وتركته في مكانه مبهوتا حزينا واجما ...
وهكذا جئت من سفرتي إلى ذلك الموضع، ووقفت على قبر حبيبي لأقول له مرة أخرى ما قلته له في الحياة عن إيماني به وإخلاصي إليه، والوفاء الدائم لذكراه. وتراميت على القبر أبكيه وأبلل أحجاره بالعبرات والذراعان مشتبكتان محدقتان بشاهده، وأنشأت أقول: إنني على العهد باقية، إن الحياة بعدك قفر موحشة، ولا يفهم أحد ما بي ... أو يدرك ما أعاني. وسكت لحظة ثم عدت أغمغم قائلة: إلا صديقك وحده فهو الذي يشعر بحزني ويدرك لوعتي ...
وأهويت بفمي على القبر، فجعلت أقبله بحرارة، كأنما أحاول أن أرد الرجل الذي يتوسد تحته إلى الحياة وأنشره من قبره وأعيده إلى جانبي.
وأحسبني لبثت في موضعي بضع ساعات بين دموع وصلاة وتوسل إلى الله أن يعينني على المضي في حياتي وحيدة لا أنيس ولا صاحب.
وذهبت متعبة كليلة الروح، وانثنيت أترك المقبرة ، ولكني ما كدت أسير غير بعيد حتى شعرت بحنين إلى الرجوع لأتودع بآخر نظرة من قبره، فلما درت على عقبي، والعينان لا تزالان مبللتين بالدموع، غائمتين بسحائب العبرات، رأيت امرأة وصبيا يناهز السادسة راكعين أمام أحد القبور، وأيديهما مشتبكة اشتباكة الصلاة والترحم والدعاء، فدلفت منهما في سكينة ورفق وقلبي مفعم رثاء وعطفا على الأرملة والغلام اليتيم. وفيما أنا أقترب من قبر حبيبي، تبين لي أن المرأة والصبي راكعان أمام قبره بالذات، فتأملت لحظة ثوب الحداد الذي اشتملت المرأة به، وكان وجهها مدفونا في راحتيها، وبدا لي الصبي نظيفا حسن الثوب، فقلت في نفسي: إن هذه الأم ولا ريب أولى بها أن تفخر بطفلها الوسيم الجميل.
ومشيت إليهما فقلت للمرأة: معذرة يا سيدتي ... إذ خطر لي أن المرأة ربما لا تعرف القراءة فظنت أنها قد وقفت بالقبر الذي تريده.
فرفعت وجهها واختلجت في أعماق نفسي خالجة شديدة، إذ أدركت أنني قد وقفت حيال امرأة حسناء لم أشهد في حياتي أجمل منها ولا أملح، وبدا لي أن جميع أحزان الدنيا وأساها قد استقرت على معارفها لتطالع الناس منها أسطرها البليغة الناطقة.
ونهضت في رفق فكانت كل حركة من حركاتها جمالا رائعا وملاحة بادية، وتجلى حسن تركيب بدنها على رغم كثافة الثوب الأسود الذي أسبغ عليها، وراح حسنها الظاهر على وجهها يتكشف في كل حركة، وسكنة، وميلة، ونظرة، وكان يلوح عليها أنها متعلمة مهذبة على رغم رخص ثوبها، وكان وجهها أبيض ناصعا فزاد بياض الوجه من حمرة الشفتين، وكأنما اقتطع ذقنها وأنفها الدقيقان من المرمر، وراح شعرها الفاحم البراق مسترسلا على فوديها أبدع إطار لأجمل محيا، وكان حاجباها وأهدابها في سواد فحمة الليل تطل من تحتهما عينان متوسلتان شاكيتان تعلنان الدنيا بأحزانها ...
وقفت تنظر إلي لحظة، ثم ترنو إلى طفلها أخرى، وإذا ببريق باهر مؤثر قد التمع في عينيها، وأخيرا انثنت تجيبني قائلة: هل خاطبتني يا سيدتي؟
قلت: عجبت لوقوفك بهذا القبر.
Unknown page