انصرف القوم ثم التفت المأمون إلى عمرو وقال: أرأيت يا عمرو ما فعل الفضل بن سهل بالشيخ هرثمة في مجلسي مع بلائه في هذه الدولة، وهو قائدي وقائد أبي وجدي، والله إني لهممت أن أقتل الفضل بن سهل الساعة.
ابن مسعدة: والله يا أمير المؤمنين ما تكلم الشيخ هرثمة إلا حقا، ولقد ستر الفضل عنك كثيرا وأغضب منك أهل العراق حتى قالوا عنه: «إنه ساحر وإنك مسحور به!»
المأمون: عجبا، أهكذا يقولون؟!
ثم أطرق المأمون في تفكير عميق!
عمرو بن مسعدة
كان عمرو بن مسعدة - ويكنى أبا الفضل
11 - من أصل تركي، أبيض الوجه في احمرار. وجده «صول بن صول» كان رجلا تركيا تولى إمارة جرجان، وتشبه بالفرس في عاداتهم وأخلاقهم. وكلمة «صول» كانت لقبا لحاكم دهستان، كما يطلق لقب كسرى على الساسانيين من ملوك الفرس.
وقد تولى عمرو الكتابة للمأمون، فأحبه وآثره وقدمه على سائر كتابه، وولاه ديوان الرسائل وديوان الخاتم والتوقيع والأزقة، ثم تولى حكم فارس وكرمان. وكان المأمون يعجب ببلاغته، ويسند إليه الكتابة في مهام دولته.
ودخل أحمد بن يوسف الكاتب على المأمون يوما، فرأى بيده كتابا من عمرو، وهو يتأمل فيه مدة، فوقف حتى انتهى منه والتفت إلى أحمد، فقال له: «إن في هذا الكتاب كلاما نظير ما سمعت من الرشيد عن البلاغة من أنها التباعد عن الإطالة، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على ذلك حتى جاءني هذا الكتاب من عمرو فإذا فيه: «كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قواده ورؤساء أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، فأخلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم.» «وإن استحساني هذا الكتاب بعثني على أن أمرت للجند بأعطيتهم لسبعة أشهر. لله عمرو ما أبلغه، ألا ترى كيف أومأ إلى وجه المسألة في الإخبار، وإعفاءه سلطانه من الإكثار.» وكان عمرو ذا ثروة واسعة مما أقطعه إياه المأمون ومما نزل عنه من خراج بعض الولايات كما كان خلفاء ذلك العهد الذهبي يفعلون لخاصتهم، حتى قيل إنه مات عن ثمانية ملايين دينار بعد ما عاش عيشة البذخ والترف وبذل ما بذل من كثير الأموال للعلماء والشعراء وغيرهم. ولا غرو فقد كان ملك العباسيين أكبر من قارة أوروبا، وكانت الضرائب تجبى من كل مكان إلى بغداد!
وقد كان لعمرو فرس أدهم أغر لم يكن للمأمون مثله، فرآه واستحسنه فبادر عمرو بإهدائه إليه مع كتاب فيه هذه الأبيات:
Unknown page