فقال الوالي: نعم هي كذلك، ولكن ليس كل رجالها على رأي واحد.
قال ذلك وصمت، فعرف الأمير أن مدة الزيارة انقضت، فقام وودع، فوقف له الوالي وشيعه إلى باب الغرفة التي استقبله فيها على خلاف عادته، وكان هذا الحديث باللغة التركية؛ لأن الأمير أحمد تعلمها لما كان في الأستانة مع أبيه، وهو يحسن التكلم بها كما يحسن التكلم بالفرنسوية، وكان العصر قد أذن فركب جواده وعبداه معه، وسار راجعا إلى الشويفات في الطريق الذي جاء فيه. وكان يفكر في كلام القنصل المسهب وكلام الوالي الموجز وأحوال الجبل، وما يمكن أن تئول إليه إذا نشبت فيه حرب أهلية تسفك فيها الدماء وتحرق البيوت، وراجع ما كان من نتائج الحروب الأهلية السابقة وكلها ضعف على ضعف وذل على ذل، فقال: لا بد لي من اتباع نصيحة القنصل وحمل أبناء عمي على اتباعها. ووصل إلى نهر الغدير، وهو تائه في فيافي الأفكار وحانت منه التفاتة، فرأى نسوة جالسات وراء مطحنة، فخفق فؤاده وغض طرفه وظل سائرا.
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وانتشر ذهب الأصيل على ربى لبنان، وألبس الأفق طرازا معلما من البرفير والأرجوان.
الفصل الثاني
بارقة الأمل
في أحوال الناس سر غامض لا ينطبق على قاعدة معلومة، وهو الاتفاقات الكثيرة التي تقع على غير انتظار، يخطر على بالك رجل لم تره منذ سنين كثيرة، وفي الساعة التي يخطر على بالك فيها تراه آتيا لزيارتك، كأن قوة روحية تقدمته ووصلت إليك فأعلمتك بقدومه.
وتفتش عن عبارة قرأتها في كتاب فتقع عينك عليها حالما تفتح الكتاب، وقد تفتش عنها مرة أخرى فلا تجدها إلا بعد العناء الطويل، فكيف اتفق أن عثرت عليها في المرة الأولى؟!
وينشغل بالك بأمر هام وترتبك فيه ولا ترى وجها لحله، ثم تقابل أحد أصدقائك اتفاقا أو رجلا لا تعرفه، ولم تره قبلا، فتجده عنده حل المشكل والخبر اليقين، كأنه سخر لخدمتك وقت حاجتك إليه.
على هذا النمط كان الأمير أحمد في نظر السر هنري بدمونت، فلم يكد يخرج من دار القنصلية حتى دخل السر هنري مكتبه، وعاد إلى إتمام الكتاب الذي شرع في كتابته إلى أمه ذاكرا فيه خلاصة ما جرى له يوما بعد يوم من حين وصوله إلى بيروت، وكان قد أخبر أمه عن كل ما رآه وسمعه من حين قدومه، وعن درسه جغرافية البلاد من بيروت إلى صيداء، وتعيينه مكان الواقعة التي جرح فيها جده الأعلى كونت بدمونت، لما أوفده ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد لفتح بيروت، فقد عين مكان الواقعة بالتدقيق، وكانت تقاليد عائلته تجعلها قرب نهر الدامور المعروف عند الأقدمين باسم تاميراس أو داموراس، حيث حدثت المعركة الدموية المشهورة بين أنطيوخس ملك سورية ونيقولاوس قائد الجيوش المصرية، فدارت الدائرة على الجنود المصرية، وقتل منها ألفا رجل وأخذ ألفا أسير، وعادت فلولها إلى صيداء، وذلك قبل التاريخ المسيحي بنحو 218 سنة، لكنه وجد أن شكل الأرض هناك لا ينطبق على الوصف الذي وصفها به ولف خادم جده، بل ينطبق على جهات خلدة، حيث تكثر نواويس الحجر التي ذكرها ولف في وصفه، ولا عبرة بما جاء في دليل أورشليم من أن خلدة على اثني عشر ميلا رومانيا عن بيروت؛ لأن الاسم القديم وهو«هلدوي» ينطبق على الاسم الجديد، فالواقعة حدثت قرب خلدة، وجده لجأ إلى كهف من الكهوف التي قرب الشويفات، ولا بد من أن تكون رفاته هناك حتى الآن؛ لأن خادمه ولف سد باب الكهف الداخلي عليه بعد أن لفه بردائه.
ولما قابل السر هنري الأمير أحمد، وعرف أنه من أمراء الشويفات شعر كأن بارقة من الأمل بدت أمام عينيه، ثم لما علم أنه من طائفة الدروز أصحاب الطريقة السرية الخاصة بهم، كادت نفسه تطير حبورا، وجعل يسترق اللحظ ويتفرس في وجهه، وكان الكولونل روز يعلم أنه مغرم بالمباحث التاريخية والأثرية، فأشار إلى عائلة الأمير، وقال للسر هنري: لا يبعد أن يكون جدك كونت بدمونت قد التقى بجد الأمير منذ سبعمائة سنة في ضواحي هذه المدينة، وقد يكون بينكما ثارات وأخاف أن تتقاضياها الآن.
Unknown page