كلمة المؤلف
1 - الفنان النبيل
2 - الطموح
3 - الثورة
4 - في مدينة مرو
5 - إلى عروس المشرق
6 - مصير الفنان
7 - العرس
كلمة المؤلف
1 - الفنان النبيل
Unknown page
2 - الطموح
3 - الثورة
4 - في مدينة مرو
5 - إلى عروس المشرق
6 - مصير الفنان
7 - العرس
أمير قصر الذهب
أمير قصر الذهب
تأليف
طاهر الطناحي
Unknown page
كلمة المؤلف
أ
هذه القصة من قصص الحضارة العربية، أو قصص الحياة الذهبية في عصر الترف والذهب، والمتاع والطرب، ورخاء الفن والأدب ... وهي من صور السياسة والاجتماع، في زمن امتزجت فيه السياسة بنواحي الحياة العامة في شتى صورها؛ فكان للأدباء والعلماء، والفلاسفة والفقهاء، نصيب فيها وأي نصيب!
وقد ظهرت من هذه القصص الحلقة الأولى في كتاب «على ضفاف دجلة والفرات» حوى خمس عشرة قصة، صدرت منذ عامين، ولقيت من خاصة القراء وعامتهم تقديرا أعجز عن شكره، بل أخجل من ذكره.
أما هذه الحلقة فهي قصة واحدة تصور ألوانا من الحياة السياسية والفنية والاجتماعية، وتحلل شخصية من أهم شخصيات التاريخ، وأميرا من أشهر أمراء بني العباس. وقد سميتها «أمير قصر الذهب» وهو اسم براق؛ لأنه كان يسكن قصر جده أبي جعفر المنصور المعروف بقصر الذهب، وهو أحد القصور الشهيرة التي بناها في بغداد. ثم لأن عصره كان عصرا ذهبيا، فكان الذهب من ألمع مفاخره وأكثرها تداولا وزخرفا: في وجوه الدنانير التي كانت تعد بمئات الألوف، وفي نفائس الحلي والمقتنيات، وفي الأثاث والرياش، وبدائع القصور.
على أن الفن والثورة هما أبرز خصائص هذا الأمير الفنان؛ فقد كانت حياته مزيجا من الفن والسياسة، والقديم والجديد، واللهو والجد، والزهد في أبهة الملك والطمع فيه. وكانت له آمال وأحلام جسام، وجمع إلى فن الأدب فن الطرب، وكان شاعرا فقيها، وزعيما مجددا في الغناء والموسيقى. ثم أراد - إلى ذلك - أن يكون أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين، وملكا للعرب والعجم!
عاش «إبراهيم بن المهدي»
1
في عصر أخيه هارون الرشيد، ثم محمد الأمين، ثم عبد الله المأمون، ثم أبي إسحق المعتصم، وهو العصر الذي بلغ فيه الغناء والموسيقى العربية أعلى مكان من الإتقان والإبداع، وظهر فيهما فطاحل المغنين والمطربين: كإسماعيل بن جامع، وإبراهيم الموصلي، وإسحق الموصلي، وغيرهم. ولكنه كان - بما وهب من جمال الصوت والنبوغ الفني - في المقدمة بينهم. وقد تزعم حركة لم يتزعمها أحد قبله، وهي حركة التجديد، فابتدع لنفسه مذهبا، وابتكر ألوانا من الأنغام والألحان سجلها له تاريخ هذا الفن على الرغم مما وقع بينه وبين إسحق الموصلي من معارك.
وكان الخليفة المأمون في أوج مجده وذروة سلطانه يوم ثار عليه إبراهيم وخلعه، وبايع لنفسه بالخلافة في العراق، وجلس على أريكة الملك، وحشد الجيوش لمحاربة ابن أخيه، ولم يخش بأسه وما كان عليه من تأييد الخراسانيين له وضخامة قوتهم حوله، وما أصاب من عدة ومال ورجال؛ لأن طموحه كان يدفعه إلى تحقيق أحلامه في العرش، وكانت تلك الأحلام تساوره منذ مات الرشيد. ولم يكن الغناء يعيبه؛ لأنه لم يتخذه حرفة وتكسبا، بل تعاطاه تلذذا ومتاعا.
Unknown page
ب
وفن الغناء والموسيقى من الفنون الرفيعة، وهو محبوب في الإسلام. وقد كان بعض الخلفاء والأمراء يمارسونه ويدرسونه ويقربون أهله، ويقيمون المسابقات بين المغنين، ويجزلون لهم العطاء. وبلغ من إكرام الوليد بن اليزيد للفنان الشهير «معبد» أنه لما مرض آواه في قصره وتعهده بحسن رعايته، حتى مات فشيع جنازته هو وأخوه «الغمر» إلى مقره الأخير.
وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة: «أهديت الفتاة إلى بعلها؟» قالت: «نعم.» قال: «فبعثت معها من يغني؟» قالت: «لا.» فقال النبي: أوما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغناء؟ ألا بعثت معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواديكم
وحدث أن النبي
Unknown page
صلى الله عليه وسلم
مر بجارية تغني:
هل علي ويحكم
إن لهوت من حرج
فابتسم النبي وقال: «لا حرج إن شاء الله.»
وحسب النبي العربي حبا للصوت الجميل وتقديرا له أنه اختار بلال بن رباح مؤذنا لمسجده، وكان يؤذن بصوت مؤثر، ويرتل الأذان بأنغام حلوة شجية.
ولما رجع النبي
صلى الله عليه وسلم
منتصرا من إحدى غزواته قالت له زوجه عائشة: لقد أقسمت شيرين، مولاة حسان بن ثابت ، إن رجعت منصورا من غزوتك أن تغني وتضرب بالرق في بيتنا، فماذا ترى؟
فابتسم النبي وأذن لها في الغناء والعزف في بيته، وجلس مع بعض أهله وصحابته ومنهم الصديق أبو بكر يستمعون لشيرين.
Unknown page
ذلك لأن الغناء هو لغة الحياة والوجدان ونشيد الوجود لكل موجود، فالطيور في خمائلها، والوحوش في مجاهلها، والدواب في أكنانها، والبلابل على أفنانها، تترجم عن حياتها، وتترنم بشعورها، كلما صفت نفسها وأحست بجمال الحياة، ونشوة الوجود. ولا شيء يعدل الغناء والموسيقى في تنبيه العواطف وإثارة الهمم، وتهيئة النفوس لقبول الكمالات، وتوجيهها توجيها حسنا صالحا. قال أفلاطون:
من حزن فليستمع إلى الأصوات الجميلة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، فإذا استمعت لما يطربها اشتعل منها ما خمد وتحرك فيها ما جمد.
وقد كان بإسبارطة فتنة خطيرة شملت أنحاء المدينة، وانتظمت جميع سكانها، واستحال على ولاة الأمور إخمادها، ففكر بعضهم في جمع الموسيقيين وتوزيعهم بين المتنازعين - وفعلوا - فأشاعوا بينهم الأنغام والألحان، فصفت نفوسهم، وطابت قلوبهم، وهدأت أعصابهم، وزالت عنهم أسباب الخصام.
وروى أبو بكر الدينوري حادثة شاهدها فقال:
كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منها وأدخلني خباءه، فرأيت فيه عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت قبالته جمالا قد ماتت، وبقي منها جمل ناحل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: «أنت ضيف مولاي اليوم ولك أن تشفع لي عنده، فإنه مكرم ضيفه ولا يرد شفاعتك.»
فلما حضر الطعام قلت: «والله لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد.»
فقال: «إن هذا العبد أفقرني، وأهلك جميع مالي.»
قلت: «ماذا فعل؟» قال: «إن له صوتا جميلا، وإني أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وأخذ يحدو لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمه، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل. ولكن أنت ضيفي، فلكرامتك وهبته لك.»
فأحببت أن أسمع صوته، وأصبحنا، فأمره أن يحدو بي على جمل قوي ليستقي الماء من بئر هناك. فلما رفع صوته هام الجمل على وجهه فوقعت على الأرض ، وما أظن أني سمعت قط صوتا أحسن منه!
والغناء والموسيقى وسيلة من وسائل التربية وعلاج النفس والجسم من الأمراض،
Unknown page
2
ومقياس لتقدم الشعوب ورقي أفرادها. وأنت تستطيع أن تحكم على الحالة الاجتماعية لكل أمة بنوع موسيقاها وما تتغنى به من أشعار وأقوال، فإن كانت من ذوات الهمم العالية أو كانت من الأمم الذليلة المستضعفة بدا ذلك واضحا في قوة غنائها وارتقائه أو في ضعفه وانحطاطه.
ولهذا نستطيع أن نحكم على حياة العباسيين في العصر الذي عاش فيه إبراهيم بن المهدي بغنائه؛ فقد كان غناء يشيع فيه تمجيد البطولة وصفات الكرم والشمم والإباء، ولكنه شاع فيه أيضا طابع العصر من الميل إلى اللهو والترف، والتحرر من بعض النواهي، والإغراق في الملاذ.
ج
وقد كانت الحقبة التي وقعت فيها حوادث هذه القصة حقبة اضطراب وفتن سياسية، غير أنها من الوجهة الاجتماعية حافظت على الطابع العام لذلك العصر الذي ساد فيه الرخاء بالعراق، وكانت الأموال تنصب فيه على بغداد انصبابا؛ فكان البذخ والتأنق في المأكل والملبس والمسكن لا يقتصران على الخلفاء والأمراء، بل يتعديانهم إلى الكثيرين من السكان. وقد تنافسوا في ضروب من اللهو وألوان المتاع، وتسابقوا في بناء القصور، وتجميل المنازل وتنسيق البساتين، واقتناء الأثاث والرياش الثمين، والتحلي بالجواهر النفيسة، والاستكثار من الجواري الحسان ولطيف الخدم والغلمان.
وأدى رخاء هذا العصر وغضارة العيش فيه إلى تفنن أهله في الملاذ، والإقبال على شرب الخمور بين الأثرياء والأدباء، وكان النبيذ أكثرها شيوعا في العراق، وكان الخلفاء يستحلونه على أنه غير مسكر، وصار شربه عادة مألوفة في مجالس الغناء والموسيقى.
وأدخل العباسيون أسباب الأبهة والفخامة التي كانت للأكاسرة في قصورهم ومجالسهم وسائر أحوالهم، فاتخذوا المقاعد المطعمة والطنافس المطرزة، والوسائد الموشاة، والستور المحلاة بالنقوش البديعة، وزينوا السقوف والجدران بالرسوم الذهبية والفضية الممثلة لما في البر والبحر والجو من حيوان وأشجار وأطيار ومدن وأنهار، وربما حلوا ستائرهم بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية ومأثور الحكم والأشعار.
وقد أقام الخلفاء الحجاب، ونظموا المقابلات بالاستئذان لغير الأمراء. وكانت التحية على الخليفة «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، وقد يقبلون الأرض أمامه، أو يقبلون يده على حسب الأقدار.
وكانت الأفضلية في الجلوس بين يدي الخليفة في ذلك العهد لبني هاشم: فيجلس الخليفة على السرير أو السدة، ويجلس بنو هاشم على الكراسي عن يمينه، والوزراء على الكراسي أو الوسائد عن يساره، ويليهم سائر الطبقات.
ولا ينصرف أحد من مجلس الخليفة إلا إذا نهض أو أذن له بالانصراف، ولا يبدأ أحد بمحادثة الخليفة إلا إذا بدأه. وقد أباح الخليفة المأمون الكلام في مجالسه للمناظرة في العلم والأدب. وكانت مجالسه لا تخلو من ذوي الظرف والخفة والفكاهة. وكان الحديث يجري باللغة العربية الفصحى، كما أن الغناء كان بهذه اللغة، ولم يقتصروا فيه على أشعار الحب والهيام، بل تناولوا كثيرا من الأغراض حتى الرثاء.
Unknown page
وكان الخليفة إذا أراد أن يصرف جلساءه قال لهم: «إذا شئتم.» أو «على بركة الله.» أو غير ذلك حسب الأحوال. ومن انصرف من حضرة الخليفة مشى القهقرى، ووجهه نحو الخليفة حتى يتوارى.
وكان التطيب بأنواع الطيب من دلائل النبل عندهم. ومن أقوالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكبا، ورجل سمعته يعرب كلامه، ورجل شممت منه طيبا.» وكانوا لاقتباسهم من حضارة الفرس يقلدونهم في الملابس، وبخاصة الملوك والأمراء ورجال الحكومة وأهل الثراء، فلبسوا الأقبية والطيالسة والخفاف والجوارب، مع بقاء العامة على ألبسة العرب. ثم اختصت كل طبقة بزي خاص: فالفقهاء والعلماء كانوا يلبسون عمامة سوداء ومبطنة وطيلسانا أسود، والقضاة يلبسون القلانس الطوال والطيالسة الرقاق. وأما غيرهم من الطبقات فاختلفت ملابسهم باختلاف أحوالهم.
وكانت بغداد في ذلك الزمان عروس الشرق والغرب، وعاصمة الحضارة العربية بما جمعت من علم وأدب وثروة وطرب، وما حوت من فن وافتنان وأنس وجمال، فلا عجب أن يظهر فيها من رجال الدين والدنيا من برزوا في العلوم، ونبغوا في الفنون، وكانوا أئمة خالدين، وقادة مجددين، ونوابغ ثائرين، كالأمير الفنان والثائر الألمعي إبراهيم بن المهدي.
طاهر الطناحي
الفصل الأول
الفنان النبيل
أشرقت الشمس على ربوع بغداد في موكب حافل بالجلال والبهجة والجمال، وكان اليوم باسما حلوا نديا، وكان في روائه وطيبه مونقا صفوا زكيا. كان من أيام الربيع الضاحك الطروب، الرائع في بهاء طلعته، المختال بسحر فتنته، الشادي بأنغام الحياة وألحان الوجود.
وجلس إبراهيم بن المهدي بين مباهج هذا اليوم الوسيم على سرير من الأبنوس في شرفة قصر الذهب - قصر جده المنصور - وعليه قبة فوقها طارمة
1
ديباج أزهر، وهو يتأمل مجالس الطبيعة الحسناء، وينظر في نهر دجلة إلى انسياب الماء في الغضيرة
Unknown page
2
الخضراء، وبين يديه وصائف حسان، كأنهن الياقوت والمرجان، وحوله غلمان كالدنانير.
وكان القصر فخما فاتنا يتألق، قد أبدع فيه صانعه، فحلى جدرانه بصفائح الذهب والفضة والجواهر النفيسة، والألوان الجذابة، والنقوش الدقيقة. وله قبة خضراء تسمو متلألئة في السماء إلى ثمانين ذراعا، كأن الثريا عرست فيها، أو كأن البدر شد في أعاليها.
وقد شاده المنصور في وسط بغداد بالقرب من دجلة بحيث يشرف على سائر أحياء المدينة، وأقام في منتهى قبته فارسا يحمل رمحا يتجه نحو مهب الريح أينما كانت. ثم بنى قصر الخلد، وجعله مقر الخلافة، وكان يسكنه هو وخلفاؤه من بعده. أما قصر الذهب فقد نزله إبراهيم بن المهدي بعد أبيه وجده. وكان إلى جمال بنائه وروعة زخارفه تحيط به الخمائل الغناء، والحدائق الفيحاء، وتعمره الجواري الحسان، وأنغام البلابل والغزلان.
ويعيش فيه إبراهيم في هناءة الحياة الذهبية السعيدة التي عاشها خلفاء بني العباس وأمراؤهم في أوج مجدهم وذروة عظمتهم وضخامة ثروتهم، وكأنما كانوا يحيون في غرف الجنان.
وكان إبراهيم بن المهدي رفيع المنزلة، نبيه الذكر، شريف القدر، زانه الشباب فزاده حسنا وإحسانا. وبسط الله له في جمال الجسم، وحلاوة الصوت، وعذوبة النفس، ودقة الحس، والنبوغ في فني الأدب والطرب، وكان له طلعة سمراء جذابة تتهلل بالملاحة والظرف والنبالة. •••
مكث إبراهيم في شرفة القصر يتأمل ساعة من الزمان تأمل المفكر الفنان، ويستمتع بالرياض المنبسطة في الحدائق الغناء وعلى ضفة النهر كأنما هي رياط
3
السندس أو مدنرات
4
Unknown page
الدمقس، والمياه تجري تحته كالفضة الذائبة، أو سبائك الذهب السائلة، والطيور تغرد على الأفنان بأعذب الألحان. وقد خفت الرياح حتى كادت أن تكون أرواحا تهبط لتتصاعد وتتصاعد لتهبط في طراوة ورشاقة، وفي طيب كأنها تحمل أنفاس العاشقين.
وأخذت الأمير الفنان نشوة الطرب من هذا الجمال الباهر فاهتز النغم في أطواء نفسه، ونهض فنادى جواريه وغلمانه ليقيموا له مجلسا من مجالس أنسه. وأقبلت شارية،
5
وريق، وصدوف، ومعمعة، ومكنونة، ووراءهن الراقصات وحاملو آلات الموسيقى، وانتظموا في صحن القصر، وجلس إبراهيم على سدته، وغنت شارية ثم ريق بعض أغانيه وألحانه على عزف الآلات. وكانت مكنونة تقدم الكأس لسيدها آنا بعد آن حتى ثمل بلذة الألحان، ونشوة بنت الحان، فقام من مجلسه وتناول العود من صدوف، وجلس معهن يعزف ويغني. وكان أجمل أهل عصره صوتا، وأدقهم ذوقا، وأشدهم حبا للابتكار والتجديد، لا يميل إلى المحاكاة والتقليد، ويعيب على «إسحق
6
الموصلي» تعصبه للقديم، مع علو مكانته ونبوغه في صناعته.
وعلا صوت إبراهيم، وانسابت تغاريده في أجواز الفضاء، فهزت كل من سمعها وملكت عليه نفسه، فجلس الناس على شاطئ دجلة وفي البساتين القريبة يستمعون ويطربون، وسكرت الجواري والغلمان بعذوبة ما ابتكر هذا الفنان النابغ من أصوات وأوزان، وسقط الإبريق والكأس من يد مكنونة، وسالت الخمر وهي لا تدري لما نابها من نشوة الطرب والأنغام. •••
نهض إبراهيم بعد ما استوفى تغريدا وتطريبا. وفي المساء خرج إلى قصر أخته علية
7
بنت المهدي بالرصافة، وكان قصرا فخما جميلا بناه أبو جعفر المنصور لوالدها حينما كان وليا للعهد. وكانت كأخيها فنانة أديبة بارعة، بل هي أميرة في نسبها، أميرة في فنها وأدبها، مليحة الوجه واسعة الجبهة اتساعا كانت تتخذ لأجله العصائب المزدانة بالذهب والفضة والجواهر النفيسة، ويقلدها نساء بغداد في زينتها وزيها، ويأخذن عن ذوقها الجميل.
Unknown page
وأقبل إبراهيم على أخته فوجدها جالسة على أريكة من العاج فوق سدة مزدانة بالوشي والديباج، وقد تزيت بزي أميرات بني العباس في ذلك الزمان الناعم النضير، ووقفت خلفها جاريتها الحسناء «خلوب» في رشاقة وظرف، ممسكة بمذبة أنيقة لتذب عنها كعادة بنات الأشراف وسيدات القصور. فحياها وحيته مرحبة مهللة، وقبلت كتفه وقبل رأسها ثم جلس، فقال لها في تجمل ولطف: كيف أنت يا أختي؟ جعلني الله فداءك.
فقالت في رقة وعطف: بحمد الله يا أخي وفضله ورعايته ...
قال لها: وكيف صحة جسمك، وحال نفسك؟
فقالت: صحة سابغة، وعافية كاملة، ونفس مطمئنة، وعيشة راضية.
ونظر إبراهيم إلى «خلوب» وتشاغل بالنظر إليها، فلاحظت علية هذه النظرات، وتنبه لهذه الملاحظة فاستحيا، وخفض رأسه ثم رفعه وقال: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي؟ - هناء عظيم أشكر الله عليه، لا ينقصني فيه شيء ولا يشغلني عنه شاغل. - وكيف أوقاتك ومجالس أنسك؟ - إنها طيبة سارة لا حظ للشيطان فيها. - وكيف أنت يا أختي؟ جعلي الله فداءك.
وجذبه النظر إلى «خلوب» فلاحظت أخته، فغض في استحياء ثم عاد يقول: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي ... وكيف أوقاتك ومجالس أنسك ... وكيف صحة جسمك وحال نفسك؟
فنظرت إليه في عتاب وقالت: سبحان الله، أليس هذا قد مضى أمره وأجبنا عنه؟!
فازداد خجل إبراهيم وهم لينصرف مستأذنا، فضحكت أخته وقالت: لا بأس عليك يا أخي، اجلس، فوالله إني لمشوقة إلى أنسك، ولن أتركك حتى تسمع ما عندي وأسمع ما عندك!
قال إبراهيم: هات يا علية.
فنادت جواريها وغلمانها، واستدعت أخاها يعقوب بن المهدي وكان يحسن النفخ بالمزمار، وعقدت مجلسا بهيجا مؤنسا وغنت من شعرها:
Unknown page
تحبب فإن الحب داعية الحب
وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثت أن أخا هوى
نجا سالما، فارج النجاة من الحب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وكان إبراهيم يهتز طربا كلما تغنت بمقطع من مقاطع هذه الأغنية، حتى إذا انتهت ناولته العود فأمسك به وغنى من شعره:
أجن بليلى وهي غير سخية
وتبخل ليلى بالهوى وأجود
فطربت علية طربا شديدا، وناولته كأسا من النبيذ وقالت: وحياتي لتغنين.
Unknown page
فعزف إبراهيم، وغنى من شعره:
جدد الحب بلايا
أمرها ليس يسيرا
كبر الحب وقد ما
كان إذ حل صغيرا
ذلل الحب رقابا
كان أدناها عسيرا
ليس لي من حب إلفي
غير حرماني السرورا
فطربت علية، وقامت فعانقته وقبلته في فمه، وقالت بارك الله لك يا أخي، وبارك لنا فيك، ولا فض فوك، وبعد شانئوك.
Unknown page
ثم جعلت تتحدث معه وتروي له من الأدب والشعر ويروي لها كذلك، حتى امتد الحديث إلى ذكر أخيهما هارون الرشيد وأيامه، فقال إبراهيم: حججت مرة مع الرشيد، فبينا نحن في الطريق وقد انفردت وحدي وأنا على دابتي إذ حملتني عيناي، فسلكت بي الدابة غير الطريق، فانتبهت وأنا على غير الجادة، فاشتد بي الحر فعطشت عطشا شديدا، فارتفع لي خباء فقصدته، فإذا بقبة وبجانبها بئر ماء بقرب مزرعة، وذلك بين مكة والمدينة، فاطلعت في القبة، فإذا أنا بأسود نائم، فأحس بي ففتح عينيه ثم استوى جالسا، فإذا هو بشع الصورة، فقلت: يا أسود، اسقني من هذا الماء، فقال محاكيا: يا أسود اسقني من هذا الماء! ثم قال: إن كنت عطشان فانزل واشرب. وكان تحتي برذون خبيث نفور فخشيت أن أنزل عنه فينفر، فضربت رأس البرذون. وما نفعني يا علية الغناء قط كما نفعني في ذلك اليوم.
فقالت علية: «وكيف كان ذلك؟»
قال إبراهيم: لما أجابني الأسود بهذا الجواب سرت ورفعت عقيرتي وغنيت، فلحق بي، وقال: أيما أحب إليك: أن أسقيك ماء وحده، أو ماء وسويقا؟
قلت: الماء والسويق.
فأخرج قعبا له، فصب السويق في القدح، فسقاني، وأقبل يضرب بيده على رأسه وصدره ويقول: «وا حر قلباه يا مولاي، زدني وأنا أزيدك.» وشربت السويق والماء، ثم قال: «يا مولاي إن بينك وبين الطريق أميالا، ولست آمن عليك العطش، لكني أملأ قربتي هذه، وأحملها قدامك.» فقلت له: «افعل.» فملأ قربته وسار قدامي وهو يحجل في مشيته غير خارج عن الإيقاع، فإذا أمسكت لأستريح أقبل علي فقال: «يا مولاي عطشت.» فأغنيه، إلى أن أوقفني على الجادة من الطريق، ثم قال: «سر رعاك الله ولا سلبك ما كساك من هذه النعم.» فلحقت بالقافلة، والرشيد قد فقدني، وبث الخيل في البر لطلبي، فسر بي حين رآني، فأتيته فقصصت عليه الأمر، فقال: «علي بالأسود.» فما كان إلا يسير حتى مثل بين يديه، فقال له: ويلك ما حر قلبك؟
فقال: «يا مولاي، ميمونة.» قال: «ومن ميمونة؟» قال: «حبشية يا مولاي.» فأمر من يستفهمه، فإذا هي أمة لبعض أولاد الحسن بن علي، فاشتراها له، فأبى مواليها إلا أن تكون هدية للرشيد، فوهبها له.
فقالت علية لإبراهيم: رحم الله أخي الرشيد، فقد كان نبيل النفس، عظيم المروءة. لقد فعلها معي، فهذا «طل» الغلام وهبني إياه ليكون في خدمتي وركابي.
فقال إبراهيم:
فإن لم يصبها وابل فطل !
8
Unknown page
فضحكت علية. ثم نهض وودعته أخته، وانصرف إلى قصره، وكان الليل قد انتصف، فأوى إبراهيم إلى مخدعه في سلام.
في ليالي القمر
كانت الليلة التالية ليلة وضاءة صافية من ليالي القمر، وما أدراك ما هذه الليالي الضاحكة القمراء في بغداد عروس المشرق في ذلك الحين؛ فقد كان الناس يخرجون فيها للتزاور وشهود مجالس الأنس والطرب والشراب إلى وقت أخير من الليل، فيأخذون من اللهو ومتاع الدنيا ما شاءت لهم الحياة الرغدة الباسمة التي زخرت بأنواع اللذائذ والسرور على شواطئ الرافدين.
وكان إبراهيم بن المهدي قد اعتاد أن يخرج في هذه الليالي زائرا لبعض آله، أو مؤانسا لأحد أصدقائه، أو مناظرا لخصومه في أغانيه وألحانه. وقد مضى حين من الزمان لم تعكر الأحداث صفو بغداد وما يظلها من سعادة وهناءة عدا مقتل «الأمين»
9
فقد هز هذا الحادث جوانب المدينة، بل جوانب العراق، هزا أليما. وكادت تحدث من أجله فتنة لولا ما كان عليه المأمون من قوة وعزم، وما له من سلطان بين العرب والعجم، فعادت إلى بغداد حياتها الناعمة وحظها السعيد.
وخرج «إبراهيم» في المساء إلى بيت صديقه مخارق المغني في زي العامة من العرب، وقد خلع ملابس الأمراء، فمر في طريقه بدار رشيقة متقنة البناء ينم ظرفها وجمال مرآها على أنها لثري كبير من الأثرياء. وكان هذا الثري يدعى «أبا عبد الله» وهو من كبار تجار العراق الذين امتدت تجارتهم إلى الهند وفارس واليمن وبلاد الأحباش، وقد دعا نخبة من أصدقائه التجار بعد أوبة من أسفاره ليحيي معهم ليلة ساهرة عامرة بالغناء والموسيقى والشراب ورقص الجواري الحسان، وكانت أمثال هذه الليلة تفتن عشاق الطرب من الأمراء والأعيان وأهل الفنون يغشونها سواء أكانوا من المدعوين أم من الهواة المتلذذين. فنظر «إبراهيم» إلى الدار فإذا كف ومعصم لحسناء قد خرجا من إحدى نوافذها، ثم إذا وجه فاتن كأنما هو وجه القمر يطل من هذه النافذة ثم يختفي كالبرق. فاستهواه ما رأى واستثار فؤاده، وهو الشاب الأديب الفنان المملوء حياة وشبابا، وشعورا رقيقا مرهفا، فوقف واجما مفكرا فيمن عسى أن تكون هذه الجارية الفاتنة، وفيما عسى أن يكون في هذه الدار من الأنس والمتاع، ثم إذا بتاجرين من المدعوين قد أقبلا، وسلما عليه، فسلم عليهما، ودخلا الدار، فدخل هو بينهما، وهما يظنانه من أصدقاء صاحب الدار؛ فلم يكن لهما عهد برؤية إبراهيم بن المهدي ومعرفته عن كثب، وكذلك كان أبو عبد الله، فإنه لم يعرفه، ورحب به عند قدومه عليه وظن أنه صديق صاحبيه أتى معهما تفضلا ورغبة منه في المؤانسة والمجالسة، وسماع الغناء مع سائر الأهل والأصحاب.
وجلس إبراهيم معهم متنكرا، وانتهى الطعام وأقبلت جارية حسناء تدعى «خالدة» كانت صاحبة الوجه الفاتن والكف والمعصم، جمعت بين القمر نورا والغصن لينا، وهي كما قال بشار:
بنت عشر وثمان قسمت
بين غصن وكثيب وقمر
Unknown page
وكانت تتهادى في استحياء وتمشي في دلال وتثن كأنما تمشي على عواطفها فتذيب القلوب وتسحر الألباب. ووراء هذه الجارية موكب من الجواري الحسان وملاح الغلمان يحملون آلات العزف والطرب، ثم جلسوا جميعا على تخت بالقرب من فسقية جميلة وفي وسطهم خالدة وغنت لبشار بن برد:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
نفسي يا عبد عني واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعم
ختم الحب لها في عنقي
Unknown page
موضع الخاتم من أهل الذمم
فما كادت تنتهي حتى امتلك القوم الشجو والطرب، واستعادوها فأعادت الغناء. ثم قال لها إبراهيم: أسمعينا يا خالدة من العباس بن الأحنف. فغنت:
خليلي ما للعاشقين قلوب
ولا للعيون الناظرات ذنوب
ويا معشر العشاق ما أوجع الهوى
إذا كان لا يلقى المحب حبيب
أموت لحيني والهوى لي مطاوع
كذاك منايا العاشقين ضروب
عدمت فؤادي كيف عذبه الهوى
أما لفؤادي من هواه نصيب
Unknown page
فاشتد طرب القوم، وقال إبراهيم: أحسنت والله يا جارية، ولكن بقي عليك شيء! فعز عليها أن ينقدها وقامت نافرة وضربت بعودها الأرض، وصاحت: متى كنتم تحضرون مجالسكم من لا يحسن السماع؟!
وخرجت، فقام إبراهيم في هدوء وثبات، وأخذ العود فأصلحه واندفع يغني بتلحينه:
أسرى بخالدة الخيال ولا أرى
شيئا ألذ من الخيال الطارق
إن البلية من تمل حديثه
فانقع فؤادك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل
مذ بنت قلبي كالجناح الخافق
شوقا إليك ولم تجاز مودتي
ليس المكذب بالحبيب الصادق
Unknown page
وما كاد ينتهي منها حتى خرجت الجارية، فأخذت بيده وجعلت تقبلها وهي تقول: المعذرة يا سيدي، والله ما سمعت أحدا يغني هذا مثلك!
فقال إبراهيم: جعلت فداءك يا خالدة، وما سمعت والله معتذرة أجمل منك! وقام مولاها أبو عبد الله ففعل مثلما فعلت وقال مثلما قالت ورجاه أن يغني صوتا آخر، فغنى من شعر بشار:
أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن دوائي
رشفة من رضاب ثغر برود
ولها مبسم كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل
ب ونالت زيادة المستزيد
Unknown page
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
فتأوه جميع السامعين وهتفوا معجبين مكبرين وقالوا: هذا والله الغناء ... هذا والله الغناء!
وجاء من طرب القوم ما كاد يذهلهم، وناشدوا إبراهيم أن يزيدهم، فغنى:
هذا محبك مطوي على كمده
صعب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته
مما به ويد أخرى على كبده
Unknown page