فقال الشيخ مصطفى: قتلوه لأنه كان عنده أوراق فيها أوامر سرية وتهددهم بها، فقتلوه حتى يخفوا الخبر، أنا لا أحط بذمتي ولكن الإشاعة مالئة الدنيا، ويقول البعض إنهم رأوا الأوامر بعيونهم.
فقال آخر: ما قولكم الآن هل تبقى العساكر الفرنسوية هنا؟
فأجابه أبو فخر: لا أحد يخرجها إلا الإنكليز مثلما أخرجوا بونابارته من عكا، وقواس قنصل الإنكليز صاحبي وهو يمر يشرب عندي قهوة كل يوم، وقال لي من يومين إن العسكر الفرنسوي دخل على هذا الشرط أنه يبقى حتى تصطلح الأحوال، ثم يخرج وهو سمع هذا الكلام من الترجمان، والترجمان صاحبي أيضا من زمان طويل، ولو سألته لكان خبرني.
الشيخ مصطفى :
الله لا يحكم الإفرنج فينا، ولكن الحق أولى أن يقال؛ من حين ما أتوا إلى هنا راجت الأشغال واصطلحت أحوال الحكومة، وإذا فرضنا بقاء الفرنسوية هنا وعفونا من العسكرية كما تعفي الدولة النصارى؛ كان ذلك أفضل لنا.
فأجابه الشيخ درويش: إن الفرنسويين لا يعفون أحدا، أما رأيت عساكر المغاربة؟ وأنا قد تصادقت مع كثيرين منهم وزاروني في بيت، فعرفت منهم أن الفرنسوية تأخذ العساكر من الجميع.
وبعد أخذ وعطاء على هذا النمط قر قرارهم على أن لا يحركوا ساكنا، وعلى أن يوصوا الجميع بالتزام السكينة إلى أن يروا ما يحدث في الأستانة؛ لأن بعضهم كانوا يتوقعون حدوث أمر ذي بال فيها.
الفصل السادس والثلاثون
مؤتمر بيروت
اجتمع معتمدو الدول الست الموقعات على عهدة باريس، اجتمعوا في مدينة بيروت للنظر في حوادث لبنان، وغرضهم: البحث عن الجانين وعقابهم، والتعويض على المجني عليهم، وإنشاء حكومة للجبل يؤمن معها حدوث ما حدث. ورأى المؤتمر أن يقدم الأهم على المهم، فنظر أولا في مسألة التعويض؛ لأن الشتاء كان على الأبواب وأراد أن يعطي أولئك المساكين ما يسدون به جوعهم، ويكسو عريهم ويساعدهم على بناء بيوتهم إذا أرادوا العودة إليها، وانتقل بهيئته إلى دمشق، ورأى ما حل بها من الدمار، وقدر الخسائر بثلاثة ملايين من الجنيهات، وبعد بحث طويل واهتمام الوزير بتقليل التعويض المطلوب إلى أقل ما يمكن الوصول إليه؛ عين مقداره، وقيل إنه قيمة المسلوبات أو ما يراد رده منها، وكتبت القوائم في ذلك، ولكنها كانت مأكلا لأهل الطمع، ولم يصل إلى الفقير منها إلا شيء لا يذكر، وقد طبع الناس على الظلم حتى وهم متساوون فيه وراسفون في قيوده بظلم بعضهم بعضا، خلق في الإنسان موروث من الحيوان لا يفلت منه إلا قليلون، وكم من مرة وقفت أرملة مسكينة وطفلها على ذراعها أمام بيت رجل كبير من أهالي بلدها، تطلب منه أن يحن عليها بجزء مما سمح به لها من مسلوباتها وهو ينتهرها ويقول لها «لم أقبض شيئا» أو «هذا كل ما سمحوا لك به» ويعطيها ربع ما أخذ! ومما زاد الطين بلة أن المسلوبات قسطت أقساطا، وأعطيت بها سندات، فجعل الصرافون يشترونها من أصحابها بأقل من قيمتها، فقل ما نال أصحابها منها.
Unknown page