هذه هي قصتي، فلا عجب إذا أنت رأيتني قد عدت حطاما وشنا باليا، وأنا في الثالثة والعشرين، وإذا أنت أدركت أنني على الموت ملتهف، فإن في أعماق فؤادي هاتفا يهتف بي: إنها قد غفرت لي وإنها بتلك الابتسامة الساحرة التي لقيتني أول مرة في هذا العالم ستلقاني بها وشيكا يوم أغادره ... •••
ولنعد إلى ما قلت في صدر هذه القصة: لقد صعد «ت» منذ ليلتين إلى بارئه، وكان صديقه «ف» ساعة المحتضر عن يمينه، وكنت أنا على شماله ...
وأحسبه مضى سعيدا قرير العين؛ إذ كانت كلماته الأخيرة: أي «سوسن»! ها أنذا قادم.
ولما سمع الشيخ «د» والد الفتاة بموت «ت»، ابتسم ابتسامة حزينة، وغمغم قائلا: نعم، هما اليوم سعيدان! ...
وعملا بوصيته، وبرضى أبويه، دفن الشهيد الراحل بجانب رفات الشهيدة الراحلة ...
الفتاة التي تصنع الرجال
ترددت قليلا قبل أن أقدم على سرد هذه القصة، ولكن الآن لا بأس من قصها ولا ضرر، نعم ... لقد كنت مجرما، ولن تجد بين معاشر المجرمين خلقا كثيرا يرفضون الاعتراف، أو يحدثون الناس بقصة حياتهم، ولكني اليوم قد عدت رجلا شريفا، ولعل في إقدامي على التحدث عن الماضي حافزا لغيري من المكدودين إلى التماس عيش الفضيلة، ومعينا لهم على تنكب طريق الجريمة ...
نشأت نشأة شيطانية، ونبت أسوأ منبت، ودرجت ونموت وشببت عن الطوق، في أحقر أكواخ الفاقة والبأساء، في بلد عامر آهل، اشتهر بأنه شر ما في العالم من مدائن، فلا عجب إذا أنا من بكرة العمر قد سرقت، وكانت سرقاتي الأولى من عجلات اليد والباعة الجائلين بسلعهم على صغار المركبات، وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ إذ لم يكن لي عمل آخر أعمله، أو صنعة أسلك نفسي فيها، وإذ رأيت اللدات من الأيفاع والمراهقين يفعلون ذلك، ويتضاحكون له، ويتنافسون فيه.
ولما بلغت السادسة عشرة، اتفق الصحاب جميعا وتضافر رأيهم على أن لي مستقبلا زاهرا في عالم السرقة والسراق؛ فقد استطعت في ليلة من الليالي أن أنشل خمسين جنيها من جيب رجل جلس مع الشرب في بعض المواخير.
وبذلك المال مضيت فاقتنيت أبدع ثوب في السوق وجدته، وابتعت للثوب ما يتسق له من زينة، ويقتضيه من مظاهر النعمة، وغضارة الحال، وذهبت من غدي فدخلت على جمع من ناشئة اللصوص يؤلفون عصابة للنشل والسلب، وكانوا يتوافون إلى حان تنتظمهم فيه موائد الميسر حلقات، فقبلوني في زمرتهم ومضيت من ذلك الحين أعرف فيهم بصاحبنا «تاجر القماش» وهي كنية أطلقوها علي لحسن بزتي وجدة ثيابي.
Unknown page