ولست أشك في أن أبويها سيدللان لها على حماقة الزواج بفتى رقيق الحال، يشغل مكانا مهينا في متجر.
وأضنى الجهاد العاشق والعاشقة، وجعل الحب والهيام والتوق واللهف تتدفق وتفيض على محيا الفتى كلما نظر إلى الحسناء الهيفاء البديعة «ل ...» بعينيها النجلاوين، وفمها العقيق الدقيق المرتسم، تلك الفتاة الغواءة المشغوفة باللهو والمراح، المستخفة بتقاليد طبقتها، بل ذلك النوع من النساء اللاتي يدفعن الرجال إلى الجنون بهن غير عامدات ولا متجانفات لغواية مدبرة، وخطة مرسومة.
ويخيل لي أنه كان يجاهد في سبيل امتلاكها بذلك السلاح المرهف الذي ما إن يزال الشباب يجاهد به ويناضل من أول الدهر، وبداية الخليقة، بل هو ذلك الحب الطاغية الجبار المستميت المستبسل يبدو حينا رهيبا في مشهده، جليلا في مبتداه ومطالعه.
وساقني الاتفاق الغريب في ذات ليلة إلى مطعم فخم أنيق في المدينة، هو مغشى الشباب ومختلف السروات، لأتناول طعام العشاء فيه، فإذا المكان غاص بالناس، والعذارى الحسان في أنضر الثياب، رائحات غاديات بين الموائد والصفوف، وقد ارتفعت الأصوات، وتعالت الأحاديث، واستطال التهامس بين العاشقين والعاشقات.
وبين طنين الهمس والحديث، طرق سمعي فجأة صوت رقيق حلو النغم مفعم نشدانا وتوسلا وعتبا، ولقد راح يقول: لسنا نستطيع أن نمضي أيها العزيز على ما نحن فيه ماضيان، فنحن أكثر ليلنا ونهارنا مجتمعان، وأهلي وغير أهلي قد أخذوا يتحدثون أحاديث غريبة شاذة عنا.
وسمعت صوت رجل يجيب، فإذا هو الفتى المتكلم المتحدث، وقد اندفع يتكلم بلهجة المستهتر الساخر، وقد أفلتت منه ضحكة قصيرة عجلى خاطفة، وكنت أعرف تلك الضحكة والنظرة التي تصحبها، ضحكة مستخفة ساخرة تخالطها قسوة.
قال: وهل تحفلين بما يقولون؟ وماذا يقولون؟ هلا نبئتني بأقاويلهم.
فمضت الفتاة عاثرة في منطقها تقول: إنهم يشيعون أنني تخليت عن الطبيب «ف»، وأننا خطيبان قد تمت بيننا الخطبة، وأنت تعلم يا عزيزي أنني سأتزوج به، وقد نبأتك بذلك من قبل، فهو صديق لأبي حميم، وقد تعاقدا على الخطبة في العام المنصرم، فأولى بنا أن نكف وأخلق بنا أن نزدجر، فإننا والله ظالمان لنفسينا، بل كل لصاحبه ظالم!
وبدت على وجهه الناحل أثر الشهوة المسرفة.
فراح الفتى يناديها قائلا: لو كنت حقا تحبينني ما جلست الساعة تنبئينني بأنك غدا متزوجة برجل آخر ... أواه! أنت تحبينني، وقد كاشفتني بالحب، والآن تريدين هجري ظلما وغدرا!
Unknown page