كلمة المؤلف
أ
هذه القصة من قصص الحضارة العربية، أو قصص الحياة الذهبية في عصر الترف والذهب، والمتاع والطرب، ورخاء الفن والأدب ... وهي من صور السياسة والاجتماع، في زمن امتزجت فيه السياسة بنواحي الحياة العامة في شتى صورها؛ فكان للأدباء والعلماء، والفلاسفة والفقهاء، نصيب فيها وأي نصيب!
وقد ظهرت من هذه القصص الحلقة الأولى في كتاب «على ضفاف دجلة والفرات» حوى خمس عشرة قصة، صدرت منذ عامين، ولقيت من خاصة القراء وعامتهم تقديرا أعجز عن شكره، بل أخجل من ذكره.
أما هذه الحلقة فهي قصة واحدة تصور ألوانا من الحياة السياسية والفنية والاجتماعية، وتحلل شخصية من أهم شخصيات التاريخ، وأميرا من أشهر أمراء بني العباس. وقد سميتها «أمير قصر الذهب» وهو اسم براق؛ لأنه كان يسكن قصر جده أبي جعفر المنصور المعروف بقصر الذهب، وهو أحد القصور الشهيرة التي بناها في بغداد. ثم لأن عصره كان عصرا ذهبيا، فكان الذهب من ألمع مفاخره وأكثرها تداولا وزخرفا: في وجوه الدنانير التي كانت تعد بمئات الألوف، وفي نفائس الحلي والمقتنيات، وفي الأثاث والرياش، وبدائع القصور.
على أن الفن والثورة هما أبرز خصائص هذا الأمير الفنان؛ فقد كانت حياته مزيجا من الفن والسياسة، والقديم والجديد، واللهو والجد، والزهد في أبهة الملك والطمع فيه. وكانت له آمال وأحلام جسام، وجمع إلى فن الأدب فن الطرب، وكان شاعرا فقيها، وزعيما مجددا في الغناء والموسيقى. ثم أراد - إلى ذلك - أن يكون أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين، وملكا للعرب والعجم!
عاش «إبراهيم بن المهدي»
1
في عصر أخيه هارون الرشيد، ثم محمد الأمين، ثم عبد الله المأمون، ثم أبي إسحق المعتصم، وهو العصر الذي بلغ فيه الغناء والموسيقى العربية أعلى مكان من الإتقان والإبداع، وظهر فيهما فطاحل المغنين والمطربين: كإسماعيل بن جامع، وإبراهيم الموصلي، وإسحق الموصلي، وغيرهم. ولكنه كان - بما وهب من جمال الصوت والنبوغ الفني - في المقدمة بينهم. وقد تزعم حركة لم يتزعمها أحد قبله، وهي حركة التجديد، فابتدع لنفسه مذهبا، وابتكر ألوانا من الأنغام والألحان سجلها له تاريخ هذا الفن على الرغم مما وقع بينه وبين إسحق الموصلي من معارك.
وكان الخليفة المأمون في أوج مجده وذروة سلطانه يوم ثار عليه إبراهيم وخلعه، وبايع لنفسه بالخلافة في العراق، وجلس على أريكة الملك، وحشد الجيوش لمحاربة ابن أخيه، ولم يخش بأسه وما كان عليه من تأييد الخراسانيين له وضخامة قوتهم حوله، وما أصاب من عدة ومال ورجال؛ لأن طموحه كان يدفعه إلى تحقيق أحلامه في العرش، وكانت تلك الأحلام تساوره منذ مات الرشيد. ولم يكن الغناء يعيبه؛ لأنه لم يتخذه حرفة وتكسبا، بل تعاطاه تلذذا ومتاعا.
Unknown page