المثل الحي على الشجاعة والجلد، محييا ذكراهم العطرة دفاعا عن حرمات المسلمين.
بل إن ذات الهمة لم تتوان للحظة عن ذكر أولئك الشهداء العرب، ورعاية أسرهم والوصاية بكل عطاء لهم ... فهم - أي الشهداء - أحباب الله كما كانت تكرر دائما.
وقد لاحظت الأميرة ذات الهمة منذ الصبا المبكر في ابنها الأمير عبد الوهاب مدى حرصه ورعايته لأبناء القتلى والشهداء، لدرجة أنه أخذ على عاتقه المشاركة في مواساة أهاليهم خلال طقوس الدفن والجنازات والعزاء، سواء في الإنابة عن ذات الهمة، أو بدافع شخصي منه.
في البداية أعجبت ذات الهمة بمدى تعاطف عبد الوهاب مع المصابين من كوارث الحرب والجهاد ، مما دفعها إلى مباحثة أمير الحملة في ضرورة إنشاء ديوان خاص لرعاية الشهداء وأسرهم، يخضع لقوانين محددة يتفق عليها، ونما الاقتراح إلى حد استخراج حصة ثابتة من مخزون الغنائم يجري صرفها على الجرحى والمصابين وأهالي الشهداء.
حتى إذا ما شب الأمير عبد الوهاب ووصل إلى مطلع شبابه أوكلت ذات الهمة هذه الإدارة أو «الديوانية» إليه، نتيجة حرصه وإحساسه المبكر بواجب الرعاية للشهداء والمصابين والجرحى وأسرهم.
ولم تطل فرحة ذات الهمة بما استحوذت عليه من أسلحة وأسرى ومعلومات وخطط حربية استحدثها الأعداء خلال فترة غيابهما عن الجبهة، ذلك أنها ما إن عادت أدراجها يرافقها الأمير عبد الوهاب إلى مضاربها فرحة مستبشرة، حتى هالها تواجد أمير الحملة عبد الله بن سليم وابنه عمرو، وعشرين أميرا من كبار القواد للأقوام والكيانات العربية، ما بين حجازيين ونجديين وسوريين وبلاد السرو وعباد - التي هي الأردن اليوم - وسودانيين ومصريين وأكراد وأعجام وعرب المغرب والأندلس، وكانوا جميعهم بدروعهم ولباس حربهم وعدتهم بكاملها.
وأعلمها على الفور الأمير عبد الله بوصول جيوش الأروام إلى بعد فراسخ من مالطة، ووصول بعضها إلى رودس وعمورية، ومحاصرة جند المسلمين وأسرهم بالآلاف.
كما أخبرها الأمير عبد الله بوصول إمدادات جيش الخليفة بقيادة شقيق أمير المؤمنين، الشاب هارون العلوي - هارون الرشيد فيما بعد - وبصحبته الشيخ القاضي عقبة، والوزير الأول للخليفة الفضل بن الربيع، وأن الجميع بانتظار مقابلتك والأمير عبد الوهاب للاجتماع وطرح المشورة العاجلة التي أوصى بها أمير المؤمنين أخاه هارون.
واستبشرت الأميرة ذات الهمة بوصول الإمدادات التي تأخرت طويلا بقيادة شقيق أمير المؤمنين هارون العلوي، التي ما زالت تذكره ذات الهمة طفلا يفيض حماسا وتوقدا، إلى أن أصبح شبلا مجاهدا يوما تحت راياتها.
وما إن التقته لحظة وصوله على رأس خمسين ألفا من المجاهدين حتى احتضنته، وكذلك عانقه الأمير عبد الوهاب، وتصادقا منذ اللقاء الأول إلى حد إبداء هارون الرشيد الرغبة الصادقة في أن يحارب هو وجيشه تحت رايات الأمير عبد الوهاب.
وتحمس الخليفة الصغير بعد اطلاعه على كافة المعلومات التي أحرزها أبو محمد البطال، متعجلا الإسراع في الخروج إلى ملاقاة جيش الأروام ومداهمته قبل أن يحدث العكس.
كانت الساعات المثقلة بخطر الهجوم تكتم الأنفاس على الجانبين، حتى علت طبول الحرب مدوية، وارتفعت أصوات المنادين معلنة التأهب، والركوب للجهاد وملاقاة الأعداء.
وما إن اندلعت رحى تلك الحرب القارية الجرارة، وامتد أمدها طويلا على طول آسيا الصغرى والبسفور ومداخل أوروبا الجنوبية والأندلس حتى تبدت شجاعة هارون العلوي - أو هارون
وتضحياته، إلى حد تعرضه للموت المحقق في أكثر من واقعة، مما دفع بالرشيد إلى ملازمته واقعة بواقعة، والإشادة بفضائل ترس الرسول التي انطبعت في ذاكرته أبد الدهر.
بل إن هارون الرشيد وقع في الأسر جنبا إلى جنب مع عبد الوهاب، وعاشا معا معاناة الأسر والسبي الرومي وتعذيبهما داخل غياهب السجون، لحين إقدام أبي محمد البطال على التوصل إليهما وفك أسرهما، والعودة بهما سالمين، محملا بالتهكمات والنكات التي أضحكت الجميع، وخاصة ذات الهمة.
وتزايدت منزلة الأمير عبد الوهاب في قلب الخليفة العباسي الخامس هارون، إلى حد أنه أصبح يكاتب أخاه الأكبر الخليفة الهادي مستفيضا في شرح مناقبه ومآثره في الدفاع عن حرمات العرب والمسلمين.
وكان الخليفة يتذكر من فوره ما أوصاه به الخليفة المهدي وهو على فراش الاحتضار: عينك على عبد الوهاب ... لا تغيب.
فلقد وصل عدوان التحالف الرومي وعناده في هذه الحرب المستعرة التي امتدت رحاها على رقعة هائلة من أرض المسلمين وثغورهم، إلى حد وصول طلائع فيالقهم إلى البصرة والكوفة، ونقل المعارك إلى مواقع الخلافة ذاتها، دون أن تهادن جحافلهم الفيالق العربية المتحالفة بقيادة ذات الهمة وعبد الوهاب وهارون الرشيد.
بل إن ما دفع بجيوش المسلمين إلى تلك الحالة غير المطمئنة من التراخي ... إلى حد استفحال خطر الأعداء الأروام الطامعين هو تلك الانقسامات العربية التي تفاقمت ... سواء على طول جبهات القتال أو داخل أروقة الخليفة الهادي، الذي أسلم قياده لوزرائه المتحالفين مع الأمير ظالم - عم ذات الهمة - الذي رأى في الحرب مغنما للنهب والثراء هو وابنه الحارث.
ومن أولئك الوزراء قاضي القضاة عقبة بن مصعب، الذي نجح ظالم في استقدامه إلى جبهة القتال، لمناوئة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، وتقويض انتصاراتهما السابقة واللاحقة.
إلا أن عبد الوهاب نجح في اجتذاب شقيق الخليفة ذاته هارون الرشيد، إلى حد إقامة روابط الدم بينهما بزواج عبد الوهاب من أخت الرشيد.
ومن هنا فرضت تلك الجبهة الشابة لعبد الوهاب وهارون العلوي وذات الهمة والبطال مواصلة القتال والتقدم دون التفاتة إلى الوراء، حتى لاحت تباشير النصر، حين ارتفعت رايات عبد الوهاب خفاقة عالية وهي تطرق أبواب عاصمة الروم البيزنطيين المنيعة ... القسطنطينية.
إلا أن تباشير النصر لم تحقق كل غاياتها، فدفع الأمير عبد الوهاب الثمن الفادح من دمه المسفوح على تخوم القسطنطينية، حين جرح جرحا بليغا قارب أن يفقده حياته، وحزنت أمه ذات
الأمير عبد الوهاب يشفى من جراحه!
حلت الكوارث بالتحالف العربي عقب كارثة جرح الأمير عبد الوهاب في تلك الحملة التي شارك فيها شقيق أمير المؤمنين الخليفة الهادي: هارون.
وهو الذي أصبح فيما بعد الخليفة الخامس هارون الرشيد، الذي تعورف على عصره بالعصر الذهبي للراشدين.
وحطت الأحزان بأمه ذات الهمة إلى حد إحساسها بالتمزق الدامي الذي اعتراها، نتيجة لسقوط ولدها ورفيق جهادها عبد الوهاب نهبا لجراحه الغائرة ودمه المسفوح بين جحافل جيوش الأروام الجرارة، والتي جاءت هذه المرة مدججة بكل جديد من مختلف أسلحة الفتك، والخطط الملتوية الأفعوانية، في مواجهة جيوش المسلمين التي أذهلها الوضع وما طرأ عليه من تحولات، إلى حد الثبات عند مراحل الدفاع دون أن تتخطاه للهجوم والتقدم والوثوب.
وأبدت معظم الفصائل العربية أقصى ما في الباع تقديمه، صمودا في وجه ذلك العدوان التتري المفاجئ من جانب الأروام، دون أن تغفل عيونهم عن الإسراع في تضميد جراح الأمير عبد الوهاب، التي ومع توالي الأيام العصيبة واصلت التئامها ببطء، مما أثار المخاوف بين صفوف المسلمين.
ومما ضاعف من نكبات العرب تساقط بعض قلاعهم وموانئهم وحصونهم وثغورهم، التي عانوا طويلا في تأمينها الواحدة بعد الأخرى، كمثل عقد منفرط بأيدي الأروام هذه المرة.
ورغم الأحزان القائمة التي حطت على ذات الهمة وهارون الرشيد وأبو محمد البطال، على افتقادهم لإقدام وبأس الأمير عبد الوهاب، إلا أنهم واصلوا الصمود والتقدم الحثيث على مختلف الجبهات المتعارضة التي خططت لها وافتتحتها جيوش الأروام، بعد أن أسكرها النصر المعجل.
إلا أن الدلهمة لم تستسلم لحظة في مواجهتهم، بل واصلت وضع الخطط المضادة، فما إن خرج هارون الرشيد ليسترد «عمورية» التي سقطت بأيدي الأروام، وعرج عائدا بفيالقه على مالطة، حتى استقبلته ذات الهمة بخمسة عشر ألف رأس من رءوس قتلى أعدائها الأروام غير الأسرى في الأصفاد، برغم ما اعتراها من تمزق وأسى لجراح ولدها عبد الوهاب؛ وذلك برغم ضراوة ما كان يحاك ضدها في الخفاء - ودون أدنى اعتبار لمتطلبات الحرب - من مؤامرات وفتن من جانب عمها ظالم، وابنه الحارث، وقاضي القضاة عقبة بن مصعب، المفوض من قبل أمير المؤمنين الخليفة الهادي وأقرب مقربيه، حتى إنها واجهت هارون الرشيد محتدمة بالغضب في وجهه وهي تلقي بأحمال رءوس قتلاها عند قدميه قائلة: «أقسم بمن أنشأ الأنام، وفرض الحج والصيام، لولا خوفي على ثغور الإسلام من الكفرة اللئام؛ لرحلت إلى أي موضع كان، ولا أصبر على الذل والهوان.»
وهدأ الرشيد من روعها وهو يزف إليها تقارير حكمائه وأطبائه الأخيرة، التي وصلته عاجلا بتماثل الأمير عبد الوهاب للشفاء من جراحة البليغة.
وافترقا على أمل اللقاء في القسطنطينية؛ حيث واصل هارون الرشيد - الذي تضفي عليه السيرة أنه كان أشجع بني العباس - تقدمه لملاقاة جيوش الأروام، إلا أن الجيش العربي انكسر أمام جحافل الزحف البيزنطي عنوة من جديد.
إلى أن حلت عدة مفاجآت غير متوقعة مع حلول الظلام، حين تحركت الجيوش البيزنطية عائدة من حيث أقبلت، فظن الرشيد وجنده، ونتيجة لهول المفاجأة بالانسحاب - غير المبرر أو المتوقع - أن الأروام عادوا أدراجهم باتجاه العاصمة البيزنطية «القسطنطينية» لحمايتها في وجه تقدم ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، الذي آثر التماثل للشفاء من جراحه في الجهاد ووهجه المحتدم، برغم محاولات البطال وذات الهمة لثنيه عن المنازلة لحين تضميد الجراح البليغة.
بينما حقيقة الأمر المخالف للتقدير العربي الخاطئ أن البيزنطيين واصلوا تقدمهم لتحرير أسراهم، ومواصلة التقدم عبر البسفور باتجاه العراق ذاته، بل وعاصمته الجديدة بغداد؛ لاقتحامها وإسقاطها بعد أن أعمى عيونهم النصر المرحلي غير المتوقع.
وهو عكس ما تبادر إلى ذهن الرشيد وجنده، الذين استعجلوا - بدورهم - انتصارهم، حتى إن هارون الرشيد مضى من فوره في توزيع الغنائم والأسلاب من الذهب والفضة؛ «تصدقا بعشرة آلاف دينار على الفقراء وأبناء القتلى والشهداء»، ودون إدراك صحيح للرشيد لهدف الأروام وخطتهم؛ نتيجة
ومن هنا سار الجيشان - العربي والرومي - في طريقين متعارضين؛ حيث انقسم التحالف العربي إلى قسمين أو جيشين؛ فبينما آثرت فيالق الرشيد - وغالبيتهم من جيش العراق - البقاء في مالطة وبقية الثغور المحررة على طول «مسبوتاميا» - أو آسيا الصغرى - وشواطئ وثغور البحر الأبيض المتوسط بعامة؛ لإعادة استردادها من أيدي البيزنطيين، ولتعود كما كانت في موقع الحصون المنيعة في أيدي العرب.
وهنا تحركت فيالق ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبو محمد البطال باتجاه القسطنطينية، التي أكدت معلومات البطال وبصاصيه خلوها من أي حماية تذكر.
أما التحالف البيزنطي الرومي؛ فإنه بدوره انقسم إلى جيشين مستقلين؛ حيث واصل جيشه الأكبر الزحف باتجاه العراق ووادي الرافدين، بينما عادت حامية منه محملة بأسلاب الأسرى العرب، راجعة أدراجها إلى القسطنطينية لتشديد حمايتها، توجسا من زحف ذات الهمة وابنها الأمير عبد الوهاب، الذي كان قد تحامل عائدا إلى موقعه كرأس للجيش العربي، متوثب الذكاء والموهبة في وضع الخطط، التي كانت تلقي بكل مفاجأة وفزع في صفوف الأروام.
فعندما آثرت ذات الهمة التريث وعدم ترك الثغور العربية عارية أمام زحف الأروام باتجاه الشرق ومركزه عاصمة الخلافة، خالفها الرأي والمشورة الأمير عبد الوهاب قائلا: «يا أماه ... من الصواب مواصلة السير قبل كل شيء باتجاه بلاد الروم - القسطنطينية - طالما أنها خالية من العسكر الآن.»
وابتهج البطال لرأي عبد الوهاب معدا لذات الهمة مفاجأة ما بعدها مفاجأة، مدعمة بما توصل إليه العيارون والأشبال من معلومات، شريطة الإسراع الفوري بحسب الالتزام بخطة عبد الوهاب باتجاه التقدم الحثيث للعاصمة.
حتى إذا ما اقتنعت ذات الهمة ورحلوا طالبين القسطنطينية أسرعوا المسير، إلى أن لحقوا أحد قادة الأروام من البطارقة العائدين بأسرى المسلمين، ومنهم الأمير عمرو بن عبد الله بن سليم، حاكم مالطة، الذي تربى معه منذ الطفولة والشباب الأمير عبد الوهاب.
ولم يحتج الأمر لمحاربة فيلق الأروام العائد بالأسرى العرب؛ ذلك أن البطال تولى هذه المهمة بإحدى حيله القصيرة القاتلة، فقتل البطريق القائد، وخلصوا سباياهم، وعانق عمر عبد الوهاب، وأقاموا ثلاثة أيام للراحة، ثم واصلوا الزحف من مائة وعشرين ألف جندي ما بين سودانيين وأكراد وفلسطينيين ويمنيين وحجازيين، وساروا إلى أن نزلوا على بحيرة «خرشنة» المتاخمة للقسطنطينية، فلما رأى حاكم تلك المدينة الساحلية عظم جيش المسلمين وعتادهم، أرسل إلى الملك «مانويل» في مقره، وهو على مشارف عاصمة الخلافة في بغداد، ليعلمه بمدى الخطر الداهم المطبق على القسطنطينية ذاتها.
حتى إذا ما قرأ الملك مانويل كتابه اكفهر إلى حد الهياج الهستيري، متهما زمانه الخائن الرديء، وكذلك قواده ومستشاروه، وجمع من فوره بقية الملوك والقادة ومجلس البطارقة والأمراء، وكل من كان في فلكه، معلنا أنه يتشمم رائحة الخيانة فيما يحدث ويجري على جبهة القتال، واتهمهم جميعا بالخيانة وضيق الأفق، وحلول الكارثة على رأس الجميع.
فكيف يتسنى له وجيشه استرداد الثغور والعبور عبر الأناضول، بعد أن كسروا جيش شقيق الخليفة ذاته هارون الرشيد، وواصلوا زحفهم نزولا إلى الرافدين، فتساقطت أمامهم مدن العراق الواحدة بعد الأخرى، زحفا إلى العاصمة عاصمة خلافة المسلمين، وعندما قاربوها وأصبحت على مرمى البصر من أبصارهم إذا بالأخبار السوداء تتهاوى على رءوسهم كالصواعق الحارقة الفانية، كمثل حمم عاتية ليس بمقدور بشر احتمالها، ومن أين تجيء؟ من خلف ظهورهم ... ولمن؟ لأبنائهم وجرحاهم الذي خلفوهم عرايا بالقسطنطينية دون غطاء ليستبيحها العرب الأجلاف.
وكانت كلما تواترت الأخبار والتقارير حول ما يحدث على جبهة ذات الهمة، كلما أعاد الملك مانويل شق ردائه على مشهد من القادة وبقية الملوك والأمراء والبطارقة الواجفين غيظا وكمدا.
كيف استولى البطال على البطريق قائد الحملة العائدة مظفرة بعشرات الآلاف من أسرى المسلمين وأسلابهم لحماية القسطنطينية، بالمكيدة والمخادعة، كمثل سكين يقطع زبدا، وحل وثاق أسرى المسلمين؟! وها هو الآن إلى جانب ذات الهمة وابنها يدقون أسوار القسطنطينية في غفلة، ويمكن القول «تغفيل» منه ومن قادته ومستشاريه!
والأدهى من هذا وأكثر مرارة، أن ذلك يحدث وهم - أي الأروام - هنا على مشارف الحلم الأكبر العسير المنال، الذي أرقهم السنين الطوال، بل الدهور إثر الدهور، في أن تصل أياديهم الطولى يوما عاصمة خلافة المسلمين. وها هي بغداد محط الآمال مشرفة على روابيها وتلالها وأنهارها تخاطب عيونهم. ها هو حلم الأسلاف والأجداد على مرمى البصر من ملوك أوروبا وأباطرتها، تكشف لهم عن وجهها الخبيء الغامض بما كانوا يسمعونه عنها من ثراء ورفاهية، وأكداس كنوز الشرق وعبقه، ومصنوعاته وعلومه، ومنسوجاته وفنونه، وموسيقاه الشجية وسمره غير المنقطع.
وليس في مقدورهم العبور إليها وإلى ساحاتها وقصورها الوارفة على الدجلة، بعدما حدث من غفلة وتغفيل ليسا منه - أي الملك مانويل - وقادته.
كان جشع الملك مانويل الثالث وأحقاده تتفجر هادرة في كل اتجاه أمام سراب انقشاع الحلم السلفي بالوصول إلى هنا ... إلى عاصمة خلافة المسلمين.
تتفجر هادرة ضد قادته وساسته ومستشاريه، وضد العرب الدمويين وتآمرهم وأحابيلهم، وبخاصة ذلك الشبح الخيال الذي أذاقهم الويل وسخر منهم لطوب الأرض ذاته؛ أبو محمد البطال، صاحب الحيل والملاعيب التي يبدو أنها لن تنتهي أبدا، والتي إن دلت على شيء فإنما على مدى غباء تحالف الأروام البيزنطيين وملكهم وقادتهم.
وهكذا أعاد الملك مانويل الثالث تساؤله - وهو في أقصى حالات غضبه ومرارته على مجمع قادته ومستشاريه: أليست هي ذات الحيلة المكيدة التي دبرها العرب وجاسوسهم العجوز السابق ابن الحصين، أستاذ البطال ومعلمه الأول، والتي عن طريقها اقتحم العرب حصن ابنته الأميرة «باغة»، حاكمة مالطة وما حولها من ثغور، وانتهى الأمر بقتلها وقطع رأسها منذ بضع سنوات ليست بالبعيدة؟
وكان الملك مانويل يعني مشيرا إلى تلك المكيدة التي دبرها الحصين بن ثعلبة، حين استولت فيالق ذات الهمة على كتيبة من قادة جند الأروام، تسوق أمامها عائدة إلى حصن الأميرة باغة المنيع، الذي استعصى فتحه واقتحامه طويلا على العرب، تسوق أمامها بضعة آلاف مؤلفة من أسرى العرب المسلمين في أصفادهم وسلاسل سبيهم.
فكان أن استولت كتائب ذات الهمة التي تحصنت في شعاب الجبال على قادة الأروام وبطارقتهم، وحرروا أسراهم، وقبل أن يقدموا على قتل القادة الأروام، اضطلع العيار العجوز ابن الحصين بوضع
التفاصيل الدقيقة لأتباعه من البصاصين والعيارين المهرة في التمثيل والتنكر وإتقان اليونانية القديمة، وتحركوا باتجاه حصون الأميرة «باغة» وهم يسوقون أسراهم من العرب، ومنهم
وهنا انطلت الحيلة على الحراس فانفتحت البوابات عن آخرها، حتى إذا ما احتوت ساحات الحصن كتائب المسلمين اندفعوا من فورهم تقتيلا في الحراس، وواصلت ذات الهمة تقدمها إلى أن اقتحمت مخبأ الأميرة باغة ونازلتها وجها لوجه إلى أن تمكنت منها، فقطعت رأسها عن جسدها، وأرسلت الرأس إلى عاصمة الخلافة لتعتلي أسوارها.
وكانت تلك الواقعة المكيدة الشهيرة أول بوادر انتصارات الأميرة ذات الهمة التي أعلت من شأنها، ولفتت إليها في إعجاب كل الأنظار على طول العواصم العربية والإسلامية، كما أنها دفعت بأعدائهم من تحالف الأروام البيزنطيين إلى أقصى بحار اليأس القاتمة.
وهنا وصل القنوط بالملك مانويل وهو يسوق لمجمع قادته تفاصيل تحايل ذلك الشيطان متعدد الرءوس ... أبو محمد البطال في اقتحام تخوم مدن القسطنطينية وأسوارها المنيعة ذاتها، حين اتخذ بنفسه هيئة البطريق القائد، بارتدائه لملابسه ولحيته ذاتها و«باروكة» شعر رأسه، بل ونبرات صوته ذاتها، ونطق لحراس أسوار القسطنطينية بالشفرة السرية، التي عقبها انفتحت بوابات العاصمة مستبشرة مرحبة بعودة الجيش العائد المظفر من جند الأروام يسوقون أسراهم من العرب: أحقا ما يحدث وتسوقه الأخبار السوداء؟!
تساءل الملك مانويل في أقصى حالات هياجه: أيمكن أن يعقل ما يحدث، أن ينام ليلة على تحقيق حلم الأسلاف الأبدي بالوصول إلى هنا بجيوشه؛ ليصحو صبيحة اليوم التالي والعرب يدقون حصون القسطنطينية العاصمة؟ هي الخيانة ولا شك!
حتى إذا ما تطاير المزيد من الأخبار والمعلومات إلى الملك مانويل وقادته، بعودة الأمير عبد الوهاب ذاته إلى مقدمة صفوف المسلمين على مشارف القسطنطينية، استبد بهم الغيظ أكثر.
وكان الاعتقاد السائد لديهم أنه مات عقب الكمين العاتي الذي دبروه له، لتصيده وإسقاطه وقتله بكل الوسائل على مرأى من عيونهم، حتى إنهم أيقنوا من سفح دمه على رءوس الجبال وقتله.
وحتى إذا لم يقتل إلى حد إزهاق الروح، فسيظل طريح فراشه لسنوات.
لكم تبددت أحلامهم وبهجتهم الكبرى على طول عواصم الغرب حين علموا أن ابن الدلهمة عبد الوهاب ما زال حيا.
وها هو عبد الوهاب يحارب الآن على أبواب القسطنطينية السبعة، وهم هنا أقرب إلى المشلولين لا يفعلون شيئا سوى مجرد ترصد الأخبار وسماعها.
والأخبار الصاعقة لا ترحم لحظة، غمضة عين، وهي تحمل إليهم تفاصيل وأفعوانية ما يحدث على هذا النحو الدميم الصادم: القسطنطينية تفتح أبوابها على مصاريعها، والعرب يندفعون إلى ساحاتها وقصورها وأسواقها وحصونها دون عناء داخلين ... فاتحين. - العرب يشاركون سكان القسطنطينية من رجال ونساء احتفالاتهم وكرنفالاتهم. - ذات الهمة تتوج الآن أول أميرة عربية على عاصمة الأروام البيزنطيين، وهم هنا على مشارف عاصمة الخلافة بغداد. - يا له من جنون! - يا له من زمن حقا رديء!
ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية
هكذا وصل الحنق والهياج الهستيري برأس التحالف البيزنطي، الملك مانويل، خلال اجتماعه بمجلس حربه وكرادلته وملوك أوروبا وحكامها بالعراق الأعلى، حين وصلته أخبار دخول عبد الوهاب وذات الهمة عاصمتهم القسطنطينية، بعدما توغلت جيوشه هو - أي الملك مانويل - داخل بلاد الرافدين، إلى الموصل متقدمة باتجاه عاصمة الخلافة بغداد جنوبا، وبعدما انقلبت الدنيا على قدم وساق؛ لكثرة المعارك والمواكب والرجال والإمدادات والتلاحم.
وألهبت الخدعة الجديدة التي قام بها المخادع «البطال» نيران غضب الملك مانويل، تلك الخدعة التي أسقط بها العاصمة القسطنطينية وشقها كمثل نصل سكين في الزبدة.
ذلك أن البطال عقب تنكره في زي بطرق شهير، وفكه أسرى المسلمين، واستيلائه على السبايا من عشرات الآلاف المؤلفة من جنود الأروام وبطارقتهم، أمر بقتلهم والتنكر بأزيائهم، وقاد المتنكرين من العرب وكمن بهم ثلاثة أيام - إلى حين حلول أحد أعيادهم وكرنفالاتهم: «وكان يوما ليس له مثيل في القسطنطينية» - بأزيائهم، كما أمرهم الأمير عبد الوهاب، وأشرف أبو محمد البطال وعياروه بالآلاف على دقة عمليات التنكر الواسعة، واندفعوا يسوقون أسراهم من بقية العرب على هيئة أسرى يرسفون في السلاسل، والأروام المتنكرون يسومونهم العذاب بجلد ظهورهم العارية إلى حد قتل بعضهم قتلا حقيقيا على مرأى من حراس أبواب القسطنطينية، حتى وصلوا مرج الملكة الفسيح المترامي، غزير المياه، مترامي التعرجات، يموج بالغزلان والحيوانات البرية، وتغطي الورود والرياحين والزعفران سهوله، وهو على بعد خمسة أيام من العاصمة.
وما إن تواترت الأخبار داخلها بوصول البطرق المنتصر بأسرى المسلمين حتى زينت الأسواق والساحات والمباني والقصور والدواوين العامة، وصدحت الفرق الموسيقية، وعلت أغاني النصر والانتصار على العرب والمسلمين، وتدافع تجار القسطنطينية فدفعوا أموالهم وممتلكاتهم في شراء
فضربت الطبول والمزامير، وسكبت الخمور أنهارا، وتوافدت الوفود من بقية المدن والعواصم والأقطار المشاركة بجنودها ووحداتها في تلك الحرب المستعرة، حتى تحولت القسطنطينية وما يتبعها من مدن إلى يوم الحشر ذاته، وذلك من كثرة الخلق من مختلف الأجناس الذين تجمهروا وركبوا كل صعب؛ ليشهدوا بأعينهم الآلاف المؤلفة من الأسرى العرب يرسفون في أصفادهم وقيودهم وسلاسل سبيهم، وهم يتحركون منكسين هاماتهم في خزي وعار، في يوم النصر العظيم ذاك الذي صادف الاحتفال البهيج به أيام أعيادهم وكرنفالاتهم الموسمية. وهي الأعياد الكبيرة الكفيلة وحدها باجتذاب آلاف الوفود من مختلف أقطار أوروبا مشرقا ومغربا، ما بين روم وقوط وإسبانيين وبرتغاليين ومجريين وسلاف وقبارصة ويونانيين وبنادقة وغاليين وأصراب، ومختلف الأقوام والأقطار والألسن والأزياء والأقنعة والخمور والزينات.
وتواترت إلى الجميع أخبار الانتصارات التي تحرزها الجيوش الرومية المتحالفة، والتي تضم الأزواج والإخوة والأحباء وأبناء العم، والتي واصلت زحفها وتقدمها إلى عاصمة المسلمين محاصرة بغداد ذاتها.
ثم ها هي البشائر من أسراب الأسرى العرب وسبيهم وأموالهم، وكنوز الشرق الباهرة تزحم عاصمتهم القسطنطينية مع أيام التنكر والكرنفالات السنوية.
على هذا النحو تواترت الأخبار والأقوال، وتقاطرت الوفود، وزينت المدينة بأسرها كمثل عروس لحظة زفافها: يا له من يوم!
وهكذا سرت الخمور لتلهب الحلم السلفي الكبير أنهارا.
وفتحت أبواب الكنيسة الكبرى الشهيرة بالعاصمة القسطنطينية على مصراعيها، وازدانت بالقناديل الذهبية المرصعة بالجواهر، وبالصلبان المذهبة الحمراء، والآلاف المؤلفة من ستائر الحرير الأخضر، وتدافع القساوسة والشمامسة والرهبان والبطارقة يصدحون بالتراتيل وبأيديهم مباخر الذهب والفضة والجوهر؛ شكرا للنصر العظيم الذي أحرزوه أخيرا على عرب الشرق.
ورغم تنكر ذات الهمة على هيئة امرأة بدوية تزحف مولولة في حجلاتها على أربعة مع بقية الأسرى، بينما السياط تلهب ظهرها الضامر، إلا أنها انشغلت من فورها بإعداد خطتها وحركة جيشها المتنكر، فكانت توزع فيالقها وكتائبها عبر الجهات الأربع، فقالت لسعيد بن الفرج: خذ عشرة آلاف فارس واتجه نحو وادي البنت شرقا، وأقم فيه باتجاه الغرب إلى حين وصول الملك مانويل من العراق، فإذا وقع بيننا وبينهم القتال؛ فاخرج عليهم من اليمين.
ثم زحفت إلى أن قاربت قائد الكتائب السودانية سملق وامرأته: خذ عشرة آلاف فارس من العرب والسودانيين واكمنوا خلف الجبل وشعاب التلال المحيطة، وحين تقع المعارك اخرجوا شمالا.
وقاربت في أطوار بكائها ونحيبها القائد الفلسطيني بستان بن حوران، ليخرج بعشرة آلاف من بني كليب وتغلب، قائلة: عليكم بضرب الحصى والنشاشيب، وعليكم باليقظة في أموركم، وإذا ما التحمت المعارك احملوا من خلف ظهورهم؛ الفيلق بعد الآخر حسب التتابع المتفق عليه مع حوران.
وواصلت أوامرها في حجلاتها وسلاسلها لحملة قوارير الغاز والقنابل النفطية، ومشعلي الحرائق، ومطلقي البخور المركب والغازات السامة وهكذا.
وخلال وضعها لخططها المحكمة، وانتظارا للحظة المرتقبة، فإنها كانت تتظاهر بالبكاء والنحيب، وإهالة التراب على رأسها زاحفة تحت أقدام جلاديها، وخاصة أبا محمد البطال، الذي تعود المزاح معها وإلهاب ظهرها بسياطه، متخذا هيئة البطريق؛ القائد المنتصر الذي يلتف حوله الجميع.
كانت ذات الهمة تعاني الكثير وهي تكتم ضحكاتها بسبب تعليقات البطال وإيماءاته وحركاته، وهو يرفع عقيرته عاليا مشاركا بطارقة الأروام ابتهالاتهم، والرطن بلغاتهم، وهو يعاود إلهاب ظهرها العاري بسياطه قائلا: فرصة ... فرصة سعيدة. •••
وكثيرا ما كانت ذات الهمة الأسيرة تغلبها غرابة أطوار أبي محمد البطال عبر إيماءاته وتبديه وقدرته على التمثيل والتقمص والمحاكاة، التي تصل به إلى تقليد الأصوات واللكنات، ورفع العقيرة والإنشاد بصوت غاية في الجمال، وإن لم يخل من تهكم دفين كان يصل بذات الهمة إلى حد الاستغراب وهي تزحف كبدوية في سبيها عند القدمين حاملة أصفادها الحديدية مع آلاف العرب الباقين.
فكان البطال يصل بالمأزق الحرج الذي هم فيه إلى أقصى درجات الحذر من انكشاف الموقف، إلا أنه سريعا ما كان يعاود مواصلة الاستمرار في التمثيل وإتيان أفعال شاقة وغريبة عبر ذلك الاحتفال الكرنفالي، الذي تنكر فيه الجميع من غالب ومغلوب وهم في طريق زحفهم على طول ساحات عاصمة الأروام وحصونها وكاتدرائياتها، كمثل مشهد تمثيلي ملحمي يشترك في أدائه ولعب أدواره الآلاف المؤلفة من عتاة الممثلين والممثلات.
ومن عادات الأروام أن نساءهم لا يسترون وجوههن - وقد كحلن أعينهن - فظهرن كأنهن الشموس الطوالع، وكانت جملة البنات والأبكار ثمانين ألفا من النساء.
وركب أوسطليس بن جرجيس - وكان النائب المعين من قبل الملك مانويل على القسطنطينية - في عشرين ألف بطريق من الفوارس، وخرج ليلقى السبي العربي، حتى إذا ما التقى بالبطريق قائد السبي؛ وهو أبو محمد البطال،
حيث أغلقت في إثرهم أبوابها النحاسية القانية الاحمرار كذهب أندلسي متوهج.
هنا صاح أبو محمد على الرجال؛ فأطبق عليهم الأمير عبد الوهاب وذات الهمة وكتائبهما المتنكرة بأسرع من انطباق الجفن على الجفن، متخلصين من ثيابهم وأصباغهم ولحاهم وصلبانهم، وضربوا رقابهم على مرأى ممن في القسطنطينية من المحتفلين بالكرنفال.
وقال أبو محمد البطال - بعد أن انتهى من إفناء معظم قادة القسطنطينية وجندها وسط الذعر والفزع الذي تحول إليه المهرجان: «إن ألفا من العوام لا يساوون كف تراب.»
ذكر البطال ذلك بسبب الذعر والفزع الهائلين اللذين سادا المدينة والمهرجان؛ حيث انطلقت الألوف المؤلفة بأصباغها وأقنعتها وملابسها الغريبة مندفعة جارية في كل اتجاه لا تعرف لها مهربا، بينما المجاهدون العرب يواصلون مطارداتهم وحصارهم، سواء على طول الساحات والميادين العامة، أو داخل أغوار الحدائق والمتنزهات المزدانة، وحتى داخل القصور والمباني دون هوادة.
واضطلع الأمير عبد الوهاب بنفسه يتبعه فيلقه بمطاردة ومنازلة قادة جند محمية المدينة وحكامها، متخلصا من رقابهم الواحدة بعد الأخرى وهو يعمل فيهم بحسامه حصدا داخل أروقة قصر الملك مانويل ذاته، الذي سدت الجثث منافذه وأروقته وسراديبه سدا؛ حتى لم يعد هناك من منفذ.
وحين انتهوا من إفناء كل نبض لمقاومة، احتضنت الأميرة ذات الهمة ابنها عبد الوهاب وهي تجفف عنه جروحه، وتمسح بكف يدها الحانية أصباغه التي تنكر بها.
وهنا اندفع أبو محمد البطال مضاحكا الأميرة ذات الهمة وهو يأخذ بيدها لتعتلي مكان أعلى عروش أوروبا هامة ومقامة، وهو عرش الملك مانويل الثالث، نازعة عنها ثياب الروم والأصباغ والشعر المستعار والقناع، مشيرة إلى الكرنفال الكبير التنكري الذي استحال إلى عيد للذعر مما حدث.
وهكذا دانت لهم القسطنطينية وعواصم وثغور بلاد الأروام الواسعة التي تعيش بالخير الكثير والثراء. •••
وعلى هذا النحو الصادم الفاجع وصل الخبر القاتل إلى الملك مانويل وقادة جيشه، بعد أن أشعلوا الموصل بالنيران وقاربوا بغداد ذاتها؛ كيف أن الأمير عبد الوهاب بعد أن شفي من جراحه الدامية، والبطال ومن معه من الفرسان، تملكوا البلاد والثغور طولا وعرضا، وفتحوا القسطنطينية ذاتها، وقتلوا من فيها من الحاميات والأجناد.
وكيف أن الأميرة ذات الهمة قد استولت على قصر حكمه، واعتلت عرشه ، ووضعت تاج الآباء والجدود على رأسها، فطار صواب الملك مانويل غضبا، واستبد به الجنون متسائلا لكل من يقع بصره عليه: أترون ... أحقا ما نسمع ويحدث؟
وهكذا اجتمع قادته من الملوك والكرادلة لبحث الأمر، وهم يترحمون على الملك الذي طاش صوابه، وشلت حركته من هول المفاجأة، وأجمعوا على أهمية إيقاف القتال ومواصلة الزحف في
وهكذا تواترت الأخبار من مقر الخلافة في بغداد بالعودة المفاجئة لجيوش الأروام المتحالفة الجرارة مندحرة إلى مقر هارون الرشيد في مالطة، فتحسب هارون الرشيد من فوره لأهمية عودتهم
ورتب من فوره لحماية مالطة وبقية الثغور، ثم عاد أدراجه إلى بغداد المنقلبة رأسا على عقب لما يحدث من مفاجآت غير متوقعة، سواء بالنسبة إلى تملك ذات الهمة وعبد الوهاب القسطنطينية، أو بالنسبة إلى عودة الملك مانويل بجيوشه بعد أن قاربت مشارف بغداد.
وضاعف من هول المفاجآت السقم المفاجئ الذي حط على أمير المؤمنين الخليفة الهادي، مما حتم ضرورة عودة هارون العلوي في مثل تلك الظروف المحتدمة؛ ليعتلي من فوره كرسي الخلافة الخامسة للراشدين، ويعرف بالخليفة هارون الرشيد.
العصر الذهبي لهارون الرشيد
واستتب الأمر لأم المجاهدين - كما لقبها الخليفة - في حكم القسطنطينية وتخومها من بلدان الأروام حتى الأندلس، بعد أن اقتحم العرب أسوارها التي اضطلع بها البطال والأمير عبد الوهاب، الذي أقيمت أفراح زواجه من الأميرة «علوى»، أخت هارون الرشيد، بعد النصر الذي بهر الجميع لمدة سبعة أيام متصلة، ثم ما نشب من صراعات بين عبد الوهاب وبين زوجته الأولى - أخت الأمير راشد الكلبي المدعوة ب «أخت راشد » - نتيجة لزواجه السياسي الثاني، وهي التي رزق منها بأميرين أسماهما: قشعما وضيغما.
والأخير - أي الأمير ضيغم - ولدته أخت راشد، لكنها ماتت من فورها حزنا وغيرة من زوجته الثانية، فحزن عليها عبد الوهاب حزنا شديدا، ولبس عليها السواد شهورا، بل هو فضل دفنها بموطنها الحجاز حسب وصيتها، وعاد مصطحبا ولديه إلى القسطنطينية عبر رحلة بحرية طويلة شاقة، تعرض فيها هو وولداه قشعم وضيغم لبضع مؤامرات وكمائن من جانب قراصنة الأروام وفلول جيشهم المندحر، إلا أن النجدات سريعا ما كانت تصله في كمائنه، أو تلحق به من أمراء الحجاز وعيونهم، أو من أعين الأمير البطال، التي أصبحت لا تبعد عنه لحظة، خاصة بعد كمين محاولة اغتياله من جانب الملك مانويل، وبمساعدة بصاصيه وجواسيسه؛ إذ تم رصد أرفع الجوائز مقابل رأسه.
واجتاز الأمير عبد الوهاب - وبصحبته ولديه - سلسلة المؤامرات والكمائن التي نصبت له على طول البحر الأبيض المتوسط، منذ عودته من الحجاز وإشرافه على القسطنطينية، وتمكنه من اجتياز أسوارها ودخولها.
ووصل الاندهاش مداه بالأمير عبد الوهاب من ذلك التغير السريع الذي اعترى عاصمة الأروام البيزنطيين، نتيجة لما أحدثه العرب فيها من مبان ومنشآت، ومساجد ودور علم وأسواق ودواوين عامة خلال فترة تغيبه عنها بالحجاز.
وضاعف من ابتهاج عبد الوهاب حين وصل بولديه إلى قصر والدته الأميرة ذات الهمة متلهفا للقائها، ففاجأته ذات الهمة بأن دفعت إلى أحضانه بابنه قائلة: ابنك محمد ... سيف الإسلام.
كانت زوجته الثانية الأميرة «علوى» - أخت الخليفة الخامس هارون الرشيد - قد أنجبت له ابنه الأول منها، الذي استبشرت به ذات الهمة وأسمته بمحمد. وكان عبد الوهاب قد تركها حاملا في شهرها الرابع حين عودته بولديه إلى موطنه الحجاز لزيارة الأهل والقبيلة، وتعريف ولديه بمنبتهما؛ لدفن زوجته الحجازية أخت راشد، التي أرقه طويلا الحزن على موتها المفاجئ، وهي التي أمضى معها أعذب الأيام والليالي، وتشاركه أحلامه وآماله في النصر وتحقيق أمن المسلمين، ولم ينس ذروة حنوها عليه الذي أحاطته به عقب مرضه، نتيجة لجراحه التي ألزمته الفراش بضعة شهور بينما المعارك حول القسطنطينية في أوجها.
ومنذ ولادة سيف الإسلام تبنته جدته الأميرة ذات الهمة، بحيث حرصت على تربيته، وإرضاعه كل أفكارها الكبرى في الجهاد وتأمين ثغور وثغرات المسلمين التي منها ينفذ أعداؤها الطامعون.
بل إن ذات الهمة لم تغفل عيناها لومضة عن الخطر المحدق بوصول سفن وبواخر الملك مانويل وجيش الأروام لاسترداد ملكه وعرشه بكل الطرق والمهالك من أيدي العرب؛ فكانت في كل يوم تدخل التحسينات ومختلف التحصينات على خطتها الرباعية، انتظارا لوصول الأعداء واندلاع الحرب التي لا مهرب منها.
حتى إذا ما حط رجال الملك مانويل وجنده؛ استقبلته ذات الهمة وعبد الوهاب بجيشهما إلى حد أن شتتوا فلولهم عبر التلال والوهاد، ودون أن ينالوا الكثير من فيالق ذات الهمة المتحصنة هذه المرة داخل أسوار القسطنطينية المنيعة.
فلقد عزز من موقع الجيش العربي هذه المرة ما وقع في أيديهم من مؤن وذخائر وأسلحة حديثة، وكافة إمدادات جيش الأروام، ليعاودوا إشهارها في صدورهم بعدما تخلوا من فورهم عن الوصول إلى عاصمة الخلافة، وعادوا أدراجهم مندحرين لاستعادة القسطنطينية من أيدي ذات الهمة والأمير عبد الوهاب، لكن دون جدوى ودون إحراز تقدم يذكر.
كما ضاعف من موقع الجيش العربي ذلك الكم الهائل من المعلومات والخطط الحربية، ومشاريع تطوير الأسلحة، وإدخال مختلف التحسينات عليها، فكان أن تسلمها أبو محمد البطال وأتباعه، كما هي لم يسبق استعمالها، مازحا كعادته وهو يطلع الأمير عبد الوهاب وذات الهمة عليها وعلى أسرارها ومخترعيها وخطط تطويرها: كما هي ... لم تمس ولم تجرب! نجربها في أجسادهم - بإذن الله.
وهكذا فشل جيش الأروام بقيادة الملك مانويل في استعادة القسطنطينية؛ نتيجة لترجيح الأسلحة الجديدة والمؤن التي أصبحت في أيدي العرب.
ووصل الغيظ الجنوني بالملك مانويل إلى أقصى مداه؛ نتيجة لتخليه عن التقدم بجيوشه المدججة داخل بلاد الرافدين باتجاه عاصمة الخلافة، وعودته مسرعا لاسترداد القسطنطينية التي تسربت ضائعة أيضا من بين يديه.
وهكذا تشتتت فلول جيش الأروام أمام مطاردة عبد الوهاب لهم مشرقا ومغربا؛ فانفك تحالف الأروام البيزنطيين ودب الخلاف بينهم لسنوات طويلة، واستقر الأمر لذات الهمة والأمير عبد الوهاب في حكم القسطنطينية طويلا.
أما هارون الرشيد فعاد من فوره إلى بغداد، التي كانت قد تعاظمت شهرتها، واتسعت أحياؤها، وصخبت بكل أنواع الفنون والثقافات والقطاعات الزراعية والبساتين اليانعة على طول نهر دجلة، وبالأسواق المكدسة بمختلف السلع والبضائع العربية.
واستقبلت مواكب هارون الرشيد العائدة بالتكبير والغناء والموسيقى، ومنها ألحان إسحاق الموصلي، وموشحات الجارية التي استقدمها الموصلي للخليفة المحتضر من بلدة دمياط المصرية، وهي الجارية حسنة الصوت «خيزران»، التي اشتهرت موشحاتها وترامى صيتها:
أقول وقد ساقت من الدار نوقها
وجرى السرى من لوم بختي سوقها
ترفق بها يا حادي العيس ساعة
على لمحة لم يبق إلا بروقها
وعد بالمطايا نحو رملة عالج
فالشوق فيها مطلق ويروقها
وبين ضلوعي من فراق أحبتي
جحيم تلظى حرها لا أطيقها
عليكم سلام الله ما دام بارق
وما لمعت في الخافقين بروقها
لم أنس يوم فراقكم ما نالني
وجرى دمعي لفقد من أحببته
لا تطلبوا قلبي فما قلبي معي
القلب عند خيامكم خلفته
وكان أبو موسى الهادي قد أوصى بالخلافة من بعد المهدي للرشيد أخيه الأصغر.
وكان هارون الرشيد يشاركه قصر الخلافة، إلا في أوقات غيابه للجهاد حفاظا على ثغور المسلمين، لحين عودته محملا ببهجة النصر الكبير بتأمين الثغور، وفتح القسطنطينية ذاتها، وتنصيب ذات الهمة إمارتها.
فخاف الخليفة المريض إلى حد الاحتضار البطيء سطوة الرشيد، خاصة بعد أن لازمه حلم أو رؤيا؛ حيث رأى المهدي في منامه وكأن الرشيد متربع على قبة الخلافة، وهو واقف في خدمته خارج القبة؛ ومن هنا استبدت به المخاوف فأصبح موسوسا يحسب له كل حساب.
إلى أن وخزه ذات ليلة شيء في قدمه اليسرى، فحك رجله إلى أن صارت مثل البندقة، وصار مولعا بحكها حتى تورمت واتسعت، فسقط ميتا لساعته؛ فأسرع مسرور إلى جاريته المقربة «خيزران» ليخبرها بموت الخليفة المهدي، وأسرعا في طلب الرشيد فبايعاه بالخلافة، ولم تمض ساعات حتى أقبل من يبشره بمولد ابنه المأمون من سريته «مراحيل».
وما إن تعالى النهار حتى شاع في بغداد موت المهدي وخلافة الرشيد، الذي دانت له الدنيا مشرقا ومغربا، وأطاعه جميع العباد من العرب والترك والعجم والديلم، وعرف عصره بالعصر الذهبي للراشدين، حتى قيل: إن بني العباس كالنجوم الساطعة كلما خبا كوكب منهم سطع آخر مكانه.
وهكذا سعى إلى الرشيد جميع الملوك والأمراء وحكام الثغور، فاستقروا في مجده وعزه، وغنت باسمه من ألحان إسحاق الموصلي «خيزران» آخر أغنياتها:
الدهر يومان ذا من وذا قدر
والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
القول للذي بصروف الدهر عايرني
هل عاند الدهر إلا من له قدر؟
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأعلى قاعه الدرر؟
وكم على الأرض من خضراء مورقة
وليس يرجم إلا من له ثمر؟
كذلك الريح إذا هبت عواصفها
فليس تقصف إلا عالي الشجر
وفي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يخسف إلا الشمس والقمر
لا تأمنن إلى الدنيا وزينتها
فعند صفو الليالي يحدث الكدر
وكما هو متبع، ما إن خمدت نيران الحرب والجهاد حتى اندلعت من فورها نيران مؤامرات القصور والسراديب المظلمة، التي تلهبها الصراعات الداخلية والفتن، والمصالح القبلية، والعصبيات الضيقة.
ففي الجبهة العريضة، ومركزها القسطنطينية والثغور، اندلعت من جديد الصراعات ضد ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبي محمد البطال، الذي كان قد أنعم عليه الخليفة المهدي تقديرا لإقدامه وبطولاته واتساع نفوذه بالإمارة.
وهي الفتن والمؤامرات التي أعاد تأجيج نيرانها الخابية عمها ظالم وابنه الحارث، إلى حد دفع بالأمير عبد الوهاب إلى محاربتهما وقتل جده ظالم في شعاب الجبال، كذلك ألهب نيران تلك الفتن كبار وزراء البلاط لدى الخليفة الجديد، الذي حارب منذ مطلع شبابه تحت رايات الأمير عبد الوهاب باسم هارون العلوي.
وكان أكثر أولئك الوزراء تآمرا في معاداة ذات الهمة والأميرين عبد الوهاب والبطال، قاضي القضاة عقبة بن مصعب، والفضل بن الربيع، الوزير المقرب من الرشيد.
إلا أن ذات الهمة وابنها رأيا في جعفر بن يحيى البرمكي والبيت البرمكي عامة كل تفهم واستجابة لفكرهما ودورهما في تأمين حدود خلافة المسلمين.
وكان قد تعاظم دور البيت البرمكي داخل بلاط هارون الرشيد إلى حد فجر كل الأحقاد الدفينة ضد الوزير الأول، جعفر بن يحيى البرمكي، عند الرشيد؛ بسبب هيمنته على أهم القرارات وأخطرها، المتصلة بقضايا الحرب والسلم، خاصة في مساندة جبهة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب والأمير أبي محمد البطال، ضد مناوئيهم في أمور الجبهة، ووضع خططها من قصيرة عاجلة إلى طويلة الأمد مضنية.
وكذلك بسبب اتساع ثراء البرامكة وتعاظم نفوذهم، وما أصبحوا يرفلون فيه من جاه ونعيم أصبحا مصدرا ملهما للشعراء والمنشدين وكل لسان ينطق، حتى إن هارون الرشيد قال ذات مرة: والله لقد أفقرنا بنو هاشم وأسعدنا البرامكة.
حتى إن الرشيد بدأ يضمر لهم الحقد الدفين بينه وبين ولديه الأمين والمأمون وأخص خواصه، ومنهم القاضي المقرب من الطرفين «يحيى»، الذي اقترح ذات مرة على جعفر البرمكي أن يهب ما أعطاه الله للرشيد وبنيه، فأجابه جعفر البرمكي: «بالله عليك، هل سمعت من الرشيد أنه مد عينيه إلى أملاكي وهي وقف على الفقراء والمساكين وأرباب الديوان؟ طالما أن بني العباس أصبحوا يتطلعون إلى ما في أيدي غلمانهم؛ فما لنا حاجة إلى خدمتهم، ولم نعد نعاشر سوى العوام.»
فلقد تفاقمت الأحقاد بين الرشيد والبرامكة إلى حد دفع به إلى تسريب جواسيسه وعيونه وبصاصيه للتجسس عليهم وعلى أعوانهم، حتى داخل إيوان وغرف نوم الوزير الأول جعفر، ووالده الشيخ يحيى البرمكي، وأخيه الأصغر الفضل.
وهكذا تجمعت الوساوس والدسائس باتجاه نكبة البرامكة وحلفائهم؛ وهم هنا: ذات الهمة، وابنها الأمير الفاتح عبد الوهاب، والأمير أبو محمد البطال.
الرشيد يعتقل ذات الهمة
وساور الشك الأميرة ذات الهمة وهي تستقبل مبعوث الخليفة الجديد هارون الرشيد، وتتسلم رسائله قارئة - على استعجال وترقب - ما جاء فيها، باحثة من فورها عن الأمير عبد الوهاب لمشاورته فيما يبعث به إليهما في مقر قيادتهما بالقسطنطينية أمير المؤمنين.
أحاطت بها من جديد الهموم وهي تصرف الرسول مستعدة للخروج والتوجه من فورها إلى مضارب الأمير عبد الوهاب، والاجتماع به هو والأمير أبي محمد البطال؛ لبحث الأمر من جميع جوانبه دون عجلة ، والوقوع في حبائل فعل أو قرار خاطئ قد يقلب حياتهم رأسا على عقب.
كانت في السنوات الأخيرة قد آثرت حياة الهدوء منشغلة بتربية أبناء عبد الوهاب الثلاثة: قشعم وضيغم، من زوجته الحجازية، وسيف الموحدين، ابن زوجته علوى «أخت راشد»، وكانت قد رأت سلواها في إعداد أجيال أشبال المحاربين؛ تتولاهم بنفسها بالرعاية وهي تسقيهم - مع لبن الأم - مراحل إعدادهم كفرسان، حتى إذا ما اتسع إدراكهم بدأت في طور إعدادهم كمحاربين وفرسان بتسريب فنون الحرب الحديثة إليهم، وما طرأ عليها من عتاد ومخترعات، مع إعطاء الاعتبار الأهم للفنون البحرية، ومواقع الثغور وطبيعتها، وأهميتها للعرب والمسلمين.
ولم تكن ذات الهمة تضن بشيء على أبناء شهداء المحاربين تحت راياتها وابنها عبد الوهاب، وهم جيل كامل من اليتامى وأبناء قتلى الحرب المستعرة منذ عشرات السنين، بل منذ قرون ... منذ جدها الصحصاح الفاتح الأول لهذه العاصمة - مكمن وبؤر الفتن والمؤامرات والعدوان ضد العرب.
اتخذت طريقها على صهوة جوادها، يتبعها حرسها، وتسبقها كلابها إلى مضارب ولدها عبد الوهاب، حتى إذا ما وصلته لم تترجل عن جوادها، بعد أن علمت من الحراس والحجاب تغيب الأمير عبد الوهاب بصحبة الأمير البطال منذ ضحى اليوم في مهمة سرية للغاية لم يبلغاها بها، كما هي العادة سابقا في مفاتحتها في كل صغيرة وكبيرة.
ترددت الأميرة ذات الهمة قليلا ثم غمغمت لنفسها: لا بأس.
فهي التي آثرت ورغبت هذا الوضع باختيار حياة طابعها الركون إلى الهدوء الأقرب إلى الاسترخاء، ولو من أجل منطلق إعادة تضميد جراحاتها الغائرة من هول الحرب المديدة وأخطارها طيلة سنوات نزفت فيها من دمها القاني مدرارا، وهي التي دأبت على إخفاء جراحها عن كل أعين، مثلها في هذا مثل جدها جندبة بن الحارث، الذي عادى الأطباء والحكماء إلى أن وافته المنية.
صحيح أنها - وعقب فتح القسطنطينية وتشتيت فلول جيش الإفرنج - أصبحت بموجب مرسوم أمير المؤمنين، الخليفة المهدي، أول إمبراطورة عربية تعتلي عرش ملوك الأروام، لكنها تقبلت هذا الأمر إرضاء لخليفة المسلمين ليس غير، وذلك بعد أن رفضه بإباء وحزم ابنها عبد الوهاب مترفعا زاهدا كعادته.
ثلاث مرات وعبد الوهاب يرد صك الخليفة، ووفد رسله إلى بغداد بالرفض الحازم في اعتلاء عرش أباطرة الأروام.
هنا تقبلت الأمر أمه ذات الهمة، لكن دون أن يستهويها وتجتذبها مباهجه وتسلطه، كل ما هنالك هو مجرد القبول بالوضع الجديد اسما بأكثر منه فعلا وتجبرا على خلق الله.
وإن بقي الفعل وشئون ما يجري بيد ابنها الأمير عبد الوهاب ومقربيه، أو من اجتذبتهم قدراته وصائب بصيرته ومعرفته فتجمعوا من كل صوب إلى حيث مأواه ومضاربه، حتى أصبحوا كمثل جماعة متناهية التناسق والتنظيم في كل شئون الجهاد والحرب التي ذروتها الشهادة، وأيضا فيما يتصل بتصريف ومسار شئون الدولة الجديدة المترامية الأذرع والأقوام من الإفرنج.
وكذلك فيما يتصل بالتقوى وتحمل الشدائد، والتمسك بأزهى قيم الحياة العربية المتسامية عن كل إغراءات الجشع والاستحواذ والتسلط.
وهو ما رأت فيه ذات الهمة ... حصادها الذي أينع مثمرا من فكرها الذي بدأ معها منذ تكون شبابها في فلسطين ووادي الحجاز. ها هو حصاد سنين الأسر ومشاق رعي الإبل والخيل الوحشي، وخوض رحى المعارك الضارية، والتلفع بالدم المراق قانيا أنهارا ليل نهار.
ومن هنا كانت مآثرها الركون إلى الحياة اليومية، والعودة إلى منابعها في تربية رضيع فطيم، ورعاية طفل مراهق إلى أن يصبح شبلا ومحاربا، لكن دون إغفال العين عما يجري، ويستدعي اليقظة
صحيح أن قناعتها برجاحة عقل عبد الوهاب لم يراودها الشك للحظة فيها، إلا أنها ليست بالغافلة، بل هي في نهاية الأمر محط كل قرار مصيري في مواجهة عدو لا يعرف للرحمة معنى، بل وحتى فيما يتصل بشئون الرعية وتصريف الأمور؛ فإن لذات الهمة الرأي الفصل فيها. •••
تساءلت وهي تتحسس مكتوب أمير المؤمنين: أين ذهبا؟
ومن فورها واصلت مسيرتها إلى مضارب الأمير «أبو محمد البطال» دون حاجة للإبطاء، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل والتراخي.
تحسست رسالة أمير المؤمنين في جعبتها من جديد، مدركة أنها الرسالة الثالثة التي تصلها من الخليفة وتحمل ذات المعنى الآمر الناهي: ماذا جرى؟
في المرتين السابقتين نجح البطال في إثنائها عن رأيها، ووافقه الأمير عبد الوهاب مقتنعا بحجج البطال وبصيرته الثاقبة في مثل هذه الأمور المصيرية، خاصة وعاصمة الخلافة مضطربة بالفتن والمؤامرات التي تنذر بالكثير.
كانت الأخبار تصلها من عاصمة الخلافة في الشهور الأخيرة - تباعا ودون انقطاع - عما يحدث ويجري داخل أروقة الخلافة، فيزيدها الأمر أسفا يصل إلى حد الحنق والغضب، فيما اعترى الخليفة الخامس هارون الرشيد من تحولات؛ نتيجة لسعي وزراء بلاطه المقربين ذوي العقلية القبلية الضيقة التي لا ترى بأبعد من مواطئ القدمين.
فذات الهمة تعرف قبل غيرها أهداف أولئك الوزراء في الاستحواذ على الثراء ومصادر القوة، وإعلاء شئون قبائلهم وعشائرهم وأوطانهم وكياناتهم، دون إعطاء أدنى اعتبار لظروف الحرب التي خفتت نيرانها جهارا، وهو ما لا يمكن أن يحدث في الخفاء من جانب تحالف الأروام الحبالى بالانتقام إن لم يكن اليوم فغدا.
حتى إذا ما عبرت ذات الهمة ساحات مقر قيادة قصر الأمير أبي محمد البطال، تطلعت طويلا في قلاعه وضياعه وتعزيزاته التي لم تشهد لها مثيلا قبل الدلهمة: كل هذا؟!
كان البطال قد وصل إلى أقصى درجات السطوة ومصادر القوة حتى أصبح مضرب الأمثال مشرقا ومغربا ثراء ونفوذا وقوة.
بل إن الخليفة ذاته أصبح يضمر له العداء الدفين المتزايد كلما وصلته سطوته وثروته، التي أحرزها بذكائه المتوقد قبل الأظافر والنواجذ.
وكانت ذات الهمة لا تحسده على ما ارتقى إليه، فالبطال الذي بدأ من قاع صفوف البدو الفلسطينيين معدما، وقدم هذه البلاد طفلا رضيعا بصحبة أبيه، كان على الدوام موضع الإعجاب الفائق من ذات الهمة والأمير عبد الوهاب منذ أن انخرط في صفوفهما مجرد عيار بسيط.
وأخرج ذات الهمة من هواجسها ضحكات البطال وحلو تعليقاته في الترحيب بها وبحاشيتها، بل وحتى جوادها ذاته وكلابها، التي كانت مثار حفاوة وتعليقات البطال ونكاته ومأثوراته التي لا تنتهي.
وما إن اجتمع الشمل وحاولت ذات الهمة فض رسائل أمير المؤمنين لها قبل تناول العشاء، عاجلها البطال بمحتويات رسائلها، وتفاصيل ما بها ودلالاتها ، وكما لو كان هو بذاته - البطال - كاتبها حرفا بحرف، معلنا: هذا كمين ليس غير؛ عذرا ... أنا لن أذهب. •••
وهكذا استقر رأي ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى الرحيل العاجل إلى عاصمة الخلافة؛ استجابة لمطلب أمير المؤمنين بأهمية حضور ثلاثتهم العاجل لمقابلته والاجتماع به؛ لبحث الكثير من الأمور التي تستوجب المشورة دون إبطاء.
ولم يتخلف منهم سوى الأمير البطال، الذي أوعز للأمير عبد الوهاب وهو يودعهما على سفينته الخاصة إلى عرض البحر، مشيرا بما يعني: من يدري؟ فقد تتحقق وجهة نظره وتحدث لهما المتاعب التي تستدعي نجدته في الوقت الملائم.
ورمقه الأمير عبد الوهاب مهونا إلى أن الأمر لن يصل إلى هذا الحد من الظلم، إلا أن ذات الهمة
لكن ما إن وطئت قدماها عاصمة الخلافة - وقد دخلوها سرا ليلا حسب مطلب الرشيد - حتى حاوطتها الهواجس، ودوت في أذنيها كلمات أبي محمد البطال وتحذيراته، حتى إذا ما حان موعد لقاء
إلا أن هذا الجو المشحون الذي أثارته مؤامرات ودسائس وزراء الرشيد، بدءا من رأس بني سليم والفضل بن الربيع، مرورا بالقاضي ضيق الأفق والمروءة عقبة بن مصعب، ومع غياب الوزير الأول جعفر بن يحيى البرمكي الذي أصبح في السنوات القريبة في موضع المغضوب عليه.
وكل هذا لم يثن ذات الهمة عن إقدامها في مواجهة الخليفة، ومعارضته الرأي في كثير مما طرح بحثه ونقاشه، حتى إذا ما تطرق الأمر حول مروق وعصيان أبي محمد البطال، دافعت ذات الهمة بكل قواها عن الأدوار الهائلة التي لن تنسى، والتي أسداها البطال لجيش الخليفة، والتي لولاها لما تحقق نصر.
إلا أن الخليفة استشاط غضبا من دفاع ذات الهمة وعبد الوهاب، ومن تغيب البطال وكسر أمره بالمجيء ثلاث مرات، قائما محتدما؛ مما دفع بذات الهمة إلى محاولة الانسحاب احتجاجا من حضرة الخليفة، ليرجعها الحجاب عند الباب مهولين مما يحدث في حضرة أمير المؤمنين.
أما عبد الوهاب فرفض أمرا صريحا للخليفة بتعيينه حاكما رسميا على القسطنطينية، في حالة تخليه عن أبي محمد البطال، وتسليمه وجيشه، الذي اعتبره الخليفة مارقا منشقا عنه.
ولما لم يجد هارون الرشيد منفذا أو تقبلا لما استدعاهما من أجله هب في ثورة غضبه، مشيرا إلى حراسه باعتقال الأميرة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب على مرأى من جمع شمل وزراءه المتربصين والحاقدين، والمنتظرين على أحر من الجمر لمثل هذه اللحظة المرتقبة، التي يشهدون فيها ذات الهمة وابنها عبد الوهاب وهما يساقان إلى سجن الخليفة هارون الرشيد، بعد أن جردهما الحراس والسيافون من سيوفهما ودروعهما بلا أدنى اختشاء أو رحمة.
النكبة الدامية للبيت البرمكي
وهبت الأميرة ذات الهمة من إغفاءتها فزعة، وكانت قد تمددت معانية من ثقل سلاسلها وأثقالها الحديدية كمن لدغتها حية رقطاء، باحثة بعينيها وكيانها كله، متطلعة إلى جدران سجنها الجلمودية الصماء، وهنا وهناك جثمت آلات التعذيب الوحشية في برود وانتظار مترقب.
بدت وكأنها سمعت قهقهات أبي محمد البطال اللامبالية وهو ينزل سلالم المطمورة، التي سجنت فيها بأمر الخليفة الثائر مع ابنها عبد الوهاب.
حتى إنها استدارت لاكزة الأمير عبد الوهاب غير مصدقة، الذي كان بدوره قد استسلم للإغفاء تعبا، لكن ما إن فتح عينيه حتى تلاقت مع عيني البطال الفاحصتين وهو لا يصدق ما يحدث، إلى أن جاءهما صوت البطال جادا هذه المرة: صدقتوا ... جالكم كلامي.
تنهدت ذات الهمة غير مصدقة فعلا ويد البطال تلامسها في حنو أم، وهو يعمل باستخدام أدواته الغريبة التي عرفت عنه، ما بين أحجار المغناطيس والشموع المختلفة التأثير، منها ما يسقط فرائسه من فورها في أقصى حالات النوم والغطيط المعجل، ومنها ما يذهب بالعقل، فتبدو الفريسة - سواء أكانت سجانا أم حارسا - وكأنها مهيضة معدومة الإرادة، ومنها ما يدفع إلى الضحك إلى حد وجع البطن، بل والبدن بكامله.
وما إن انتهى البطال في لمح البصر من فك وثاق ذات الهمة، حتى هبت من فورها مستلة أحد سيوف البطال، الذي مضى من فوره معالجا فك قيود الأمير عبد الوهاب وهو يضحك هذه المرة من أعماقه عاليا، حتى إن الأمير عبد الوهاب عاجله حانقا: يا أخي ... هل هذا وقت ضحك ومسخرة.
فأجابه البطال أكثر ضحكا وتهكما: ومتى يكون وقت الضحك والمسخرة إذن إن لم يكن الآن؟
ومن جديد دوت ضحكاته مجلجلة هذه المرة، حتى إن ذات الهمة كتمت فمه بكف يدها: هس ... اخرس يا بطال. - هس! كله نايم هنا لتاني يوم ... في سجن قصر الخليفة لا أحد يقظ هذه الليلة الليلاء سوانا!
تسللا خلف البطال الذي كان يشير بشمعته المشعلة إلى أكوام الحراس المكومين النائمين في استرخاء، في أقصى غطيطهم وأحلامهم الكابوسية، منهم من يضحك ويهرش ويصرخ فزعا بينما البطال يطوف بهم مداعبا وهو يتحسس أقفيتهم: يصحون - بإذن الله - على خير ... بعد بكرة العشاء. وهذا على أحسن تقدير.
ولم تتمالك ذات الهمة نفسها من الضحك وهما يدوران حول البطال من سلم حجري حلزوني دائري لآخر، والبطال يعلق: في سابع أرض ... ولسه بعد.
وغلب ذات الهمة التفكير حقا في البطال وأفعاله؛ كيف جد السير في أعقابهما إلى بغداد دون أن يعرفا، وعلم بما حدث ومكانهما، فنزل إليهما إلى مطمورتهما سرا على هذا النحو: عجائب!
وأخبرهما البطال بخطته لتهريبهما والعودة إلى بلاد الأعداء معلقا: أرحم من سابع أرض!
وكيف أنه قبل أن يحضر إليهما زار صديقهم وحليفهم الوزير الأول جعفر بن يحيى البرمكي، الذي تركه آسفا لأداء مهمته لإنقاذهما، متخذا طريقه من فوره إلى مقابلة الرشيد، برغم تعاظم الجفوة بينهما في الأيام الأخيرة إلى حد محاولة جعفر والبرامكة الرحيل هروبا عن بغداد وغضبة الرشيد، خاصة بعد أن لفق له الوزير القاضي عقبة والفضل بن الربيع تهمة التآمر على هارون الرشيد ذاته: اعلم يا مولاي أن رجلا من أولاد الحسين يقال له الحسن، بايعه جعفر بالخلافة ... احذر البرامكة.
حتى إذا ما حل جعفر بن يحيى البرمكي، مخاطرا بحياته من أجل الأمير عبد الوهاب وأمه للإفراج الفوري عنهما، واستقبله الرشيد، اندفع من فوره يطالب بالإفراج العاجل عنهما، معليا من شأن عبد الوهاب وبطولاته وخوارقه إلى حد دفع بالرشيد إلى الغضب والهياج، فقال له: اعلم يا مولاي أن جيشك ألف وثمانمائة ألف، لكن ليس فيه من يطاول عبد الوهاب.
فأمر الخليفة بالقبض عليه وتعذيبه مهددا: لا بد من صلبك يوما وصلب البرامكة.
وهو ما تحقق، خاصة حين علم الرشيد بحدث تهريب عبد الوهاب وذات الهمة من سجنهما بمساعدة أبي محمد البطال، الذي قدم إلى عاصمة الخلافة بسطوته وعيونه وعياريه دون علم منه، وهو الذي رفض المثول بين يديه في السابق ثلاث مرات والرشيد بنفسه يطالبه فيها بالقدوم إلى العراق، فركب رأسه رفضا لمطلب الخليفة.
بل وتصل به الجرأة والتحدي إلى حد المجيء إلى عاصمة الخلافة، ودخولها بحيله وألاعيبه، والوصول إلى مطمور السجن الملحق بقصره الحاكم؛ حيث حبست ذات الهمة وابنها، وإخراجهما جهرا، وتهريبهما والإبحار بهما إلى القسطنطينية، على هذا النحو البعيد عن كل حياء أصبح يتصرف
بل وصل الحنق بالرشيد مداه، حتى أسر «الفضل بن الربيع» في أذنه اليسرى، وفي غفلة عن الوزير الأول - عدوه اللدود - جعفر بن يحيى البرمكي؛ ليزيد النار اشتعالا ضده، دافعا إليه بتقرير مفصل يتضمن زيارة البطال لجعفر بن يحيى البرمكي، واجتماعه به ليلة بكاملها قبل نفاذه إلى سجن ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وتهريبهما.
هنا ربط الرشيد من فوره بين نجاح خطة تهريب سجينيه، التي اضطلع بها البطال، وبين اجتماعه بأبي محمد البطال سرا في قصره المنيف المطل على نهر دجلة. - ومن يدري؟ تساءل الرشيد إلى أن واجه جعفر منفعلا وهو يتفرسه طويلا: يبدو أنني أصبحت آخر من يدري يا جعفر! - كيف يا مولاي؟ - أنت أعلم ... والبطال.
هنا تفهم جعفر من فوره هدف الرشيد، وما أسر به إليه للتو الفضل بن الربيع.
وكان الفضل بن الربيع ساعتها واقفا خلف الرشيد مطرقا يلف أصابعه العشرة حول بعضها في خشوعه المتصنع. •••
وهكذا اتهم الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي بالاشتراك في حادث التهريب، والضرب بعرض الحائط بأوامره وغضبه ورغباته.
حتى إذا ما وصل إلى أسماع الرشيد عن طريق عيونه المشرعة على جعفر بن يحيى البرمكي، وعلم أنه بدوره يعد في الخفاء خطة محكمة للهرب والرحيل، هو وأتباعه وبيته، بحجة خروجه للصيد والقنص، بعث في طلبه وقربه إليه وهو يضمه إلى صدره، إلى أن أجلسه معه على كرسي الخلافة وهو يقبله في وجهه وما بين حاجبيه، محاولا أن يثنيه عن السفر غداة اليوم التالي بمختلف الحجج والمغريات.
وكان يوم جمعة حين أرسل الرشيد في طلبه مرتديا بذلة من الحرير «زرد»، وعلى رأسه خوذة فولاذية، وعن يمينه وشماله نحو مائة مملوك من الخواص، ومائة من الأتراك، كلهم بصدور الزرد، وبأيديهم السيوف والعمد، والرشيد جالس على ركبتيه آمرا سيافه مسرور بفرش «قبة الأديم» بالرماد، وحراستها بثلاثمائة غلام من النوبيين والسودانيين بسلاحهم المشهر.
ثم بعث الرشيد بمسرور لإحضار جعفر البرمكي مقسما: «وحق اتصالي بحمزة وعقيل، لئن لم تفعل ما أمرتك به لآخذن روحك من بين جنبيك.»
ولعلها كانت أقسى وأشق مهمة اضطلع بها سياف هارون الرشيد «مسرور»، وهو يتراجع عن الرشيد الغاضب لا يعرف له مهربا من مأزقه وهو يعتلي متن مهرته السوداء ليلا إلى حيث ضياع الوزير جعفر، داقا بواباتها الواحدة تلو الأخرى إلى أن وصل إليه لاهثا في مضجعه؛ لينهي إليه أمر الرشيد بالحضور.
هنا تعرفه جعفر البرمكي وقرأ ما يعتمل داخله محاولا تأجيل الزيارة لمطلع النهار دون خلجة واحدة من عيني مسرور، الذي تهاوى بكامل جثته لا يقوى على مجرد الإجابة بالقبول أو الرفض، حتى إن جعفر بن يحيى البرمكي أكمل ارتداء ملابسه واصطحب مسرورا المكفهر الوجه
وكان الرشيد قد أمر سيافه مسرور باستدراجه لجعفر إلى «قبة الأديم» وضرب عنقه، وأن يأتيه برأسه.
وهكذا قاد السياف صديقه إلى القبة المشعلة بآلاف الشموع الموقدة، كما لو كانت شموع العرس الدامي للبرمكي الذي قرأ الشهادة ، وطلب من السياف السماح له بصلاة الوداع داخل القبة المزدانة بالشموع الموقدة التي تحيل ليل ساحة القصر إلى نهار جلي.
وحين انخرط جعفر في صلاته وسجد متضرعا ضربه مسرور فنزع رأسه عن جسده، وحملها إلى الرشيد؛ «فلما رآها صرخ صرخة عظيمة وسقط عليها مغشيا عليه.»
إلى أن علق الرشيد جثته في حراسة أربعة وعشرين عريفا، وأمرهم بقتل كل من بكاه أو رثاه، ونادى المنادي في شوارع بغداد وساحاتها: «كل من رثى جعفر البرمكي بنصف بيت شعر أو بكى عليه لا يشاور عليه ولو كان مهما كان.»
ثم قبض على والده الشيخ يحيى وولده الفضل فحبسهما في أعماق المطمور وقيود الحديد.
فحاول يحيى إرسال التماس - أغضب الرشيد - يقول فيه:
ألا وأبيك إن الظلم لؤم
وما زال المسيء هو الظلوم
ألا يا بائعا دنيا بدين
بظلم لا يدوم له نعيم
تروم الخلق في دار بدين
وغيرك رام مثلك ما تروم
ثم مات يحيى وابنه الفضل بعده بثلاثة أيام داخل المطمور المظلم.
وظلت جثة جعفر معلقة على طريق الجسر على دجلة تحت الحراسة المشددة ليل نهار، إلى أن هربت جثته، وتبارى الشعراء في رثاء ذلك البيت البرمكي الشهيد ومآثره مدى الدهر. •••
أما ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبو محمد البطال فكانوا قد عادوا إلى الجبهة قبل حلول تلك النكبة، التي أحزنتهم أبلغ الحزن وهم يستعدون لغزو بلاد اليونان وثغورها، بعد أن تجرأ ملكها على إعلان العصيان، والهجوم على الفيالق العربية في غيبة قادتهم، وصراعاتهم السياسية الداخلية في عاصمة الخلافة بغداد ... ثم بقية العواصم والكيانات الإسلامية.
خاصة وأن ملك اليونان أسر وسبا الآلاف المؤلفة من العرب العزل، ما بين نساء وأطفال، ومنهم الأميرة «علوى» زوجة عبد الوهاب، وابنه الذي خلفه منها: إبراهيم.
لكنهم لم يجدوا بدا من مكاتبة الخليفة وإبلاغه بما حدث في غيبتهم، وتأهبهم لقتال اليونانيين وتحرير أسراهم، على أن تصلهم الإمدادات من بغداد الغارقة في أحزانها عقب النكبة البرمكية الدامية.
خوارق البطال
أحدثت النكبة التي أوقعها الرشيد بالبيت البرمكي نتيجة الصراعات القبلية والعشائرية والقطرية والإقليمية، التي تلهب نيرانها المؤامرات والدسائس داخل الخلافة، فاجعة أدمت ملايين المسلمين داخل مختلف الأقطار.
إلى أن وصل مداها إلى جبهة قتال المسلمين وقيادتها، خاصة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب والأمير البطال، الذين حطت عليهم الأحزان؛ فكظموا ثوراتهم إزاء الخطر الداهم الذي تفاقم نتيجة للانقسامات العربية والإسلامية، وبسبب تغيبهم عن الجبهة استجابة لمطلب الخليفة الملح بالعودة إلى عاصمة الخلافة، ثم ما وقع من صراعات وخلاف في الرأي أدى إلى اعتقال الخليفة هارون الرشيد للأمير عبد الوهاب وأمه ذات الهمة، التي سبق لهارون الرشيد ذاته تكريمها، فكان أول من أسماها «بأم المجاهدين»، إضافة إلى أنه تعلم أول فنون الحرب على أيديهما حين آثر - منذ قدومه بجيش العراق صبيا صغيرا يعرف «بهارون العلوي» - العمل والحرب تحت رايات عبد الوهاب، الذي حرره من أسر الأروام مرتين في مالطة وعمورية.
كل ذلك الشريط المتزاحم بالأحداث كان يجول في خاطر ذات الهمة، بعد أن تمكنت هي والأمير عبد الوهاب عقب عودتهما من بغداد من استرجاع جزيرة مالطة وبضعة ثغور، وتحرير بعض أسرى المسلمين، ومنهم الأمير عمرو بن عبد الله، حاكم مالطة، الذي كان قد أسر للمرة الثانية، وتجميع فلول الفيالق الإسلامية التي أوهنتها الانقسامات في عاصمة الخلافة؛ وذلك تمهيدا للوثوب إلى بلاد اليونان وإعادة الهيبة العربية إلى جزرها وثغورها الواحدة بعد الأخرى، عقب تحدي ملكها وخروجه بجنوده عن الطاعة وشروط الصلح السابق.
وتبدى تقدم المعارك حثيثا ضاريا مكتظا بالمصائد والفخاخ، التي أتقن التخطيط لها عتاة الرهبان البطارقة اليونانيين وملكهم المتجبر.
وكان من نتائجها تعرض بعض الفيالق والكتائب العربية للأسر الجماعي داخل أخاديد ومغارات ووديان الجزر اليونانية العملاقة؛ حيث تفوق أولئك البطارقة والرومان بالتحكم في منسوب المياه، التي كانت تغرق الجيش العربي وتدفع به إلى التشتت، وتعمل على تقطيع أوصاله.
إلا أن أبا محمد البطال الذي أصبح اسمه وصوره معلقة في كل مكان، حتى إن بعض الكيانات الأوروبية كانوا يخيفون به أطفالهم وصغارهم: «اسكت يا صبي وإلا أحضر لك البطال.» استطاع البطال
يجد المنفذ والخلاص للجيش العربي من كل أسر وكبوة وأحبولة، ضاحكا متهكما على عادته وهو في أقسى المواقف التي تفت في عضد الأبطال.
ومنها الإفلات من خدعة كبير رهبان اليونان المدعو «شوميدس» للأمير عبد الوهاب، مدعيا إيصاله إلى قبر ملك عربي سالف من ملوك اليمن الغابرة يدعى شداد بن عاد، المدفون بوادي العلق داخل مغارة موحشة ببطن الجبل، فأمر عبد الوهاب عساكره السودانيين بالحفر كما أشار الراهب
هذا قبر شداد بن عاد الأول، ملك ألف مدينة، وفتح ألف قلعة، وتزوج ألف بنت بكر، ولم يجد من الموت مفرا.
كم قد وقفت كما وقفت!
وكم طربت وكم شربت!
وكم مشيت مع العصاة
وكأنني بك عن قريب يسأل
فقيل مات
إلى أن انتهى بهم الراهب شميدس إلى خدعة طوفان الماء، لحين إنقاذ أبي محمد للأمير عبد الوهاب وفيالقه، ساخرا كعادته وقت كل شدائد ومحن.
إلى أن حققوا انتصاراتهم على بلاد اليونان، فأرسلوا بالسبايا وشروط الجزية إلى الخليفة الرشيد، الذي استبشر بالنصر حتى إنه كاتب عبد الوهاب وذات الهمة والبطال مبصرا بأهمية نبذ كل انقسامات، مع اليقظة الكبرى للأخطار المتجددة على أبواب القسطنطينية، بانتظار الوثوب عليهم في مالطة وبلاد اليونان، قال الرشيد:
أكتب إليكم بعدما رأيت من عساكر الأروام التي اجتمعت على بوابات القسطنطينية، وهي عساكر لم يسمع بمثلها: سبعة عشر مللا بجيوشهم، وهم إلى مالطة قاصدون؛ لذا فإن الأمر عظيم، والخطب جسيم.
وكان الرشيد قد فوجئ بهذه الأخبار إلى حد أنه قاد بنفسه جيشه، ولحق بهم على الجبهة، معيدا جمع الشمل إلى الجيوش والفيالق العربية المتناحرة، حتى يمكن التصدي لأخطار الروم التي تجمعت من جديد تحت الرايات البيزنطية، من «رومان وأرمن ويونانيين وبلغار ومجريين وبرغال وملاقطة وبنادقة».
واحتدمت المعارك إلى أن وقع الرشيد نفسه أسيرا محاصرا بفيالقه لحين تمكن الأمير عبد الوهاب والبطال من فك حصاره، برغم سقوط الأميرة ذات الهمة جريحة؛ حيث «تخضبت ثيابها بالدماء» على مرأى من الأمير ابنها عبد الوهاب، الذي جد السير بجيوشه، ومعظمهم من السودانيين والنوبيين والمصريين والفلسطينيين والعرب الحجازيين، في إثر ملك الروم، الذي تصور أنه نال أقصى أمانيه بأسر خليفة المسلمين، متخليا عن ذات الهمة الجريحة السابحة في دمائها.
ولم يعد عبد الوهاب والبطال إلا بعد أن تمكنا من فك حصار الرشيد الذي ظل الليل بطوله لا يقرب طعاما، إلا أن الرشيد هذه المرة أشاد بشجاعة عبد الوهاب وأبي محمد البطال إلى آخر أيام خلافته، بل هو أوصل وصيته بتجليهما وتقريبهما إلى ولديه الأمين والمأمون، قائلا فيهما: «فقل أن يجود الزمان بمثلهما.»
بل إن الخليفة هارون الرشيد لازم الأميرة ذات الهمة الجريحة، وأحضر لها الأطباء والحكماء لرعايتها من كل أنحاء العالم الإسلامي، وهي نصف محتضرة تعاني آلام جراحاتها البليغة وهي تنطق بالشهادة.
بل لعلها حقا الرغبة في الموت التي طالما تمنتها من أعماقها وسط لهيب المعارك دفاعا عن الحقوق العربية ضد الغزاة الطامعين.
بل إن خبر سقوط الأميرة ذات الهمة جريحة مضرجة بدمائها تواتر مضخما ساريا سريان لهب يلتهم هشيما، مجددا عزم الأعداء الأروام، مثيرا الحمية في مختلف أقطارهم ومللهم ونحلهم، معتقدين أنهم أخيرا تمكنوا من النيل من عدوتهم الأولى فاتحة القسطنطينية، الأميرة الدلهمة.
ووصل الخبر مضخما من عاصمة لأخرى، إلى حد الادعاء بإزهاق روحها وموتها المحقق.
وعلى الجانب المقابل، تلقت الأقطار العربية والإسلامية خبر جراح ذات الهمة في مواجهة الأعداء الأروام واحتضارها بالمزيد من الدعاء الجماعي لها بتجاوز كبوتها، والعودة إلى تحمل أعبائها الكبرى التي هدفها في كل جولة - وإن تعثرت - النصر المحقق للعرب والمسلمين.
بل إن التظاهرات اندفعت إلى شوارع وساحات عاصمة الخلافة، وظلت الجماهير تجوب الطرقات ليلا داعين مكبرين لأم المجاهدين، وهم يطالبون بالمزيد من المعلومات والأخبار المهدئة لجماهير المسلمين المشدوهة المتعطشة لمعرفة حقيقة ما حدث لذات الهمة، وهل حقا ما يحدث عن بطلتهم الشعبية التي جلبت لهم النصر عقب النصر طيلة تلك السنين؟
وانشغل عنها الأمير عبد الوهاب بمطاردة ملك الروم، دون أن تغيب أخبار جراحها عنه حتى وهو في ساحات أعتى المعارك التي جاءت تلك المرة عاتية من جانب الأروام البيزنطيين، الذين أغراهم وشدد من هجماتهم تيقنهم من غائر جراح الأميرة ذات الهمة، وما أحدثه من تهاو وهبوط بمعنويات جند العرب. •••
إلا أن عبد الوهاب تسلم راياتها مواصلا القتال، مطاردا فلول الأروام البيزنطيين إلى أن شتتهم في السهول وشعاب الجبال، وانسحب ملكهم إلى ما وراء القسطنطينية التي كانت قد تهاوت تحت هجوم العدوان البيزنطي.
ومن جديد ضرب عبد الوهاب حصاره حول العاصمة، مطلقا للبطال وفيالقه التسرب إلى داخل أسوارها انتظارا لفتح الطريق أمام الأمير عبد الوهاب وجيشه لدخولها مرة أخرى.
وظلت ذات الهمة رغم ضراوة جراحها لا تكف عن مراسلة عبد الوهاب وتزويده بخططها خلال فترات حصاره للقسطنطينية، لا يغيب عنها الأمل لومضة في إعادة استردادها، وتقويض تسلطها الطامع في المسلمين وخلافتهم على مدى الأجيال، كما ظلت على اتصال بالخليفة تكاتبه حول كل ما يستجد،
إلى أن وافت المنية ذات الهمة، وشاع خبر استشهادها الذي حذرت مسبقا من نشره وإشاعته بين الناس؛ حتى لا يصل أسماع ابنها عبد الوهاب في لحظات جهاده المضنية الحاسمة التي كانت على دراية بتفاصيلها وهي نصف غائبة عن الوعي، مخافة ما يمكن أن يحدثه خبر وفاتها من إحباط لجهاده، وهي التي أزهقت أنفاسها طيلة عمرها لتحقيقه.
وهكذا ماتت الأميرة ذات الهمة وووريت التراب، وبكتها أمم الأرض إلا ابنها عبد الوهاب، الذي ما إن تحقق من وصوله إلى هدفه باقتحام القسطنطينية مرة أخرى، وفرض الجزية لخليفة المسلمين، حتى أسرع الخطا لزيارة قبرها، وشق ثيابه حزنا وكمدا عليها وهو يرثيها بأبلغ الشعر.
ذلك أن عبد الوهاب كان على دراية بكل الخبايا حتى لحظة مفارقة أم المجاهدين للحياة.
كان عبد الوهاب على دراية يقينية بموت ذات الهمة، مواصلا تحقيق غاياتها في الجهاد دون التفاتة إلى الوراء، إلا أن ما حز غائرا في أعماق عبد الوهاب كحد النصل، هو أنه الوحيد الذي لم يشهد لحظات جراحها ومفارقتها لحياة المعارك وساحات الجهاد.
وظل على الدوام يعاني ذلك الإحساس الدفين بالذنب من الكيفية التي تخلى فيها عنها، متهاوية طريحة تعاني السقوط من أعلى هامة جوادها، وهي تهفو إليه بكل جوارحها، مشيرة بذراعها المشهر الذي يقطر بالدم، داعية إلى التقدم ومواصلة اليقظة الكاملة لكمائن الأعداء المتوثبين من حول عبد الوهاب، فما كان منه سوى مواصلة التقدم دون التفاتة تحسر واحدة لأمه ... ورفيقة جهاده التي ووريت أخيرا التراب.
حفيد ذات الهمة يحكم الأندلس
كان موت الأميرة ذات الهمة شهيدة تحت تأثير جراحها الغائرة وسط لهيب المعارك داميا فاجعا، وقد وصل خبر منيتها إلى عاصمة الخلافة بغداد، فانقلبت المدينة التي كثيرا ما فتحت لها كل ذراعيها مكبرة مستقبلة راياتها الخفاقة هي وابنها الأمير عبد الوهاب.
وباتت بغداد الرشيد تنتظر وصول جثمانها المضمخ بدمائها القانية التي سفحتها المعارك على تخوم القسطنطينية، التي سبق أن شهدت أمجادها أعواما إثر أعوام.
بغداد والحجاز ومكة المكرمة تنازعت السبق على المطالبة بجثمان ذات الهمة ومواراته الثرى عندها، بالإضافة إلى ما كان يستجد من صراعات بين المدن والعواصم والكيانات والقبائل العربية حول من منها أحق بدفن جثمانها، إلى أن حسم الأمير عبد الوهاب الأمر حسب وصيتها، وذلك
وهكذا أقيمت لها قبة عظيمة من الرخام الأحمر الضارب إلى الحمرة؛ ليهدأ الجثمان تحتها الذي طالما اقتنص النصر، وحقق الأمان والأمن للمسلمين، حفاظا على حرمات ثغورهم.
وبمواراة ذات الهمة الثرى تجددت واشتعلت مواجع عبد الوهاب وأحزانه الدفينة من جديد، وهو الذي حالت ضراوة المعارك القارية دون البقاء إلى جانبها جريحة تنزف.
بل إن المعارك لم تتح له بعد ذلك فرصة معاودتها وهي مسجاة على فراش الموت، تبعث
ومطاردته للأعداء؛ حيث إنها في القريب العاجل سيفاجأ بها الجميع في موقع الرأس من الجيش بلباسها الأبيض محرضة على القتال الضاري كعادتها.
وكان عبد الوهاب كلما تسلم رسائلها التي كانت تصله تباعا، حتى كان يعيد قراءتها على أمراء الجيش وقواده مطمئنا الجميع بعودة «الدلهمة»، إن لم يكن اليوم فغدا؛ للقتال إلى جانبهم، وهو الوحيد القادر والمستشف لما حاق بذات الهمة من كمائن الأعداء الأروام المسمومة التي ألهبتها أحقادهم عليها أعواما، لحين حلول فرصتهم، حين طالت حرابهم الجسد الزكي فنفثت فيه بليغ السموم.
هو الوحيد الذي لم تمكنه المعارك من مجرد لثم فمها الحازم المطبق، وتشمم عطر جراحها القانية.
بل إن أبا محمد الطبال تمكن من زيارتها سرا قبل أن تفارق الحياة فقبلت جبينه، مومئة إليه بموتها المحقق، موصية بإخفاء أمر موتها عن ابنها عبد الوهاب.
إلا أن أبا محمد البطال الذي اعتاد ممازحتها وهم في أشد المواقف خطرا، راح يضاحكها على طريقته دون حرج، ذاكرا بأن «عمر الشقي بقي»، ولا يزال أمامهم الكثير لتحقيقه على يديها وحدها دون غيرها من نساء العالمين.
واندفع يعيد عليها وهي غائبة في سباتها ما وقع له من مآزق وأخطار، سواء حين تخطى بها عتبات بوابات عاصمة الإفرنج أسيرة تحبو على أربع وهو يلهب ظهرها بسياطه، أو حين حط عليهما متسللا مطمورتهما - هي والأمير عبد الوهاب - بعد أن دفع بجميع حراس سجن أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى سابع درجات النوم والكوابيس.
وكانت ذات الهمة تستعذب قفشات البطال، فتضيء الابتسامات الوادعة صفاء وجهها المسجى البريء، دون أن تقوى على النطق والضحك.
وطاف بها الأمير البطال طويلا وهو يروي لها المآزق الضاحكة، بينما هي تضغط كف يده بيدها الواهنة ألما وتمزقا.
وبدا كما لو كان البطال يعيد إلى مخيلتها أمجادها السالفة، سواء وهي تقتحم المعارك على رأس جيش المسلمين كمثل نمر متوثب بالنصر، أو وهي تصل إلى غاياتها لتحقيق نصر العرب بالحيلة والمكيدة، أو وهي سجينة بمقر الخلافة، أو وهي ترفل في أصفاد الأعداء ومعسكراتهم، أو وهي تعتلي عرش أباطرة الأروام ، كل هذا أعاده البطال إلى مخيلتها التي أوهنتها الجراح، بينما قبضة الموت تدنو منها رويدا رويدا.
إلى أن وصل بها أبو محمد البطال إلى غايته؛ أي أن تغيب في النوم الطويل مخلفة ذكراها العطرة كأم للمجاهدين.
كان الأمير عبد الوهاب بعد مواراة ذات الهمة التراب لا يزال غارقا في أحزانه، حين عاد راجعا بأولاده إلى جبهة القتال، موقنا بأن في القتال واقتناص كل نصر تأكيدا لوصايا ذات الهمة، التي نقلها بكل الحرص إلى أولاده، وخاصة ابنه «سيف الموحدين»، الذي كان قد تسلم راياته ورايات جده الصحصاح وذات الهمة من أجل مواصلة الجهاد، وتأمين حماية المسلمين، وهي نفس الوصايا التي التزم بها ابنه الثاني الأمير ظالم، الذي أخذ مكان أبيه عبد الوهاب بعد أن تقدمت به السنون، وحطت عليه الجراح الغائرة التي لم يسلم منها ساعد من ساعديه الضاربين.
ذلك أن الأمير عبد الوهاب «الشيخ» استدعى ولده ظالما موصيا:
اعلم أنني أصبحت بعد وفاة جدتك ذات الهمة شيخا كبيرا، ولم يعد لي صبر على فراقك، ولا جلد على وداعك، فما قولك في المضي إلى أرض العراق لنجاهد معا هناك في حماية عاصمة خلافة المسلمين، وتكون أنت المقدم على بني كليب من بعدي، والمؤتمن على بقية إخوتك إبراهيم وضيغم وقشعم وسيف الموحدين، الذي هو ثمرة الفؤاد.
وعلى هذا النحو تصدر الأمير ظالم قيادة الأحداث المستجدة، بعد أن حطت الشيخوخة على الأمير عبد الوهاب ... وبعد أن أخذ مكان أبيه.
وهكذا تسلم الأمير ظالم رايات عبد الوهاب مواصلات فتوحاته التي لم تقتصر على المشرق العربي وجزر بحر إيجه، بقدر ما إن ظالما والأمير أبو محمد البطال يمما وجههما باتجاه المغرب العربي عبر مصر وليبيا وتونس إلى مراكش والجزائر، عبورا إلى الأندلس التي كانت تحت حكم الأمويين.
فحارب ظالم والبطال بلاد البربر وملكاها إلى أن دان لهما المغرب العربي الكبير «والمعامد والأندلس، وحملت إليهم الأموال والأسلاب من جميع الجهات».
وتم لهم ذلك بمناصرة الخليفة الأموي - الذي تلقبه السيرة «بهشام المؤيد»، وكان من أئمة المهديين الذين تمكنوا من الفرار من دمشق هربا من بطش العباسيين بهم، وذلك عقب هروب آخر خلفائهم مروان بن محمد إلى مصر الوسطى؛ فرارا من مطاردة أبي مسلم الخراساني له، إلى أن لحق به عبد الله بن علي، الذي أرسله الخليفة السفاح في إثره، فقتله ب «أبي صير الملأ»، ودفن بها.
وهكذا لعب آخر قواد بني أمية دوره في مناصرة الأميرين ظالم والبطال ضد الإفرنج، إلى أن استقر لهما الأمر بحكم «قابس» والمغرب الكبير، خاصة وأن الخليفة الأموي هشام المؤيد كان يعاني الأمرين في صد هجمات الإفرنج، إلى أن تناقص جيشه وانحسرت عنه كل الإمدادات.
لذا رأى هشام المؤيد في تعاظم قوة الأميرين أبي محمد البطال وظالم بن عبد الوهاب ابن ذات الهمة تعزيزا لقوته، فقربهما وكرمهما وفتح لهما أبواب المغرب الكبير والأندلس، حتى إذا ما استقرت دولتهما إلى جانب بقية الدويلات العربية في الأندلس، وجدا فيها بغيتهما من حيث مواصلة بنائها على أنقاض الأساسات العربية من قلاع وحصون وقصور، وإخصاب وثراء، حتى إن البطال بدا كما لو كان يولد من جديد على هذه الأرض الجزيلة العطاء، وقال قولته الشهيرة فيها: «لو أنني حكمت هذه البلاد لهان عندي حكم بني العباس وملك الروم.»
وبعث البطال من فوره برسائله يخبر صديق الصبا ورفيق الجهاد الأمير عبد الوهاب بالحجاز، طالبا منه شد الهمة والمجيء لزيارة الأندلس التي ستعيد إليه شبابه وفتوته.
وكان الأمير عبد الوهاب بدوره لا يكف عن مراسلة ابنه ظالم، وصفيه ورفيق جهاده أبي محمد البطال، حتى وهو في أقسى حالات مرضه وملازمته الفراش، ورفضه على عادة جده «جندبة» السماح للأطباء بمعاودته ومعالجته إلا في النادر.
كان الأمير عبد الوهاب لا يكف عن مكاتبة ابنه ظالم والأمير البطال، وتلقى هداياهما الطريفة التي لم يكن يسمع بها، والتي ازدهرت بالأندلس، وعمرت بها قرطبة وغرناطة وطليطلة ودولة بني الأحمر في الحمراء، وبني الزيري - الفلسطينيين - والعامريين، وبقية دويلات ملوك الطوائف بالأندلس، هدايا من نفيس المصنوعات والإبداعات العربية بالأندلس، والتي اشتهرت أيضا بموسيقاها وطربها وعمارتها، وأنهارها السخية، وعلومها في مختلف المناحي، في العمارة الإسلامية والفلك والطب والكيمياء والهندسة، وخاصة العلوم البحرية التي استهوت الأمير عبد الوهاب فانقطع لها منذ الصبا مثله مثل جده الأمير الصحصاح، وأمه ذات الهمة.
فظل يراسل ولده ظالما ويكاتبه بما يستجد من أمور، ويطالبه بإرسال كل ما يستجد من نفيس العلم في البحر ومخاطره، وكذلك ما يستجد في مجال اختراعات وتطوير مختلف شئون الحياة التي كانت تعن له، وخاصة أسلحة الحرب ووسائل تطويرها.
إلى أن وافته المنية، فمات بالحجاز، وضم رفاته إلى رفات أمه الأميرة ذات الهمة وجده الأعلى الصحصاح بن الحارث الكلبي، أول فاتح لعاصمة تحالف الأروام «القسطنطينية» في عهد سليمان بن عبد الملك بن مروان.
شوقي عبد الحكيم
لندن
Unknown page