فاحتملته إلى البيت، وكان غلاما لم يدرك الحلم بعد، وقد نبأني وأنا محتمله أنه في الثانية عشرة، ولكنه كان شجاعا جلدا ثابت الجنان، فلما سقط سقطته تلك لم يرفع بالصياح عقيرته، ولم يملأ الجو بعويل أو يستصرخ لينادي الناس إليه، وإنما بقي في موضعه ساعتين صابرا يرتقب أحدا من السابلة، فلما أهللت ناداني إليه.
وخشيت إذ دخلت به البيت أن تسقط جدته من فرط التأثر والخوف عليه، ولكني رأيتها قد استجمعت بقية جلدها، فصبرت لمشهده وتجلدت، وألفيت أخته ترتعش وترتجف من خيفة عليه، وكان الغلام رجلهما الذي يعولان في الحياة عليه، ويركنان في طلب العيش إلى قوته. •••
وجاء الطبيب وذهب، وجلسنا إلى الطعام على الأصيل، وكانت جلستي إليه، أهنأ ما جلست في الحياة إلى طعام، وكانت الوجبة أشهى وأعذب ما وقع لي من مأكل على مائدة.
وأدركت حاجتهما إلى النصير وافتقارهما إلى الولي المعين، فعرضت عليهما البقاء للعمل في أرضهما، وكانت الزراعة في أشد الحاجة إلى الرعاية في ذلك الموسم، وقد كنت فيما عرضت من أمر البقاء مطاوعا حاسة جديدة سرت كهرباؤها في النفس وهي لا تدري، وكانت تلك الحاسة ببوادرها، تلك الغامضة الخفية قد تكشفت لي بعد ذلك ببضعة أشهر، فإذا هي ... الحب!
وقالت فتاتي وهي تبتسم ابتسامة الشاكر للصنيع: جميل منك هذا الذي تعرض وكريم محمود، ونحن نقدره قدره ولكننا لا مال لدينا نوفيك منه حقك وأجر عملك.
قلت: لست أحسبني أستحق كبير أجر، على أن لي فضلة من مال أستعين بها على ما أريد إلى أوان الحصاد فأنال يومئذ أجري.
وكذلك رضيت مني بالبقاء، إذ رأت في البقاء نفعي ونفعهم. •••
والآن لا يزال فخار الفتى ببراعة زوج أخته في الزراعة وحسن القيام على الحقل، وتحدثه في المجالس عن طيب الثمر، وازدهار الحصاد، البقية الباقية التي تذكرني بالماضي وأحداثه، ولكني لا ألبث أن أعود فأطرد الذكرى بالنظر إلى وليدي الصغير الفاحم الشعر، وإلى عيني أمه السوداوين الفاتنتين.
حقا لقد أتى الحب بالمعجزة، حباني من السعادة نعمة هي أجزل نعم الله على أهل الأرض.
معنى الحب
Unknown page