Amin Khuli
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Genres
صحيح أن هذه المنطقة تتميز بسعة الموروث الثقافي قبل الوحي بزمان سحيق. وأمامنا في مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية اللتان لا يمكن إغفالهما، إذ لا تزالا ماثلتين في شعور الجماهير، من الفرعونية: شم النسيم، السبوع، ذكرى الأربعين، الحانوتي أو الحنوطي رغم اندثار التحنيط، الفول المدمس ... إلخ. أما القبطية فيكفي أن الفلاح المصري حتى الآن يعمل ويعيش في تقويمها، وينظم وقائع حياته وفقا للشهور القبطية المطابقة لمناخ مصر ولبيئتها الزراعية. وشبيه بوضع مصر أقطار إسلامية أخرى لها موروث حضاري ماثل قبل الوحي القرآني. كل هذا صحيح، ولكن أو لم يمثل القرآن الكريم، أو الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرة حضارية استوعبت كل هذا لتمثل مرحلة جديدة، نقطة بدء جديدة، مشكلة كل المسار التاريخي اللاحق؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، وما أدراك ما لغوية الحدث القرآني؟ إنها هي - قبل كل شيء - التي تجعل من مشكلة الخصوصية أو الأصالة واقعا شاغلا لنا دونا عن أية أمة أخرى؛ لأننا نحن الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس، وكما تثبت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبا أو وعاء يملأ بالفكر مثلما تملأ السلة بالفاكهة، بل إن اللغة هي ذاتها نسيج التفكير وخامة من خامات الوعي.
وقد مارس جلال الحدث القرآني نوعا غريبا - لعله غير مسبوق - من فقدان الذاكرة التاريخية، ترسخ بلغوية الحدث، وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج حضارتها.
وقد كان الإسلام باستراتيجية حضارية وسياسية معجزة ورائعة، يعد نفسه امتدادا وتطويرا وتنقيحا للديانات السماوية السابقة، وبالتحديد اليهودية والمسيحية؛ لذلك فإنه بخلاف الديانات السماوية السابقة، نجد أن كل ما تبقى في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما قبل الوحي والنص القرآني؛ إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وكل ما يتوجب نقضه ونفيه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار، وإرم ذات العماد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. ولما تنامت مؤخرا البحوث التاريخية والأركيولوجية والأنثروبولجية وتجلت ذخائر أصول القوميات، كان تيار الوعي سواء احتوى هذا أم لا، قد استقر تماما في إطار النص القرآني. فكيف إذن لا نشير إليه قائلين: من هنا نبدأ؟
وقد كان النص القرآني بالتالي هو المركز الذي نشأت حوله دوائر علوم تراثنا؛ لذلك كان نصا أو وحيا تحول إلى حضارة، وهذا أميز ما يميزنا كأمة، لقد خرج تراثنا من الكتاب المبين/القرآن الكريم، كانت أولا الانبثاقة الجبارة الفريدة لعلوم اللغة، التي أسفرت عن جهاز اشتقاقي ونحوي وصرفي لا مثيل له في لغات العالمين؛ لأن القرآن نص، ظاهرة لغوية، ثم البلاغة لتكشف عن إعجازه، يتبعهما الفقه ليستنبط الأحكام قياسا عليه، وعلم الكلام من أجل عقلنة القرآن ليتطور إلى الفلسفة، مما جعلنا حضارة تدور حول مركزها الثابت: القرآن الكريم. وقد أشار المفكر الإسلامي المجدد حسن حنفي إلى أن هذا هو الفارق المحوري والجدلي بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية التي أصبحت طردية بلا مركز ؛ لأن الكتاب فيها قد خرج من التراث ولم يخرج التراث من الكتاب.
3
لم تكتب الأناجيل إلا بعد اكتمال الدعوة المسيحية، فكانت لاحقة على العقيدة وتعبيرا عنها، ليست سابقة عليها أو مصدرا لها. ثم كان ظهور علم النقد التاريخي للكتب المقدسة في القرن السابع عشر مع سبينوزا وريتشارد سيمون وجان أوستريك، ليتناول تحريفا وتبديلا وتغييرا وقع في الكتب المقدسة، على كل هذا يقول حسن حنفي:
أهم ما يميزنا كأمة، سواء إذا كنا مجتمعا حاليا أو حضارة سابقة هو أننا قد تلقينا «وحيا» يمتاز على الأقل بخصائص ثلاث، أولا: أنه آخر مرحلة من تطور الوحي في التاريخ ابتداء من آدم حتى محمد، وبذلك يكون لدينا الوحي مكتملا في صورته النهائية، يمكن أخذه كأصل للشرائع دون انتظار تغيير أو تبديل أو نسخ. ثانيا: أنه محفوظ كتابة بين دفتي القرآن، وبذلك أمن خطورة التحريف التي انتابت الكتب المقدسة الأخرى من إنجيل وتوراة عند بني إسرائيل. ثالثا: أن القرآن ككتاب مقدس لم ينزل دفعة واحدة، بل نزل منجما كما يقول علماء التنزيل؛ أي إنه ليس وحيا معطى، ولكنه وحي منادى به اقتضته أحوال الناس واحتياجاتهم، تأتي كل آية كحل لموقف، ثم تجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عاما وتصبح القرآن. فأهم ما يميزنا عن الأمم والحضارات الأخرى هو هذا القرآن.
4
ونلاحظ أن هذا الاقتباس يلفت أنظارنا إلى أن الوحي منادى به، لم ينزل دفعة واحدة، بل منجما، هو تواتر من حلول لمشكلات واجهت الفرد والجماعة، وذلك قريب مما أسماه شيخنا أمين الخولي: «وثيق اتصال القرآن بالحياة الإنسانية»،
Unknown page