أوان الحب
قسوة الحب
رهان على الحب
الفتاة التي تصنع الرجال
معنى الحب
ما الذي يقتل الحب؟
حب بلا نسل
زحام على قبر
هتاف الأمومة
زوج طاغية
أوان الحب
قسوة الحب
رهان على الحب
الفتاة التي تصنع الرجال
معنى الحب
ما الذي يقتل الحب؟
حب بلا نسل
زحام على قبر
هتاف الأمومة
زوج طاغية
ألوان من الحب
ألوان من الحب
تأليف
عباس حافظ
مقدمة
بقلم عباس حافظ
في هذه القطع العشر، ألوان نضر، وظلال سود وخضر من أرفع العواطف وأسماها، وأشرف الدوافع وأقواها، وهو الحب، خليقة المصور البديع الباري، ويد اللطيف الخبير، الذي سوى الإنسان و عدله، في أي صورة ما شاء ركبه، وجعل الحب في الحيوان أشد غرائزه، وأحاله في الإنسان أكبر تمييزه، لأنه الغريزة مع لطف الحس، وتهذيب الحضارة وجمال اللون والشارة، ووحي الفكر، وإلهام الضمير.
الحب هو غذاء القلب، ومادة الروح، وجوهر الكون، ومحرك الدنيا والرابط بينها وبين الآخرة.
الله فيه يتجلى، والإنسان به يسمو، والعالم على هداه يسير.
وهذه ألوان مختلفة منه، كل منها طبيعي لأنه في الفطرة، وكل ظل من ظلاله جميل لأنه فيء الدوحة البشرية التي منها نبتنا وعلى أفنانها تنقلنا، ومنها ثمراتنا على الدهر وأزهارنا في مواسم الحياة وحقول الزمان ومسيرة السنين.
ومن يؤمن بالحب فهو بالله مؤمن، ومن يكفر به فقد كفر بنعمة الحياة التي جعلته شركة سواء بين الحيوان والإنسان.
أوان الحب
الحب ...!
لقد قضيت الحياة كلها أحلم به وأتلهف عليه وأتوق إلى مطالعه، ولو أنه جاءني بادرا لما وجدني خافة للقائه، ولقد كنت على طول الحنين إليه لا أرى من زماني فسحة للبحث عنه، ولكنه لم يجئ باكرا، وإنما طال عليه الغياب، ثم أقبل يدلف ويمشي وئيدا على أدبار الشباب ...
ولكنك لن تجد في قصة هذا الحب شيئا يروقك أو يوقد بعض ناره في جوانحك؛ لأنه حب بدأ على ثنية الكهولة، ولم يبد على بواكر الشباب وسطع الحداثة، إذ تروح النفس مترعة بأحلامه، ولا يزال الخاطر مصقول الأديم متهيئا لاستقباله .
إي والله لم أجد من زماني فسحة للحب، ولكن الذي صرفني عنه وعدل بي عن واديه، لم يكن غير واجب الرعاية لأختي الصغيرة «ج ...»، فقد قضت أمنا يوم كانت أختي في العاشرة وأنا في السادسة عشرة، فكانت رعايتي لتلك الصغيرة ومساعدتي لأمي المسكينة، التي لم تستطع نهوضا من الصدمة التي عاجلتها بوفاة أبي، قد تركتاني أكبر قبل الأوان.
وكان أبي أبدا يناديني: «يا عوني الصغير»، فكنت أزهى بهذه الكنية، وآتيه فخارا بهذا الاسم، وأجد فيه الفرح والخيلاء.
وكنت أقرب شبها بأبي مني بأمي، فقد ورثت عنه عينيه السوداوتين الهادئتين، اللتين توحيان من الأعماق قوة الإرادة وحب الريف والميل إلى القرية.
وكان أبي رئيسا للحطابين الذين يعملون في أرباض قريتنا، وكانت أمي مخلوقة ناعمة ... صنع الله لها، تلك الأم الغريرة الضعيفة الحول، الواهية الإرادة، لا تسأل شيئا ولا تسأل عن شيء، وكانت الصغيرة «ج ...» أقرب شبها بها. وكانت أمي من أهل الحضر، ولدت ودرجت وقضت مطالع شبابها في المدينة، فلم تكن تروقها عيشة القرى، ولم يفتنها مشهد الحقول، ولم تستروح نفسها لأفق الريف.
وفي ذلك العهد لقيت أبي، فكأنما التقت قوة السروة الباسقة الصلبة المتينة بطراوة أنفاس الربيع اللين العليل، وكان أبي يناديها «بأنفاس السماء» لنعومة بدنها، ونصاعة محياها، ومسة من لون الذهب الأصفر الناضر تزين جدائلها المرسلة، وذلك العبق الخفيف الخفي المذهل الساحر الذي يدع الناس ينادون زهرة الربيع بأنفاس السماء وشذاها.
وكذلك كانت في عين أبي وعيني، ولكنها لم تكن زهرة من زهرات البر، فلم تأخذ في النمو حيث مضى بها أبي إلى الريف الفقير الساكن، بل عاجلها الذبول فنكست - فعل الزهرة الذاوية - رأسها، وعادت أشبه الأشياء بشجرة اللبلاب تتعلق بالسروة الناهضة في صميم الفضاء.
ففي ذات يوم والشمس تتزاور بادية من خلف السروات الناحلات المديدات. إذ ارتفع في السماء فبدد الصمت الرهيب صوت عظيم تهلع له النفوس، وتنهد القلوب هدا، صوت قصف توالى ينذر بوقوع حادث في أكناف الغاب، وأخذ الناس يهرعون على الصوت من كل مكان، ويلتمسون الطبيب، ويطلبون للمصاب الغياث ...
ولكن ترى من يكون هو، لقد مضت كل ذات بعل وذات ولد تسأل وهي شاحبة اللون واجفة الفؤاد: من هو؟ وما الخطب الذي دهمه؟ ووقفن لاهفات جازعات ينتظرن النبأ، ويرتقبن قصة المصاب.
وجاء فتى من الحطابين يعدو، فقال: إن الرفقة قادمون بأبي ... وا حزناه ... لقد رأيت أمي ... أمي المسكينة، الحلوة، الضعيفة، الواهية، تتواثب من فرط الألم، وتتساند من فداحة الكارثة، وأما أختي فأخذت تتصايح وتبكي بدافع الغريزة، وهي لا تدري علام البكاء وما مبلغ المأساة وجلال الخطب، وإنما تبكي لبكاء أمها، وتجاوب بالدمع دمعها، وأنا، الله لي ... لقد استقرت على وجهي عيناه السوداوتان، وشفتاه الملتهبتان وهما تبتردان رويدا وتصفران على مهل، وهو يحاول أن يبعث من صدره أنفاسه المتحشرجة الخافتة الراجفة، نعم، أنا عونه الصغير، وسناده الأكبر. وفي رفق يمازحه إصرار، راحت جارة لنا تفك يدي أمي المشتبكتين حول صدره، وتمشي بها وطفلتها منصرفة بهما من الحجرة، وجثوت أنا بجانب أبي، ومضيت أقول بصوت مختنق: إنك لن تتركنا يا أبي ... وحاول هو أن يرفع يده ليلاعب جدائل شعري ملاعبة ألفتها منه ولطالما فرحت بها ولذني لطفها ورفقها، فتراخت يده ولم تستقم؛ إذ سقطت كتلة عظيمة من الخشب فوق صدره فحطمت أضالعه، وتركت يديه مرتخيتين واهيتين متساقطتين إلى جنبيه.
وانحنيت وذهبت أنصت إلى الكلمات التي راحت تخرج من بين شفتيه المختلجتين متقطعة لاهثة لا تكاد تبين.
قال لقد رقيت مركزا أسمى من مركزي أيتها الصاحبة الصغيرة والولية الحسناء ... نعم، أنا تاركك لنفسك، ومعتزل في هذه الحياة عملي. يا عوني الصغير، أنت الآن عوني الأكبر ... لديك أمك الصغيرة، «أنفاس السماء»، ولديك أختك الغريرة الحسناء، ألست ناهضة في العيش بجانبها، آخذة بيديهما، يا حبيبة أبيك وخليفته في عشيرته ...!؟
فأطرقت إطراقة الإيجاب؛ إذ عصاني منطقي فلم أجد لساني على الجواب مسعفا، ورأيت بياضا يغشى فمه شيئا فشيئا ثم يتصاعد إلى خديه، ويكاد يبلغ عينيه، فانحنيت أداني وجهه وأمس بخدي فمه، فإذا بذلك الفم قد سكن وانقطع اختلاج الشفتين واسترد ملك الموت من الأرض وديعة السماء.
طار لبي، وغام السحاب على خاطري وعيني، ورفعت رأسي ونظرت إلى عينيه الجامدتين، فأفلتت من بين شفتي أنة مجنونة موحشة، وإذا بيدين رقيقتين - لكن قويتين - قد رفعتاني من مجثمي وسمعت صوت الطبيب يناديني قائلا: شجاعة أيتها المرأة الصغيرة وتجلدا لأجل أمك؛ فإنها أحوج ما تكون اليوم إلى عونك.
وعند ذلك ارتفعت ورائي صيحة كظيمة متهيبة تقطع نياط القلوب، فدرت بعيني فرأيت شبح أمي الناحل المترنح حيالي، وعيناها الأليمتان ترسلان نظرات لهيفة متوسلة، كأنما هي تحاول أن تدرك مبلغ المصاب وتتساءل ما معنى الخطب وما أمره، وشفتاها تهتزان في حركة تهد الفؤاد، ويداها الصغيرتان البضتان تصعدان وتهبطان وقد جاءت فترامت على صدري وتعلقت بثوبي ونحري، ومن فوق بدنها الواهي الناحل ألقيت العين على أبي ... أبي وابتسامته الباسلة الحائرة التي لا تزال على وجهه، وفي لهجة رهيبة ومنطق جليل رزين غمغمت أقول معطية عهدي، مقدمة أمام جثمانه الهامد موثقي: «سأتولى مكانك يا أبت ... سأتولى مكانك، فنم بسلام».
ولما قضينا للميت الراحل حقوقه، خففت أنا وأمي وأختي من القرية إلى المدينة العامرة المخيفة بضجيجها وزحامها، ولكن فتنة الحضر لم تستطع أن تمنع شجرة اللبلاب المتعلقة بجزع السروة الصلبة المتينة من التشبث بسنادها، فما انقضى عام حتى وافت أمي الصغيرة أبي إلى مرقد الآخرة، وضجعت بجانبه تحت أطباق الثرى.
وما بقي من مكافأة أبي استعنت به بعد رحيل أمي على شراء حانوت صغير على القارعة لبيع الفاكهة. •••
ومرت بي ثمانية أعوام طوال عنيفة جاهدة، دأبت فيها على الخدمة في الحانوت، وبرعت في استهواء زبائني، واكتسبت خبرة برغباتهم، فاستطعت أن أجعل الصبية «ج» الحسناء رافلة أبدا في المطارف الناعمة، تزيدها حسنا، وتكسبها تفتحا وازدهارا.
وفي المساء، إذا لم يكن حفل ولا خروج إلى النزهة، اعتدت أن أكب في البيت على الخيط والإبرة، أحيك في معزل ثوبا جديدا لأختي تريده للظهور غانية حالية في محفل منتظر أو وليمة وشيكة. ومن خلال الظلال لا ألبث أن أرى عينين ناعمتين براقتين مصقولتين تطالعانني ضاحكتين متهللتين، وهما مترعتان مراحا بالحب، واسترواحا إلى الصبابة، وقد تحقق أمل الشباب، وصحت في الصبا الأحلام.
وكان حبيبها فتى ممتشق القد مكتمل العضل، ذا فم حلو ومعارف عليها من الصباحة آيات بينات. وفيما كانت تلك الإنسانة الصغيرة الخيالية البديعة تذوب متلاشية في تلك الأحضان القوية الرقيقة المفتولة، كنت أذهب أسائل النفس في حسرات: لماذا لم تقدر لي السعادة، ولم قد حرمت ذلك الهناء ...؟
وأذكر ليلة دعاني فيها شاب مليح إلى الذهاب معه إلى العشاء في مطعم فخم والانطلاق بعد نعمة المائدة إلى الملهى، فخفق فؤادي سرورا وطربا لتخيل قضاء بضع ساعات في رفقة ذلك الأغيد المليح، ولكني تذكرت أن أختي ستذهب في تلك الليلة بالذات إلى مرقص بديع، ولم أتم بعد ثوب زينتها، فاستعفيت ولم أقبل المقترح. وكان هذا آخر العهد بيني وبين ذلك الفتى.
وجاء اليوم الذي كاشفتني أختي الطفلة الغريرة اللدنة الناعمة كأمها بعزمها على القران، ففي تلك الليلة أطلت الجلوس إلى المرآة فأدركت أنني مدانية حدود الكهولة، وأنني من فرط حناني عليها ورعايتي تركت الحياة تمر بي مرا، حتى أصبحت ولم أعد غير فتاة عانس انمحت مسحة جمالها فغدت خلية من سمات الحسن ومعالم الحداثة.
واها لي، وحسرة على الشباب، لقد كنت أحلم بالحب ولا أزال به حالمة، فيأسا أيتها المسكينة وهيهات؛ فإن الحب لم يخلق لمثلك، وإنما أنت عون أبيك وخليفته في عشيرته ... •••
وكذلك لبثت عشرين سنة بجانب «ج» أرعى لها بيتها وهي متعلقة بي كما كانت أمنا تتعلق بأبينا، وكانت هي تقول إنها لا تستطيع العيش مستغنية عن عوني، فظللت في عونها، وكانت - وا حسرتاه عليها - لا تزال في ربق الشباب عندما عاجلها الموت فذهبت للقاء أمها وأبيها، وكان زوجها يحبها ويعجب بها، ولكن قبل أن تتفتح أكمام الزهر والأعواد التي زرعناها حول قبرها، وكانت تلك الأزاهر أحب شيء إلى نفسها، جاء زوجها إلى البيت بزوج أخرى، ولم تكن هذه تحتاج إلى سناد تترامى عليه، وعماد تنهض فوقه، فلم ألبث أن أدركت أنه لم تعد بأحد حاجة إلى بقائي.
لقد كنت من الحداثة ضرورية لا غناء لأبي عني، ولا لأمي من بعده، ولا للصغيرة «ج» التي تركاها لرعايتي وعوني. فإذا بي على رأس الأربعين، وحيدة لا حاجة بأحد إلي، ولا مكان لي عند أحد.
وجاءني يقول وهو متكره متردد: إنه قد أعد العدة لإيوائي إلى دار هادئة يعيش فيها نساء مثلي لا يعملن عملا مجهدا، ولكن يجدن رفاهية ورعاية بقية آجالهن.
وأحسب أنه كان ينبغي لي أن أكون شاكرة لهذا الصنيع، عارفة هذه المحمدة له. ولكن روحا من الثورة والتمرد تولتني؛ إذ أحسست أنني قد خدعت في صفقة الحياة وغبنت، فلقد ظللت الماضي كله أعطي كل شيء ولا آخذ شيئا، أعطيت الشباب والآمال والأحلام، وها أنا ذي اليوم لا أجزى عما وهبت غير العيش بقية الأجل بين جدران ملجأ ...
وا حزناه ... أنا التي لهفت على الحب وحلمت به، ودعوت إليه، قضى القدر أن أحتبس في دار للعجزة ... واللائي أدبر العمر بهن ...
يا لله ... أدبر العمر بهن، ولكني لم أعد كذلك.
لقد كنت فتية أحس في الأضالع وقدة الشباب، وكيف تنطفئ نار تجد في كل يوم وقودها من اللهفة على الحب وحرارة الأمل، والتوق إلى المنى البعيدة؟
لقد ثارت نفسي متمردة تريدان تحتال آخر الحيل قبل أن تسكن إلى اليأس وتودع الأمل الوداع الأخير. •••
وأعلنت صحف المساء أن معرضا للملاهي والألعاب سيقام على ضفاف البحر تذكارا ليوم مشهود، ومضت تطنب في وصف ضروب اللهو التي حشدت فيه. فما كدت أقرأ هذا النبأ حتى أجمعت أمري على أن ألقي بآخر سهم في كنانتي على مرمى الحياة قبل أن أستسلم إلى دخول ذلك الملجأ صاغرة، فعددت فضلة المال التي ادخرتها، فكانت يسيرة ولكنها تكفي لركوب القطار ودفع الأجر ونفقة البيت. إذن لا بأس ... سأثب الوثبة الأخيرة ... سأعيش لنفسي يوما واحدا في العمر، يوما بهيجا حافلا بمتع الحياة من لهو وقصف، وإذن لن يستطيع العيش في الملجأ أن يحرمني نعمة ذكرى ذلك اليوم وصورته ...!
وذهبت إلى دولاب ثيابي فأخرجت أحسن حلله، وأبى شعري الفاحم إلا أن يلتوي ويسترسل فروعا وخصالا متلطفة تلاعب جبيني وخدي، وراح خيال شبابي المستعاد وعيني السوداوتين يضحك لي في المرآة عندما تناولت جعبتي الصغيرة ومشيت منصرفة لاقتناص ... الحب ...!
وأخذت الجماهير تتقاطر، وما لبث الخليج أن بدا حاشدا بالسابحين والسابحات في مختلف الألوان، تسطع منهم الأذرع وتبرق السيقان. وارتفعت صيحات الفرح من شفاه ملتهبة بحرارة الشباب، تختلط في الفضاء بأصوات الباعة من كل صنف ولون، وعادت الرمال البيضاء المترامية على الضفاف حديقة مفراحا بهيجة تطالع العين منها المظلات البديعة والأثواب المهفهفة، وقوالب الحسن التياه، والملاحة ذات الدل والخفر والخيلاء ... وظللت لحظة مستطيلة قانعة بالجلوس فوق الرمال الدافئة وتأمل المارة ورؤية مشاهد الألعاب، ولكني ما لبثت أن درت بعيني فألفيت الناس جماعات، مثنى وثلاث ورباع، كلهم بإلفه فرح، وبرفيقه طروب، أو بصاحبه في سرور وابتهاج، ووجدتني في وسط هذا الجمع وحيدة من الخلان، لا رفيق إليه منتهى جذلي، ولا سمير أضاحكه وأنعم في بهرة الحفل بسمره، فتولتني وحشة أليمة وظمأ إلى الرفقة ولهف على الصاحب والخدين، ورحت أجيل العين في الوجوه لعلي ملاقية وجها أعرفه أو أسمع صوتا آلفه، فوجدتني وحيدة غريبة لا شأن لها بالجمع، بل امرأة محت الأيام مسحة الجمال من معارف وجهها، يدفعها الشباب المساميح الصباح الوجوه بالمناكب، ويمرون بها ولا ينظرون. وا حزناه! لقد كنت بعد كل تلك السنين أحسبني مختلسة من العمر يوما واحدا ذا مراح وابتهاج، أعده ذكرى طيبة مواسية لبقية الأجل أقضيها بين جدران ملجأ موحش أليم.
لك الله أيتها العانس المسكينة، ودعي الأمل، هيهات ما لك في هذه الحياة من نصيب، اذهبي اطلبي إلى الوردة أن تغمض وإلى الزهرة أن تعود كما نواراكما كانت. ما أنت والحب، وما أنت والمراح، أنت عون أبيك وسنده، ولكن أبي ... ها أنا قد عدت وحيدة وقد تركني الذين وصيتني بهم، ولم يعد لصغيرتك من تعينه وترعاه، وذهب الأمل، وخبت وقدة اللهفة على الحب. •••
واحتملني تيار الجمع الزاخر في طريقه، فما لبثت أن وجدتني في السرادق الرحيب الذي أقيم في المعرض للعبة الأحصنة الخشبية، فانتبذت من القوم مكانا فجلست ملقية يدي في حجري وأسلمت خاطري للتفكير.
ولست أدري كم لبثت في مجلسي، وإذا بيد قوية قد ألقيت فوق يدي، فتطلعت بوجهي فأبصرت وجها وسيما تطل منه عينان زرقاوان تنظران إلى وجهي نظرة مستطيلة مفعمة حنانا وتأثرا.
قال صاحب ذلك الوجه بصوت ملتهف خفيض: ماذا بك يا سيدتي؟ فأثر في نفسي حنان صوته، فوجدتني أقول وأنا خائرة النفس معذبة: إنني وحيدة. قال: وحيدة! ... وخطف على وجهه نور رحمة وشهاب حنان غريب.
فقال: يا لك من مسكينة! ألا صديق؟
فهززت رأسي هزة النفي ولم أتكلم.
فسكت لحظة ثم ابتسم قائلا: هل لك في ركبة معي فوق الأحصنة؟ فخفق فؤادي ونهضت واثبة وقد عاودني الأمل.
ولما رجع بالتذكرتين لمحت على وجهه لهفة كأنها رجاء الفتى وضراعة أهل الشباب، وركبنا مرتين ثم استعدنا الركوب مرات، ونحن ضاحكان مسروران. وفيما كان يعينني على النزول لمس كتفي كتفه واستندت ذراعي إلى ذراعه، فإذا موجة من كهرباء قد سرت في مفاصلي فهزتني هزا.
وكان ذلك إحساسا جديدا لم أشعر من قبل بمثله.
وجلسنا فوق الرمال، وأكلنا شيئا من الحلوى، وكسبت في النصيب سلة من سلال البقل والخضر، فما عتمت هذه السلة أن أعادت إلى خاطري ذكر أحلامي الماضية ولهفاتي على عيش الزواج وحياة ربة الأسرة، ورأيت الحاضر، نعم هذا الحاضر الهنيء الرغيد ذاويا متلاشيا في المستقبل الأليم، حفت جوانبه الوحشة، وقام على حفافيه عذاب.
وتناول هو السلة فعلقها بذراعه باسما وبذراعه الأخرى أمسك بذراعي، فقال: لنترك هذه ونذهب نركب إلى طوفة طيبة فذلك نعيم كدنا ننساه.
قلت: أوثر أن نجلس جلستنا هذه لنشنف أسماعنا بصوت الموسيقى إذا لم تر من ذلك بأسا، فسرت في تضاعيف صوته أنغام حنان ورنة لهف غريب، وهو يقول: أمتعبة أنت؟ قلت: كلا، ولكني أرى أن نختم يومنا على الأغاريد، فذلك أبدع ما يختتم به يوم كهذا ...
ولفنا الصمت في مجلسنا مليا.
وكان هو بالحديث البادئ .
قال: هلا أنبأتني أين مقامك؟ وفيم لقاؤك؟ حتى نتوافى إلى يوم آخر طيب كهذا جميل المبتدأ حلو المختتم.
وا حسرتاه ... يوم آخر ... لقد نهضت في مخيلتي جدران الملجأ وأسواره الشاهقة، وكإنسان بلغ أقصى نهاية العذاب، ثم لم يستطع عليه بعد ذلك صبرا. رحت بين عبرة مخنوقة، وزفرة كظيمة، أقص عليه قصتي، فلما أتممتها امتدت ذراعه فطوقتني، وراح صوته في مثل حنان الأمومة يقول: واها لك أيتها المسكينة! واها لك أيتها الصغيرة المحزونة!
وجثوت إلى جانب أبي.
فاستعدت يدي من إمساكته وحاولت الكلام بثبات، ولكني اختنقت بالعبرات فلم أستطع صبرا.
قلت: والآن لا أمل! لقد ذهب الحلم الجميل، ولم يبق غير ذكرى هذه الساعات القليلة، تلك عدة أيامي القادمة.
وعاد يتناول يدي الباردتين في يده الحارة المستعرة، وراح يقول في لهجة المتضرع المبتهل: ما أحوجني إلى عونك يا عون أبيك وأهلك، إن لدي البيت الذي كنت به تحلمين، والأفق الذي كنت عليه تلتهفين، أواه أيتها الصغيرة! ... أنت والله المرأة التي كنت الحياة كلها أتمناها، وتهفو نفسي إليها، فهل تجدين في فؤادك لعامل دؤوب مثلي موضعا؟ وهل ترضين بي في الحياة شريكا؟
وشد يدي حتى كاد يؤلمني، ولكني لم أتألم ولم أحفل؛ فقد كانت تلك أولى ساعات الحب ومطالعه.
لقد لقيت ضالتي المنشودة وفزت في قنص الحب، وصحت الأحلام بعد لأي ويأس. وما أبدع الحب يجيء وئيدا ويقبل على مهل، فينعش موات الأمل، وينسي المرء ما كابد على الطريق وما ذهب من مراحل الأجل.
طوبى للحب، إنه رحيم بديع وإن جاء بعد الأوان ...
قسوة الحب
كنت زوجا وفية فاضلة، لم يخطر لها يوما أن تخون بعلها، ولا هي يوما خانته، وما أتيت حياتي أمرا نكرا، ولا قرفت في العيش شرا فيعيبني المجتمع به، ولكني مع ذلك قتلت رجلا ...
ذلك ما نبأني به والد القتيل بعد أن عفا عني وصفح، فقد راح يقول إنه لهين على المرأة أن تقتل كما هو بين عليها أن تهب الحياة ...
يا عجبا! ما كنت أعرف ذلك ولا عن لي من قبل، بل قد كنت أتدبر الأمر من ناحيتي الخاصة، وأعمل على أن أدفع عني غائلة القانون. وما كنت أدري ما على المرأة التي تجد من الرجل الحب من فرائض كبار، وتكاليف ثقال ...
وأنا اليوم أسند في حدود الأربعين، وكان زواجي منذ ستة عشر عاما، وزوجي راغد العيش، موفق في الحياة، فنحن نسكن دارا جميلة في أرباض المدينة ولم نرزق ولدا، وقد مضت حياتي حتى العام الفارط هادئة مألوفة، إلا فترات تتولاني خلالها السآمة، ويغمرني ألم الوحشة، فأجلس أستعيد أحلام الشباب وأماني الصبا، أيام كانت النفس لاهفة على الحب تتمنى لو تصيب إعجابا وحبا، ولست أدري علام رحت أتمنى شيئا كهذا ولم أعد الصبية الحدثة، ولا الفتاة الغر اللعوب، ولا حق لي فيه اليوم ولا أنا من أهله، ولكنا كذلك نحن النساء، قد نجاوز حدود الشباب، ثم لا تزال نفوسنا على الحب لاهفة، والعين لنعمته ولذاذته طلعة، وعسير علينا أن نتخلى عن ذلك الأمل ونستدبر ذلك الرجاء.
ومنذ قراب عام، قبل عهد هذا الأمر الذي جرى والذي أنا به محدثتكم، جاءت نسوة من المدينة في زورة لدارنا، وكنا جالسات نخيط ثيابا، وقد جئت بفضلة من حرير وردي اللون فقلت لصواحبي شاكية آسفة: أحسبها لا تكفي لنصطنع منها غطاء لوسادة. فقالت صاحبة منهن: لم لا تصنعين منها قميصا مقورا لا أكمام له يا عزيزتي؟ ...
قلت ضاحكة: يا عجبا! ... ألمثلي يصلح القميص المهفهف الوردي لا كم له؟ ...
فقال: نعم، وله حاشية من مخمل مذهب، فأنت مديدة القامة سمراء المعارف، وإنك لتترائين في ريطة مهفهفة كهذه مليكة من الملكات البهيات الباهرات ...
قلت: ولمن ترين ألبسه؟ ومن ذا سيشهدني مترائية به؟
قالت: لزوجك تلبسينه، وعلى عينه تخطرين به.
فضحكن من قولها فاكهات، فقد كنا نعلم أن أزواجنا لا يحسبوننا مليكات، ولا يروننا - وإن تجملنا لهم ما تجملنا - البهيات الباهرات.
ولكني أمسكت بفضلة الحرير فالتففت بها، وكان اليوم مطيرا والحجرة معتمة، فما لبثت أن أدركت على بصيص الضياء أنني رحت في لفة تلك الفضلة الوردية اللون رائعة حقا، وحسناء باهرة ولا خفاء، ولقد كنت في صباي بدينة ممتلئة البدن، ولكني اليوم نحلت فأضحيت ممشوقة هيفاء، واتسعت حدقتاي فرحت في العين نجلاء.
وانثنت صاحبتي تقول: في الحق ما رأيتك يوما تلوحين كما لحت الساعة رائعة حسناء، ألا اصطنعي منها الغلالة الفضفاضة يا عزيزتي على بركة الله.
وكنت أعلم في نفسي أنني ما كنت لألبس شيئا كهذا غريبا بديع الرواء، فإن زوجي سيحسبني به ممثلة من رخيصات الممثلات، ولكني مع ذلك استمعت إلى نصيحة صاحبتي فجعلت من تلك الفضلة قميصا ولم أصطنع له الحاشية المذهبة إبقاء على حشمة هونا ما، وحرصا على شيء من وقار.
وفيما كنا نهيئ ذلك القميص، أنا وصديقتي، راحت تقول: لقد سمعتك يوما تقولين إن لزوجك آلة كاتبة قديمة العهد يضعها في غرفة مكتبه، فاسمعي إذن، إن لدينا غلاما قد انحدر من بلده البعيد ليقيم عندنا، وهو يعد نفسه اليوم لدراسة علم التجارة، وقد قلت له إن في وسعه أن يجيء في بعض الأحيان ليتدرب على الكاتبة عندكم ويمرن أنامله.
قلت: لا ضير من ذلك، فإن زوجي لا يعود في المساء في هذه الأيام من كثرة عمله وتراكم شواغله.
قالت: إن الغلام فتى هادئ وديع عليه من الذكاء سمات ومخايل. •••
وفي أصيل اليوم التالي جاء الغلام.
وكنت قد غسلت شعري قبل قدومه وجلست أجففه في قاعة الاستقبال، ولم أكن عقصت جدائلي بعد، ولا قصصت من ذوائبي الغزار، فعل النساء في عصرنا هذا، وديدن الحسان البرزات، وإنما تركت شعري مرسلا على سجية فروعه الوحفة، وضفائره المديدات.
وتلفت حولي أبحث عن ثوب أشتمل به ريثما تجف جدائلي، ونحن اليوم لا نقنع إلا بالطريف، ولا يرضينا في كل يوم سوى الجديد القشيب، فتناولت الثوب المهفهف الشفاف الوردي اللون الذي اصطنعته.
حقا لقد أصابت صديقتي فيما رأت! فقد تراءيت بذلك الثوب باهرة ساحرة الرواء، ورحت أمسك في يدي بمروحة يابانية مذهبة الحواشي، وكان شعري قد جف وراع ... ودق الجرس ...
وذهبت ففتحت الباب وبدوت حيال الغلام ، وأخذ مشهدي عينه، فتراجع مبهوتا كأنما قد رأى شبح حورية من بنات السماء.
قلت: أأنت ... طالب التجارة ...؟
قال: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك بمقدمي.
وخيل إلي أنه قد راح بي المأخوذ المبهوت. وظننت دهشته تلك بعض حياء الشباب، ولكن رعشة شفتيه، دلتني على أن ما به قد تجاوز حدود الدهشة والاضطراب، فأخذته إلى حجرة زوجي ورتبت له المنضدة كما يشاء.
وراح يقول: إن ذلك منك لجميل، وهو منك طيب وكريم. وكان الغلام فتان الطلعة، غريب الملامح، في الربيع الثامن عشر، ناحل البدن أزرق العينين مثال الحياء، تطل من عينيه نظرات حييات، وفورات شعرية ما أحسبني رأيت منها يوما في عيون الشباب!
وكانت عيناه الزرقاوان لا تطرقان النظر إلى وجهي.
قلت: أيروقك المكان؟
قال: أحسبه كذلك ...
ووقفت أنظم صفوف الكتب والأوراق فسقطت إحدى جدائلي على ذراعي العارية، فاستقرت عينه عليها لا تبرحها، ولم يكن أحد غير زوجي قد رآني وأنا بادية في غلالة شفافة كتلك، ولم أكن أحسب أنها تثير ألباب الرجال. ولكني عندما أدركت مبلغ التأثير الذي أحدثه مشهدي مترائية بذلك الثوب الرقيق الفضفاض، شعرت بشيء من فرح الأطفال، فاصطبغ وجهي بلون الأرجوان، ولم أتمالك نفسي من أن أبتسم ابتسامة مفعمة بالرقة واللطف، وإن لم أخرج بها عن حدود الاحتشام.
وانثنيت أقول للغلام: أنا تاركتك لتشتغل، فإن أردت شيئا فتعال اسألنيه فإني جالسة في حجرة الاستقبال.
ومضيت من الحجرة أرفل في ذلك الثوب النضير على عينيه، وكان أولى بي أن أذهب فأنضوه عني، وأستعيض عنه ثوبا من الثياب التي أبتذلها في البيت، ولكني في الحق لم أفعل، وإنما عدت إلى حجرة الاستقبال فوقفت حيال المرآة أشد من حواشيه وأهذب من ثنياته وتلافيفه وأهز فروعي حول كتفي، ثم رحت أستلقي على المتكأ.
بالله! منذ كنت صبية غرا لم يقع لي مثل هذا الإحساس الغريب الذي جال بنفسي، وغمر لبي في تلك الساعة، ذلك إحساس متدفق فياض طاغي المد، معتلج الأواذي، بل إحساس لا يكون إلا في أقاصيص السحرة وبنات الجن ، إحساس تكتمه المرأة عن كل مخلوق ولا تصفه لأعز صاحب وصديق.
وجلست أنصت إلى دقات مفاتيح الآلة الكاتبة، وأتمثل عيني ذلك الغلام الوسيم المقسم، فخلت كأني أتعاطي أفاويق عقار مسكر مخدر كنت إليه مشوقة لاهفة.
وفيما أنا مسترسلة مع ذلك الحلم اللذيذ الساحر، إذ سمعت صوتا يقول: لا تتحركي ... فإذا لهذا الصوت رنة صوت العابد القانت لا أحسب امرأة تحلم بمثله من حبيب جليل الحب مكتمل الولاء.
وكنت أعلم أنه ينبغي لي أن أرد الغلام عما هو آخذ فيه، ولكني لم أكن في ماضي الحياة قد سمعت من فم رجل من أهل الدنيا صوتا حلوا عذب الأغاريد! ...
ووقف الغلام يتأمل شعري الفاحم المرسل حولي، وينظر مليا إلى ثوبي المهفهف الشفاف لا يكاد يستر بدني.
قال: أتأذنين لي أن أجيء وأكثر المجيء؟ ...
قلت: بلا ريب ...
قال: شكرا شكرا ...
وانصرف مسرعا لا يلوي على شيء ... •••
وكذلك جعل يجيء بانتظام، وراحت صديقتي تحدثنا بأخباره، قالت: إن أباه شيخ كبير في بلد صغير بسواد الريف، وقد نشأ الغلام وحيدا من الخلان في كل بلدة، وأحسبه تعثر في علة فاستطالت العلة به عاما كاملا.
قلت: لا عجب إذا هو اليوم بدا ناحلا واهي البدن.
قالت: أظنه قد عوفي من زمان بعيد وابل، ولكنه في الحق غلام عجيب، بل دودة كتب، كثير القراءة، مكب على العلم. وإن كان أهله يقولون إنه يقرأ كتبا لا يخلق بمثله أن يتناولها ... حقا إنه لغلام حساس شفاف العاطفة.
قلت: إنه ينظم شعرا.
قالت: يا عجبا! أشاعر هو أيضا؟ ولم تكن صديقتي تعرف ذلك عنه. ولكنه في تلك الأصائل الثلاثة التي قضاها يتدرب على الأداة الكاتبة عندنا لم يصنع شيئا سوى كتابة القصائد، وكانت القصائد تكتب لي، فقد جعل يجيء إلي بها في خجلة وحياء، فكنا نجلس على المتكأ معا ويروح هو ينشدنيها بنفسه، وكان مجلسنا أبدا هادئا في خلوة رقيقة على نسائم الأصيل إبان الربيع، ولم أكن أجد رغبا في الخروج من البيت، ولا أرتقب زائرا يزور، ولم يكن علي عمل أؤديه حتى تحين الخامسة فأنهض لتهيئة العشاء لزوجي قبل رجعته، ورحت أجد مسرة النفس في الخلوة إليه، والاستماع إلى شعره وقصيده الحافل بوصف الجمال وشكاة الحب، ووقف عند بيت يصف فيه لمسة يد المليكة الفاتنة فألقى يده على يدي ولم أكن طيلة الحياة بالإنسانة المجنونة العاطفة، الخلابة الهوى، فأردت أن أظل على خلقي هذا وعهدي، فاجتذبت يدي في رفق منه، فتركها غير ملحاح في إمساكته، ولكنه ظل يرنو إلى يدي بين فترة وأخرى، فعل الطفل الحزين السليب من شيء حلو كان يطلبه فحيل دونه.
والتهب خدي في ذلك المساء عندما غادرني غلامي الجميل، ووقفت أتطلع إلى وجهي في المرآة ... يالله من بريق عيني وسطع نظرتي.
في الحق ما شهدت لهما يوما ذلك البريق الساطع، ولا عجب إذ راح زوجي يقول عندما عاد في ذلك المساء: أنت تلوحين مشرقة الليلة يا طفلتي العجوز! أكنت في السينما؟
فابتسمت لنفسي ورحت أوازن بين مسرة رؤية مشاهد الصور المتحركة وبين خفة الفرح الذي أجده، فتضاءلت تلك المسرة في عيني وعفتها بجانب هذه الرعدة المسكرة التي تسري مني في أنحاء البدن.
وفي المرة التالية جلسنا نتحدث، فمضى هو يقص علي طرفا من حياته الموحشة القفر من الأنيس، ويتكلم في الحب ويقول إنه ليراه شيئا غامضا جليلا، ورائعا بديعا، ذا دب إلى النفس ما لبث أن غمرها من جميع نواحيها.
فابتسمت لوصفه ونبأته أنني بأحلام الحب عليمة.
فانفجر يقول لي: الله! لقد كنت أشعر بأنك ستدركين وتفهمين وأنت المرأة الأريبة الجميلة البديعة الساحرة.
فكدت أضحك وجعلت أقول لصواحبي ما بي، وأكاشفهن بما وجدت، ولكني كدت أبكي أيضا ويهجم الدمع في عيني، فقد نسيت أنني كنت بادي الرأي أحسبه غلاما مفتونا، وقد راقني أن أسمع أحاديثه عن الإعجاب بي وعن الجمال وعن الحب، وكان الغلام مفعم الفم بهذه الكلمات الكبار الجلائل، وفي كل مرة راح يقولها كنت أدرك من نظرات عينيه أنني أنا عنده المعنية بها.
وجعل يتناول يدي في يده، ولست أدري كيف رحت أتركها له وأصبر لها طويلا في يده، وكان يمسك بها في شيء من سذاجة الطفولة، ثم لا يلبث أن ينظر نظرة الطفل المتغلب على دموعه إذا أنا حاولت أن أقطع عليه فيض أحاسيسه بمحاولة اجتذابها منه.
ولقد كان والله يتعبدها تعبدا، وكنت أنثني أضحك، وتهتز نفسي اهتزازا إذا انتهت خلوتنا، متخيلة أننا كنا في حلم، ومضى الحلم.
ولكني لم أنبئ زوجي بما جرى، فما كان بوسعي أن أقف فيض هذه اللذة الجديدة التي مضت عندي أشبه شيء بعقار مخدر أدمنت تعاطيه وهيهات أن أكف عنه.
ومضيت أحدث النفس قائلة: لا ضير من ذلك ولا بأس ما دمت امرأة فاضلة ولن أعدو حد الفضيلة، فليكن هذا إذن سري الدفين الجميل.
وفي الحق أي جذل رحت أجده في أن يكون لي عند نفس ساذجة حلوة حب بليغ وإعجاب عظيم ولا يعلم الناس بأمرنا، فلقد صغرني هذا الخاطر عشر سنين وردني مفراحا طروبا هانئة، وجعلني أبدو حسناء لأول مرة في الحياة! ...
وانثنيت أعمل بنصائح صديقتي فألبس المخمل والمهفهف والغلائل الشفافة وأطيل الوقوف للزينة أمام المرآة، فعل الفتاة في مقتبل أيام الشباب، حتى بدوت في عين هذا الفتى الناشئ أشبه شيء بالمليكات ...
وكان يقول وهو يتراجع خطوة ليتأملني وأنا خاطرة نحوه: يا مليكتي.
ثم يمضي فيجلس بجانبي جلسته الغريبة، نصفها طفولة ونصفها عبادة، وأحيانا يضع رأسه في راحتي أو يسند جبينه إلى كفي وينشئ يحدثني بكل ما يجول في نفسه ويجري في خاطره وأنا سكرى بنشوة الحب.
قال يوما في توسل ورجاء: دعيني أنادك باسمك فحسب.
فضحكت من فرط السرور بأن في الدنيا مخلوقا لا يزال يريد أن يناديني نداء الفتى للفتاة.
فتناول يدي في رفق وتهيب العابد الخاشع وغمغم يقول: يا غادة الجمال!
وطبع قبلة على يدي، ومضى.
وكانت أناملي لا تزال راعشة، يتدفق الدم خلالها حارا ملتهبا عندما ذهبت لأهيئ لزوجي طعام العشاء، ولكني لم أشأ أن أسترسل مع نزق الحب، وإنما قلت لنفسي لا بأس من قليل من لذة بريئة عفة كتلك في جو حياة صامتة خرساء في ظل زوج لا يعرف ما الحب.
وما خطر لي أن أنظر إلى هذه العلاقة الجديدة من ناحية الغلام، أو أتدبر ماذا يكون منه إذا منعته بعد أن شجعته.
وكان الغلام متلاشيا في حبه لي، وأثار هذا الخاطر في نفسي زهوا وأولد خيلاء، عرفانا مني بأنني رحت عنده شغله الشاغل ليل نهار، وأنني مانعته الاسترسال معي ورادته عن التمادي، وأنا على ذلك جد قديرة. وكانت تلك ولا ريب قسوة، ولا تحتاج المرأة في سني إلى شيء من البراعة تحشده للتسلط على فؤاد غلام.
وجاء يوما يتوسل، قال: البسي القميص الوردي اليوم فأنت فيه أجمل وأبهى.
ففعلت وجئت به بادية!
قال: دعي فروعك مرسلة، يالله من شعر المرأة! إنه والله السحر المبين!
فجلست فوق المتكأ وجدائلي نائمة حولي، والغلام جاثم عند قدمي.
وراح يتناول شعري فرعا فرعا فيقبله عشرا ويتمسح به عشرا، ورفع وجهه إلى وجهي.
قلت: حذار!
قال: ألا تسمحين لي بقبلة من خدك أيتها الفاتنة، إنني على القبلة في لهف.
فألقيت يدي على كتفه في رفق أمنعه.
قال: أتمنعيني القبلة وأنا ...
فأدركت إذ ذاك أن إعلان الحب قد وقف على شفتيه ... فهل تراني مانعته عن المضي في حبه؟
نعم، ذلك ما خطر لي في تلك اللحظة، فلم أحفل بألم الغلام من ذلك، ولا بفجيعة نفسه.
قلت: سكوتا! لا ينبغي لك أن تتكلم.
فجعل يرعش ألما وهو يقول: أنا نازل على ما تشائين! أفطاردتي أنت من رحمتك؟
وكنت أعلم أن ذلك كان أكبر واجبي، فقد هتفت بي الحكمة وناداني الضمير أن افعلي ولا تترددي، ولكني كنت مثله راعشة راعدة أخشى أن أفقده فتذهب عني فرحة الإحساس بحبه لي وإعجابه بي.
وعاد يقول وهو يقبل ذوائبي: أنت لا تريدين مني أن أذهب؟
قلت: كلا! ولكن اكفف عن هذا.
قال: لتكن مشيئتك، فهل تبيحين لي جدائل شعرك أغمرها قبلا؟
قال: إنني على القبلة في لهف!
قلت: نعم، لك هذا فحسب.
وكنت لا أزال راعشة النفس عندما ذهب ، فقد كدت أواقع المحظور، وأخترق السياج.
وظل يجيء تباعا، وفي كل يوم نتمادى قليلا، ففي المجلس تظل يدي أبدا في يده، وكان أكثر مجلسه يهوي عليها تقبيلا، ثم يعمد إلى جدائلي فيقبلها، وإلى ثوبي وإلى ذراعي العاريتين فيلثم ما شاء أن يلثم.
وتفاهمنا على الحب بيننا وإن لم نتصارح به، ولم يكن أحد في المدينة يعلم بأمرنا.
وكان لصديقتي أربعة أولاد كبار، وما كانت تتصور أن غلاما في مثل سن أكبر أبنائها، يمكن أن يحب صديقتها التي في سنها.
وكنت من ناحيتي لا أفتأ أقول لها: إن الغلام يدأب على العمل ويكد له، ولم أعد أدعو الصديقات إلى بيتنا، واعتذرت لهن بأنني آخذ دروسا في فن التطريز، وأنني أخرج من البيت في كل أصيل لذلك الدرس.
أما زوجي فقد راح يقول في ذات عشاء: أحسب ذلك الغلام «معجبا» بك مفتونا.
ومضى يضحك فاكها.
ذلك إذن هو رأي زوجي في الأمر ومعتقده، إنني إذن في مأمن من كل فضيحة أو خطر.
وعشت أيامي تلك في فرحة غاشية، أقضي ساعات الفراغ في إعداد ثياب جديدة للظهور بها على الغلام إذا قدم، وكان يجيء وأنا أحيك الثوب الطريف فيتناوله فيقبل الكمين والصدر والنحر ويقول: أنا بتقبيل الثوب جد قانع.
ولكنه في مرة ما قبل جبيني، وفي مرة أخرى قبل ما بين عيني.
لقد عشت في سكرة مقيمة لا أفيق منها وقد غادرتني سن الأربعين، فعدت شابة حارة الشباب، أعيش في قصة من أقاصيص السحرة، غير آبهة بأن هناك غلاما يدفع ثمن ذلك من نجيع دمه وحشاشته ... •••
وانتبهت من سكرتي على حين غرة، وصحوت من أحلامي على صدمة عنيفة. إذ وجدت الناس قد أخذوا يتحدثون فيما بينهم عن علاقتي بالغلام وأمري معه، ورأيت نظرة غريبة متهمة في عين صاحبتي، وسمعت خلسة غلاما يقول لصديق له وأنا أمر بهما: نعم، هذه هي السيدة التي يصعد ذلك الفتى المعهود إليها في كل أصيل.
لقد مسحت هذه المخاوف عن فؤادي هناءته، فقد كان حلم الحب بديعا لذا ساحرا، ولكني لم أشأ أن أشتريه بسمعة المرأة المتزوجة، وأحسب أنني لم أكن في الحق أحب الغلام لذات نفسه كحبي لذلك الإعجاب الغريب منه بي، فلما رأيت لذة الإعجاب قد جعلت تختلط بألم الضمير، أهابت بي نفسي أن امسكي.
وقد قامت القطيعة بيننا في ذات يوم كان فيه الغلام جذلان متوثبا.
قلت: دع شعري لا تجذبه.
قال: لا تغضبي فإنني مهاجمك بحب القبل.
فتولاني الرعب، إذ أدركت أنه قد تمادى فما أستطيع له ردا.
قلت: لقد كان الذي بيننا حماقة الحمقى.
قال: حماقة؟ يا عجبا!
وتراءت في عينيه نظرة مشدوهة كمن هو موشك أن تغشاه الغاشية وشعرت بأن موعد قدوم زوجي قد قرب فخفت واضطربت.
قلت: عد إلى بيتك.
فراحت آماله وحنينه ومخاوفه ولهفاته تجتمع كلها على صفحة وجهه، ولكني لم أرع لها ولم أحفل ...
لقد كنت خائفة ... أفكر في زوجي القادم وأريد أن أختم الأمر عاجلة، فما كان مني إلا أن دفعت الغلام في رفق صوب الباب ثم أغلقته في أثره، وقفلت راجعة لا أنظر إليه.
ولما عاد زوجي في ذلك المساء رحت أمسك بالثور من قرونه.
قلت: إن ذلك الغلام قد أكثر من الترداد ليشتغل على أداتك الكاتبة، أفلا ترى من ذلك بأسا؟ قال: بل كل البأس، إنه غلام مضياع عاطل، نبئيه يذهب ليبتاع له واحدة.
قلت: سأفعل!
فنظر إلي نظرة حادجة قاسية وقال: وهل أحسن في غيبتي سلوكا؟
قلت: أجل ...
وسادنا سكون طويل، وأدركت أن حلمي المعسول قد حار إلى ختامه، وأن شبابي الثاني قد انقضى ... فعدت أقول: أحسبك بي واثقا لا تخامرك بي ريبة ولا يساورك شك؟
قال: يا عجبا! أتخونينني مع ذلك الغلام «المفعوص» ...؟!
فتألمت في أعماق نفسي لرأي زوجي في ذلك الغلام الذي نعمت به دهرا، وخلته الوسيم المقسم، ولكني ثبت إلى نفسي فحمدت الله على أنني لم أقترف الإثم العظيم.
وفي اليوم التالي قدم الغلام، ولقد وددت لو أنني استطعت أن أكون به رحيمة وعليه حادبة، ولكني كنت منه خائفة، وتراءى لي في ذلك اليوم ضئيلا كما قال زوجي، مريضا أعجف هزيلا.
قال: فاتنتي!
قلت: لقد كنت أهم بأن أقول لك أمس إنه ليس من الحكمة أن تجيء إلى هذا البيت.
فوقف يحدجني بنظر مشدوه أليم!
ومضيت أقول: إن من رأي زوجي أن تقتني لنفسك أداة كاتبة فذلك خير وأجدى.
قال: ويلتا ...!
وما كنت إلى ذلك العهد سمعت صرخة مخلوق آدمي في عذاب المحتضر، فقد هزتني صرخته تلك، ولكني ناديت شجاعتي.
فقلت: إن كانت لك أشياء فخذها.
قال: ليس لي شيء آخذه.
ووقف ينظر إلى وجهي مليا وهو جامد في مكانه لا حراك به، حتى لقد هممت أن أصيح من فرط الرعب الذي استحوذ على نفسي لمشهد عينيه الهاشتين، وشفتيه الراعشتين، ولما حاولت أن آخذ يده في يدي لإمساكة الوداع، راح يضحك ضحكات مجنونة مرعبة، وانثنى يقول: إنك لكاذبة! ... إنك لكاذبة! ... ودفعني عنه وانطلق لا يلوي على شيء ... •••
وبعد ستة أشهر من ذلك الوداع الأليم، انتهى إلى مسمعي نبأ ما جرى، فقد أصاب الغلام داء دوي، لا يسلم المصاب به من شره، ولما علم بخافية دائه أطلق النار على رأسه فكان من الهالكين!
وجاءت صديقتي تنعاه إلينا فقالت: إن الغلام قد ترك لأبويه كتابا يقول إنه سئم الحياة ويسألهما المغفرة.
ولكني كنت عليمة وحدي بسر يأسه وسوء خاتمته. فلم يأخذني أحد بجريرة ولا حملت إصر نكبته، وأدركت رويدا أنني استخدمته لإشباع غروري ومسرة نفسي ... فقتلته!
وكان والده هو الذي بصرني بأثرتي المجرمة التي أودت بولده. له الله ذلك الوالد، لقد كان رجلا كريما رفيع الذهن روحانيا، لو أن غلامه عاش لمضى على سنته، نعم إن الرجل من أهل الدين ويرى أن المرأة المتزوجة ينبغي أن تكون فاضلة، وأن فضيلتها يجب أن تكون عندها مطالع خصالها، ومن بعدها تأتي الرحمة والوفاء والحكمة وحسن الأدب.
ولا تكون المرأة امرأة خير حتى تجتمع أولئك لها، وكذلك مضى يعظني وهو يتحدث إلي عن آماله الكبار التي كان يعقدها على فلذة كبده، فقال: لقد كان ولدي سهل القياد ، سريع التأثر، بحاجة إلى الناصح المعين.
وسكت قليلا ليغيب السكين إلى مقبضه في صميم فؤادي، ثم مضى يقول: ولشد ما سرني أن علمت من كتبه في ذلك الحين ورسائله مبلغ إعجابه بك، فلا شيء في العالم هو أعظم سلطانا على نفس الغلام من صداقته لامرأة كريمة أكبر منه سنا، وكنت أرجو أن يجد عندك العون الذي كان بحاجة إليه ...
ولكني بدلا من أن أعين ذلك الغلام ... قتلته ...!
رهان على الحب
مضى «ت» إلى بارئه منذ ليلتين، وجئت اليوم منفذا وصيته أقص على الناس قصة حياته كما سمعتها من شفتيه قبل أن تتخرمه المنون منذ بضعة أيام.
وإني لأذكر الساعة كلمة حكيمة صادقة كنت قد قرأتها فيما قرأت عن الحب، وهي أن الحب ليبلغ بامرئ أبعد آفاق الهناءة والنعيم، أو يهوي بامرئ إلى أسحق وهدات الشقاء والبؤس، وكذلك كان نصيب «ت» من بؤس الحب وحرمانه من هناءته ونعماه، وهو فتى في مقتبل الشباب، يكاد يكون غلاما في طراءة الحداثة، وقد لبث قرابة عام يتجرع غصص الحب ويسقى من صابه، ويعاني من ألمه وعذابه، حتى ذهب آخر مطاف الأسى ومدار الحزن ... في الهالكين الغابرين.
وكنت قد عرفت من قصته طرفا، قبل أن يكاشفني بها، فمضى يحدثني بطرفها الآخر ونحن جالسان في ذات ليلة عاصفة نجد على النار دفئا وبهجة ضياء.
وأنشأ يقول: أرهف السمع لحديثي أيها الصديق؛ لأن الذي أنابه محدثك الليلة هو آخر ما أنا به متحدث، فإن هاتفا يهتف بي، إنني على وشك الرحيل من هذا العالم، وأنا غدا عن هذه الدنيا ظاعن متحمل ... فإذا ذهبت يا صاحبي فوصاتي إليك أن تقص على أهل الدنيا حديثي ليعلموا كم تعذبت ... وليدركوا، فتكون عظة وتحق عبرة ...
والآن، هأنا ذا جئت أقص حديث حبه كما سمعته منه آخر مجلس لنا، والعناصر متمردة ثائرة ... •••
والآن وأنا أقص عليك أمري، يعود بي الخاطر واثبا إلى ما وراء تلك الأشهر القليلة التي حسبتها الأعوام الرخية، وخلتها من بطئها وتثاقل أيامها الحقب المستطيلة الوانية. لي الله من تلك الأشهر، لكم حفلت بالأسى الممض، والويل الحازب، والحزن الكاسر للفؤاد، أيام مضيت من عمل إلى عمل، ضاربا في الأفق ألتمس السلوة ولا أجدها، وأرجو البرء من البرحاء ولا برء منها ولا شفاء. وإني لأسائل النفس اليوم من عجب وحيرة: أتراني واجدا القصاص على ما اقترفت يوم أقف أمام بارئي، أم ترى هذا العذاب الذي خضته هذا العام الذي انفرط، والأسى الذي أنا خائض بين عدوتيه على الأعوام القادمة، سيروح قصاصا كافيا في عين الله الذي يرعى الأرض ومن عليها، ويشرف على الناس أجمعين ...
وإني لتعروني على الذكرى هزة، ويأخذ بأنفاسي هدأة الليل، وسكون نامة الطبيعة، يأس غلاب أليم، فأود لو أنني ذهبت أختم حياتي بيدي، ثم يمسكني الخوف مما وراء هذا العالم، وخشية ما أعد الله لنا في الآخرة، فأمضي أذرع حجرتي ذهابا وجيئة حتى يوهن الليل، وتبدو مطالع السحر، فأتهالك على الفراش من فرط الإعياء، فأنهض للعمل في بكرة النهار كأني قد قطعت ما بين طرفي الليل وسنان العين نائما ...
منذ عامين وكنت قد جاوزت العشرين، فارقت دار أهلي، ونزحت عن موطني، كما يفعل أكثر الشباب، في طلب الرزق والتماس العمل، فتقلبت في أعمال عدة، حتى استقر بي ختام المطاف في مصنع كبير ملاحظا للعمل: وكان «ف» وهو فتى في مثل سني مساعدا لي في عملي، فما لبثنا أن رحنا صديقين وليين، يجمع بين فؤادينا محض الولاء، ويؤلف بيننا خالص الود.
وكان «ف» ذا طبيعة جموح تنزع إلى اللهو والمجانة كل منزع ... وكان يميل بعض الميل إلى الشرب، ويستطيب الجلسة إلى الكأس، وما كادت تنفرط بضعة أسابيع على لقائنا واختلاطنا في عملنا وفراغنا حتى وجدتني أعاطيه وأشاربه، ولم يكن إقبالي على الشراب رغبا فيه ونزوعا إليه، وإنما أردت أن أريه أنني على الشراب كذلك لقادر.
ففي ذات مساء ونحن جالسان معا نشرب ونتسامر، أنشأ صاحبي يحدثني قائلا: استمع إلي، ما بالك لا تحاول اقتناص الفتاة الممتنعة على القانصين؟
قلت: من عجب الفتاة الممتنعة على القناص! يا لله! ومن تكون، وفيم امتناعها، وكيف استحال قنصها؟ ...
قال: هي فتاة في هذه الناحية عزت على المغازلين، وأبت الاختلاط بالشباب، واستكبرت على المتحببين، فتاة تدعى «سوسن» وهي والله أملح ظبيات المدينة وعذاراها الحسان، ولكن لم يستطع أحد حتى اليوم أن يخلص إليه ودها ... أو يصيب منها موعدا للقاء.
فهززت رأسي هزة الساخر المستخف، ومضيت أقول في لهجة الاعتداد والخيلاء: إنني مراهنك على أني فاعل، بل في وسعي أن أجعل بيني وبينك عهدا أنني خاطبها وظافر بودها إذا حاولت.
فضج صاحبي ضاحكا وصاح بي قائلا: أيها المزهو بنفسه، المعتد بسحره وفتونه، أتحسبك أوتيت على النفوس سلطانا، أم تراك من الغواة الماكرين ...؟ ما هذا من شأنك، فإن له أربابه وله سحرته وأساطينه، وإني معاهدك على أنني نازل لك عن راتب أسبوع كامل لو فعلت الذي قلت.
قلت: لقد رضيت رهانك، فهات ورقا ولنجعله بيننا موثقا ليكون أشد إلزاما وأضمن وفاء.
وكتبنا التعهد في صورتين، أخذ هو صورة، وحفظت أنا الأخرى.
وانثنى يسخر مني ويعبث بي قائلا: والآن يا سيد روميو، بل يا أمير العشق والعاشقين، صن فؤادك واحذر لمهجتك، وراقب الله في حشاشتك، فإن أخوف ما أخافه عليك أن تسقط أسير حب وتقع من جمالها في شراك فتكون من الهالكين.
وكان أهل «سوسن» يقيمون غير بعيد من شاطئ النهر، حيث كنا نشتغل في تركيب آلة رافعة لري وسقي، ففي غداة اليوم الذي تلا يوم الرهان، أوقعت عمدا الجرة التي نحفظ فيها الماء لشربنا، وذهبت متشفعا مستسقيا إلى دار أهلها معللا النفس بنظرة منها أبلو بها الأمر الذي أنا له، وأعد له عدته ...
وكان التوفيق رائدي؛ إذ لقيتني «سوسن» نفسها لدى الباب.
قلت: جئت مستسقيا، فهل في قليل من الماء تأذنين؟ فإن ماء النهر لا يطيب للشاربين.
قالت: حبا وكرامة، وابتسمت.
ويح النفس من ابتسامها! لقد كانت أفتن ابتسامة شهدتها على فم حسناء.
وأردفت تقول: تعال لأريك موضع البئر ...
وكانت البئر على مرمى الحجر من البيت.
وفيما نحن نمشي إليها، قلت مغريا بالحديث: إن اليوم لجميل. قالت وفي صوتها رنة الأسى والحنين: هو كذلك، وإن أيامنا هنا لتثير في النفس الحنين إلى البلد الذي جئنا منه.
قلت: ومن أين أنتم؟
قالت: من الإسكندرية.
قلت من عجب ودهشة: ماذا أسمع، أمن الإسكندرية أنتم؟ وفيها موطني، ولديها دار أهلي وقومي، فمن أية ناحية منها جئتم؟
قالت: من جنوبها، أراك تعرفها.
وتهللت أسارير الفتاة.
واسترسلت تسائلني قائلة: لا حدثتني عنها إن كنت قد جئت منها منذ حين قريب؟ فقد انفرطت علينا أربعة أعوام سويا ونحن عنها في بين أليم ... نبئني متى كان آخر عهدك بها؟
قلت: غادرتها منذ ستة أشهر فقط وأنا أدعى «ت».
فصاحت فرحة متهللة: يا عجبا! ألست في دهش من لقائنا ونحن أهل بلد واحد في موضعنا هذا، فهلا أقمت حتى يجيء أبي؟
وفي عودتنا من البئر استبقتني مسرعة تنادي أباها إلى الخروج.
وما هي إلا لحظة أخرى حتى ارتفع لنا شيخ ضعيف يتكئ على عصا، وكان لا يزال في دور النقاهة من مرضه.
فابتدرته الفتاة قائلة: أبتاه، أقبل للسلام على ضيفنا، إنه يشتغل على الشاطئ في تركيب الآلة الرافعة وهو من أهل الإسكندرية.
فجعل الشيخ يقول: أهلا، ومرحبا، وهو يمد يده مصافحا، وأدركت من حديثه أنه معروف في الحي الذي نشأ به وما جاوره.
وما لبث الحديث أن مال بنا نحن الثلاثة إلى عدة شؤون، فلم أنتبه منه إلا على صفير الصافرة المنبعثة من الآلة الرافعة، إيذانا بالظهيرة. فأسرعت إلى الجرة فاحتملتها وصحت أقول: يا لله! لقد تأخرت عن الجماعة وأخشى أن يرجموني إذا أنا أطلت الغياب ...
وانثنى الشيخ يقول - وقد رآني أهم بالذهاب -: أرجو أن لا تقطع عنا زيارتك.
وأردفت الفتاة على قول أبيها: نعم، زرنا في أي وقت يحلو لك.
وفي طريقي إلى موضع العمل، نسيت الرهان كل النسيان، ورحت أردد بيني وبين نفسي قائلا: نعم، سأزورها قريبا، وإني لأعود بالذاكرة الآن إلى ذلك اليوم الذي لقيتها فيه على تلك الصورة، فلا أذكر ولا أشهد بعين الخيال غير عينيها الجميلتين السوداوين وهما تتحدثان بأبلغ منطق قائلتين: إنني أحبك! •••
وفيما أنا مقبل على المضارب، سمعت صوت صديقي «ف» يصيح قائلا: أين كنت يا رجل طيلة الضحى كلها؟ أفلجرة ذهبت تملؤها تطيل هكذا الغياب، عجبا لك! أكنت تحتفر بئرا لتعود بالجرة من مائها حافلة؟ ...
فتلفت في نواحي المضرب مستوثقا، فلما لم أر أحدا معه، رحت أجيبه قائلا: كلا يا صاح، لقد كنت عند «سوسن» بعد أن ملأت الجرة، حقا أيها الصديق إنها لفتاة ساحرة آية الملاحة.
فوثب صديقي من مكانه فأمسك بتلابيبي ومضى يهيب بي قائلا: ماذا جرى لك، وما الذي أصاب شغاف فؤادك؟ ما كنت والله أحسب الأمر صائرا في يوم وليلة إلى ما أرى الساعة وألمح على صفحة وجهك، أكذا هو الحب من أول نظرة؟ ...
ولقد أصاب صديقي في تسمية ما كان بي «الحب من النظرة الأولى»، لقد كان ذلك كذلك، وكانت النفس به من أول وهلة مفعمة.
رأيت شبح «سوسن» مطالعي في ثوب أبيض كالضياء.
وما هي إلا أيام معدودات حتى وجدتني أقضي كل أيام الفراغ في دار «سوسن»، نلعب حينا الورق، وحينا نذرع البستان النضير متمشيين متنزهين، وفي البستان كانت خميلة من أغصان الشجر، وهناك اعتدنا أن نجلس الساعات في خلوة ساحرة، نتحدث ونستمع إلى خرير النهر الفياض.
وا حزناه! ... إني والله لا أزال إلى الساعة أسمع خرير ذلك الماء الثجاج المتدفع، ولكني أتبين من خلاله نغمة حزينة ورنة أسى، تمزق نياط الفؤاد ...
وفي ذات ليلة، ونحن في مجلسنا ذاك، والقمر يرسل ضياءه الفضي المتراقص المتلألئ فوق صفحة الماء، رحت أتناولها بين ذراعي وأهمس قائلا: سوسن ... إنني أحبك ... يا أغلى النساء ... ألا عديني أنك بالزواج مني راضية.
فهمست هي أيضا بصوت عذب رقيق، ودموع الفرح تتحير في عينيها: لك عندي مثل الذي لي عندك ويزيد، ولن تطيب لي الحياة إلا بك؛ لأنني أحبك من أعماق قلبي، بل لقد أحببتك منذ أول يوم تلاقينا ...
وكذلك جلسنا ساعة كاملة في مكاننا، نتحدث في أمر المستقبل، ونرسم له خططه، ولما اختفى القمر عنا خلف أغصان الشجر وأعالي الدوح، عدنا أدراجنا على مهل إلى البيت.
قلت وأنا أطبع فمي على خدها: طاب ليلك يا سوسن العزيزة، وسأجيء مساء غد لنذهب بالنبأ إلى أبيك معلنين. •••
أواه ... لقد كانت تلك الليلة آخر عهدي بالسعادة الحقيقية، فقد تلقيت ضحى اليوم التالي كتابا منها، ففضضت في لهفة غلافه، وإذا بتلك الورقة التي كتبت أنا وصديقي «ف» فيها العهد والرهان قد سقطت من جوفه، وفي جنة الملتاث المذهوب اللب رحت أقرأ ما كتبت سوسن في تلك الرسالة، فإذا هي تقول: «لقد برح الخفاء وحصحص الحق، فقد عثرت بهذه الورقة فوق أرض الخميلة ... وا فؤاداه! ... ما الذي غرك بي حتى مضيت تلهو بفؤادي وأنت العليم بمبلغ حبي لك، لقد ربحت رهانك! ولكنك أضعت فؤادي ... وداعا ...».
فما كدت آتي على هذه الكلمة الأخيرة، حتى اندفعت في وحشة وجنون أريد دارها، فوجدت الدار قد أقفرت من أهلها، فالتمست الجيران أسألهم عنها، وعن أبيها، فقيل لي: أما الشيخ فقد ذهب إلى المدينة، وأما فتاته فباقية، ولعلها قد مضت تتنزه في الحقول.
فكتبت إليها رسالة أشرح لها الأمر، وأبين، ودسست الكتاب من تحت عقب الباب، وانكفأت شارد اللب، ذاهل الخاطر، عائدا إلى حجرتي، فتهالكت على المرقد باكيا، وجعلت أغالب الدمع الواكف المنهمر فلا أقدر، ورحت أغمغم لنفسي والها ناشجا: سوسن ... سوسن ... إنني أحبك ... ألا صفحا ومغفرة، وتقبلي الشفيع، وارتضي العذير.
ووجدني صديقي «ف» على تلك الحال بعد فترة قصيرة، فبهت مما رأى، وأقبل علي فألقى ذراعه فوق كتفي، وقال: نبئني ما خطبك فإني على الخطب معوان.
فأنشأت في منطق عاثر وبلسان متلعثم، أقص عليه ما جرى، وكيف سقطت الورقة التي تعاهدنا فيها على الرهان مني وأنا لا أدري، فعثرت هي بها، فلفظتني وتولت عني غير مستأنية لشرح، ولا ممهلتي لبيان.
فجعل ذلك الصديق يواسيني ويربت ظهري بيده، ويقول: لا تخف ولا تحزن، فإنني ذاهب إليها هذا المساء فشارح لها حقيقة الخبر إن لم تكن رسالتك قد أدت الغرض أحسن أدائه ...
ولبث بجانبي أصيل ذلك النهار كله، لا يكف عن مواساتي والتسرية عني، حتى أدركنا المساء، فودعني وانطلق إلى غايته.
ولكنه ما لبث أن عاد يقول إنه لم يجدها في دارها، فما كدت أسمع النبأ حتى هجس بنفسي هاجس أليم، وخفت أن يكون هذا النبأ مطلع الأسى ونذير المصاب.
وساورني القلق فلم أطق جمودا في مكاني، ولم أجد روحا إلى النوم أو أجدها وأعرف أين ذهبت.
فخرجت تحت جنح الليل أمشي على غير هدى كأنني شبح من الأشباح هائما في بهرة الظلام على وجهي، حتى رآني الصباح واقفا بباب بيتها ولا يزال الباب موصدا.
فعدت أدراجي إلى حجرتي متعبا واهنا، فالتمست النوم من فرط الإعياء، ورأيت فيما يرى النائم، كأن نورا باهرا قد غمر الحجرة وشبح «سوسن» مطالعي في ثوب أبيض كالضياء، وهي مادة ذراعيها كأنها تناديني، ثم ما لبثت الرؤيا أن اختفت، فصحوت من النوم ولا أزال أسمع كلماتها وهي تقول: إنني أحبك ... ولن تطيب لي الحياة إلا بك ...
يالله! أتراها تناديني لأشرح لها ما خفي من أمري وما احتجب؟
وأسرعت إلى ثيابي فارتديتها وانطلقت إلى دارها، فلم أجد فيها أثرا لمخلوق حي. فعدت إلى صديقي فما كدت أدخل عليه حتى وثب صائحا: أراك قد عدت، فهل علمت وهل سمعت؟
قلت مبهوتا - وقد رأيت وجهه ممتقعا -: ماذا ترتقب مني أن أسمع؟ نبئني، أمن جديد انتهى إليك نبأه؟
قال: تعال اجلس إلي أحدثك.
وكان صوته هادئا، وإن كان في منطقه رنة نكرتها.
فهمست أقول: أعنها أنت محدثي؟ إنها ليست ...
فنكس رأسه وغمغم يقول: لقد غادرت هذا العالم! ...
وأحسبني في تلك اللحظة قد غشيتني الغاشية؛ لأنني ما لبثت أن رأيت ذلك الطيف في ثوبه الناصع الجميل طالعا علي مقبلا، ولكني سمعت صوت صديقي يناديني، ففتحت عيني ورحت أستمع له غائب الذهن مشرد الخاطر، وهو يقص علي كيف كان موتها.
قال: لقد وجدوا جثتها طافية على صدر النهر ...
وقضيت أياما جاثيا بجانب ذلك القبر الجديد المحتفر، غير مغالب العبرات التي مضت تسح من العين سحا، وأنا أناديها : ... يا أعز الناس ألا تعودين؟ إن لم يكن لك عود فلي إليك ذهاب ...
هذه هي قصتي، فلا عجب إذا أنت رأيتني قد عدت حطاما وشنا باليا، وأنا في الثالثة والعشرين، وإذا أنت أدركت أنني على الموت ملتهف، فإن في أعماق فؤادي هاتفا يهتف بي: إنها قد غفرت لي وإنها بتلك الابتسامة الساحرة التي لقيتني أول مرة في هذا العالم ستلقاني بها وشيكا يوم أغادره ... •••
ولنعد إلى ما قلت في صدر هذه القصة: لقد صعد «ت» منذ ليلتين إلى بارئه، وكان صديقه «ف» ساعة المحتضر عن يمينه، وكنت أنا على شماله ...
وأحسبه مضى سعيدا قرير العين؛ إذ كانت كلماته الأخيرة: أي «سوسن»! ها أنذا قادم.
ولما سمع الشيخ «د» والد الفتاة بموت «ت»، ابتسم ابتسامة حزينة، وغمغم قائلا: نعم، هما اليوم سعيدان! ...
وعملا بوصيته، وبرضى أبويه، دفن الشهيد الراحل بجانب رفات الشهيدة الراحلة ...
الفتاة التي تصنع الرجال
ترددت قليلا قبل أن أقدم على سرد هذه القصة، ولكن الآن لا بأس من قصها ولا ضرر، نعم ... لقد كنت مجرما، ولن تجد بين معاشر المجرمين خلقا كثيرا يرفضون الاعتراف، أو يحدثون الناس بقصة حياتهم، ولكني اليوم قد عدت رجلا شريفا، ولعل في إقدامي على التحدث عن الماضي حافزا لغيري من المكدودين إلى التماس عيش الفضيلة، ومعينا لهم على تنكب طريق الجريمة ...
نشأت نشأة شيطانية، ونبت أسوأ منبت، ودرجت ونموت وشببت عن الطوق، في أحقر أكواخ الفاقة والبأساء، في بلد عامر آهل، اشتهر بأنه شر ما في العالم من مدائن، فلا عجب إذا أنا من بكرة العمر قد سرقت، وكانت سرقاتي الأولى من عجلات اليد والباعة الجائلين بسلعهم على صغار المركبات، وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ إذ لم يكن لي عمل آخر أعمله، أو صنعة أسلك نفسي فيها، وإذ رأيت اللدات من الأيفاع والمراهقين يفعلون ذلك، ويتضاحكون له، ويتنافسون فيه.
ولما بلغت السادسة عشرة، اتفق الصحاب جميعا وتضافر رأيهم على أن لي مستقبلا زاهرا في عالم السرقة والسراق؛ فقد استطعت في ليلة من الليالي أن أنشل خمسين جنيها من جيب رجل جلس مع الشرب في بعض المواخير.
وبذلك المال مضيت فاقتنيت أبدع ثوب في السوق وجدته، وابتعت للثوب ما يتسق له من زينة، ويقتضيه من مظاهر النعمة، وغضارة الحال، وذهبت من غدي فدخلت على جمع من ناشئة اللصوص يؤلفون عصابة للنشل والسلب، وكانوا يتوافون إلى حان تنتظمهم فيه موائد الميسر حلقات، فقبلوني في زمرتهم ومضيت من ذلك الحين أعرف فيهم بصاحبنا «تاجر القماش» وهي كنية أطلقوها علي لحسن بزتي وجدة ثيابي.
ومضت بي الحال كذلك أربعة أعوام، نشالا أوضع في السرقة وتمادى في الجريمة، وسدر في غلواء الشر والإثم، وكانت العصابة التي أنا منها تدعو نفسها «جماعة أبناء الشوارع» وقد أخذت وشيكا تشتهر في المدينة، ويتسامع الناس بأفانين سرقاتها.
ولم نكن إلى ذلك العهد قد أتينا عملا كبيرا من أعمال السرقة؛ إذ كان شعارنا «الصيد السهل والفرار المضمون»، وكانت حلقات الميسر منتجعنا، وأندية القمار المرتاد الذي نروح إليه ونغدو.
وكان لنا ناد يضم أفرادنا، وهو حجرة استأجرناها فوق حانوت بدال، نتلاقى عندها ونتواعد إليها، لنختط الخطط، ونقرأ من الكتب وأسفار الأدب وقصص أبطال اللصوص ونوابغهم.
وكان منا فتية اشتهروا بتعاطي العقاقير، وأدمنوا الشميم، ذلك السم الذي اصطلح بغاته والمولعون به على تسميته «الجليد الأبيض»، ففي جلسة لنا وقد طاف الشميم، قال قوم منا إنهم قد علموا أن حلقة من لاعبي البوكر ستنتظم في ذلك المساء بالذات، في إحدى قاعات فندق كبير في المدينة، وسيحتدم اللعب ويشتد الجزاف بالرميات الضخمة؛ لأن القوم جميعا من الأغنياء والسادات. فاقترح الجمع أن نذهب إلى ذلك الفندق، ونتغفل اللاعبين حتى تواتينا الفرصة فنشهر عليهم المسدسات ونختطف ما بين أيديهم من ركام الأموال، ونلوذ بأذيال الفرار آمنين.
ومضينا نرسم الخطة، وندبر التدابير، واتفقنا على أن يكون لقاؤنا إذا انتصف الليل، بمكان قريب من الفندق، فإذا توافينا افترقنا، ودخلنا وحدانا من باب الخدم، بواسطة مفتاح مصطنع. ولقد كانت هذه الخطة فكرتي المبتكرة الرائعة، ولا فخر، وقد نجحت هي وأخفقت أنا واقتنصت؛ إذ بينما كنت مسرعا في الطريق وقد ألممت على المكان الذي ضربناه للملتقى، داخل الريب أحد الشرطة فمشى نحوي وأوقفني عن المضي في طريقي حتى يفتشني، وكنت أحمل مسدسي، فزاده ذلك ريبة بأمري واستاقني إلى المخفر. وخرجت العصابة من تلك الغارة موفقة، ولما كان الشرطي قد قبضني وأنا قريب من الفندق، وقد حملت سلاحا دسسته بين أثوابي، راح الشرطة والمحققون يجمعون من ذلك ما شاء لهم من القرائن والبينات، ودفعوني إلى القاضي فحكم علي بالسجن عامين.
وقضيت المدة في عذاب وألم، وحاولت العصابة مساعدتي على التماس الهرب، ولكني لم أجد له سبيلا. وزادني عذاب المحبس على الدنيا نقمة، ورأى أصحاب السجن بوادر التمرد مني والثورة ... فشددوا على الرقابة، حتى أتممت المدة كلها غير منقوصة شيئا لحسن السلوك.
ولما رأيتني بعد ذلك حرا طليق سراح، شعرت كأن حجرا ثقيلا قد أزيح عن صدري. ولكني كنت على الإنسانية ساخطا، فأقسمت لأثأرن لنفسي من المجتمع، وأرين العالم كيف تكون ترتي وشري وضري ...
عامان ... ذلك والله دهر طوال، ولكنه في غيابة السجن هو الأبد وقد عرتني منه في أول مقامي به نوبات سآمة وغضب، ثم ما لبث أن أخذت في قراءة الكتب، وانتهى بي هذا التلهي إلى حبه وإلى الشغف بالمطالعة. ومنذ ذلك الحين، جعلت أقضي ساعات الفراغ في السجن قارئا مكبا على الكتب، ووجدتني تعلمت الشيء الكثير، وأصبت قسطا من العلم، فأخذت في بعض الأحيان أسائل نفسي: ألم يجد علي هذان العامان أحسن الجدوى، ويردا علي خير مرد، وقد نفعني السجن من حيث لم أحتسب ولم أرتقب؟ ولكني كنت لا ألبث أن أنفي هذا الخاطر من ذهني، وأنقي هذه الفكرة جانبا، فلا عجب بعد ذلك إذا أنا رحت بعد إطلاق سراحي، أنتجع نجعاتي الماضية، وأعود إلى الصنعة القديمة!
وكانت العصابة قد تغيرت وتحولت، وأصبح أفرادها في ذلك العهد ضحايا المخدرات، وفرائس لذلك الشميم الأبيض، وأمعنت في البغي والعدوان، وأضحت لا تتورع من القتل في سبيل السرقة، وكان لهم محام يجزلون له العطاء في سبيل المرافعة عنهم أمام القضاء، وأحسبه كان بتلك الأموال التي راحوا يغدقونها عليه خليقا حريا، لأنه لم يدع أحدا يذهب إلى السجن بقوة خطابته، وغريب دفاعه. وهو عالم عالم بأمرهم، لا تخفى عليه خافيتهم.
وما كادت تنفرط عشرة أيام على يوم سراحي، حتى ركبنا سيارة ضخمة نقصد بها إلى بلدة صغيرة على مسيرة ثلاثين ميلا من المدينة، وبدأنا السير في الحادية عشرة منتوين أن نبلغ البلدة ظهرا، ونحن معتزمون أن نهاجم مصرفا هناك فنسلب أمواله.
وهنا كان مدار الطريق، ومفرق السبيلين: سبيل الشر وسبيل الخير ... نعم في هذه المرحلة كان خلاصي من عيشي الماضي، وتطليقي حياة الجريمة والآثام.
وإليكم كيف كانت الأعجوبة: وإنا سائرون بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة، وقد قطعنا نصف الطريق إلى الواجهة المقصودة؛ إذ أخذ صاحبنا الذي يتولى عمل السائق، يخفف سرعة السيارة فجأة، وصاح بنا قائلا: «على الطريق ظبية مليحة، فما قولكم في اقتناصها».
فنظرنا فإذا على قيد خطوات منا فتاة فاتنة المحيا قادمة صوبنا، وأصاب اقتراح «السائق» كل القبول من الجماعة ورقصوا له طربا ومجانة ... وما كادت السيارة تدلف بنا جانب الطريق أمام كوخ مهجور حتى وثب منا فتيان إلى الأرض فتقدما نحوها، فانزوت الفتاة منهما خوفا ورعبا، فصاح أحد الزملاء من السيارة قائلا: ألقيا بها في السيارة، فليس لدينا من الوقت فسحة لهذا العبث.
وسمعت الفتاة كلمته تلك فارتد محياها في صفرة وجوه الموتى، وقبل أن يضع الفتيان أيديهما عليها مضت في عويل ونحيب ... •••
في تلك اللحظة لست أدري ماذا حدث لي، وما الذي اختلج في صدري، وسرى في أطواء نفسي، ففي خطف البرق نزلت من المركبة والمسدس في يميني، فلم يكد الفتيان يرياني على هذه الصورة حتى تراجعا مسندين ظهريهما إلى السيارة، رافعين أذرعهما في الفضاء، ووقفت حيال الجميع أصيح بهم: يا عصابة السوء وجماعة الشر واللؤم، هذا فراق بيني وبينكم، البدار إلى الرجوع من حيث أتيتم، ولا تحاولوا خطة أنا مدبرها، لأنني الساعة عليكم مفسدها ومنبئ أهل المصرف المالي بنبئها.
ووقفت حيال السيارة وألقيت إلى السائق الأمر بالدوران، وجمدت في موقفي حتى رأيتها قد دارت عائدة من الطريق التي منها أقبلت، وتلقيت من الجمع بضع نظرات شريرة كظيمة، ولكنهم كانوا بي عالمين، وكنت أنا بجبانتهم وخوفهم جانبي أعلم وأعرف.
ورأيت في عيني الفتاة بريق الفرح بالنجاة يسطع، ووجهها المليح يسترد ورده، ويشرق بعد اكفهرار ويلتمع، فكان ذلك خير الجزاء، وكان أبدع مستعاض عن تلك النظرات الشنيعة النكراء.
وانثنت تقول في رفق: شكرا ... ولم تزد، ووقفت تتبع السيارة بعينها في صمت.
وانتبهت بعد ذلك من غشية الموقف المباغت، فوجدتني مقتعدا الأرض والفتاة تمد إلي يدها لتنهض بي.
قالت: أخف ما بك.
قلت في ضعف وتخاذل: نعم، وما كان بي من أولئك الأدنياء غير ألم الاشمئزاز ساد مشاعري وذهب لحظة ببعض قوتي.
وسكت هنيهة ثم عدت بدافع غريب تولاني أقول: فهل ترينني أشبه أولئك السفلة في شيء، وهل في وجهي ما في وجوههم، وعليه من السمات سماتهم؟
فانثنت تجيب في شيء من الاحتجاج، والغضب الحلو البديع: كلا! ما أنت منهم ولا هم منك في قليل ولا كثير، ولا يخفى هذا على من به مسكة من العقل، وعين تنظر وتتبين، وأكبر ظني أنك عن خطأ وجهل بهم ركبت مركبهم، واحتواك عن غير بصيرة مجلسهم، ولقد كان هذا الخطأ من حظي، وبفضل هذا الجهل بهم كانت نجاتي من شرهم.
قلت: لم أركب مركبهم عن جهل، ولا كانت رفقتي لهم عن غير بصيرة.
ورحت أقص عليها قصتي، ووجدت في الاعتراف راحة، وشعرت من مكاشفتها بتاريخ الماضي بسرور لا يوصف.
فلما سمعت قصتي، هزت رأسها في إطراقة المعتبر المتأثر، وأنشأت تقول: لقد أحسنت صنعا بهذا الفراق الذي آذنتهم به، واليوم أنت مستطيع أن تبدأ الحياة من جديد متناسيا ما كان من ماضيك كأن لم يغن بالأمس.
وسكتت لحظة ثم عادت تقول: وخير ما تفعله الساعة أن تجيء معي إلى البيت لنتناول الطعام ونقضي ساعة من الزمن تفكر وتقطع فيما أنت معتزم من أمر مستقبلك.
وقبل أن أجيب، تناولت ذراعي واجتذبتني إلى الطريق سائرة بي صوب دارها. •••
وكنت قبل ذلك العهد لم أخبر النساء ولم يكن لي بهن شأن، ولكني في تلك اللحظة لم أستطع أن أمنع نفسي النظر إلى هذه الحواء الصغيرة، وتأمل وجهها المليح، على رغم أنها لم تكن تعدو شأن الطفلات الغريرات.
وقدرت أنها في الربيع الثامن عشر، ورأيت لها شعرا أسود جثلا أثيثا كثير الأمواج، وعينين سوداوين تنمان عن فرط إحساس، شفافتي الزجاجة، ملتمعتي النظرات، وأنفا دقيقا حسن التركيب، وفما حارا لم يخلق لغير القبل.
ورحت أتصور كم كان يكون هنائي لو أنني لقيت فتاة كهذه قبل عهدي هذا ببضع سنين، وأي خير كان سيرده علي لقائي بها، وأي فضل علي أستمده من حبها والبناء بها.
ومضت على الشقة البعيدة إلى دار أهلها، مسرة ميل وبعض ميل ... تقص علي الكثير من شأنها، وتحكي لي عن نفسها، فإذا هي تعيش مع أخ لها في أكناف جدة لهما كفلتهما منذ سنتين، عقب وفاة أبويهما في مطاح أحد الأوبئة. وأدركت من خلال حديثها أنهم في فاقة ورقة حال، وإن لم تذكر ذلك ولم تجهر به، فقد كانت الفتاة فخورا مزهوة شماء.
ففي خطف البرق نزلت من المركبة والمسدس في يميني.
وعلمت أيضا أن لتلك الجدة أرضا ورثتها عن زوجها، فهم يعيشون جميعا من غلة تلك الأرض وحصادها، وأن أخاها حدث في طراءة العمر، لا يستطيع العمل في المزرعة، ولم يؤت علم الزرع والحرث، وأن جدته وأخته تلتهفان على بعثه إلى المدرسة ليتلقى شيئا من العلم يجدي عليه في مستقبل أيامه، ويهذب من حواشيه، ولكنهما لم تفعلا وتخشيان ألا تفعلا؛ لأنهما تحتاجان إليه في رعاية شؤون الحقل جهد المقل. •••
وقدمتني إلى جدتها ونبأتها بما جرى على الطريق ولم تذكر من قصتي شيئا، فشكرتني العجوز أوفر الشكر، وكانت تلوح بمعارف وجهها المشرق وفروعها البيضاء في الستين، ولم تفعل السنون شيئا في طلعتها الناضرة.
وكانت الساعة قد اقتربت من الواحدة، فقالت الفتاة: أين أخي يا جدة، لقد وجب الطعام وتهيأ، فأين تراه ذهب وغاب هذه الغيبة؟
فانتشر على وجه العجوز قلق وخوف، وأجابت قائلة: لقد ذهب يا غاليتي إلى المرعى لإقامة السور حوله ولما يعد، وقد ركب الجواد وأخشى أن يكون قد أصيب بسوء.
فانتظرنا لحظة أخرى ولما يعد بعد، وأوجست الجدة وحفيدتها من غيبته خيفة عليه، تطوعت إلى الخروج لافتقاده.
فانطلقت ألتمس الحقل، وكان يترامى خلف البيت، وفي طريقي تبينت أن الزراعة لم تكن في حال حسنة على فرط اجتهاد اليد المشرفة عليها، فقد كان شيء يتراءى نظيفا، يشعرك السلام والسكون اللذين تعرف أثرهما في جو الدار، وتحسهما يملأن أفقها.
وما كدت أسير غير بعيد حتى سمعت صيحة الفتى وكان قد كبا به جواده فرض إحدى قدميه.
فاحتملته إلى البيت، وكان غلاما لم يدرك الحلم بعد، وقد نبأني وأنا محتمله أنه في الثانية عشرة، ولكنه كان شجاعا جلدا ثابت الجنان، فلما سقط سقطته تلك لم يرفع بالصياح عقيرته، ولم يملأ الجو بعويل أو يستصرخ لينادي الناس إليه، وإنما بقي في موضعه ساعتين صابرا يرتقب أحدا من السابلة، فلما أهللت ناداني إليه.
وخشيت إذ دخلت به البيت أن تسقط جدته من فرط التأثر والخوف عليه، ولكني رأيتها قد استجمعت بقية جلدها، فصبرت لمشهده وتجلدت، وألفيت أخته ترتعش وترتجف من خيفة عليه، وكان الغلام رجلهما الذي يعولان في الحياة عليه، ويركنان في طلب العيش إلى قوته. •••
وجاء الطبيب وذهب، وجلسنا إلى الطعام على الأصيل، وكانت جلستي إليه، أهنأ ما جلست في الحياة إلى طعام، وكانت الوجبة أشهى وأعذب ما وقع لي من مأكل على مائدة.
وأدركت حاجتهما إلى النصير وافتقارهما إلى الولي المعين، فعرضت عليهما البقاء للعمل في أرضهما، وكانت الزراعة في أشد الحاجة إلى الرعاية في ذلك الموسم، وقد كنت فيما عرضت من أمر البقاء مطاوعا حاسة جديدة سرت كهرباؤها في النفس وهي لا تدري، وكانت تلك الحاسة ببوادرها، تلك الغامضة الخفية قد تكشفت لي بعد ذلك ببضعة أشهر، فإذا هي ... الحب!
وقالت فتاتي وهي تبتسم ابتسامة الشاكر للصنيع: جميل منك هذا الذي تعرض وكريم محمود، ونحن نقدره قدره ولكننا لا مال لدينا نوفيك منه حقك وأجر عملك.
قلت: لست أحسبني أستحق كبير أجر، على أن لي فضلة من مال أستعين بها على ما أريد إلى أوان الحصاد فأنال يومئذ أجري.
وكذلك رضيت مني بالبقاء، إذ رأت في البقاء نفعي ونفعهم. •••
والآن لا يزال فخار الفتى ببراعة زوج أخته في الزراعة وحسن القيام على الحقل، وتحدثه في المجالس عن طيب الثمر، وازدهار الحصاد، البقية الباقية التي تذكرني بالماضي وأحداثه، ولكني لا ألبث أن أعود فأطرد الذكرى بالنظر إلى وليدي الصغير الفاحم الشعر، وإلى عيني أمه السوداوين الفاتنتين.
حقا لقد أتى الحب بالمعجزة، حباني من السعادة نعمة هي أجزل نعم الله على أهل الأرض.
معنى الحب
هذه قصة رجل كان أول أمره كأكثر معاشر الرجال، جنوحا إلى القسوة في أحكامه، لا يعرف قيمة الحب الصادق إلا بعد الحرمان من نعمته، رجل كان يرى أن زلة قدم واحدة من أية امرأة، كافية مهما يكن الباعث لطردها من حظيرة الإنسانية، ووصمها بميسم العار إلى الأبد، فلا تصلح زوجا، ولا ينبغي أن تكون أما ...
ولست أدري ما الذي بعثني على أن أكتب قصتي هذه، إلا أن يكون دافعي عليها الأمل في أن تروح نذيرا لغيري من الشباب حتى لا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه، أولئك الشباب الذين يجنحون إلى القسوة في الحكم، والذين لا تواتيهم الفرصة بعد ذلك لتعديل أحكامهم الماضية. ولعلي أريد بسرد قصتي للملأ اليوم أن يعلم الناس كذلك مبلغ السعادة العجيبة التي نعمت بها منذ أدركت غلطتي الأولى، ومضيت ألتمس إصلاحها، وأكفر عما كان مني في عهدها.
كنت في الرابعة والعشرين عندما لقيت الفتاة التي حسبتها متحلية بكل الصفات والمفاتن والمزايا التي كنت أتطلع إلى اجتماعها في الفتاة التي أرتضي مثلها لي زوجا، وكانت قد مضت علي أربعة أعوام وأنا أشتغل بصناعة النقوش والزخارف، وقد وجدت توفيقا في عملي، وكنت وحيدا من الأهل، خليا من النزوع إلى اللهو، مقتصدا غير متلاف. فاجتمع لي على الأيام مبلغ طيب من المال ادخرته لأيام الحاجة، فكان الذين لا يعرفون دخيلة أمري يحسبونني غنيا في نعمة حال، ولما كنت أحاول أن أحدث هذا التأثير في نفوس الناس، تركتهم إلى هذا الظن فلم أشأ أن أغير رأيهم في أمري. وكانت الفتاة «د» من هؤلاء، وإن لم أدرك ذلك في أول العهد بمعرفتنا ... بل كنت أحسبها تعرف حقيقتي وتعلم أنني لست إلا عاملا يكدح لرزقه، وكنت أعتقد أن ميلها لي عن حب محض، لا صلة له بالمادة ولا دخل للمال فيه، فبعثني هذا الاعتقاد على حبها، وذهبت أعطيها من ذات نفسي ما تشاء.
وكان هناك شيء آخر أدناني منها وأسر فؤادي من ناحيتها، وهو جمالها الهادئ الساكن المهيب، أشبه شيء بجمال الهياكل ورهبة التماثيل ... جمال كنت مؤمنا بأنه - ولا ريب طاهر - لم يلوث، نقي لم تشب نقاءه شائبة ولا مجرد خطرة عارضة، ولا فكرة دنسة، مما يجول في أحلام العذارى عند اكتمال نموهن.
وكنت من أولئك الرجال الذين - وإن لم يرتفعوا هم أنفسهم إلى مصاف الملائكة - لا يزالون ينتظرون من الفتاة التي تحبهم أو المرأة التي يبنون بها، أن تكون ملكا من السماء، وأن تكون أنقى من النقاء.
وكذلك كان مذهبي في الزواج وديني، وكنت مجمعا نيتي على أن لا أرتضي لنفسي في شركة هذه الحياة إلا الفتاة الطاهرة النقية العذراء.
فلما أحببت «د» حسبتها مجتمع ذلك كله، وكانت أيامنا الأولى حافلة بالهناءة، ثم ما لبث أفق عيشنا أن غام واكفهر، والآن، وأنا أعود بالذاكرة إلى ذلك العهد، أحسبني كنت يومئذ من «الدقة» القديمة، ولم أكن في عرفاني بواجبات الزواج «ابن العصر» وفتى الجيل.
لست أدري ... وإنما كل ما أدريه أنني لم أك أحمقا في ذلك الحين؛ إذ كنت أنتظر في عودتي إلى البيت من عملي على مطالع المساء أن أجد زوجي في الدار ترتقب عودتي من كدح نهاري، وكنت أرتقب منها أن تقوم على رعاية شؤون المنزل وتعهده، ولكنها كانت تذهب في الزواج غير هذا المذهب، وترى في عيش الأسرة غير هذا الرأي، وكان حسبي ما عانيت من ألم الوحدة وعيش العزلة في أيام عزوبتي، أنعم بحياة الزواج ورفقة الزوج والمقام بدار حسنة نظيفة مكفولة الرعاية في ظل المرأة التي اخترتها من بين نساء هذه الأرض لشركة الحياة. وكنت قد جمعت ما ادخرت من المال من قبل، فابتعت دارا صغيرة غناء ذات حائط آنف، فجملتها بما شاء الذوق الرفيع من نفيس الرياش، وظننتني بذلك قد ابتنيت عشا حلوا بديعا لمقامي بجانب امرأتي الحسناء.
وكنت أحسبها ستحسن القيام على تلك الدار وتتعهدها بالعناية الواجبة، ولكن وا أسفي ... لقد أخطأت الظن، فقد كانت «د» لا تعرف من فن الطهي كثيرا أو قليلا، ولا تحفل بأن تتعلم منه شيئا، وكانت أجهل امرأة كربة بيت، وأعلم امرأة كغادة برزة تغشى المجامع وتلتمس أماكن القصف واللهو، وتبين لي أن مطالب البيت لن تكون يوما من واجبها، وإنما أنا الكفيل بغناي الذي تعرفه عني أن أملأ البيت خدما لها ووصيفات. وألفيتها تشرب الخمر في مجالس الصواحب والخلطاء، وتدخن التبغ، ولا ريب في أن أكثر السيدات يعاقرنها اليوم ولا يمتنعن عن اللفافة أو اللفافتين، ولكن لعلي كنت يومئذ من «الدقة القديمة» كما قلت، فكرهت ذلك منها ونكرته، وزادني استنكارا له أنها جعلتني أعتقد قبل الزفاف أنها لا تعاقر الخمر، ولا تدخن، ورأيتها حوامة هوامة على مجالس اللهو، فتبعتها بادئ الرأي وسايرتها في هواها حتى تبين لي أنها لا تبغي عن اللهو حولا ولا تجد منه شبعا، وأن البيت عندها هو آخر مكان تلجأ إليه إذا أعوزها اللهو أو لم تجد قصفا. وكاشفتها في أمر الخلفة والرغب في الذراري والبنين، فصارحتني أنها لا تريد من ذلك شيئا، فأخذت أدرك رويدا أن كل غرضها من الزواج بي لم يكن سوى الركض في ميدان اللهو كيف شاءت وشاء لها الهوى. ولم تكن تشعر لي بشيء من الحب، وهو ما ينتظر من أية امرأة سواها ما دامت ترى زوجها ذا مال تنفق منه وتجده هينا لينا معها، يأذن لها أن تسلك في العيش المسلك الذي تحب، فبدأت أرفض الذهاب معها إلى مغاشي السمر واللهو، إلا على فترات معقولة وفينات متناسبة، فراحت تغشاها وحدها أو مع رجل آخر. ولم أكن أعرف مع من كانت تذهب، ولا حفلت بأن أعرف؛ إذ لم تكن حركاتها وسكناتها في تلك الفترة عندي ذات بال. وعدت إلى نفسي في آخر الأمر فقلت لها: إن هذا الأسلوب من العيش لا ينبغي أن يمضي على سننه، وما دمنا في فهم الحياة الزوجية على خلاف، فعلام نبدد أيامنا هكذا خلية من الهناءة المتبادلة والنعمة المشتركة، وحاولت أن أقنعها بوجوب الطلاق والسماح لي بتسريحها، ولكنها غضبت وتمادت ... فاستحوذت علي من ناحيتها سآمة ممضة، ودفعني الاشمئزاز من عبثها وخطتها إلى تركها، فخرجت في ذات يوم هائما على وجهي تاركا كل شيء ورائي، متحملا إلى بلد بعيد لم أكاشفها به، واعتزلت النساء كارها لهن واجدا عليهن الدهر كله، ووجدت لي عملا في ذلك البلد النائي فسلكتني فيه، ولكني لم أقبل عليه إقبالي فيما فرط من أيام الشباب، وعهد النشاط وامتلاء الفؤاد بالأماني والآمال، ورحت أتلهى وأتناسى مرير الخسة في زواجي بغشيان المشارب وإقامة الليل، وبدأت أعاقر الشراب قليلا، ثم ما لبثت من إيلافي له أن رحت ألح عليه لحاحا ...
وكذلك مضى بي العيش رحيا حتى التقيت بالحسناء «ر» ... وفي الحق لم تكن هذه بالمرأة الأولى التي عرفتها منذ رحيلي عن تلك الزوج الناشز الحوامة المتلاف، بل لقد لقيت قبلها كثيرات، جعلت أتناولهن كما جئن، وأعاملهن المعاملة التي يستأهلن، فمنهن من أصابت مني الاحترام، وأخريات لم يجدن عندي غير الاحتقار والعبث، ولكنهن جميعا لم يكن يظفرن مني بعاطفة صادقة. فلما جاءت هذه، وجدتني لأول مرة قد وقفت لأتروى وأفكر ماذا ينبغي لها في فؤادي، فكانت بادئ الرأي امرأة متعة أتلهى بها حينا لكي أنبذها إذا أنا بشمت بها، ولكن ما عتمت بعد عرفاني قدرها، وامتحاني خلقها وعاطفتها، أن وجدتني أحس لها احتراما عميقا في أطواء النفس، ولم أكن يومئذ أدري ما الذي بعثني على احترامها، وما عرفت ذلك إلا على ختام هذه القصة كما سترى ...
كانت في بادئ الأمر لغزا دق على حله، بل في الحق لقد سقطت علي بغتة، فدهتني بسحرها فجأة؛ إذ رأيت فعالها وكلماتها على نقيض ما كنت أشهد من النساء اللاتي عرفتهن. وكانت مليحة محببة، حلوة التركيب، ذات عينين نحلاوتين سوداوتين طاهرتين عفتين، وفروع سوداء فاحمة كالليل، وإنها لتأتي عليها لحظات تبدو فيها عيناها رانيتين رنوة مسكينة شاكية يائسة مستضعفة، حتى ليخيل للمرء أن ينثني إليها فيتناولها في أحضانه ويحميها بجناحيه، ويقيها بحبه ورثائه، فإذا تكلمت أدرك السامع من لهجة حديثها وروعة منطقها أنها قوية فلا تحتاج إلى ناصر، ولا تسأل عون معين.
ولاح لي أنها لم تكن تميل إلى رجل بعينه، أو تلتمس الحب عند فتى بذاته، بل كنت يوما أراها مع واحد ثم لا ألبث أن أجدها عند سواه، وقلما تتراءى مع رجل أكثر من مرة أو مرتين، وتضافر رأي الجميع بلا معارض على أنها مثال الفتاة الأنيسة المفراح لا غبار عليها، ولكنهم كذلك اتفقوا على أنهم لا يجدون عندها ما هم واجدوه من الفتيات الأخريات؛ إذ لم تكن تبيح لهم من عبث الغزل وألعاب الشباب ما تبسم له وتستطيبه غيرها من الأتراب والصاحبات، فلم يكن أحد منهم يلتمس اصطحابها إلى النزهة واللهو أكثر من مرة واحدة ثم يكف. •••
وكذلك رأيتني بعد قليل أسألها الخروج معي إلى النزهات، وما كان مثلي بمن يقنع بالمرة والمرتين، فإن ما رأيته منها أكد عندي ما سمعته عنها، فزادني هذا تعلقا بها واستكثارا من الجلوس إليها ومعاودة النزهة معها، فلم تكن ترفض لي سؤالا، وما عتمت أن قامت بيننا الرفقة الثابتة المكينة، ووجدتها من تلقاء نفسها قد امتنعت عن الفتيان وكفت عن الخروج مع أحد منهم، ولم أكن سألتها أن تمتنع، ولا أوحيت إليها أن تكف، فسرني ذلك منها وحببني إليها. وعلى الأيام ألفيت تغيرا عظيما قد أخذ يظهر عليها، فقد بدأت ترفض اللفائف وتستعفي من الشراب كلما عرض ذلك في المجلس، أو أغريتها به قائلة إنها لم تعد تحفل بشراب ولا «تبغي» تدخينا، وكنت أعلم أنها من قبل كانت تشرب وتدخن، ووجدتها كذلك قد أخذت رويدا تخلع عنها شملة ذلك المظهر القوي المستقل الثابت الذي كانت تتراءى للناس به، وراحت تبدي جانب المرأة الضعيفة منها، وتتكشف لي عن إنسانة تحتاج إلى الحامي والراعي والنصير.
ومن ذلك الحين أخذت أحلم ثانية بالزواج وعيش الأسرة ونعمة الذراري والبنين، ففي ذات مساء صائف اتفق رأينا على ألا نذهب إلى المراقص ولا نطلب في تلك الليلة الملهى، بل نخرج للنزهة في الحدائق والرياض.
وفي الحديقة الكبرى ألفينا مقعدا منعزلا تحت شجرة، فقعدنا، وطوقت كتفها بذراعي تطويقة حب وحنان، وسادنا سكون طويل ثم أنشأت تتكلم، قالت: أرى الأمور تجري مندفعة، فقبل أن نتمادى مع تيارها ينبغي أن أكاشفك بما في نفسي ... إنني أحبك ... فما لي لا أجهر لك به، وأحسبك تحاول حبي أنت كذلك، ولكن لعلي قد غلوت في التصور وحملت عاطفتك لي على أكثر مما ينبغي أن تحمل، فإذا لم تكن تحبني، فلا حاجة بي إلى مكاشفتك به لأنه لا يخصك، أفأنت راغب في سماعه؟ ...
وانزوت عني قليلا وهي تتحدث، وكان صوتها خافتا مغمغما، حتى لا يكاد يقع في المسمع، وإن كانت قد صبت تلك الكلمات صبا، وتدفقت بها تدفقا، كأنها من لهفة على الجهر بها تريد إراحة صدرها من عبئها.
قلت: أريد أن أسمع أي شيء تقولين يا حلوة.
وساد سكون ثم غمغمت تقول: إن لي طفلة!
فنظرت إليها مبهوتا ولم أستطع قولا.
ولكني عدت أقول: إذن لقد كنت إذن ذات بعل؟
فأجابت في صراحة رهيبة جليلة: كلا!
فبدهني هذا الجواب وصعقت له، ولم أستطع أن أصدق أن هذه الفتاة البريئة النظرات العفة السمات التي أصابت منا جميعا مكان الإعجاب، هي ... يا لعنة السموات!
قلت: حدثيني كيف كان ذلك ...
فمضت في رفق وعلى فترات صمت كأن كل كلمة تفتح في النفس جرحا وتستثير عذابا أليما، تحدثني بقصتها الأليمة وكيف أن لها طفلة أتمت الحول الأول أو قرابته.
وجلست بعد أن فرغت من حديثها شارد النظر سابح المخيلة في أودية التفكير.
قلت أخيرا: أتقولين إنه كان متزوجا بك لو أنه عاش وأنسأ الله في أجله.
قالت: ذلك كان قوله، وكنت أحسبه على الأيام فاعلا لو لم تعجله المنون فتخترمه.
وأمسكت فلم تزد، ولم تدفع عنها تهمة، ولا حاولت أن تعتذر بنزق الشباب، أو تتشفع بظروف مخففة.
ولكني أدركت فيما تلا من الأيام شيئا كثيرا عن حياتها الماضية، وعرفت أنها كانت صادقة فيما حدثتني به، وكانت ترقب الزواج بذلك الرجل لولا أن القدر خدعها في أمنية فؤادها.
وأنا اليوم قادر كل تلك الظروف التي اجتازتها تلك الفتاة المسكينة حق قدرها، ولكني في تلك الأيام كان كل رأيي فيها أنها امرأة ملوثة دنسة لا تصلح لمثلي زوجا، أما امتلاكها فذلك أمر آخر، وأما الاستحواذ عليها فلا بأس منه ولا ضير.
فإذا هي تخيط ثوبا صغيرا لوليد.
ومضيت أتشفع لهذه الفكرة بيني وبين نفسي بأنها قد ظلمتني بعض الظلم وأساءت إلي ناحية من الإساءة؛ إذ غررت بي وأوهمتني أنها الفتاة العفة الجديدة لم تمس، وأنه ينبغي لي أن أدفع الظلم بظلم مثله، وحسبتني في ذلك الحين قد كرهتها، وأنني واجد اللذة والمتعة في إيذائها، وأن ما كنت أظنه حبا في النفس لها لم يكن في الحق شيئا غير النزوة والشهوة، ولكن لعلك قائل لعمرك كيف تجتمع الكراهية والشهوة، ولكن كذلك كان يومئذ رأيي في مشاعري من ناحية تلك المرأة. وكذلك مضيت أغريها بأنني لا أزال على حبي لها وأقنعها بقوة ذلك الحب أن لا بأس ولا ضير من أن نعيش معا فترة من الدهر حتى يتواتى لنا أمر الزواج ... ولم أكتم عنها نبأ زواجي الأول، ولكن نبأتها أنني عما قليل سأطلق زوجتي ولم أحفل بشيء في سبيل التغرير بها كما غررت بي، فاستأجرت طبقة وسط في المدينة ففرشتها برياش بسيط وانتقلنا إليها، وكانت النية في ذلك ألا أهبها شيئا صالحا ولا أدعها تنعم بعيش مونق جميل، اعتقادا مني أنها لا تستأهل ذلك، واعتزاما من ناحيتي أن لا أطيل معها مكثا. ولاح لي أنها لم تلحظ حقارة الرياش، بل فرحت بالبيت وما فيه، وأكببت على عملي النهار كله ولم ألق بالا إلى شؤون البيت ومطالبه، ولكني ما لبثت أن دهشت لذلك التغيير العجيب الذي بدا لعيني؛ إذ جعلت كلما عدت إلى الدار بالعشي أرى الرعاية تامة والبيت نظيفا والأفق فرحا يملأ النفس رضى ومسرة ... ولم أكن أعطيها من المال غير النزر اليسير، ولكنها بذلك القليل قنعت، وحشدت في البيت من كل طيب وبديع وبهيج ... وكان سرورها الأكبر أن تتحفني كل عشاء بلون جديد من الطعام ومبتكر طريف من المأكل والألوان.
وكذلك كانت ربة بيت صناع ماهرة، وسيدة في الدار أريبة حذقة، وأذكرتني حالها بحال طفلة تتخذ من لعبتها الجميلة بيتا، وتجد في تنسيقه نهاية الفرح والجذل.
واها للمسكينة! لقد كان ذلك أمنية فؤادها الأولى التي حرمتها ولم تتهيأ لها، ولعل ذلك سر ابتهاجها بتوفير أسباب الهناءة في جوه وتجميله بما في مكنتها أن تجمله. ومضت الحال كذلك ردحا، ولا زال في نفسي الرغب في الثأر منها، بل لقد كنت أقسى من ذلك شعورا. فحدثتني النفس أن أستطيل في إمساكها حتى تطمئن إلى أن العيش قد استتب والدار قد استقامت، ثم أنثني فأحطم كل ذلك بكلمة واحدة إغراقا في التشفي، ومبالغة في الأذى، وإن لم يكن ذلك بمانعي إذا عدت في المساء من تناولها في أحضاني وطبع قبلاتي على صفحة محياها ... والتمتع بما أعدت لي من جديد ومبتكر.
ففي ذات مساء راحت تسألني متى إذن يكون زواج.
فاستضحكت وقلت: لا تكوني بلهاء، وأنت تعرفين أنني ما فكرت قط في الزواج بك.
فأمسكت عن الكلام ولم تعمد إلى توسل ولا فزعت إلى شكاة أو عتب أو رجاء.
ولكني لن أنسى ما حييت تلك النظرة المسكينة التي أطلت علي من عينيها في ذلك المساء، وا أسفاه! لم تكن تلك النظرة حدجة مسمومة ولا جحظة غاضبة، ولم تلح على عينها سريعا، ولم تخطف كالتماعة البرق، وإنما كانت رنوة ألم ساكن ونظرة إنكار حائر، لاحت رويدا رويدا منبثقة انبثاق الفجر، يبدو بياضه في سواد الليل خيطا بعد خيط، وكأنما كان المسيء إنسانا غيري، فجاءت تلتمس بنظرتها تلك عندي المؤاساة والعطف والرثاء.
ولست أدري كيف رحت وحشا أعمى! فاسترسلت بعد ذلك في مسلكي القاسي الأليم.
ولقد كنت ولا ريب أرتقب من وراء هذه القسوة أن أحملها على النفور من هذا العيش، والتمرد على تلك الحياة، وكنت أنتظر أن أعود ليلة فلا أجدها في البيت.
ولكنها لم تتبرم ولم تحاول فرارا، بل مضت تعنى بالدار أكثر مما فعلت من قبل، وتحشد فيها ألوان الهناءة ما استطاعت، وتلتمس إرضائي بكل حيلة وسبيل، فظللت دهرا حائرا بين محاولة النجاة من فتون حبها، وبين إطلاق النفس على سجيتها لتحبها وتحسن إليها.
ففي أصيل بديع بكرت فيه إلى البيت فدخلت عليها الخدر على غرة، فإذا هي تخيط ثوبا صغيرا لوليد وتغمغم بأغنية حلوة، فلما انتبهت إلى مواقع قدمي وقفت أنغام الأغنية على شفتيها واضطربت تحاول إخفاء الثوب الذي تحيكه، ولكنها لما أدركت أن لا جدوى من الإخفاء بعد أن أخذ عيني طول ذلك الثوب ودقته، راحت تهز كتفيها الجميلتين وتعاود العمل بإبرتها. قلت: لمن هذا الثوب؟ وأنا أعرف أو أحسبني أعرف أنه لطفلتها، ولم أكن رأيت طفلتها إلى ذلك العهد، وإنما كنت من قبل قد قلت لها: إننا بعد الزواج سنجيء بالطفلة من البيت الذي هي فيه لتعيش معنا وتترعرع في أكنافنا.
قالت في تؤدة: إنه لوليدك!
فبهت ووقفت مكاني جامد الحركة.
قلت عابثا ساخرا: وليدي! ما شاء الله! ومتى كان ذلك؟
وكنت من قبل قد نبأت أن سبب نفاري من «د» أنها بجانب مسلكها الطائش لم تكن تريد أن أنعم منها بفرحة البنين، فلما أنكرت عليها ذلك في لهجة السخرية التي فهت بها، لم تزد على أن قالت: لقد كنت أظنك متلهفا على الوليد، وقد كنت أنا كذلك للذرية راغبة، فتركت للطبيعة شرعتها المقدسة، مؤمنة بأنك ستتزوجني قبل أن تحين ولادة.
ولكني في أعماق النفس كنت ثائرا غاضبا، إذ كنت على ما ألفت من عقائد الناس ونظراتهم في الحياة لا أزال أرى أن امرأة مثلها لا تروح خليقة بأن تكون لذريتي أما، فانثنيت أقول: إنني أعرف طبيبا يستطيع أن ...
ولكني أمسكت فلم أتم كلمتي، إذ رأيت في عينيها نظرة أبلغ من الكلم، وأفعل في النفس أثرا من الشكاة والضراعة!
وجاء يوم الوضع، وحضر الطبيب ووافت الممرضة، فخلتني رجلا احتواه بيت غريب ليس له به عهد، وخرج الطبيب من حجرتها، فنبأني بأن زوجتي تريد أن أدخل عليها، فدخلت مستجمعا جأشي، فجلست بجانب سريرها وأنا حائر لا أدري ماذا أفعل وماذا أقول!
ولكن وجهها الشاحب وعينها المتوسلة أوحيا إلى نفسي أنها تريد أن أكون منها قريبا، وابتسمت لي قائلة: أود لو أنك تبقى بجانبي هكذا وتتحدث إلي وتمسك بيدي قليلا، أفترى في ذلك بأسا؟
قلت بحنان: لست أرى فيه بأسا مطلقا إذا كنت ترين أنه ينبغي أن أكون بجانبك، ولكن أتحسبين في الحق أن مكاني الساعة هنا ...
وترددت ولم أزد.
وكأنما أدركت غرضي، فقالت: أريد أن تبقى، ولكن إذن ... واختنق صوتها بانتحابة مجهشة وشدت من فرط تشنجها على يدي شدة لم أكن أستطيع أن أجتذب منها لو أنني أردت الانصراف.
وجاء الطبيب والممرضة إلى سريرها، لها الله من مسكينة! لقد كانت تعرف أي عذاب هي معانيته بعد قليل، فقد أحست وقعه من قبل وجربت ألمه، ولكن ذلك لم يمنعها من معاودته بدافع الحب لي والعمل لإرضائي.
ومضى أسبوع لم يأذن لي الطبيب في رؤيتها قائلا إنها تتعلق من الحياة بخيط واه، وإن من الخطر عليها أن ترى أحدا وأن تراني أنا خاصة، فمضى علي ذلك الأسبوع في عذاب لم أكن أتوقعه، وما أحسب أنني واجد مثله فيما بقي من الأجل.
وقد عرفت أثر الصلاة في النفس فرحت أصلي لله من أجل نجاتها ودعوته أن يقدرني على أن أكون خليقا بذلك الحب، جديرا بتلك المرأة؛ لأنني وجدتني أحبها، وأدركت أنها هي عندي العالم بأسره، وأنها إذا ماتت كنت أنا الملوم ولن أعيش بعدها أبدا، وعجبت لنفسي كيف كنت أعمى البصيرة من قبل أحاول إقناع ضميري بأنني لم أشعر يوما من نحوها بحب، وأتجاهل ذلك الحب الرائع العجيب الذي وهبتنيه من ذات نفسها.
وكأنما استجاب الله لدعائي، فأخذت تبل من علتها، وجاءني الطبيب ذات يوم يقول: اليوم لك أن تدخل عليها، فطفر قلبي فرحا عندما مشيت إلى سريرها على أطراف القدمين، وجثوت بجانب فراشها وطوقتها بذراعي هي والوليد، وكان يصرخ غير حافل بشيء، ورحت أبكي وأنتحب وهي لا تشعر بقربي، ثم ما لبثت أن التفتت إلي فقالت في عجب: ما لك تبكي يا عزيزي؟ وأخذت تلاعب شعري بيدها الخلية.
فانثنيت أقول: إنني لسعيد بك أيتها الأم الصغيرة، وراغد الحياة بشفائك وعودك إلي أنعم بك آخر الدهر، وأنا فرح جذلان بهذا الوليد الذي جاءني ليدلني على أني كنت بالأمس أحمق! أواه يا غالية، أيتاح لي أن أجعلك سعيدة مثلي اليوم! ويحي! هل لي أن أسألك صفحا عني وعودا إلى حبي؟ وماذا أستطيع أن أفعل تكفيرا عما أسأت إليك من قبل؟
قالت بصوت مغمغم وعين وسنانة: ما كففت عن حبك قط، وما كنت مستطيعة أن أكف عنه، فإذا أردت أن تسعدني فقليلا من حب ...
وأمسكت فلم تتم كأنما من خوف.
قلت: نعم سنتزوج يوم أكون طليقا وسأكون ولا ريب.
وكأنما كان القدر مسعفي، فقد وجدت «د» الرجل الذي سكنت إلى حبه واطمأنت إلى نعمة العيش في كنفه فودت طلاقا.
وكذلك كان زواجي الثاني منذ عشر سنوات، ونحن على محض الحب والوفاء والهناءة باقيان ...
ما الذي يقتل الحب؟
تسامع الناس بأنني اختطفت ابنتي، بل أسوأ من ذلك وأدهى أن القضاء حكم بأنني كنت خائنة عهد زوجي، وقضى بطلاقه من هذه المرأة التي لا تعرف للشرف حقا، ولا ترعى حفاظا، وحكم له بأخذ الطفلة ...
جرى ذلك كله باسم العدالة! فيا للنكر ويا للسوء! ...
أيتها العدالة، كم من مظالم ترتكب باسمك ...!
نعم، لقد كانت تلك كلها ظلما فوق ظلم، وأكاذيب إثر أكاذيب.
وقد حدث الحادث الأكبر في ذات صبح فقد فيه زوجي صوابه، ومضت نزعة الغيرة التي طالما استبدت به، فاحتملته إلى نوبة عارضة من نوبات الجنون، وكنت قد استيقظت في ذلك الصباح كمن يصحو من حلم أليم يملأ صدره تطيرا وشر النذر، فإذا به لا يزال في نصف ثيابه واقفا حيال المرآة يتهيأ للبسة الخروج.
واستدار نحوي وفي عينه بريق الكراهية والحنق.
قال: أفهمت إذن، ينبغي أن لا تعرفيه بعد اليوم، لا أريد أن أكرر أمري هذا مرة أخرى.
وكذلك قذفني بهذه الكلمات في اللحظة التي فتحت فيها عيني مستيقظة.
قلت بصوت راعش: ماذا جرى؟
وأمسكت لحظة ثم استأنفت القول: أنت تعرف أننا التقينا به ليلة أمس في دار أخيك محض اتفاق، وكان الدهر قد ضرب بيني وبينه عدة السنوات إذ كنت أعرفه في بلدنا يوم كنت في المهد صبية، وجاء من البلد منذ عهد قريب وأنشأ يقص على سمعي أنباء أهلي وأقاربي، فكان أقل ما ينبغي أن نفعله من أجله أن ندعوه الليلة إلى العشاء عندنا قبل أن يغادر المدينة.
ذلك ما قلته له.
ولم يكن شجارنا في الغداة إلا بقية من شجارنا في الليلة البارحة، فبرقت عيناه عندما سمع كلماتي تلك، وقال: لا يهمني أن يكون ما تقترحينه أقل ما ينبغي أن نفعل، اعتذري له بأنك اليوم مريضة، تشفعي بأي عذر، كل غرضي أن لا أرى ذلك الرجل في بيتي.
فاستويت جالسة في فراشي.
قلت: علام هذا التشنج والانفعال؟ إن ذلك الرجل - كما تقول عنه - صديق قديم، وأنا أصر على أن نعامله كذلك.
وتولاني الغضب فاسترسلت أقول: لقد أزهقت روحي كل هذه السنوات الثلاث الماضية باعتراضاتك كلما رأيتني أتحدث إلى رجل، بلا أدنى سبب معقول أو عذر وجيه، وأنت تعلم أنني ظللت أبدا على الوفاء لك والحرص على عهدك، وأنا باقية عليه ما حييت ...
ولكنه عاجلني بقوله وهو يهجم علي وقد احمر وجهه غيظا، وانتفخت أوداجه وهز أنملته في وجهي هزا: «أتتحدثين عن الوفاء لي ... ما شاء الله ... أنت وفية؟ ... أنت ...!».
فانزويت منه رعبا إذ أدركت أنه قد استطار صوابه.
وإذا به يندفع في ثورة مجنونة صائحا بي: أنت وفية.؟ إذا كنت قد أقمت لي على الوفاء فما ذلك إلا لأنني حفظتك كذلك وصنتك. نعم، أنت زوجي ولن أدعك تنسين ذلك، فهذا نذيري! إن ذلك المخلوق لن يراك ما بقيت لي في هذه الدنيا حياة، أفاهمة ما أقول؟
وتولى عني معرضا، فأخذتني نوبة حنق لكرامتي، فتلفعت بلفاعتي ونهضت له، فقلت: لمن تحسبك تتكلم؟ لقد كنت مضحكا في غيرتك قبل اليوم، ولكني لم أكن أظنك ستنسى أدبك في حقي إلى هذا الحد.؟ أنت ترى أن الدعوة قد تمت وهو قادم الليلة إلى هذا البيت، وقد أنبأني أن لديه أمرا يريد أن يتحدث إليك في شأنه.
فدار على عقبيه وصاح بي: تقولين أمرا! أي أمر له معي؟ سأريه أمري معه.
وانطلق في ثورة الجنون، فدفع الباب خلفه وأدار المفتاح في قفله، فلم أكد أصدق سمعي ... يا لله.! لقد حبسني زوجي في حجرتي.!
وعدوت إلى الباب مشدوهة، فعالجت أكرته وسمعت الباب الخارجي يغلق بعنف، فكدت من الهم تغشاني الغاشية، ولكني تذكرت أن طفلتنا نائمة في سريرها في الحجرة المقابلة للشرفة، ولا بد لي من الخروج من حجرتي في الحال لأعد لها فطورها وإلا خنقت الوليدة من فرط النحيب إذا أنا لم أسارع إليها.
وكأنما قد أيقظها صياح أبيها فسمعتها من خلف الباب تصرخ قائلة: ماما ... ماما ... طاب الصباح ...
يا إلهي كيف العمل ... لقد جن جنون زوجي من أثر غيرته، وما أحسبه سيعود فيفتح الباب، فتلفت حولي في الحجرة يائسة، فتذكرت أن النافذة، وكانت الوحيدة في الغرفة، تطل على فناء البيت، فإذا صحت وناديت فلعل أحد السكان سيسمع صيحتي وندائي فيهيب بالبواب فيجيء هذا لإخراجي، فأستطيع الذهاب إلى طفلتي في الحجرة الأخرى.
ولكني ترددت لحظة أسائل خاطري: أينبغي الصياح بالجيران ليعلموا أن زوجي قد حبسني في مخدعي وانطلق في سبيله؟ كلا! آخر الحياة. يجب أن أحتال للخروج من هذا المازق بوسيلة أخرى.
وكان ألمي الدفين في أعماق نفسي أن يكون زواجي به قد بدا غلطة شنعاء وغصة أليمة لنا، والناس لا يعرفون عن ذلك قليلا ولا كثيرا، أو الجيران يعتقدون أننا من خير الأزواج وأصلحهم حالا وأسعدهم عيشا، أفكان ظهور ذلك الرجل في أفق حياتنا سبب هذه المأساة التي وقعت لي اليوم.
وفاض فيض عاطفتي، وثارت ثائرتي، وهمت عبراتي، فتهالكت على الفراش ساخطة حانقة، لم آت منكرا، ولم أحدث في الحياة سوءا ولا ضرا، فعلام هذا العذاب؟! ولم هذا العسف الذي أسامه؟ لقد كان لقاؤنا بذلك الصديق على غير ميعاد في بيت شقيق زوجي الليلة البارحة، وقد سرني أن أراه بعد غيبة الأعوام الطوال، فقد كنا منذ عشر سنين في البلد الصغير الوادع الذي فيه نشأت صديقين على ولاء، ثم انحدر هو إلى المدينة ليشتغل بصناعة المحاماة، ولعل ذلك هو السبب الذي منعني الزواج حتى أدركت السادسة والعشرين على الرغم من إلحاح فتى آخر علي بغزله وتودده واستدراجي إلى الرضاء به زوجا ...
كان ذلك منذ خمسة أعوام، مضت أربعة منها وأنا أغالب الندامة وأناضل الأسى حتى لا أعترف لنفسي بأن زواجي عاد خيبة مريرة ولم يعد هناءة ولا رغدا!
ولكني أمسكت فيض خواطري وعدت إلى نفسي أردها إلى موقفي المحرج الأليم، وأذكرها بمحبسي هذا في مخدعي.
ووثبت من فراشي لأحتال على الخروج، فمشيت إلى الباب أتفحصه، فإذا هو ثقيل متين القفل، فقد جئنا بالنجار منذ أسبوع فأصلحه وكان من قبل لا ينغلق تماما إذا أغلقناه.
وتذكرت أن النجار انتزع الباب من مفصلاته ثم رده إلى موضعه، فصعدت كرسيا ونظرت إلى المفصلة العليا وقلت لنفسي لعلي مستطيعة أن أنزع مسامير المفصلة كما فعل النجار، فمضيت أحاول ذلك طويلا بمقصي، وذهني مفعم بذكريات الماضي، وأحداثه تعود إلى خاطري، بينما يداي الضعيفتان تعالجان المسامير.
ولم أستطع أن أحل ذلك المعمى، معمى زواجي، ولم أجد له سببا إلا بعض تصاريف الأقدار ومجتمع الظروف.
كنت كبرى إخواتي، وكنا ست فتيات، تزوجت قبلي إحداهن، وخطبت أخرى، وبلغت أنا من الشباب مرحلة بدأ فيها أهلي يستشعرون خوفا أحمق من بقائي عذراء، ويشفقون من أن أروح عانسا العمر كله. ولعل خوف أختي المتزوجة من هذه الناحية ومكاشفتها لي بمخاوفها وإقناعي بوجوب انتهاز أول سانحة للإقبال على عيش الزواج، هي كلها السبب الذي حملني على الرضى به عاجلة غير متروية.
وكنت يومئذ أعرف ذلك الفتى الآخر، وكان لا يفتأ يسألني رأيي في قبول الزواج به، ولكني تركته بين نعم ولا حائرا مترددا. فقد عرفته من عهد الطفولة وكان طيبا ساذجا، ولكني كنت أضيق به ذرعا، ولا أجد في نفسي له ميلا ولا هوى. وأنا لكذلك إذ نزل زوجي بالبلدة لزيارة أقارب له فيها ولعمل متصل بشؤونهم، وكان ينوي الرجوع بعد بضعة أسابيع، وكان لقائي به في فرح أقيم في القرية عقب قدومه، فما لبث أن افتتن بي من بين سائر الفتيات اللائي رحن يتلطفن إليه ويتحببن ... وتسامع الناس بأنه في خير حال وبسطة من الرزق، وكان ذلك كله كافيا في قرية صغيرة كقريتنا لتهافت القوم عليه. وكنت من قبل ألتهف على زيارة الحاضرة، فجعلت كلما جلست إليه في خلوة أسأله أن يحدثني عن مشاهدها، وكان ذلك يثير في النفس خيالا وفتنة، ويبعثني على تخيل الفرار من هذا العيش الرتيب وحياة القرية الغبية المتبلدة، فلم ألبث أن آنست إلى حديثه وآثرته على سذاجة الفتى الآخر، فتزوجنا بعد بضعة أسابيع وتحملت معه إلى الحاضرة، وكان قد قال لي قبيل الرحيل: إنك ستحبين المدينة ولست أشك في أن أمي ستحبك ... فأنت مليحة محببة أيتها الزوج الصغيرة الغالية.
يا لله.! ما كان أهنأ عيشي في الأيام الأولى لزواجنا؛ فقد كانت الحياة حلما في الكرى أو خلسة المختلس، ولكني من أول الأمر وجدت أهله على غير ما كنت أنتظر، فقد ألفيتهم قوما أغبياء ضيقي الأذهان، فلم أشأ أن أجاريهم في حوار أو أبسط لهم في أمر رأيا، بل رضت نفسي على السكوت والاستماع إليهم: وكانت له أم هي على غرار سواد الأمهات تغار عليه من زوجه، ولا ترضى أن تشاركها في حبه إنسانة سواها، فلما التقينا أول لقائنا مضت تتأملني بنظرة المتفحص وكأنما استكثرت علي أن أكون لولدها زوجا، وقد سمعتها بعد ذلك بأيام تنصح له بتشديد الرقابة على حركاتي وسكناتي، وهي في معزل تتحدث إليه خفية، نعم لقد طرق سمعي يومئذ قولها: لا تنس يا بني، إن في النساء مليحات متناهيات الملاحة والفتنة، وهذا والله على الزوج الشر كله وفيه الضر؛ لأنهن لا يسلمن من غزل الرجال ومعاكستهم لهن والجري أبدا في أذيالهن، فكن على زوجك الحسناء يا بني بصيرا.
لعلي مستطيعة أن أنزل مسامير بالمفصلة كما فعل النجار.
وأحسبها كانت الملوم على نزعة الغيرة الجنونية التي تمكنت من نفس زوجي، فلقد كانت كبيرة السلطان على نفسه، تسيطر على جميع فعاله، وكان هو ضعيفا أمامها لا يجرؤ على عصيان أمرها.
وأدركت بعد قليل أنه لم يكن الرجل المدقق في عمله الذي سمعنا عنه في القرية، وإنما كانت لديه فضلة من المال أودعها مصنعا صغيرا لصناعة الثياب، ولكنها لم تدر عليه خيرا، فما لبثت حياتنا أن ساءت، وعجزنا عن الوفاء بأكثر المطالب، فمضيت أبحث عن عمل أعين بمرتبي زوجي على أمره، فأصبت عملا لقاء راتب طيب، وكان يشاطر أمه اعتقادها أن المرأة المتزوجة ينبغي أن تلزم بيتها، فلا تسعى على رزق، شح في العيش المال أم كثر؟ فضاق بخروجي إلى العمل ذرعا، وكم من حوار جرى بيننا ونضال نشب، فكان فيه أبدا يحتج على أن أعمل في محل يعمل فيه الرجال.
ووقع يوما حادث أليم؛ إذ أذنت لرجل من زملائي في المكتب أن يماشيني إلى باب البيت، وكنت لا أرى في ذلك سوءا ولا ضررا، فقد كان شيخا أشيب الفودين محبوبا من كل عامل في المكتب، وجرى بنا الحديث في الطريق حتى ألممنا بباب بيتنا وقد آذنت السادسة، ولقينا زوجي لدى الباب فلم يدع الرجل إلى الدخول معنا ولم يحيه، بل راح يغلق الباب بعنف في وجهه.
ولما احتوتنا قاعة الجلوس انفجر يقول: ها قد بدأت تماشين الرجال، وتسايرين الزملاء، يا لها من فكرة بديعة.
قلت: لست أفهم موقفك هذا، إنه رجل مهذب ويأنس إلى حديثي، وهو شيخ حطمته السنون، فلا أرى سببا يمنعني مسايرته إلى بيتنا، ثم هو يعيش في هذا الحي بالذات، وطريقي طريقه.
وحاولت بالتلطف في الحديث أن أتحاشى الشجار معه، ولكنه انطلق يقول وهو منصرف إلى مخدعه: لقد قلت لك لا تسايري أحدا ولا تماشي مخلوقا، ولست أريد أن أكرر ذلك ثانية.
وفي ذلك العهد ونحن على أشد الخلاف، في الرأي والنظر إلى الحياة، قضى القضاء العجيب أن أرزق منه طفلة، فتركت عملي، وحاولت علاج مطالب البيت قاصدة في النفقة ما استطعت. وكانت الأشهر التي تلت ذلك عهدا موحشا في الحياة أليما، فرحت أتعزى فيه بقراءة الكتب وخياطة الأثواب، وكانت الطفلة جميلة موفورة الصحة، وراح أبوها بها مفتونا وجعل ينفق الكثير في سبيل إتحافها باللعب والدمى، ولم نكن في ميسرة حتى يتواتى لنا استخدام مرضعة في البيت ترعى الطفلة عني، وتقوم على حوائج الدار، فاضطررت إلى الإضراب في البيت لا أبرحه.
وفي العام التالي لمولدها جاءت أختي «س» من البلد لزيارتي فأقامت ردحا، وكأنما كانت رسولا من السماء لمعونتي وطرد الهم عني، فكانت تجلس إلى الوليدة تلاعبها على مطالع الأصيل تاركة لي الفرص للخروج إلى الأسواق أو التماس النزهة، وكانت «س» فتاة محببة، فما لبثت أن عرفت صاحبا في المدينة وصواحب، فجعل هؤلاء وأولئك يجيئون لزيارتنا، والسمر عندنا، وكان من بينهم غلامان مليحان ذكيان، امتلأت جعبتهما بطرائف الأدب والعلم، وكنت في لهفة عليها لأن زوجي كان أكره الناس للقراءة لا يفتح في حياته كتابا، ولا يجد في نفسه استرواحا إليها، فطاب لي الحديث مع هذين الغلامين، فجعلنا نتجاذبه في كثير من الموضوعات ونتطارح الآراء ونتساجلها.
وفي ذات ليلة جاء الغلامان لزيارتنا ولم تكن أختي في البيت، فقلت لهما إنها ستتأخر كثيرا، ولكنهما مضيا يستأذنان! هل من بأس في البقاء معي للحديث والسمر، وخشيت أن يكون المساء موحشا إذ كان زوجي قد نبأني بأنه قد يتأخر في الحضور عن الموعد الذي اعتاد أن يجيء فيه، فسرتني زيارة الشابين وطردت عن صدري ألم الوحشة.
وأنت تعلم أن الشباب مولعون بالكلام عن النساء وخاصة مع سيدة أكبر منهم، لكي يصيبوا من العلم بالمرأة ما لا يعرفون، فلا عجب إذا انطلق بنا الحديث في تلك الليلة عن أقيسة الجمال وحدوده وتعريفه. وسرى الحديث بيننا خلال الساعات وأنا منه مسرورة جذلة، وراح أحدهما يقول بسبيل ما كنا نتحدث عنه: إن «أختك» جميلة بل قد تكون أجمل منك، وإن لم تكن لها فتنتك، ولم تصب حسن قدك وجلال مظهرك، ولا شيئا من ذكائك وأدبك.
فتلفت فجأة صوب الباب، فما كان أشد دهشتي إذ رأيت زوجي واقفا لديه، ولم نكن سمعنا حركته ولا وقع قدميه وهو قادم، ولم أدر كم لبث في موقفه.
واضطرب الغلامان من مباغتته هذه والغضبة الظاهرة على محياه ... فاستأذنا وانصرفا فجأة.
وما كاد الباب يغلق وراءهما حتى انطلق في فيض من الشتائم والسخرية المسمومة القاسية.
قال: إذن أنت ناوية أن تدنسي فراش الزوجية وتلوثي شرف الطفلة. وكانت تلك أخف سبابه وأهون شتائمه.
وحاولت الاحتجاج ولكن احتجاجاتي لم توقف تيار سبابه بل مضى يقول: لقد استطعت أن أبقي عليك شريفة عفة كل هذه السنين، فإذا بك اليوم تشاغلين الفتيان لأنهم من السذاجة والغفلة بحيث لا يعرفون أية شيطانة تكونين.
وكذلك طفق يرتع في عرضي كما شاءت له غيرته الحمقاء العمياء الحانقة.
وكانت أختي قد اعتزمت العودة إلى البلد في الأسبوع التالي، فأجمعت أمري على السفر معها لأقيم فترة من الدهر بجانب أهلي، وأستريح ردحا من غيرته وريبه، فلما نبأته بنيتي، قام بيننا شجار عنيف وأنذرني بأنه مغلق البيت وحابسي فيه إذا لم أنصع لحكمه.
ولم تكن هذه أول تهديدة من نوعها سمعتها من فمه، ولم أكاشفه بموعد سفري وتركته يمضي في ذات صبح إلى عمله فارتحلت في سكون وخلسة.
وفرح أهلي بمقدمي والطفلة، وكانت تلك أياما طيبة، نعمت فيها بمجالس وأصحاب وصواحب أعرفهم من زمان ويعرفونني، وفي دار إحدى الصواحب لقيت طبيبا أخصائيا في أمراض الأطفال، فلما رأى طفلتي ووفرة عافيتها، وامتلاء بدنها، أعجب بها الإعجاب كله، فراح يقول: لقد دلتني التجارب في صناعتي على أن الأطفال الأصحاء هم في الأغلب نتاج القران السعيد الذي يمسكه الحب وتغذية هناءة الزوجين، وقلما يرى المرء زيجات تعسة تثمر من الذراري ثمرات طيبة ناضجة.
ولم أكن إلى ذلك العهد أفضيت إلى أحد من خلق الله ببأساء عيشي وخيبة زواجي، فلما قامت الصداقة بيني وبين ذلك الطبيب الوديع، الكريم القلب، انتهزت فرصة زياراته لنا في ذات مساء فمضيت أقص عليه خافية عيشي، فلما انتهيت قال: أريد أن أعلم، ألا تزالين تحبين زوجك؟ قلت: أتسألني هل أحبه؟ لقد مضى علي زمان طويل أسائل نفسي فيه أبدا: أتراني أحببته يوما، ولا ريب في أنني لم أكن أشعر له بهذه العاطفة في ذلك الحين؛ إذ لو كنت أشعر بشيء من ذلك له لآلمني ذلك المسلك منه في حقي، ولكني لم أكن أحس من ذلك ألما، بل كنت مستخفة غير آبهة، وفي بعض الأحايين أروح أنظر إليه وهو ثائر متمرد حانق كأنما أنظر إلى ممثل يلعب دورا على المسرح.
قال: حقا، إن حالة زوجك من الحالات النفسية الغريبة، ولقد كان لتعليم أمه وإيحائها أسوأ الأثر، وأحسبها لا تزال شديدة السلطان عليه، فلم لا تتركينه وتأخذين معك طفلتك؟ إن من نكد الدنيا على المرأة العاقلة الأريبة مثلك أن تصبر على عيش كدر منغص مع زوج ضعيف الإرادة مجنون الغيرة كزوجك! ومن أسوأ الأثر في نفس طفلتك أن تدرج وتنمو في جو عاصف كهذا، وأفق تهب عليه الزعازع العاتية ...
ولكني لم أجد في النفس قوة على مواجهة هذه الفكرة، وخفت القالة وأشفقت من أن تلوك الألسنة سيرتنا وتمتضغها الأفواه ...
وعدت بعد بضعة أسابيع إلى بيتي ولم أر ذلك الطبيب بعد ذلك، وما أشد حسرتي اليوم على أني لم أعمل بنصيحته وتركت عيشي يسوء عما كان من قبل وتطم اليوم طامته . •••
رباه.! ألا ينفتح هذا الباب؟ ها هو ذا المسمار الأخير قد بدأ يتفكك، ها أنا قد دفعت الباب من موضعه أخيرا، وتعثرت عادية أطلب سرير طفلتي فتلقيتها في ذراعي الممتدتين لها وهي مغرورقة العين بالعبرات، وضممتها مليا إلى صدري، ثم انثنيت ألبسها ثيابها، وأقدم لها طعام فطورها، بينما راحت فكرة خاطفة كالوميض تلتمع في خاطري، وهي الخروج من هذا السجن الأليم، والالتجاء إلى أي مكان آخر قبل أن يعود زوجي؛ إذ ما يدريني لعله قاتلي إذا وجدني قد فتحت باب محبسي.
ولكن إلى أين المسير، وإلى من المفزع ...
خطرت لي صديقة تقيم غير بعيد عن حينا، فاحتملت الطفلة وهرعت إلى دارها فلم أجد غير وصيفة لها عجوز، فتركت طفلتي في ذمتها ريثما أعود بعد ساعتين لآخذها، وكانت نيتي أن أذهب إلى الطبيب ألتمس عنده النصيحة وأستعين ببعض الأصدقاء على توكيل محام عني ليطلب طلاقي من هذا الزوج الذي رنق صفو حياتي بجنون غيرته، وخشيت أن آخذ الطفلة معي، فقد كنت في حال من الرعب والاضطراب لا توصف، وخفت أن أفقدها في زحام المركبات والسابلة.
والتقيت بالطبيب فحدثته بجلية الخبر، فذعر لقصتي وحار في أمري، فلم يدر كيف الخلاص من موقفي، غير أن يستعين بأحد المحامين، فاتفقنا على أن نرفع الأمر إلى القضاء فأطلب طلاقي منه وإبقاء الطفلة في حضانتي.
وهدأت ثائرتي، ورأيت في ذلك الحل السريع بارقة الأمل، فعدت أدراجي مسرعة إلى بيت صديقتي فلقيت حارس المصعد، فإذا هو مضطرب يحاول الكلام معي ولكنه لا يفعل، فلم أفهم ماذا جرى.
وجاءت الوصيفة العجوز تفتح الباب فإذا هي في دموع تقول: إن الطفلة قد ذهبت ...!
وعندئذ أدركت فحوى الأمر قبل أن أسمع ما يقال لي، فقد جاء زوجي في غيبتي فاختطفها عنوة واقتدارا ...
وا حزناه.! لقد كانت الأسابيع التالية أسوأ ما مر بي من عهود الحياة، ولم أكن أدري علام تنتهي هذه الملمة التي وقعت بي، وحاولت مرة أن أتملى من وجه الطفلة، فأذن لي المحامي الموكل عن زوجي برؤيتها في محضره ومع بعض رجال الشرطة، وكانت تحملها مربية، فما كادت الطفلة تراني حتى اضطربت وبكت وجعلت تصيح: أماه.! أماه، خذيني إليك ...
لقد كان ذلك مشهدا فتت كبدي على مرأى فلذته تبكي، وأعقب ذلك موقفنا في ساحة القضاء، وكان المحامي عن زوجي رجلا مدرها مفوها، فراح يدلل أمام القضاء على أنني اختطفت الطفلة، وأنني أخون زوجي مع رجل آخر، وجاء بأشهاد شهدوا على خيانتي، فلما طلب إليهم أن يعينوا عشيقي، كدت أخر مغشيا علي، إذ سمعتهم يذكرون الطبيب.
أواه.! كيف يحدث ذلك أيها الناس، باسم العدالة.! لقد كانت تلك كلها أكاذيب وفريات مصطنعة.
وانتهت المحاكمة، وقضى القضاء له بأخذ ابنتي ...
وكانت هذه الملمة سببا في التقريب بيني وبين ذلك الطبيب الرحيم، وهو اليوم يعلم أنني أحببته فيما مضى من زماني، ولم يكن يومئذ بحبي عليما ...
وكان زواجنا بعد أشهر معدودات ...
حب بلا نسل
انفرطت عدة أعوام منذ وقعت أحداث هذه القصة، ولكني لا أزال أشعر بالتهيب والخوف، وأنا الساعة أدون الوقائع وأقص النبأ، وأسرد الحقائق التي ظلت إلى اليوم مختبئة في صندوق فؤادي، لا يعلم أحد بسرها، ولا يدري مخلوق بخافيتها، ولم أعترف لأحد يوما بها، ولا كاشفت طبيبا بآلامها، ولا فزعت إلى محام أستنصحه في أمرها، ولا بثثت ما في أعماق النفس من مواجعها لصاحب ولا صديق.
لقد كنت أريد أن أحمل قصتي هذه معي إلى العالم الآخر، حيث صلاح كل شيء فسد في الأرض، ومآب كل سر، ومعاد النفس وما تخفي وما تعلن.
ولكن لماذا جئت إذن إليكم أقصها ...؟؟
لا أدري ... إلا أنني أريد أن أنفس بها عن صدر مثقل بالآلام، أو لعله ضعف مني اختلط بأمل مستطيل دفين، وهو أن تكون هذه القصة رسالة حب إلى الذي تدور عليه قصتي وله فؤادي كله، ومعه هواي، وإليه على أجنحة الخيال تأويبي ... •••
وقع الذي وقع عندما كنت في الثامنة عشرة عقب خروجي من المدرسة، إذ تعثر أبي في علة قاسية، فنصح له الطبيب بالمقام فترة من الدهر على ضفاف البحر في سياحة بحرية، فانتوينا أنا ووالدتي أن نذهب معه، وما كنت أدري والله أن الحياة كلها معلقة على تلك الطوافة، رهن بتلك السفرة النائية ...
وأبحرت بنا الباخرة في الخامس من شهر أغسطس، وقد حفظت ذلك التاريخ، ومثله في تاريخ الحياة وشؤونها لا ينسى ولا يمحى من الذاكرة، لأنه اليوم الذي كان فيه لقائي ... به!
ولم يكن في لقائنا غرابة، بل كما يتلاقى الناس على صدور الجاريات في البحر، ويحدوهم الجلوس معا إلى موائد الطعام، والخروج إلى ساحة الجارية للنزهة واستشراف البحر المترامي.
ولكني منذ أول شدة بيده على يدي، رحت ناسية الزمن، أعيش في أفق متورد مزدهر، لا يقاس فيه الزمن بالساعات وأجزاء الساعات، وإنما باللقاءات على سطح الباخرة والاحتجابات، وبخطران شبحه على العين، وغيابه عن الناظر، فكان هذا هو الحب الذي يقول الناس عنه إنه يقع من أول نظرة، وما كان في فؤادي منه جرى مثله في مسرى الكهرباء في أضواء نفسي.
ولم تكد الباخرة تلقي مراسيها فترة حتى تمت بيننا الخطبة، وتمنع أبواي في مبدأ الأمر، وكان هذا التمنع أمرا مألوفا، لأنني كنت ابنتهما الوحيدة العزيزة الغالية، ولم يكونا يعلمان قليلا ولا كثيرا من أمره، على حين لا يكاد الجليس إليه يقضي بضع دقائق حتى يجده على أحب ما يكون أدبا وخيرا ورقة. وكان في ذلك العهد يشتغل وكيلا لمصنع وطيد كثير الشهرة، فذهب أبي من ساعته فتحدث إلى أصحاب المصنع وعاد إلينا مسرورا راضيا عن الخطبة قرير عين، وأغرى أمي بالقبول وهي في بكاء ودموع ...
واها لتلك المسكينة ... لقد كانت تطمع في أن تظفر لي بزواج كزواج الأميرات، لولولعها بالأبهة والبذخ وعيش الترف، ولكن ارتقابها الظهور في حفلة القران كأم العروس وتجملها بأبدع الثياب، وتهاديها رافلة في الدمقس والحرير، خفف بعض ألمها، وهون عليها بعض الأسف الذي كانت تجده في أعماقها.
وانثنت أخيرا تقول: على بركة الله إذن يا بنية، فلنعج على أكبر المدائن لنبتاع جهازك، ففعلنا، وتركنا أبي يتم سياحته في البحر وذهبنا نحن ننفق الكثير من المال ونبتاع خير ما نجده من النفائس والمطارف.
وكذلك انقضى الصيف، وفي نهاية شهر سبتمبر عدنا من سفرنا، وكنت أنا وهو نريد أن يتم الزاوج في نوفمبر، ولكن أمي كانت تود أن نستأني، فنترك الزفاف إلى أوان الربيع، إذ كانت تكره العجلة في كل شيء وتحب أن تجعل زفافنا باهرا وتعد له أكبر المعدات، وتحيله حديث المدينة وأهلها.
ولكنه كان عليه ملهوفا فلم تكن من حيلة للتأجيل. فحددنا لحفلة الزواج الثالث من ذلك الشهر، وأخذت المعدات تعد في عجلة لذلك اليوم المنتظر والفرحة الموعودة، وحالت المجامع والحفلات والمآدب بيننا وبين الاستمتاع بالخلوات، حتى لقد ذهب ذات مرة يقول ونحن عائدان من أحد المراقص: ما قولك يا فاتنة في الخروج إذا بكر الصبح على الجواد إلى نزهة وحدنا في معارج الغياض؟
قلت: أبدع بها من نزهة! فلنا الله لم لم نفكر في هذه الخاطرة الجميلة قبل اليوم؟ تصور كيف تكون مسرتي بالخلو إليك ساعة كاملة لا ينازعني في خلوتي إليك منازع.
وراح الجوادان يمشيان متلاصقان كأنهما فاهمان ما هناك!
فضحك وأهوى علي بقبلاته، وهو يقول: يا لك من صغيرة ساحرة ... إذا قضى الله يوما أن نفترق فلن أعيش في هذه الدنيا ولن أحيا يوما.
وكذلك وجدنا الصباح الباكر قبل نهضة العالم من المضاجع على جوادين لنا نريد المنتزه، وكأنما أدرك الجوادان ما يراد منهما فراحا يمشيان جنبا إلى جنب متلاصقين يهزان رأسيهما كأنهما فاهمان ما هنالك ...
يا لله! ما كان أهنأها ساعة، وأملأها بالمسرات نزهة على أنفاس الصباح وسكينة الكون، ولم أكن أصدق أن الساعة قد انتهت عندما نظر إلى ساعته، فقال: لقد حان الإياب.
فقلت: دعنا نفعل ذلك كل يوم.
قال: وهو كذلك.
وجعلنا في كل صبح نبكر إلى تلك النزهة، وفي بعض الأحيان نعرج على أحد المطاعم، فنتناول طعام الفطور فيه.
وكذلك ولت بنا الأيام حتى لم يبق على يوم العرس غير أسبوع.
فقالت أمي يوما: لقد أخذت تلوحين نحيلة، تذكري يا بنيتي أنك إذا أوقدت الشمعة من طرفيها استنفدت الضياء وشيكا، فخذي من هذه النزهات الباكرات على قدر، وتناولي من النوم كفاية بدنك حتى تحفظي عليك جمالك يا غالية.
قلت: ركبة أخرى ثم نكف يا أماه ...
ولما ركبنا في صبح اليوم التالي، رحت أقول له برنة أسف وحزن ونحن عاطفان بجوادينا نحو المتنزه: هذه هي ركبتنا الأخيرة.
فضحك قائلا: نعم يا آنسة، ولكنها غدا متكررة للعروس.
فهممت بأن أجيب ولكن وقع في تلك اللحظة ذلك الحادث الذي غير وجه حياتي، حادث بسيط ولكنه ترك في العيش أثرا لا تمحوه الأيام، إذ هبت أنفاس الريح العاصف فأطارت غطاء رأس رجل من السابلة في وجه جوادي، فكر ثم فر، وتوثب مجفلا، وفي لحظة رعب وهول وجدتني أسقط عن صهوته، وما لبث أن غام الكون كله في عيني، ورحت لا أعي شيئا ...!
وبعد ساعات ثبت إلى نفسي فإذا أنا في ألم شديد والوجوه منحنية علي، والأصوات تتهامس حولي، ولم أدر ماذا جرى ولا أدركت إلى أين جيء بي، ولا حفلت بالبحث، بل كل ما كنت في حاجة إليه هو النوم ... النوم العميق ونسيان الألم الذي يفت في سائر أجزاء بدني.
ومضت أسابيع لست أستطيع اليوم على وصفها جلدا، فحسبي أن أقول إنني لبثت في المستشفى حتى ختام الشتاء، فلما خرجت مبلة مما أصابني، كان أصحاب المصنع قد ألحوا عليه في الرجوع، فانتظر حتى زال عني الخطر واطمأن، فلم يجد مفرا من العود فعاد، ولكنه كان على وشك الرجوع إلينا وكنت في لهفة على لقائه.
ففي ذات صبح ونحن جالستان أنا وأمي في حجرتنا نشتغل بتطريز ثوب جديد مضيت أقول لها: يا عجبا يا أم، كأنما كنت تتكلمين بلسان القدر، وها هو ذا الأمر سيقع كما كنت تريدين.
فنظرت إلي أمي حائرة وقالت: ماذا تعنين؟
قلت: أعني العرس ولا ريب، ولقد أردت أن يكون أوان ربيع، وها هو ذا القدر قد أرجأه إلى الربيع، فماذا تقولين؟
وإذا بي أرى الدمع يترقرق في عينيها، وانثنت تقول - ملقية الثوب من يدها ومطوقتي بذراعيها -: أي فتاتي العزيزة، لم يهن علي حتى الساعة أن أحدثك بما جرى، لأنك كنت واهية القوى، إنني أخشى أنك ستضطرين إلى ترك فكرة الزواج جملة واحدة، أو على الأقل لا ينبغي التفكير فيه حتى تكاشفي خطيبك بكل شيء.
قلت: من عجب كل شيء! ماذا تعنين يا أماه؟ ... أحالت بعد ذلك الحادث الحال، أم تنكر الزمان؟
فتلعثمت أمي قائلة: كلا يا ابنتي، لقد كانت أصابتك داخلية عندما سقطت من فوق صهوة الجواد، وكان لا بد من إجراء عملية جراحية عاجلة لنجاة حياتك من مخالب الموت، ولقد كانت عملية خطيرة، وكانت نتيجتها أنك لن تلدي إذا تزوجت أولادا، ولن تقع لك نعمة البنين.
أهذا إذن ما وقع، وكنت منه خلية الذهن؟ ...
ونهضت من مجلسي فمشيت متعثرة مترنحة إلى مخدعي، فاحتبست نفسي فيه، إذ أردت أن أخلو إلى التأمل والتفكير، ولبثت ساعة مستلقية على الفراش أجهد الذهن في تدبر أمري، فكان ينتهي بي في كل مرة مطاف التفكير إلى نتيجة واحدة، وهي أنني لا أستطيع تركه، وليس لي على فراقه يدان ...
لقد كنت أبدا أحب الأطفال، فقد كنت من طفولتي وحيدة في وحشة خلية من الأخ والأخت، فلا غرو إذا كان قد جاء مع فكرة الزواج الشوق الشديد إلى ولادة الولدان، ولذة تربية البنين، ولداننا نحن معا وبنينا سويا، وما أبدع خطيبي أبا، وما أروعه أن يروح بعد الزواج والدا، وكنت على يقين من أن شعوره من هذه الناحية لا يختلف عن شعوري، ولطالما رأيته حانيا على الأطفال، رحيما بالأفراخ الصغار، فلا يرى طفلا في ألم أو وليدا في بكاء، حتى يقف ليسأله ما به ويرقأ دمعه، ويمسح عبرته. وإذا كان ذلك ما سيرتقب مني فهل لي الحق في الزواج به وحرمانه تلك النعمة إلى الأبد؟ ولكن هل في استطاعتي وأنا أجمع الأضالع على هذا الحب العميق له أن أنزوي جانبا لأرى امرأة سواي شاغلة منه مكاني، لا لهفوة هفوتها، ولا لخطأ من صنع يدي، وإنما لحادث لم أستطع له ردا ...!
وحرت في أمري فأجمعت النية على أن أدعه يقطع فيه بالرأي الذي يراه، ونهضت في الحال فذهبت إلى حيث كانت أمي لا تزال جالسة تسائل نفسها: أتراها قد أخطأت في مكاشفتي أم أصابت؟ فقلت وأنا مقبلة عليها، متناولة في يدي يدها: أماه العزيزة، لقد انتويت أن أواجه الحقيقة، فإذا جاء غدا - وفي غد سيصل - فلينبئه أبي أو الطبيب بما جرى، فإذا ظل بعد علمه به يريدني لذات نفسي رضيت به، وإذا رفض فلا لوم عليه ولا تثريب ...
وعشت ليلتي تلك وغدي رهن قلق مستحوذ أليم.
وجاءني أخيرا ... فجمعني بين ذراعيه، وأمسكني مليا لصق صدره، وهمس يقول: أنت وحدك التي أطلب، وأنت مناي الذي أتمنى، أمدركة يا غالية، أنت وحدك، لا بالولد أحفل بجانبك ولا بالبنين ...
وبعد شهر من ذلك التاريخ تم الزواج، وكانت هدية العرس التي أتحفنا بها أبي، قطعة أرض فسيحة في ضاحية قريبة، فذهبنا من مطالع عهدنا الجديد نفرغ قصارى سعينا في بناء البيت والحائط وتجميله من الزهر والثمر بما شاء لنا الذوق الجميل ...
وهنأنا عيشنا في السنين الأولى من زواجنا، حتى خيل لي أن الغمامة التي كانت تنذرنا بأن تغيم في سماء عيشنا الهنيء قد قشعت.
ولكن في ذات يوم بينما كنت أبحث في بعض الحقائب إذ عثرت على صورة فتوغرافية لي يوم كنت طفلة في الحول الثاني فهرعت بها طافرة من الفرح إليه وكان جالسا إلى المنضدة يكتب، فألقيت الصورة أمام عينيه وقلت: انظر، أتتبين في هذه ظل زوجتك.
فجلس يتأملها طويلا وهو لا يحير جوابا، ثم ألقى يديه فجأة حول خصري وراح يدفن وجهه في طيات ثوبي وغمغم يقول وكتفاه يرعشان من فرط التأثر: أواه يا عزيزتي.
قلت جازعة: ماذا بك يا فاتني؟
فخلاني من ذراعيه، وأمسك برأسه بين كتفيه وأخذ يبكي ... ففهمت ... •••
وقضى أبي نحبه، وجاءت أمي لتعيش معنا.
وكنت قبل هذا العهد أصحب زوجي في رحلاته بين حين وحين، ولكني أدركت أن ذلك لم يعد ميسورا لأنني لا أستطيع ترك أمي وحدها.
وبدأ الانفصال بيننا لأول مرة منذ عهد الزواج، وإني لأذكر جلستنا على مطالع المساء السابق ليوم الفراق، فقد آوت أمي إلى مخدعها عقب العشاء، وراح هو يستلقي على جلد الدب بجانب الموقدة ويناشدني أن أغني له لحنا.
وكنا في عتمة المساء ولم نشأ أن نضيء الأنوار، فمشيت إلى المعزف وأنشأت أعزف وفراق الغد غالب على خاطري وأغني الأغنية الآتية:
ماذا أنت صانع يا حبيبي إذا أنا في غد ركبت البحر مفارقا. ماذا أنت في غد صانع إذا جاءت الأنباء من بعيد تحطم آنية الحب وتذهب من وقعها الأليم بالعهد، ألا لا تذكري ذلك ولا تتخيليه، فإنني على العهد باق، وعن الوفاء مسؤول، ولكن إذا قاسمني فؤادك مقاسم، وشاركني في حبك مشارك، فلن أطيق القسمة ولن أحتمل، فماذا أصنع يا حبيبي، وما أفعل يا فاتن الفؤاد ...
وتبين رنة الدموع في تضاعيف صوتي، فقام من استلقاءته فألقى يده على كتفي في حنان وقال: هذه أغنية محزنة في ليلتنا هذه، فغنيني قطعة مفرحة فذلك خير ...
فكفكفت عبراتي وغنيته ما شاء ...
وفي الغداة قبل أوان الفراق دس رزمة صغيرة في يدي وهمس قائلا: لئلا تنسيني.
ولما انصرف أخذتها إلى مخدعي ففتحتها فإذا هي علبة بديعة دقيقة من الذهب مرصعة بالجواهر ولها زنبرك تضغطه بأنملتك فينفتح الغطاء، فضغطته فإذا بوجهه الضاحك البسام يطالعني من جوفها في صورة دقيقة مركبة في أيقونة حلوة غالية، فوضعتها لصق قلبي حيث هي إلى اليوم ثلاثين عاما كاملة ...
وبدا شهر الغياب الذي غابه عني حلقة طويلة في عيني طول الأبد، وعاد أخيرا يحمل البشرى بأنه قد عين مديرا عاما للمصنع، وأنه لن يضطر بعد ذلك إلى السفر وإنما سيقتضيه المنصب الجديد الطواف بالفروع وإنشاء مركز للإدارة، ولكني قلت فرحة ضاحكة: على كل حال لن يفرقنا بعد اليوم سفر ولن نضرب بيننا نوى.
ولكن الأعوام الثلاثة التي تلت ذلك مضت وزوجي أكثر وقته في غياب، وأنا منه في فراق أليم، ولولا أن أمي كانت في مرض شديد لما ترددت في إغلاق البيت واللحاق بزوجي لأعيش في أكنافه وأتفيأ ظلاله الوارفة، ولم يلبث أن أقيم معرض عام لمتاجر المصنع فاحتجزه هذا المعرض عني الصيف كله، وقد تعب من العمل فآثر أن يقضي شهرا في مسارح الصيد، وقد ضرب هو وجماعة من الرفاق الخيام على مسيرة أميال عديدة من الحضر فلم يستطع أن يكتب، وغابت عني رسائله، ولكم بت ساهرة العين أرعى النجم وأفكر فيه وأخاف عليه أن ينتابه في تلك القفار سوء، ولكن تلك الفترة التي قضاها في الفلاة أجدت على صحته، فعاد ملفوح الوجه نشيطا أجمل من قبل.
وفي اليوم التالي اشتدت العلة بوالدتي، فألزمتها الفراش، وما كاد أسبوع ينقضي على رجوع زوجي إلى عمله حتى وافتها المنون فمضت في الذاهبين.
وكان رحيلها في سكون، فلم أشأ أن أزعج زوجي بنعيها وآثرت له الراحة وهدوء البال.
ولما قضيت للراحلة حقوقها، سرحت الخدم وأغلقت البيت لأنني أردت أن ألتمس منه الفرار، جازعة من ألم الوحشة، أحوج ما أكون إلى تبديل الهواء وطيب النقلة لكي يجيء في مختم الشهر كما كنت أرتقب وأنتظر، فيجدني رغم الحداد على أمي متهللة للقائه، موفورة العافية لمقدمه، فنعود إلى سالف عيشنا لا ننفصل آخر الدهر ولا نفترق.
ولكني كنت حيرى لا أدري أين المكان الصالح والموضع الطيب الذي يحسن الذهاب إليه، وتصفو عنده الحياة، ويستقر حوله السكون، فأستجم عنده من النشاط، وأسترد أعصابي المحطمة الواهية.
ولكني ما لبثت أن تذكرت فجأة موضعا حسنا أجد فيه كل ذلك، على ضفاف بحيرة حسناء، كنت في عهد الطفولة قد قضيت صيفا من العمر كان أهنأ أيام العيش وأرغدها وأجمل ما في الحداثة من ذكريات.
وما هي إلا أيام معدودات ألفيتني جالسة في سقيفة فندق يطل على أمواه البحيرة ويشرف على مشهد الطبيعة الباهرة، وكان سحر المكان قد أسكرني وبدا لي أفتن مما كنت أذكر له من فتون، وجلست ممسكة بكتاب أتطلع إلى الأولاد وهم يرتعون على الضفاف ويسبحون على صدر الماء، فعادت نفسي تهفو في أثر البنين وعاد بي الحنين كما كان منذ سنين.
وحملني الخيال على أن أختار من بين أولئك الصغار صغيرا وأدعوه بيني وبين نفسي طفلي وصغيري، وكان وليدا ما أحسبه تجاوز الحول الثالث بعد، وسرني أن لداته الصغار جعلوا ينادونه باسم زوجي العزيز.
وبينما أنا في أحلامي هذه وتخيلاتي، إذ دلفت نحوي سيدة تنصف بها العمر، فجلست بجانبي وكانت ثرثارة حلوة الثرثرة، تعرف من شؤون الناس أكثر مما يعرفون من شؤونها، فسألتها عن «طفلي الصغير» فانطلقت تقول: أتعنين الوليد ذا الفروع الصفراء كأنها من سبائك الذهب صيغت، ألا ترينه جميلا بديعا، تلك أمه الجالسة عن كثب منا، السيدة ذات المظلة الحمراء، إنها والله لا تزال في مراح الطفولة كوليدها وهم يجيؤون للمقام بهذا الموضع مرة كل عام، وهذه المرة هي الثالثة، وقد جاء أبوه العام المنصرم، فإذا هو رجل أغيد مليح، وهو بابنه هذا صب كلف، يحنو عليه الحنان كله.
ودق الجرس إلى موائد الطعام فدخلنا إليها جميعا، وجاء مجلسي بجانب السيدة ووليدها الصغير، فتجاذبنا الحديث وآنست كل واحدة منا إلى جليستها، وإن كانت هي حيية لا تطيل حديثا، وإنما تحنو على صغيرها لا يشغلها عنه شاغل.
ولما نهضنا عن الموائد دس الطفل يده في يدي واقترح أن يريني سمكات له صغارا في دلو على الشاطئ.
ولما سرنا إلى السمكات راح يقول في لثغة الأطفال: أنا أحبك وأنت لطيفة جميلة ...
ومن ذلك العهد أقبل علي بنفسه وأصبح أتبع لي من ظلي، وجعل يناديني أمي الأخرى، وأحسست له حبا عميقا هو هتاف الأمومة المكينة من غريزتي الحبيسة في صدري، لم تجد من قبل متنفسا ولم تر لتبعتها مغيضا.
قلت له مرة: أود لو أن أمك وهبتك لي.
فنظر إلي مليا وراح يفكر في صمت، ثم انثنى يقول: أخاف أن لا يرضى أبي إلا إذا أخذته هو كذلك.
وكأنما أعجبته هذه الفكرة، فمضى يصفق لها ويضحك ملء فمه قائلا: إنه سيأتي غدا فلتسأليه وستأخذني أمي إلى المحطة لاستقباله.
ولكن في غد لم يتح للصغير ما كان في أمسه يتمنى، إذ أصاب حجر في مخاض الماء قدمه فجرحها واحتجزه الجرح عن المسير.
فقلت لأمه: دعيه في رعايتي. ولما رأيتها تتردد توسلت إليها فرضيت شاكرة.
حقا لقد كان ذلك في الحياة يوما مشهودا، منذ مضيت وطفلي ساعات معدودات، أضاحكه وأسليه وأنسيه أبويه ووحشة الوليد إلى والديه، وأخذته ساعة النوم في أحضاني فجعلت أغني له أغنيات الطفولة حتى أخذ الكرى في رفق بمعاقد جفنيه.
وكانت أمه قد تركت مفتاح حجرتها معي، فقمت به لأرقده في مهاده، ولكني ما كدت أقف بعتبة بابها حتى جمدت في مكاني لا أستطيع حراكا، لقد أخذت عيني على المنضدة صورة زوجي في إطار مجمل.
ومشيت بالوليد إلى سريره، فأضجعته وغطيته بغطائه وأنا راعشة الأوصال، وانحنيت عليه فطبعت على وجنته قبلة راجفة!
وانتبهت إلى نفسي بعد لحظة فوجدتني جالسة فوق فراشي والعلبة الصغيرة التي ظلت لصق صدري كل ذلك الدهر الطوال مفتوحة بين يدي ... يا لله! ... ها هو ذا الوجه وجهه والصورة صورته! ...
رباه! ماذا عسيت أن أفعل، وهو عما قليل قادم، لا ينبغي أن يراني ولا ينبغي لمخلوق في العالم أن يعرف السر، أو يدرك الخافية. إن لي الحق الأول فيه ولكني أحمد لربي صنيعه أن أنساني حقي، وألهمني نسيانه، وأوحى إلي النزول عنه.
إن هذه العشيرة الصغيرة تعيش اليوم في رغد، ولو أنني حطمت آنية هذه الهناءة وهدمت هذا الفردوس الذي تنعم بأفيائه وخمائله، فما نفع ذلك لي وما جدواه، وما الذي عندي أحبو به الرجل الذي أحببته، فيقوم عنده مقام هذا الوليد البديع، والصغير الغالي.
ولم أشعر في فؤادي بحقد على زوجي أو ضغن أو غضب، فقد أدركت الدافع وعرفت الباعث.
وآذنت الخامسة وحان موعد وصول الوالد إلى وليده، فهرعت إلى مهد الطفل، فأيقظته في رفق وحنان وألبسته ثوبه، وكان يطفر ويتنزى كالعصفور الفرح على فننه، وتناولت مقصي الصغير فاقتطعت لي خصلة من سبائك شعره، وتركته على صفير القاطرة يتلفت هاربا إلى البهو يتطلع إلى القطار القادم غائبا عن حياتي إلى الأبد.
يا للطفل العزيز الجميل ... تراه اليوم قد نسي أمه الأخرى.
وانتبذت مكانا خفيا وسمعت صوت زوجي وهو يتلقى طفله مناديا إلى الأحضان يا زينة الحياة ...!
وتركت المدينة بقطع من الليل ... وآويت من ضجيج الحياة إلى منعزل هادئ صامت لا يعرف الناس فيه من خبري شيئا، وإلى اليوم لم يبق لي من الماضي أثرا من ذلك الزوج الذي ضحيت بالحياة كلها في سبيل هناءته.
تلك خصلة من شعر وليده الذي كان دهرا يناديني: يا أمي الأخرى ...!!
زحام على قبر
كان اليوم بديعا والأرض ترسل أنفاس العبير، والشمس تعدل إلى المغيب ملقية على الغبراء شعاعها الأحمر، حين وقفت على قبر إنسان كريم عزيز.
وفي تلك المقبرة التي تحوي أجداث الشهداء في حرب ماضية عادت الشمس والرياح وخبء السموات تصلح من الأرض ما أفسدته الحرب وتكسوها ثوبها القديم الناضر، وراحت تلك القبور تتراءى ساكنة هادئة تحت زرقة السماء التي اختلطت بضياء الشمس، كل منها يضم جنديا قضى فرحا مستبشرا، أو حزينا غير مستبشر في سبيل وطنه وعشيرته، وتحت دافع وطنيته. وبينها أجداث كتبت عليها أسماء الضاجعين تحتها في مراقد الأبد، وقبور غفل من الأسماء لا يدري الطائفون بها لمن تكون.
ومشيت ميممة الجانب الغربي من صفوف القبور، ثم انثنيت أمشي وئيدة متثاقلة الخطى إلى بهرة المقبرة، وانتزعت من بين أطواء ثوبي دفترا، فاستشرته وانكفأت أطلب المشرق وأنا أغمغم لنفسي قائلة: أخشى أن يكون قد أخطأ تعيين البقعة، ثم عدت أستشير خريطة صغيرة جئت بها معي ودفتري الذي في يدي وأخدت أعد القبور من الشرق إلى الشمال فما لبث نظري أن استقر على شاهد أبيض لا يختلف عن غيره من الشواهد البيض التي حوله، فمشيت نحوه قدما، وهناك ركعت في سكون وخشوع، فقرأت هذه الكلمات على الجدث: «الضابط ف ...، قتل في الموقعة في الثاني عشر من شهر سبتمبر عام ...».
ولعل القارئ متسائل من أكون وما جملة أمري، وما باعث منقلبي إلى تلك القبور أطوف بها؟ وجوابي أنني فتاة، لا بالفارعة العود ولا بالقصيرة، بل بين ذلك قواما، ذات شعر فاحم وعينين سوداوتين، والذين يعرفونني يقولون فتاة مليحة أوتيت في الحياة رزقا حسنا، وفي العيش توفيقا ورغدا، فتاة لم تألف مسارة أصحابها الفتيات بذات صدرها، ولم تعتد مكاشفة الناس بما يعتمل في فؤادها، وإنما كل سري وهماهم نفسي لا أبوح بها إلا لصديق يدعى ... ح ... كان رفيق ف ... في الحومة وعاد منها يحمل إلى سمعي كلماته في محتضره.
وكان حديثي عن صاحبه حديث أسى وأشجان وإيمان بحبه، ولطالما مضيت أقول إنني سأظل على عهده آخر الدهر، وأجمد على موثقي له الحياة كلها.
وكانت الخطبة قد تمت بيننا على أحسن ما تتم الخطبات بين المتحابين المؤتلفين اختار كل منهما صاحبه، واصطفاه لعيشه وشركته في حياته وأمره، والذي زاد في فرحنا بالخطبة أنها جاءت بديعة وليدة حب لا يعرف غير التفاني، وحنان لا يؤمن بغير التلاشي فيمن يحب والفناء.
وما كادت بضعة أشهر تنقضي على أعز فرحات الحياة حتى قامت الحرب والتحق بالجيش ومضى في الذين راحوا يهطعون إلى الميدان، وذهب كذلك صديقه وأعز صحبه عليه، وكنت أرى في عينيه بريق الإخلاص الطاهر العف الجليل للفتاة التي أحبها صديقه واختارها لنفسه، ولكنه لم يشأ أن يدع شيئا ينم عما في نفسه من الحب إلى مخافة أن يدفعه اليأس إلى تنغيص هناءة صاحبه وفتاته.
فلما وقفنا وقفة الوداع قبيل صفير القاطرة الراحلة بالجند، انثنيت إلى الصديق فأعطيته صفحة وجهي لقبلة الوداع، حنانا مني ورحمة، إذ لم تكن لي في الفتيات من صاحبة ولا خطيبة يتودع منها بالقبلات، رأيته يجمع قبضتيه ويغمغم كاشرا عن أسنانه وهو يقول في خفية: لا ينبغي أن يعود كلانا من الحومة حيا، وأدعو الله من أعماق فؤادي أن يكون هو العائد وأنا الذاهب لا رجعة لي ولا عودة.
والتزمني خطيبي فأمسك بي لصق فؤاده مليا وغمغم يقول: انتظريني أيتها الغالية، سأظل وفيا لحبك حتى أعود، وكنت أومن به وأعلم أنه لقسم عظيم وموثق لا نكث فيه ولا حنث.
ولما عاد ح ... وحده ذهبت إليه في لهفة أسأله أين ترك صاحبه، فعلمت ويا سوء ما علمت، لقد عاد الذي كان يود أن لا يعود، ولم يرجع الذي ود أن يرجع!
وطفق يتحدث عن شجاعة صاحبه وثباته وبسالته في الميدان، ويعود إلى الحديث غير متململ ولا ضجر، فأعلنته بنيتي قائلة: لن يملك فؤادي من بعده أحد ... فلما سمع كلمتي هذه امتقع وجهه، وساد سكون رهيب فلم يقل شيئا ...
وفي ذات يوم راح في جلال وحزن بليغ يشكو لي حبه الدائم لا يفنى، ووجده المقيم لا يموت، ويسألني أن أتقبله زوجا، فأبيت ولكن في رفق، وعادت بنا الخواطر إلى ف ... فانثنى يقول: إذا وجدت لي يوما حبا في فؤادك فعودي إلي فسأظل في انتظارك حتى تحين ساعتي، فإذا لم تعودي كنت أسعد وأهنأ لأنني أكون قد بقيت الدهر على حبك.
وانفرطت ستة أعوام.
وأحسست رغبة مستحوذة تدفعني إلى زيارة قبر خطيبي، فسافرت من يومي إلى مشهد أيام القتال وساحته، وفي المحطة قبل أن يقلني القطار وقف ح ... لوداعي فقال في لهفة ووجد كظيم: إنني منتظر ...!
ولكني بضحكة عصبية راعشة الرنين قلت له: ابحث لك عن فتاة غيري في غيبتي.
وتركته في مكانه مبهوتا حزينا واجما ...
وهكذا جئت من سفرتي إلى ذلك الموضع، ووقفت على قبر حبيبي لأقول له مرة أخرى ما قلته له في الحياة عن إيماني به وإخلاصي إليه، والوفاء الدائم لذكراه. وتراميت على القبر أبكيه وأبلل أحجاره بالعبرات والذراعان مشتبكتان محدقتان بشاهده، وأنشأت أقول: إنني على العهد باقية، إن الحياة بعدك قفر موحشة، ولا يفهم أحد ما بي ... أو يدرك ما أعاني. وسكت لحظة ثم عدت أغمغم قائلة: إلا صديقك وحده فهو الذي يشعر بحزني ويدرك لوعتي ...
وأهويت بفمي على القبر، فجعلت أقبله بحرارة، كأنما أحاول أن أرد الرجل الذي يتوسد تحته إلى الحياة وأنشره من قبره وأعيده إلى جانبي.
وأحسبني لبثت في موضعي بضع ساعات بين دموع وصلاة وتوسل إلى الله أن يعينني على المضي في حياتي وحيدة لا أنيس ولا صاحب.
وذهبت متعبة كليلة الروح، وانثنيت أترك المقبرة ، ولكني ما كدت أسير غير بعيد حتى شعرت بحنين إلى الرجوع لأتودع بآخر نظرة من قبره، فلما درت على عقبي، والعينان لا تزالان مبللتين بالدموع، غائمتين بسحائب العبرات، رأيت امرأة وصبيا يناهز السادسة راكعين أمام أحد القبور، وأيديهما مشتبكة اشتباكة الصلاة والترحم والدعاء، فدلفت منهما في سكينة ورفق وقلبي مفعم رثاء وعطفا على الأرملة والغلام اليتيم. وفيما أنا أقترب من قبر حبيبي، تبين لي أن المرأة والصبي راكعان أمام قبره بالذات، فتأملت لحظة ثوب الحداد الذي اشتملت المرأة به، وكان وجهها مدفونا في راحتيها، وبدا لي الصبي نظيفا حسن الثوب، فقلت في نفسي: إن هذه الأم ولا ريب أولى بها أن تفخر بطفلها الوسيم الجميل.
ومشيت إليهما فقلت للمرأة: معذرة يا سيدتي ... إذ خطر لي أن المرأة ربما لا تعرف القراءة فظنت أنها قد وقفت بالقبر الذي تريده.
فرفعت وجهها واختلجت في أعماق نفسي خالجة شديدة، إذ أدركت أنني قد وقفت حيال امرأة حسناء لم أشهد في حياتي أجمل منها ولا أملح، وبدا لي أن جميع أحزان الدنيا وأساها قد استقرت على معارفها لتطالع الناس منها أسطرها البليغة الناطقة.
ونهضت في رفق فكانت كل حركة من حركاتها جمالا رائعا وملاحة بادية، وتجلى حسن تركيب بدنها على رغم كثافة الثوب الأسود الذي أسبغ عليها، وراح حسنها الظاهر على وجهها يتكشف في كل حركة، وسكنة، وميلة، ونظرة، وكان يلوح عليها أنها متعلمة مهذبة على رغم رخص ثوبها، وكان وجهها أبيض ناصعا فزاد بياض الوجه من حمرة الشفتين، وكأنما اقتطع ذقنها وأنفها الدقيقان من المرمر، وراح شعرها الفاحم البراق مسترسلا على فوديها أبدع إطار لأجمل محيا، وكان حاجباها وأهدابها في سواد فحمة الليل تطل من تحتهما عينان متوسلتان شاكيتان تعلنان الدنيا بأحزانها ...
وقفت تنظر إلي لحظة، ثم ترنو إلى طفلها أخرى، وإذا ببريق باهر مؤثر قد التمع في عينيها، وأخيرا انثنت تجيبني قائلة: هل خاطبتني يا سيدتي؟
قلت: عجبت لوقوفك بهذا القبر.
فقالت بكل بساطة: إنه زوجي ...!
فتولاني الرعب ولكنه لم يطل أكثر من لحظة واحدة، إذ ابتسمت في حنان وإدراك ورثاء وقلت: ولكنه قبر الضابط ف ... وهو لم يتزوج قط قبل استشهاده!
قالت: وأنا زوجه، وهذا الغلام غلامنا.
وأبرقت العينان المفعمتان ألما بريق الفخار بالصبي، وقد وقف بجانبها وأمسك بيدها ونظر إلى وجهها بعينيه السوداوين الذكيتين.
وعندئذ خطفت بذاكرتي صورة شمسية لطفل صغير أرانيها ف ... في بعض أيامنا الرغيدة، وقال: هذه صورتي في طفولتي.
وتبينت قرابة الشبه بين الصورتين، فنظرت نظرة راعشة ورجف قلبي وتهدج صوتي إذ رحت أقول كأنما أناجي نفسي ولا أخاطب المرأة الواقفة حيالي: ولكن أيكون ذلك؟ ... لقد كان خطيبي، وكان آخر ما قال لي: سأظل وفيا لحبك.
فبدت في عينيها نظرة متوسلة مستصرخة مناشدة وصاحت تقول: أواه! أحق ما أرى ... أأنت إذن م ... يا سيدتي؟
فأطرقت إطراقة صامتة، وحبس الألم لساني فلم أستطع قولا، وفاض فيض الأسى على صدري، فوقفت مروعة مأخوذة لا أريم حراكا ...
واعطيته صفحة وجهي لقبلة الوداع حنانا مني ورحمة.
وجثت على الثرى، وتشبثت بطرف ثوبي وانطلقت تقول: أواه! اغفري له يا سيدتي، واصفحي عنه الصفح الجميل، فقد كان ذلك كله خطئي أنا واللائمة فيه لائمتي، فقد أقام في بيتنا قرابة شهرين قبل أن يدعى إلى خط النار، فأحببناه جميعا وما لبثنا أن أحسسنا أننا نعرف الفتاة التي ما فتئ يتحدث إلينا عنها، وقد شعر كل منا بميل إلى صاحبه، ولكنا حاولنا التباعد، وإمساك هذه العاطفة قبل أن تنمو وتتمادى، فتغلبنا على أمرنا، وما لبث أخواي أن ذهبا إلى الحومة، وجاءت امرأة من القرية فأقامت في البيت معي لنرعى الجنود ونقوم على خدمتهم، وفي يومين متعاقبين وردت ثلاث إشارات برقية تنعي إلينا عشيرتي أجمعين، ووجدني «ف» باكية منتحبة في معزل، فلم يستطع مجاهدة إرادته فتناولني في ذراعيه وضمني إلى صدره، فلم أقاوم ضمته، ولم أتملص من إمساكته، نعم، لم أفعل وإن خطرت لي صورتك الحلوة العذبة الفاتنة التي ظل يحملها فوق صدره ولصق فؤاده.
وأخيرا، انثنيت أقول له: و... م ... ما مصيرها؟
فعاجل فمي بقبلة وقال: أواه لها! إنني أحبها أكثر من الحياة، وأما أنت فأحبك أكثر من الشرف، تزوجيني يا غالية قبل أن أهطع إلى ساحة القتال. فما كان مني أنا الضعيفة المحزونة إلا أن استسلمت وتقبلت واستكنت إلى الاحتواءة في ذراعيه.
وتم الزواج بيننا في يومنا، وتلاه أسبوعان انفرطا في الفردوس، وانصرما في جنة الأرض، وما لبث أن دعي إلى الحومة. وفي ليلة الوداع مضى يقول لي: إنني أحبك، وأحبها كذلك، لقد حنثت بموثقي لها، وعصيت داعي الوفاء للحب، ولبيت فيك داعي الشرف، فاضرعي إلى الله أن يلهمنا من أمرنا هذا رشدا.
وانطلق إلى الساحة، وأجاب الله صلاتي فقضى الذي أحببناه معا ولم ألقه منذ ساعة الوداع الخير.
وتحفزت في جثوتها، ورفعت رأسها رفعة الجلال والكبرياء وقالت: إنني أسألك الصفح عنه ولا أسأل عن ذنبي صفحا ...
ووقفت في مكاني لا أبغي حركا، راجفة الأوصال، عصية المنطق.
وخطفت عيناها ببريق باهر، واسترسلت تقول: أنت في عيش ناضر في بلدك، وحال راغدة بين قومك، أما نحن هنا ففي فقر شديد وأسى بالغ، وأنت موفورة الصحة مكتملة العافية، أما أنا فمريضة بعلة القلب من أثر صدمة أصابتني حتى أضحيت لا أستطيع القيام على تربية ولدي، ونحن نقتر على أنفسنا ونحتمل الخصاصة، وأنت الناعمة الرافلة تنفقين من المال غير باخلة على النفس ولا مقترة، ولكن لا تحسبي في فؤادي حقدا عليك، ولا أنا عليك نافسة، وإنما كل الذي أرجو إليك هو أن تصفحي عنه وتغفري له ما فرط من ذنبه.
وامتدت يداها المتعبتان من طول الكدح في البيت والعمل للرزق، في توسل وضراعة، ثم نهضت فمشت في رفق منصرفة.
ووقفت جامدة الحركات بضع لحظات، ثم مشيت منصرفة في وجهي ورحت أنظر إلى هذين المخلوقين الحزينين التعسين اللذين تقدماني على الطريق، بعين عمياء يغشاها سحاب الدموع وغاشية الهم والأسى.
أواه ...
لقد سقط معبودي عن تمثاله، وهوى من أوجه العالي، فقد حنث بيمينه، ولم يخلص لي في حبه.
وعاودتني هذه الخواطر فلم تترك في نفسي حنانا ولا إثارة من رحمة، وإنما بقي في فؤادي شمم جريح ويأس ممض، وإذا بالعبرات تكف من مدمعي على خدي الشاحبين، وإذا عاطفة الصفح، والإيمان والحب، قد فاضت في أعماق نفسي ثجاجة فوارة مندفعة، فأسرعت الخطى ثم عدوت ألاحق المرأة وابنها ورحت أناديها: لقد صفحت، وألتمس منك المغفرة لما فرط من قسوتي وغلظة فؤادي!!
فالتفتت نحوي مجفلة، ثم وثب إلى عينيها بريق فرح متلألئ، وتلاه ظل ألم بليغ مستفيض فغام عليه وحجبه، ورفعت يدها إلى فؤادها كأنما تمسك دقه وتهدئ من خفقه، ورأى صبيها هذه الحركة منها، وكان قد اعتاد رؤيتها من قبل وأدرك ما يعقبها فعدا مطلقا ساقيه للريح ليستدعي امرأة قروية قريبة من الموضع.
وما كاد الغلام يبتعد حتى ترنحت أمه وكادت تسقط إلى الأرض لو لم أعاجلها فأسندها إلى ذراعي. فزفرت زفرة مستطيلة وقالت بصوت متقطع النبرات: لقد دنت الخاتمة، فأناشدك الله أن تأخذي الصغير إلى ملجأ اليتامى من بعدي، فقد مات أهلنا ونحن اليوم وحيدان من الدنيا، لا أقارب لنا ولا أصحاب ولا مال.
فأومأت برأسي ثم أكببت عليها فهمست أقول: أيهنؤك الرحيل إذا علمت أنني آخذته معي إلى بيتي فقائمة عنك بتربيته ... هذا موثقي لك وعهدي!
ولكني لم أسمع جوابا، وإنما رأيت سمات السكينة والفرح والطمأنينة قد شاعت في وجهها الحزين الأليم، ومحياها الساجي سجوة الغم والأسى ...
وأغمضت عينيها آخر عهدهما بنور هذا العالم!
وكان الصبي قد وصل في تلك اللحظة مع المرأة القروية فاحتملت الراحلة إلى كوخها الصغير العاري الأجرد مما في بيوت الناس من متاع.
لقد ذهبت لتلقى زوجها في السماء.
ومشيت منكفئة إلى القبر فحنوت حياله خاشعة مشتبكة اليدين، ساكنة العين والفؤاد، وقلت في رفق أناجي الضاجع نداء خفيا: لقد صفحت ... لقد عفوت ...
وانتبهت من غشيتي على مواقع أقدام صغيرة دقيقة، وإذا الصبي واقف على رأسي وهو يقول في جلال وجد: هنا أبي يرقد، لقد كان شجاعا، وكانت أمي تحبه، فهل أنت التي كان يتكلم عنها كثيرا، لقد سمعت أمي الساعة تناديك كذلك، فإن كنتها حقا أحببتك كما كان أبي يحبك، أنا مثل أبي، وأمي تقول أنا به شبيه فخذي عني حبه، نعم، إنني أحبك يا حبيبة أبي وصديقته ...
ووقف يتمسح بثوبي وينحني على وجهي بوجهه.
قلت والعبرات تخنقني: وأنا أحبك كذلك، كما أحببت أباك من قبل وأمك، والآن يا طفلي العزيز، وصورة أبيك الغالي، سنذهب لنعيش معا، ونعود إلى بلدنا وإلى صديقنا ح ... الولي الحميم ...
هتاف الأمومة
ألم تنظر يوما إلى مشهد ما كان لك أن تشهده، وتلقي العين على شيء ما كان يدور بخلدك أنك يوما عليه ملقيها، كابتسامة طفل نائم يخيل إليك أنها ابتسام السكون وضحكة العالم المجهول الذي لا حد له؟ أو كانبثاق أول خيوط الفجر على صفحة البحيرة وأمواهها الساكنية الصافية ... نعم، ألم تأخذ يوما عينك مشاهد تستدر الشؤون وترسل الدمع من العين صيبا منهمرا، وتثير في فؤادك إحساسا غامضا جليلا، نصفه دهشة، ونصفه ألم؟ ...
إذا وقع لك في الحياة شيء من ذلك، فأنت إذن مستطيع أن تتصور مبلغ ما خالجني من الإحساس، يوم رأيت حنان الأمومة الملهوف البليغ في صمته، الرائع في صورته ومقتبله، على وجه السيدة «ب»، فقد رحت أتمثل في الخاطر مشهدا جرى على السنين، وتمادى مع الأعوام، سنين سادت خلالها في فؤاد الأم لهفة الأمومة، وأعوام نما فيها مع الوليد حنان الوالدة، أعوام مضت فيها تلك الأرملة الشابة التي مات عنها بعلها في الأشهر الأولى من مولد طفلها، تمسك بذلك الوجه الدقيق الندي الجميل، وشعره الفاحم المنتثر تفاريق في جلدة رأسه، فتضمه إلى صدرها، وترضعه أفاويق لبانها، ثم أعوام أخرى ذهبت خلالها تداور خيباتها، وتتناسى مناكد عيشها، وتتعلل بعذب الأمل، واعدة نفسها، أن الأرض وما حوت من خير ووفر وهناءة ورغد، ستكون غدا لوليدها يتقلب فيها حيث يشاء.
وأكبر ظني أنها كانت عن طواعية تخوض الجحيم، وعن رضى تصطبر لأشد العذاب في تلك السنوات الأولى من عهد الطفولة، إذا كان في خوض الجحيم والاصطبار لعذاب الحريق ما يعينها على أن تاتي بما لا تستطيع أم أن تأتي به لإرضاء طفلها، وما يسعفها على أن تقرب من يديه المتطاولتين ما يلتهف عليه، ويبكي لطلبه، فوالله لقد كانت في كل ذلك أشبه شيء بكلب مخلص أمين حيال سيده المتغير المتقلب، تفرح لفرحه، وتبكي لبكاه، وتأسى على أساه، وتأخذ من نفسها لنفسه، وهي معه أبدا في حالتي بؤسه ونعماه.
وكذلك هي الأمومة عند بعض الأمهات، تأتي مستحوذة غالية، فتتلاشى الأم في الولد، وتتفانى الروح كلها في فلذة الكبد، ومشهد أمومة كهذه والله أليم، ومرأى حنان كهذا الحنان يستثير الرحمة ويروع الخاطر والوجدان. •••
وكان مجلسهما أبدا قبالتي على مائدة الطعام في البيت الذي نزلنا به لمسكن وطعام، هو في ممتشق قده، وفينان عوده، كأنه صورة «أبو للون»، رب الشمس عند اليونان، وهي في مسحة من جمال دائل، وإثارة من حسن ذابل، وزرقة عينين نسطع فيهما حينا نظرة الأمومة المدهشة المبهوتة إذ تشهد أن ولدها قد عاد الفتى المديد العود، الملفوح الوجه، المفعم البدن صحة وقوة وبأسا، وقد أراه وهو يروح ويغدو، ويجيء وينصرف، خفيف الحركة، بادي النشاط، منفرج الخطو، منسرح المشية، وأمه تتبعه النظر، وترسل العين في إثره، وتلم به قبل أن يلم بها، وتدانيه وهو قادم من بعيد عليها.
لقد جاهدت لأجله أعوام الحاجة، وغالبت أيام الفاقة، وناضلت عهد طفولته البأساء، وكانت يومذاك تكدح لرزقها ورزقه، خياطة مأجورة في متجر للأزياء، حتى أضحت كبيرة الحائكات فيه.
وأخذت نفسها بالقصد في النفقة، حتى اجتمع لها من المال ما استعانته لتكفل لولدها من العلم والتربية والتحصيل ما يصيب الشباب في أهل طبقتها من المجتمع. ولما أراد ولدها أن يسلك نفسه في أحد الأندية الخاصة خلال أيام دراسته، راحت تدأب وتواصل العمل ليل نهار حتى استجابت لأمنيته، وذللت له مطلبه.
ولا تحسبن الفتى مؤثرا ذاته، متناسيا حق أمه عليه، أنانيا لا يحفل بغير مناعم عيشه وأطايب الحياة يؤتاها غير مسؤول ولا طالب ...
كلا، بل لقد كانت أمه تتكتم عليه دأبها، وتذهب ترتهن بقية ما أبقى الدهر من غاليها ونفيسها، لتوافيه بكل بهيج، وتحبوه بكل حباء طيب جميل، وما أحسبه كان راضيا عن خطتها لو أنه كان بها عليما، ولكنه كان فيما يرى من استخفاف الشباب لا يكرثه السؤال عن الوسيلة، ولا البحث عن شيء يطلبه فيجده، من أين جاء وكيف تحقق. وكان يفزع أبدا إلى أمه كلما خاب أمل، ويركن إليها كلما استبطأ رجاء، وهو عليم أنها لو استطاعت أن تحرك الجبال الرواسي من مستقرها، وتبلغ يدها السماء وأفقها في سبيل التوفية بحاجته والرجوع بطلبته لما ترددت ولا تأخرت. وبفضل سعيها المحمود، ونفوذها المسموع، ما لبث أصحاب الحانوت أن رضوا عنه وأرضوه لجمال وجهه وشدة فتونه، ومظهره الحسن الرائع الأخاذ، وتبديه في الحانوت خير عنوان لحسن الأدب، وخدمة المشترين. وكان أبدا مسرة العين وفرحة الناظر، فإذا خرج من المتجر ساعة الظهيرة للغداء خفقت قلوب كثيرات من النساء لمشهده ودارت نحوه الأعين والأبصار مأخوذة بجمال مطلعه، وكانت عيناه ترنوان أبدا بنظرة استخفاف بالحياة ومنزع إلى الهوى والعبث، ولكنهما لا تخلوان من نظرة الصدق والطهر والنقاء، وذلك أثر أدب أمه وعنايتها بتهذيبه من حداثته. وكانت أمه في تلك الأعوام الأولى من عهد نموه واقتبال شبابه، قد بعثته إلي لأمتحن فهمه لأسرار الحياة وأخبر إدراكه للحقائق.
وكنت رجلا عرك الدهر، وذاق في الحياة الحلو والمر، فرحت أبصره بها وأفتح عينه لوهادها السحيقة، فكان يفزع إلي بطلب النصيحة، ويقبل علي بدافع الغريزة، يلتمس عندي الرأي وحسن المشورة.
وفي تلك الأحاديث والخلوات إليه جعلت أتبين فعل مغناطيسية نفسه، وأشعر بمبلغ امتلاكه للقلوب، وصنع سحره في الأفئدة.
وكان السخط على هذا العمل الهين الذي أصابه في الحياة، يتسلل حينا إلى حديثه، ويغلب حينا على أنغام صوته ونبرات لهجته، وكنت وأنا جالس في حجرتي، أسمع نتفا من حديث الأم وولدها، يحملها الهواء إلى مسمعي من باب البهو أو النوافذ المفتحة؛ إذ كانت حجرتي لصق حجرتهما، فكنت أتبين من سقاط ذلك الحديث ولثيثه، أن الفتى غير راض بقسمته، ملتهف على إتيان الفعال الجسام، متبرم بالعيش، متململ من أن الحياة لم تبشر له ناهزة، ولم تلق بفرصها المؤاتية في طريقه.
ولكن أكبر ظني أن ذلك الشاب على رغم سخطاته العارضة على الحياة وشكاته كان على الدهر سيرتضي الحياة كما هي، وينزل على حكم المقادير وما قدرت، لو لم تعرض له في ذلك الصيف فتاة كان أبوها الجراح الكبير الطائر الذكر بجانب يساره الموروث، ولشبه الطائل، وكانت دارهما قصرا بديعا يأخذ العين جماله، وهو مرتاد الصفوة المختارة من أهل المدينة ومختلف وجوهها وعيونها الظاهرة.
وبتلك الحرية التي تسود نفوس أهل هذا الجيل، وتقرب بين شباب هذا العصر كان هو وهي من أفراد ندوة واحدة، وأعضاء رفقة مشتركة، وما لبث الناس أن رأوهما أكثر وقتهما مختلطين، يمشيان إلى نزهة، أو يعودان من طوفة، أو يجلسان معا إلى حفل، أو يرقصان في المجمع، هي بمرهف قدها وبهي جمالها، وهو الفارع الأغيد الوسيم.
ولم يكن يخفى على أحد فعل الحب، فقد كان يبدو للعين الصب المستهام، ولكم شهدت الحب والألم يعتركان في نظرات عينيه السوداوين.
وكانت الفتاة كذلك تغالب عاطفتها وهي تعلم أنه ليس من طبقتها، وتجاهد الحب عن فؤادها وهي مدركة أن لا أمل من وراء حبه وحبها، أما هو فكان يناضل ويغالب في سبيل سعادته، وهناءة عيشه، كدأب الشباب في النضال، وديدنهم في المجاهدة والغلاب، بتلك الفلسفة التي آمنوا بها ولما يؤمن بها المجتمع، وهي أن الحب لا يعرف طبقات، بل يسوي بين الدرجات ويتخطى الحواحز العقبات.
ولست أشك في أن أبويها سيدللان لها على حماقة الزواج بفتى رقيق الحال، يشغل مكانا مهينا في متجر.
وأضنى الجهاد العاشق والعاشقة، وجعل الحب والهيام والتوق واللهف تتدفق وتفيض على محيا الفتى كلما نظر إلى الحسناء الهيفاء البديعة «ل ...» بعينيها النجلاوين، وفمها العقيق الدقيق المرتسم، تلك الفتاة الغواءة المشغوفة باللهو والمراح، المستخفة بتقاليد طبقتها، بل ذلك النوع من النساء اللاتي يدفعن الرجال إلى الجنون بهن غير عامدات ولا متجانفات لغواية مدبرة، وخطة مرسومة.
ويخيل لي أنه كان يجاهد في سبيل امتلاكها بذلك السلاح المرهف الذي ما إن يزال الشباب يجاهد به ويناضل من أول الدهر، وبداية الخليقة، بل هو ذلك الحب الطاغية الجبار المستميت المستبسل يبدو حينا رهيبا في مشهده، جليلا في مبتداه ومطالعه.
وساقني الاتفاق الغريب في ذات ليلة إلى مطعم فخم أنيق في المدينة، هو مغشى الشباب ومختلف السروات، لأتناول طعام العشاء فيه، فإذا المكان غاص بالناس، والعذارى الحسان في أنضر الثياب، رائحات غاديات بين الموائد والصفوف، وقد ارتفعت الأصوات، وتعالت الأحاديث، واستطال التهامس بين العاشقين والعاشقات.
وبين طنين الهمس والحديث، طرق سمعي فجأة صوت رقيق حلو النغم مفعم نشدانا وتوسلا وعتبا، ولقد راح يقول: لسنا نستطيع أن نمضي أيها العزيز على ما نحن فيه ماضيان، فنحن أكثر ليلنا ونهارنا مجتمعان، وأهلي وغير أهلي قد أخذوا يتحدثون أحاديث غريبة شاذة عنا.
وسمعت صوت رجل يجيب، فإذا هو الفتى المتكلم المتحدث، وقد اندفع يتكلم بلهجة المستهتر الساخر، وقد أفلتت منه ضحكة قصيرة عجلى خاطفة، وكنت أعرف تلك الضحكة والنظرة التي تصحبها، ضحكة مستخفة ساخرة تخالطها قسوة.
قال: وهل تحفلين بما يقولون؟ وماذا يقولون؟ هلا نبئتني بأقاويلهم.
فمضت الفتاة عاثرة في منطقها تقول: إنهم يشيعون أنني تخليت عن الطبيب «ف»، وأننا خطيبان قد تمت بيننا الخطبة، وأنت تعلم يا عزيزي أنني سأتزوج به، وقد نبأتك بذلك من قبل، فهو صديق لأبي حميم، وقد تعاقدا على الخطبة في العام المنصرم، فأولى بنا أن نكف وأخلق بنا أن نزدجر، فإننا والله ظالمان لنفسينا، بل كل لصاحبه ظالم!
وبدت على وجهه الناحل أثر الشهوة المسرفة.
فراح الفتى يناديها قائلا: لو كنت حقا تحبينني ما جلست الساعة تنبئينني بأنك غدا متزوجة برجل آخر ... أواه! أنت تحبينني، وقد كاشفتني بالحب، والآن تريدين هجري ظلما وغدرا!
فسمعتها تتوسل إليه قائلة: دعنا ننهي الأمر اليوم ونقطع فيه برأي فاصل، نعم، لنكف عما نحن فيه من الساعة وإن كان ذلك موحشا أليما قاسيا! ولكنه والله خير من إيلام نفسينا وأهون ألما ...
فلم أستطع أن أسمع إذ ذاك ما غمغم به صوته واضطرب به منطقه، وأنا منصرف من المطعم في عجلة وقد اختلست نظرة إلى وجهه المكفهر، وعينيه المنكستين المفعمتين كمدا وألما.
حقا لقد كان كل يحب صاحبه بكل قوى حياته، وكل وجدان نفسه، ولو أن فتاة أضعف منها كانت في مكانها لما استطاعت أن تقاوم حبه الطاغية الأخاذ المتغلب.
ولكنها بيديها القويتين، يديها اللتين جعلتا بعض الأحايين ترعشان على قوتهما وترتجفان، كانت ممسكة بأعنة العاطفة تحاول كبح جماحها، اتقاء الاسترسال مع الحب، والذهاب أبعد المذاهب في الهوى، حيث النسيان والنزق وحماقة الصبا. ولا عجب فإن فتاة مثلها، أوتيت تهذيبها وأدبها ورعاية أبويها، وأحيطت بالحب والنصيحة والإخلاص من جميع جهاتها، وأدركت جنة صاحبها بها، لا يعقل منها أن تثب الوثبة الخطرة، غير مقدرة مواقع خطوها، ولا حافلة بما يكلفها ذلك من ثمن.
وأكبر ظني أنه صحبها في ذلك المساء إلى دارها فكان وداعا، لا لقاء بعده ولا اجتماع؛ لأنني سمعت صوته في حجرته وقد آذنت التاسعة وهو يتحدث إلى أمه حديث فؤاده، فقد مضى يتسخط على الحياة عامة، وعلى أغاليظ المجتمع وأكاذيب الدنيا واحتفال أهلها بالمال والحسب والنسب، وذهب في منتحب وسخط يقول لها: إنها والله لدنيا كاذبة، وعالم سافل منكر، يريد من الفتى أن يهب الفتاة التي ملكت عليه لبه في بداية أمرهما، ومهد حبهما، ما لم يستطعه أبوها إلا على فترة من السنين وحقبة طويلة من الأعوام.
وسكت لحظة وهو مطلق للدمع فيضه، ثم عاد يقول: ألا اعلمي يا أماه أنني لا أطيق صبرا، ولن أحتمل عنها تخليا ولها تركا، إنها ملك فؤادي وهي بذلك عليمة خبيرة، يا عجبا لها كيف تسول لها النفس تركي؟ وأي قلب قد من صخر قلبها! إنها تحبني ولا تجد للرجل الآخر حبا، ثم تأبى إلا أن تدعني للحب يحطمني! فخير والله أن أراها في الهالكين، ثم لا أراها لذلك الرجل زوجا، بل لخير أن نموت معا، فما نفع العيش إلى الثلاثين أو مرد التعمير إلى الخمسين، وقد تحطم الأمل، وتفتح في شغاف القلب جرح غير مندمل!
وسمعته ينشج وينتحب نشيج رجل ونحيبه، وإنه والله لنشيج مخيف! ونحيب كأنه زمجرة الوحش المعذب.
وطرق أذني صوت أمه وهي تؤاسيه وتحاول تخفيف الهم عنه، ثم ساد سكون ... ولكني لم ألبث أن عدت أسمع وقع قدميه وهو من الحجرة منصرف، وطرقت أذني بعد ذلك حركة أمه وهي تخطو في الحجرة ذهابا وجيئة، فبدأت خطى مترددات خفاف الوقع، ثم أخذت تسرع وتشتد، ثم تلاها سكون طويل وصمت مطلق ...
وفي صبيحة اليوم التالي، وافانا الفتى وحده إلى مائدة الفطور لم تحضر والدته، وكان وجهه ممتقعا، وعيناه متكسرتين متعبتين واتخذ إلى الخوان مجلسه صامتا، وأقبل على طعامه واجما، ولكنه ما عتم أن التفت إلي قائلا - وقد اجتذب ساعته من جيبه فتطلع إليها - عجبي لغيبة أمي! فقد ظننتها قبل مجيئي قد وافتكم إلى المائدة، فخير لي إذن أن أناديها.
ونهض عن المائدة فمشى إلى حجراتهما ولكنه لم يطل الغياب، بل عاد يقول: إنني من أمرها لفي عجب! إن باب مخدعها موصد، وعهدي بها لا تغير نظام عيشها قبل أن تخبرني بما تنتوي، وتنبئني بما عليه نجمع الرأي.
فمضيت معه إلى الباب فعالجناه، فإذا هو لا يزال موصدا، فرحت أقول في سكينة مجاهدة مصطنعة وإن كان فؤادي خافقا واجما: أخشى أن تكون مريضة، فيحسن أن نقتحم عليها الباب.
وأنت أيها القارئ فلتسم إحساسي في تلك اللحظة نبوءة الوجدان، أو فلتدعه هاتفا من هواتف النفس: أيا ما تدعوه؟ فقد شعرت بما نحن عما قليل واجداه خلف الباب الموصد.
كانت عيناها مغمضتين كأنها في نوم هادئ، وكان وجهها ساكنا وإن لم يخل من أثر الضنى والجهد الأليم، فكأنه نوم النائم الحزين يلتمس في الغمض بلسم النسيان.
وبهت الفتى مما رأى وغشي الخطب القادح على لبه، فلم يصدق عينيه.
وقضيت طيلة هذا النهار بجانبه أواسيه وهو ينتحب ويرسل حشاشة نفسه دمعا سخينا على هذه الكارثة المباغتة الداهمة.
وفي أصيل ذلك اليوم جاءته الفتاة تشاطره الأسى، ولكن عناقاتها وكلمات الرثاء اللينة العذبة من فمها لم تذهب بحزنه، ولا وقعت في ذلك المجلس موقعها الماضي من حبة فؤاده، وقضى اليوم يلهج بذكر فضل أمه الراحلة، ويرسل في مديحها كلمات حارة لطالما كانت في الحياة تتوق لسماع طرف منها، وقد أدهشني من الفتى إدراكه فضل تلك الأم الرؤوم عليه، وعرفانه تضحياتها وحبها العميم المكين له ... ولكنه راح يسأل نفسه ويسألني سحابة ذلك اليوم المحزن الأليم: ليت شعري لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلته؟ لماذا ختمت الحياة على هذا النحو؟
وكان الجواب يحترق في حنايا فؤادي، ويزدحم في خاطري يريد خروجا، ولكني أمسكت فلم أقل شيئا ...
وبذلك الحنان الذي أبدته تلك الأم في الحياة قد القت في يد ابنها بموتها تعويضا عن خسارته ... خمسة الآف من الجنيهات، فذلك هو القدر الذي كانت مؤمنة به على حياتها، فقضت لكي يكون هذا المال من بعدها حقه ينعم به.
وضرب الدهر بيننا، فرأيته بعد بضعة أعوام فإذا هو لا يزال في ريع الشباب، ولكن عينيه السوداوين قد أنطفأ منهما ذلك البريق السني، الذي كان يشع منهما قديما في نظرات بريئة صراح، وبدت على وجهه الناحل أثر الشهوة المسرفة على نفسها المتحاربة من ميادينها الفسيحة المترامية، فقد بدد ذلك المال كله ومضى يختلط بأهل الشر، ويركب للشهوات كل مركب ...
إن أمه بتلك التضحية المجنونة الجسور قد أبعدت إلى الأبد من منال يده أمله الأكبر، ذلك الأمل الذي بذلت من أجله حياتها وعصارة نفسها؛ إذ لم تكد توسد الثرى حتى أخذت ألسنة السوء تشيع في المدينة أنها قد ضحت بنفسها ليصيب ابنها بموتها مبلغ التأمين على حياتها، ويصيب مع التأمين الهناءة والرغد. وسمعت الفتاة تلك بالقالة، فكأنما نهض بينها وبينه منذ ذلك اليوم جدار شاهق، وسد منيع لن يزول إلى الأبد.
وتزوجت «ب» الطبيب الذي خطبها، وكان آخر عهدي بها في المدينة منذ أعوام، فإذا في عينيها نظرة أليمة، ورنوة متكسرة هي أثر من أسى قديم هيهات أن يزول من الفؤاد، أو تمحو الأيام منه ذلك الأثر ...!
زوج طاغية
بنفس متعبة، وبدن مجهد ضعيف، وقفت في مطبخ داري أهيئ العشاء والشمس تعدل إلى المغيب، وما لبثت أن سمعت مواقع قدم صغيرة آتية نحوي، وما لبث أن دخل ولدنا الكبير فؤاد خائفا وجلا يصيح: إنه قادم يا أماه! ... فاضطربت من هذا النذير وأخذت أنظر إلى وجهه الناحل وعينيه المسكينتين وفمه الدقيق الحساس، وأنا أغالب النفس أمنعها أن تنظر أو تتألم لما تنظر ...
قلت في عجلة: وأين أختاك «سميحة وسوسنة»؟ قال: هما آتيتان بالبقرات من الحقل يا أماه، وقد تأخرنا في الرجوع لأن «سوسنة» تشكو عثرة أليمة أصابت قدمها.
قلت: وهل علفت أنت وأخوك الأغنام وسقيتها؟ قال: نعم يا أمي لقد فعلنا، وقد ذهب ليحضر الوقود والحطب وأنا ماض لأعينه عليه، وإنما جئت اللحظة لكي أنبهك يا أم إلى أن أبانا قد حضر.
قلت: أسرع يا بني وجئ بالدلو ممتلئا، فأنت تعرف غضبة أبيك كلما رأى الدلو فارغا.
وأخذت أعدو وأروح في المطبخ مسرعة لهفة أعد العشاء جاعلة من يدي الاثنتين أربعا، وإذا بطفلي الصغير سعد الذي لم يعد الحول الثاني قد جاء من فناء البيت باكيا صائحا، وكان قد جرح إصبعه فأبكاه الألم ولعب النعاس بعينيه، ووقف يقول: جوعان يا ماما.
قلت: لا بكاء أيها العزيز، وستأخذك أمك إليها إذا فرغت من تجهيز العشاء.
فعاد يصيح ويتململ.
وسمعت وقع أقدام دانية ... فهمست للوليد أقول: سكوتا، ها هو ذا بابا قادم إلى البيت فخير لك أن تكف عن البكاء فإن بابا لا يحب أن يسمع صوتك باكيا، فكف الوليد عن العويل مرة واحدة وإن ظلت شفتاه تختلجان وتضطربان، وارتفع صوت أجش خشن النبرات عند الباب يقول: ألم ينته تجهيز العشاء بعد؟
فأخرجت الصينية من الفرن بسرعة وقلت: ها هو ذا قد تهيأ ... فزمجر وأرعد قائلا: وأين كنت إلى الآن، وفيما قضيت هذا الأصيل يا لكاع؟ وها هو ذا الليل قد أقبل، وعلام كان هذا الخنزير باكيا؟
قلت خائفة: لا شيء ما به من سوء، وإنما جرح إصبعه.
قال: عليه السوء إن لم يكف عن «زنه» الدائم وبكائه المقيم لا ينقطع، أسامع هذا يا ملعون؟
ولكن الطفل أخذ (يزوم) ويبكي بكائا صامتا، فتألم له فؤادي وخفق؛ إذ خشيت أن يسوطه أبوه إذا لم يكف، وتذكرت آخر مرة علاه بالسوط ولم أستطع عنه دفاعا أو أن أحميه من سوطه.
قلت - لألهيه عن الوليد -: ها هو ذا العشاء قد تهيأ.
فتولى منصرفا كاشرا، وما كاد ينصرف عن المطبخ حتى تناولت الوليد في أحضاني وهمست له أقول وأنا ألتقط صندوقا صغيرا من فوق الرف: خذ هذا الزبيب واسكت، فاحتجز الوليد عبرته المختنقة ومد يده إلى الزبيب فملأت حفنته منه وأجلسته فوق مقعد بجانب المائدة.
وكان الطعام قد صف فوق الخوان، فجلس زوجي إليه، وتسلل الصبيان إلى مقعديهما من المائدة وهما يختلسان النظر في رعب ووجل إلى أبيهما. وكان فؤاد قبل الذهاب إلى الخوان قد مر بالمطبخ، فسألني في همس: أغضبان هو اليوم؟
قلت: لا أدري، أحسبه في بعض الغضب، اذهب فإن العشاء قد وجب.
وأخذت سعيدا الوليد في حجري فجلست إلى المائدة.
وقطب زوجي حاجبيه الغزيرين وقال: ما لي لا أرى «سميحة» و«سوسنة» على المائدة؟ أين ذهبتا؟ فوجمنا جميعا، وبدا الرعب على الصبيين، ولم يحر أحد منا جوابا. فعاد يزمجر قائلا: لم لا تجيبون؟ أعدتم صما بكما لا تسمعون ولا تنطقون؟
قلت: إنهما قادمتان بعد لحظة ... عندما يفرغان من حلب البقرات. فسكت وانثنى يأكل في صمت، وما لبثت الصبيتان أن دخلتا فاحتلتا مقعديهما المعتادين منكستي الطرف خائفتين، وما عتم أن ترك الأكل هنيهة ونظر إليهما قائلا: لماذا تأخرتما في حلب البقرات اليوم؟ فوقفت اللقمة في حلق سميحة وتلعثمت قائلة: لقد آذت «سوسنة» قدمها فلم نستطع أن نعود بالبقرات مسرعتين، فاضطربت المسكينة ووجلت وازدردت لقمتها في ألم وقالت: عثرت رجلي ... فالتوت ... قال: حقا سأنظر فيما قلت، وإن وجدتك كاذبة فوالله ... ولم يتم وعيده وإنما راح يثأرها بنظره الحاد. فامتقع محياها ورجفت شفتاها واضطربت اللقمة في يدها، وفي تلك اللحظة أحدث سعد الصغير على المائدة حادثا فجائيا، وكان المسكين لا يزال في الحول السادس، وقد حل عليه التعب وأثقل النعاس رأسه فأصابت المائدة وحطم القدح، فوثب أبوه من مجلسه متنمرا، ووجدتني أنا كذلك قد نهضت، ورحت أتوسل إليه وأتشفع قائلة، وأنا أدور حول المائدة لأمنعه من الإمساك بالصبي: إنه لم يقصد. ولكنه دفعني عنه دفعة ردتني إلى الجدار متراجعة وهو يصيح بي مرعدا: إليك عني، ودعيني أعرف شغلي! ووثب على الطفل فهزه من فوق كرسيه ومد يده إلى عصا معلقة فوق الجدار وسحب المسكين إلى خارج الحجرة وهو يصيح به: سأعلمك أدبا غير هذا الأدب، وأحرمك تحطيم الأكواب والأقداح أيها الخنزير القذر. ورأى الفلاحان الأجيران ما جرى فأسرعا في الأكل وخرجا هاربين. واحتملت الوليد النائم من فوق حجري فأضجعته في فراشه وعدت إلى المطبخ لغسل الأطباق وأنا لا أزال أسمع صيحات الصبي من ألم الضرب، وكان دمعي قد نضب من زمان طويل، فلم أعد أشعر من هذه المشاهدة المتكررة صباح مساء بشيء غير خفقان شديد وهزة عصبية أليمة!
وفي تلك الليلة، وقد آوى الجميع إلى المراقد، تسللت من جانب زوجي وهو نائم يغط، فدببت إلى حجرة ولدي فألفيته لا يزال يبكي ويئن في مضجعه، فرقدت بجانبه وجمعته في أحضاني، فلصق الصبي بي وأخذ يبكي بكاء يقطع الأكباد. قلت: صمتا يا بني وإلا سمعك. فازداد نحيبا وجعل يقول: ولكني لم أفعل شيئا. قلت: دع البكاء يا بني لكي أقص عليك أحدوثة (الفتاة الذهبية الشعر والدببة الثلاث). ولبثت معه حتى نام وعدت إلى مضجعي وما كدت أضع رأسي فوق الوسادة حتى شعرت بيد تهزني وسمعت صوت زوجي وهو يصيح بي: ألم يأن لك أن تصحي؟ فنهضت متعبة ضعيفة الأوصال فذهبت إلى المطبخ وما لبثت البنتان أن جاءتا تسألان: هل قلت له يا أماه؟ وكنا قد اتفقنا فيما بيننا أن أتشجع فأستأذنه في الذهاب إلى البندر لعرض أمر صحتي على الطبيب؛ إذ كنت أشكو ألما شديدا في جنبي الأيسر ... وقد علمت أن طبيبا جديدا قد نزل بالمدينة وتسامع الناس بحذقه ونطسه، وكان الأولاد في لهفة على الذهاب إذا أذن أبوهم - لما في ذلك من مسرة مشاهدة المدينة والخلاص يوما من طغيانه - فقلت للصبيتين: لم أفعل بعد. ووعدتهما أن أفاتحه عقب الفراغ من فطوره. وانتظرت حتى هم بالنهوض عن المائدة فقلت خائفة مترددة: هل تسمح بأن أذهب أنا والأطفال إلى البندر غدا؟ قال: وعلام تريدين ذهابا؟ قلت واجفة: إن جنبي الأيسر في ألم شديد، وأريد أن أذهب إلى الطبيب. فقال مرعدا مبرقا: ما شاء الله! هذا ما كنت أنتظر، إن في هذه المسالة إذن رجلا! أتريدين رؤية الطبيب الجديد؟ ذلك عذرك القديم وحجتك كلما أردت على الرجال ظهورا! كلا، لا يمكن أن تذهبي غدا.
ولوى عني عنقه وانصرف، وعدت إلى الأولاد أحمل إليهم نبأ رفضه، فتلقوه صامتين واجمين، ولكنه صمت الخيبة ووجوم الحزانى البائسين. وكان يومنا يوم الغسيل فاجتمع الأولاد له ليتولى كل منه نصيبه، وجعل سعد الوليد يجري على قدر ما تحمله ساقاه الصغيرتان معطلا الأولاد عن أعمالهم وهو يحسب أنه معينهم. وفيما نحن في شغل بالغسيل وغلي الثياب إذ حضر زوجي فجأة حوالي الضحى فقال: إننا نقيم سورا حول الغيط القبلي فجهزي لنا في الحال غداء وركب منصرفا.
فلم أكد أخلو إلى الأولاد حتى ألقيت الغسيل جانبا وصحت أقول في سخطة البائس الضجر: رباه! ما العمل الآن وقد زحمنا الغسيل اليوم ولم نفرغ لغدائه!
ونهضنا جميعا لنهيئ طعاما وذهبت العجلة بصوابنا، فلم نكد نصنع شيئا حتى عاد يطلب الغداء. قال: هل انتهى؟ قلت: بل كاد. فمضى يرسل صيبا من شتائمه ونذره. وانتهى الغداء فحزمناه له وتناوله لاعنا ساخطا وتولى ذاهبا يرعد ويقصف.
وتهالكنا جميعا بعد ذهابه على المقاعد لنملك أنفاسنا الصاعدة الراجعة، وانثنت الصبية «سميحة» المتمردة الثائرة تقول: يا للشيطان إنه لوحش كاسر! فلم يعترض أحد عليها فيما قالت، ولم يقل أحد: قد أخطات! ونظر «الصغير» إلى وجهي في إشراقة وجه المؤمل وقال: هل سيغيب عن البيت النهار طوله؟
قلت: لعله. ففرح الأطفال وتهللت أساريرهم.
وفي اليوم التالي بينما كنت أنثر الماء رشاشا على الثياب المغسولة استعدادا لكيها، إذ دخل علي زوجي فقال في لهجة المزمجر الساخر: لقد مضى عليك وقت طويل تهرفين فيه بسيرة الذهاب إلى البندر، فهلمي تأهبي للذهاب الآن وعجلي. ففرحت بهذا النبأ المباغت وإن آلمني أنه جاء على غرة فلم أهيئ للأولاد ثيابهم. وكان ذلك دأب زوجي، كلما أراد شيئا زحمني به، وأخذني في غفلة الغافل، وذهبت الصبيتان لشد الحصانين إلى العجلة وخرج إليهما أبوهما فرأى «سميحة» قد أسرجت الفرس البيضاء فصاح بها قائلا: ما الذي أوحى إليك أيتها الخرقاء أن تشدي هذه الفرس العرجاء الجريح إلى العجلة، على حين قلت لك: شدي الحصان الأشقر؟ حقا ما رأيت امرأة عنيدة مذهوبة اللب مثلك، ورفع كفه فلطمها لطمة عنيفة على خدها وزمجر قائلا: ارددي هذه الفرس إلى المربط وامكثي في البيت اليوم لا تذهبين معهم. وسمع الأولاد النبأ فذهب عنهم الفرح بالفسحة وتهيأنا بعد قليل لركوب العجلة ووقفت المسكينة ممسكة بالأعنة، وصاح زوجي بنا: أريد منكم أن تعودوا إلى هنا الثانية عشرة، أسامعة ما أقول يا امرأة؟ فهززت رأسي هزة الإيجاب، وأنشأت أقول مضطربة المنطق واجفة: وأجرة الطبيب كيف أدفعها؟ فدس يده في جيبه وأرعد قائلا: تريدين نقودا؟ يا للعنة! لا تفتأين تطلبين نقودا، ها هو ذا نصف جنيه وهي أجرة الطبيب القديم في البندر، فخير لك أن تذهبي إليه وإن كنت أعرف أنك تبتغين إلى الجديد ذهابا. وتناولت المبلغ مترددة وقلت: ولكن أحسب الأولاد قد يحتاجون إلى شيء من الحلوى. فألقى بضعة قروش إلى الصبي الكبير وقال: هاك هاك يا فؤاد فأنت العاقل الأوحد بين هؤلاء الحمقى المجانين.
وأمسكت بالأعنة وبدأت العجلة تتحرك فصاح مناديا: قفوا قليلا، والتفت إلى الصبية فقال: اطلعي معهم وعليك اللعنة. ولكن الصبية تذمرت قائلة: ولكن لا أستطيع أن أذهب هكذا يا أبت. وكانت حافية القدمين في ثوب ناصل اللون ممزق ابتذلته في خدمة البيت، فصاح بها ثانية: اطلعي قلت لك يا فاجرة. وفيما كانت الصبية تتسلق إلى العجلة قلت: يا إلهي! لقد نسيت قائمة البقول والأصناف التي نريد أن نجيء بها معنا من البقال في البندر. فبدأ يسخط ويلعن وقال: وأين هي؟ قلت: لا عليك سأنزل لإحضارها. وانطلقت عادية إلى البيت ثم عدت بعد لحظة وسارت بنا المركبة ...
وكانت المدينة منا على مسيرة عشرة أميال، وكان حتما لزاما علينا وقد خرجنا على دقة الثامنة أن نقطع الشقة خببا إذا أردنا أن نعود في الثانية عشرة كما وعد وأنذر. وقد قدرت على هذا الحساب أن الذهاب والأوبة سيستغرقان من هذه المهلة الضيقة ثلاث ساعات ونصف ساعة، ولن يبقى أمامنا لرؤية الطبيب وفسحة الأولاد في البندر والتعريج على البقال غير دقائق معدودات.
وراح الأولاد يختلفون على خير الوجوه لتضييع النقود، فمن قائل: نشتري ملبنا، ومن قائلة: ملبسا، وانثنت سميحة الناصحة العملية تقول: سأشتري بحصتي منه لبانا أمضغه فذلك أطول متعة وأكثر لذة ومكثا.
ولما ابتعدت بنا العجلة عن القرية أوقفت الجوادين وأطلعت من تحت ثوبي فستان سميحة وحذاءها وجوربها، فلم يكد الأولاد يرونها حتى هللوا وصفقوا.
وانثنت سميحة من فرح تقول: إذن لم تنسي يا أماه كشف البقال، وإنما تلك حيلة لطيفة لتعودي بثوبي، فشكرا لك يا أم ... شكرا.
وأخذ الأطفال على الطريق في لغوهم وفاكة حديثهم، ولكني لم أكن إلى لغوهم ملقية سمعي، فقد عادت بي الخواطر إلى ذكرى طفولتي الرغيدة الناعمة في أكناف أبي الناعم العيش الموفق، فمضيت أوازن بين طفولتي وطفولة هؤلاء الصغار المساكين أفلاذ كبدي، فتذكرت أن سميحة أدركت سن العذارى وبدأت تستقبل مطالع الشباب، تذكرت أنها قد صارت ابنة أربعة عشر ثم لم تدخل مدرسة ولم تجد من حسن التأديب والعناية ما تجده الأتراب الشبيهات بها المثيلات، وكانت «سوسنة» في الحادية عشرة ومن شهدها ثم منع الفؤاد أن يحبها؟ فقد كانت في الصبيات الحسناء الحنون الوادعة.
وكان فؤاد لا يزال ابن ثمانية، وكان أحبهم جميعا إلى فؤادي، إذ كان أكثرهم مواساة لي وترضية، ولو كان أبي شهد سعدا ابن السادسة، سعدا الشجاع القوي، لأحبه وأكبره، ولكن أبواي ماتا قبل أن يرياني زوجا لذلك الرجل، وحمدا لله إذ لم ينسأ في أجليهما ليشهداني في شقوتي الحاضرة.
وبلغنا المدينة فتركت الأولاد في حانوت البدال، ومضيت إلى الطبيب، وفيما كنت أصعد السلم إلى طبقاته وددت لو أنني لم أجئ إليه ومضيت إلى الطبيب الجديد الذي يلهج الناس بحذقه ونطسه، وما كدت أقف ببابه حتى علمت أنه غائب عن عيادته ولن يعود قبل الأصيل، فتولاني اليأس وكبر علي أن أعود إلى القرية ولم ألتمس طبيبا، فخطر لي أن أذهب إلى الآخر ففعلت، وكان الدكتور رجلا مكتهلا صادق القول رحيما وإن قست حقائقه، فراح يقول في بعض ما قال: دعيني يا سيدتي أسر إليك الحق غير موارب، إن هذا الألم الذي تشعرين به هو من قلبك، إن قلبك في أسوأ حال، فقد أجهد إجهادا شديدا طيلة السنين والأيام.
فوجمت ولم أقل شيئا.
قال: أراك لم تفهمي الأمر جليا، إنني إذا كنت قد قلت لك أن قلبك مجهد واهن فقد أردت أن تعلمي أن أيامك في الحياة أصبحت معدودات، ومن العبث أن أشرح لك ذلك بلغة الطب ومصطلحات الأطباء، وإنما حسبي أن أقول لك: إذا كان لك أمر تريدين إنجازه فبادري إليه، وإن كان لك أقرباء تريدين لقاءهم فخير لك أن تبعثي في طلبهم.
فحملقت إليه البصر مبهوتة واجمة ثم انثنيت أقول: أتعني بهذا أيها الطبيب أنني على الرحيل موشكة؟
فتولى الرجل عني ليخفي ألمه.
وما لبث أن عاد يقول في حنان ورفق: إن خير شيء أفعل هو أن أصارحك الحق يا سيدتي، فاعلمي إذن أنك إذا لم تجهدي البدن ولم تتأثري بعوامل قاهرة غالبة فقد تعيشين شهرا آخر، فإذا جاوزته إلى خمسة أسابيع كان ذلك إحدى المعجزات، أما الحياة بعد الأسابيع الخمسة فذلك ضرب من المستحيل، ونذيري إليك أن قلبك إذا هاجته هائجة من خوف أو حزن أو مسرة أو فرح، فلن يلبث أن ينطفئ كما تنطفئ ذبالة المصباح الذي نفد زيته.
قلت كأنما أحدث نفسي ذاهلة شاردة اللب: أربعة أسابيع؟!
قال: هلا جلست هنا قليلا حتى أعود إليك؟
ومضى إلى الحجرة الأخرى وبقيت وحدي.
يا لله! ما كان أعجب المشاعر المتضاربة التي جالت في نفسي، ولكن لم ألبث أن أحسست خاطرا شديد السلطان قد تملكني، وهو ... إذا كنت للحياة عما قليل مودعة، فلا حاجة بي إلى الخوف من زوجي بعد اليوم، والخشية من جبروته وطغيانه، ما دمت بعد أيام معدودة مفارقته متخلصة من وحشيته وبغيه وعدوانه.
يا لله! لقد بدا بين عيني صغيرا ضئيلا لا يخاف شره، ولا يؤبه بأذاه وضره.
ونهضت من مجلسي فوقفت إلى المرآة أتطلع إلى وجهي ...
وا حزناه! أذلك وجه امرأة في الثامنة والثلاثين! أم تلك الثياب الناصلة اللون بزة صالحة لزوجة رجل رب مزرعة حسنة الغلة، درارة الرزق؟
لقد كان أولى بي من زمان بعيد أن أكون رافلة في المطارف وأن يكون أولادي سعداء ينعمون بكل مباهج الحياة وأطايب العيش. فما لبثت في موقفي أن رحت أناجي النفس قائلة: لم يعد لي في الحياة غير أربعة أسابيع أو قرابتها فلن أتطامن خلالها لمذلة، ولن أصبر على سوء، ولن أدع الأولاد أشقياء أذلاء مساكين، يملأ الخوف من أبيهم أفئدتهم الصغار الوادعة، وماذا هو بي صانع إن خرجت على طغيانه وشققت الطاعة عليه؟ أقاتلي هو؟ وما شأن أيام تزيد أو أيام تنقص؟ ...
وعاد الطبيب بزجاجة، فقال: هذه الزجاجة تحوي دواء يخفف الألم إذا أمض حينا وأوجع.
فتناولتها ودفعت الأجر وانصرفت.
ولما عدت إلى الأولاد أحاطوا بي متوثبين متحدثين في نفس واحد مسائلين: ماذا قال الطبيب ووصف؟
فأريتهم الدواء وكتمتهم الخبر، وما نفع القول وما مرده، وهم صغار لا يدركون شيئا؟
واها للمساكين! لقد هجم الدمع في عيني عندما طاف بهم ناظري واستعرضهم البصر، أربعة أسابيع معهم ثم أرحل عنهم آخر الدهر وأحقاب الأبد! إذن لا بد لهم من أعوام الشقاء والبأساء والخوف والألم!
وهالني قصر المهلة في تلك اللحظة، فخطر لي أن أبدأ من تلك الساعة وأعجل.
قلت فجاة: ماذا أنتم صانعون إذا قيل لكم اللحظة ستبقون في المدينة النهار كله؟
فبهتوا وتبادلوا النظر واجمين، وأقبل بعضهم على بعض يتسائلون: ولكن كيف نستطيع ذلك يا أماه؟ إنه ولا ريب سيغضب وينالنا بسوء وقد ينالك يا أم كذلك.
قلت: لا عليكم، فلنبق اليوم في المدينة مرحين.
فتهللت منهم الأسارير وقالوا: لا بأس يا أمنا، وإنما ينبغي أن نريح الحصانين.
قلت: نعم ونجيء لهم بعلف صالح.
وتذكرت أننا بحاجة إلى نقود إذا أردنا في البندر مكثا.
فتركت الأولاد مع المركبة ومضيت إلى المصرف الذي كان زوجي يعامله ووقفت حيال العامل المنشغل بما في يديه من العمل خافقة الفؤاد أسائل النفس: أتراهم سيقبلون دفع شيء من حساب زوجي إذا طلبت؟ أم تراه نبههم إلى رفض الدفع إلى أحد غيره؟
ولكني ما عتمت أن استجمعت جأشي فتناولت شيكا أبيض فطلبت خمسة جنيهات وأمضيته.
وكان العامل يعرفني وطالما شهدني مع زوجي في المصرف لتوقيع أوراق أراد أن أوقعها، فتناول الرجل الشيك متلطفا مترفقا فأجال فيه عينه، ثم دفع القدر المطلوب بلا تعليق ولا اعتراض البتة. وتناولت المبلغ ذاهلة كمن هو في حلم وانصرفت. وكانت تلك هي أول مرة منذ زواجنا ويقع في يدي أكثر من جنيه واحد، وعجبت لنفسي كيف كان الحصول على المال سهلا، ثم لم أفكر فيه طول السنين الماضية!
ووافيت الأولاد فقلت: لنتناول طعامنا أولا في خير مطاعم المدينة.
فنظر الأطفال إلى وجهي غير مصدقين ولا مدركين شيئا، وكأنما عجبوا ما بالي قد تغيرت هكذا ولم أعد أحسب لأبيهم الجبار حسابا؟
قلت: هيا ليختر كل منكم أبدع طعمة يقترح.
فقالت «سوسنة»: أريد جبنا، وصاح «سعد»: وأنا موزا، وطلبت «سميحة» سردينا، واختار فؤاد تفاحا.
فكان ما طلبوا ...
ولما فرغنا من الطعام طفنا بالحوانيت أبتغي لكل واحد منهم هدية، ثم قلت لهم - بعد اقتناء التحف المختلفة -: تعالوا أيضا نشهد الصور المتحركة، فوجموا وعقلت الدهشة ألسنتهم ولم يكونوا قد رأوا الصور المتحركة من قبل، فجلسوا ينظرون إليها متلذذين حائرين ...!
وكان مساء عندما ركبنا عائدين إلى القرية، ولم أحمل على الجوادين، بل تركت العجلة تمضي في رفق، فقد مضيت عدة سنين لم أشهد فيها الشمس في المغيب، ولم أمتع العين برؤية القمر بازغا، وفيما كنا ندنو من القرية تذكر الأولاد أنهم عما قليل مواجهون أباهم فانزووا في مجالسهم من العجلة خائفين.
وكانت التاسعة لما وقفت بنا المركبة فإذا به منتظر أوبتنا لدى الباب، فأجفلت لمرآه في موقفه لأنني كنت قد نسيته كل النسيان.
قال: ما شاء الله! حقا إنه لوقت بديع فيه تعودون، أين قضيتم هذه الفترة المتطاولة؟ ألا تعرفون أنني سأعود من العمل عشاء لأجد طعاما فلا أجده؟ اللعنة عليكم.
وراح يمطرنا وابلا من سبابه ولعناته.
ووقف الأطفال ينظرون إلينا مبهوتين جازعين.
قلت عابثة مفاكهة: هراء ما تقول، أنت لم تعمل شيئا كثيرا سحابة نهارك وعندك الأجيران يتوليان العمل عنك، أفيؤودك أن تصنع عشاءك بنفسك ولو مرة في العمر!
ولو أن السماء خرت عليه في تلك اللحظة لكان ذلك عليه أهون، فقد شك لهذه المفاجأة الجريئة، فوقف يحملق في وجهي البصر معقول اللسان، وقبل أن يستجمع لبه الذاهب كنت قد جمعت ما جئت به معي في المركبة ومشيت بالأولاد إلى البيت.
ومددت يدي إلى محجر عينه ودفعت إصبعي فيه.
فانفجر قائلا: أنت مجنونة! مجنونة ولا شك. يا عجبا! ما سمعت هراء كهذا في حياتي. تريدين أن تمرحي في البنادر وترتعي وتبددي مالي ونشبي وتعلمي أولادي ليكونوا غدا لصوصا وسفلة مشردين مجرمين؟ ولا مليم أنت مصيبة، أسمعت نذيري؟ نعم، لن تنالي مني شيئا، ولئن لم يسمع أولادك ما آمرهم به لأرجمنهم ولأصلبنهم في جذوع الشجر، وإذا لم تنتبهي لنفسك وتأخذي بالحكمة والعقل في مسلكك فسيصيبك غدا ما هو مصيبهم.
ونظرت إليه في تلك اللحظة وهو كالمجنون الراعد الراعش، فلم ألق بالا إلى ثورته وغضبه، وكأنما وهبني الله في تلك اللحظة قوة من لدنه فمضيت أقول: لقد كان لي خمسة آلاف جنيه يوم الزواج بك، ذلك مال تركه لي أبي، ولقد مضى علي ستة عشر عاما وأنا أتوسل إليك، وأستندي كفك لكل درهم أنفقه، وكل قليل ضئيل أحتاج إليه، وما أذكر أني أصبت منك في كل هذا الدهر الطويل غير دراهم معدودات، ولكني اليوم عاملة على أن أسترد بعض ما وهبت، ولست أسألك أكثره، وإنما فضلة منه أريد، ولقد أردت أن أدع لك الفرصة لتظهر شيئا من رجولتك فأبيت إلا أن تسلك مسلك الجبناء، فعلى رأسك إذن فلتقع التبعة، ولتحمل إصر ما جنيت.
ولويت عنه نحري وانطلقت وهو يذرع الفناء ساخطا صائحا متنمرا يقول: إذا خرجت اليوم من البيت وذهبت إلى المدينة، قتلتك كما يقتل الكلب العقور المسعور.
ومضى إلى حصانه فاعتلاه وترك للريح ساقيه. •••
ولما بلغنا المدينة تركت الأولاد يلعبون ومضيت إلى المصرف فسألتهم بيانا عن حساب زوجي ووقفت خافقة الفؤاد أنتظر، ولما تناولت الحساب وألقيت عليه نظري لم أكد أصدق ما أرى ... ألفان وخمسمئة!
وكنت بالأمس أستنديه نصف جنيه للطبيب أجرا ...!
فتولاني الغضب وأخذ الغيظ بنحري ووددت لو أضع يدي على ذلك القدر كله، ولكني عدت إلى نفسي فكتبت صكا بألف فقط، وذلك خمس ما كان لي يوم المقترن به.
ونظر الصيرف إلى الصك نظرة المستريب المتردد ثم قال: إن هذا المبلغ كبير، والأفضل أن تقابلي المدير، فمشيت في إثره.
ولما علم المدير الخبر تطلع إلي قائلا: أمتاكدة يا سيدتي أن زوجك يريد سحب هذا المبلغ كله اليوم؟ معذرة عن سؤالنا هذا وتدقيقنا.
قلت في أتم سكينة: نعم، يريده لسداد دين استحق الوفاء.
قال: إذن لا بأس، اصرفه لها، شكرا يا سيدتي، وعذرا ...
وتناولت الأوراق حيرى لا أدري أين أخفيها ... ولكن ما لبث خاطري أن عاد بي إلى رجل كبير محام مدره حاذق كان صديقا لأبي، فذهبت إليه ونفضت له جملة الخبر. فأقرني على ما فعلت، وشدد عزمتي وألهم روحي الإقدام، فأودعت لديه نصف المال لكل ولد منه مائة، ووضعت أربعمئة في غلاف وكتبت اسمي عليه، ودسست المائة الباقية في حقيبتي، وانطلقت إلى الأولاد مسرعة، فأخذتهم إلى مطعم فخم أنيق حيث أكلوا واستمرأوا الصحاف المختلفة الألوان، ولما خرجنا من المطعم قلت: هلموا بنا نطوف الحوانيت مستقضين، فهللت «سوسنة» وفرحت «سميحة» وطرب وانثنى «سعد » يقول: بل خير لنا لو أننا ذهبنا إلى الصور المتحركة، فاحتجت الصبيتان على هذا المقترح وصاحتا: بل الحوانيت لنبتاع ما يروقنا، قلت: ليذهب الصبيان إلى السينما ولنذهب نحن إلى الحوانيت، فهل تعدنا يا «فؤاد» أنك راع أخاك الصغير «سعدا» إذا تركناكم هناك، فطفر الغلام من الفرح وبرعاية أخيه وعد، فذهبنا بهم إلى دار الصور فأجلسناهم في أماكنهم ورجعنا إلى المدينة نلتمس المتاجر، فاخترت منها أفخم متجر للثياب فدخلناه وجعلنا نقلب الثياب حتى راق الصبيتين آخر البحث والتقليب ثوبان بديعان نفيسان فابتعتهما لهما، واقتنيت كذلك ثيابا لردئة المدرسة وهما ذاهلتان فرحتان بما ابتاعتا من نفيس وحسن. وعدنا إلى الصبيين فأخذناهما بدورهما إلى الحوانيت لفرجة وشراء، وفيما نحن خارجون من باب المتجر لقينا زوجي وجها لوجه، فجمد الأولاد في أماكنهم، ورأيت وجهه تعلوه فترة وفيه لون الغضب. قال: اركبوا العجلة إلى البيت فإني سائطكم وملهبكم بالعصا أجمعين. ووثب إلى صهوة حصانه ومضى، فأنشأت «سوسنة» تقول خائفة: ماذا ترينه سيفعل بنا يا أماه؟ وقال «فؤاد» وما العمل يا أمنا؟ قلت: لا عليكم يا بني ولا خوف ولا رهق، ألست أمكم، أليس لي من الخطر والشأن ما لأبيكم؟ قالوا جميعا: ولكن كيف نستطيع الذهاب إلى البيت وعلينا هذه الثياب الحسنة والمطارف ونحن نخشى عليها أن تفسد في العجلة؟ ففكرت في الأمر مليا، وما عتمت أن رحت أسائل نفسي: علام الرجوع في تلك العجلة القديمة القذرة بعد اليوم؟ ألم يكف أن ركبناها ستة عشر عاما كاملا؟ إن إنسانا لم يعد له في الحياة إلا أربعة أسابيع - بل ثلاثة ونصف - فإن النصف الآخر انقضى - لأولى به أن يكون أحسن ركبة من هذا وأفضل مستقلا، وفيم حرصي على البقية من المال التي أودعتها لدى ذلك الشيخ الصديق إن لم أنفقها في نعمة ومتاع طيب؟
فذهبت إليه من لحظتي وقلت له: إنني سأذهب لأبتاع سيارة، فامتدح الشيخ الفكرة ومضينا معا إلى مخزن للسيارات قريب، فاشترينا واحدة بثمن معتدل، وما كاد الأصيل يجيء حتى دربني القوم على سوق السيارة ، فركبناها إلى البيت والأولاد من الفرح بها ذاهلون عن خوف أبيهم وخشية لقائه. وبعد العشاء ذهبت بهم إلى المضاجع باكرين، وظل زوجي على المائدة صامتا، ولما مضيت إلى المطبخ جاء ورائي فقال محتدما: تعالي هنا. وكنت في الأيام القلائل الفارطة لم أعد أستشعر منه خوفا، ولكني في تلك اللحظة خفت منه خيفتي الماضية، وانطلق هو يهز قبضة يده في وجهي صائحا: هيا احزمي ثيابك. ورأى مني في تلك اللحظة انزواءتي منه فترك للغضب سبيله وعاد يصيح: احزمي ثيابك يا فاجرة فلن يحتويك البيت بعد اليوم. قلت: والأولاد، واختنق صوتي فأمسكت، فمشى يريد حجرتهم. فوثبت من مكاني فعدوت في إثره، قلت: ماذا تريد أن تفعل؟ فالتفت إلي مزمجرا فقال: ما لك ولما أريد أن أفعل؟ سأسيطهم حتى أهرأ بالسوط أبدانهم. وأدار الأكرة فألفى الباب موصدا، فأمسك بكرسي ومشى يريد تحطيمه، ولكن ما كدت أسمع صوت الضربة الأولى حتى عاودتني شجاعتي في خطفة البرق وفي غضبة المجنون الثائر، وسمعت دويا في أذني ورأيت العالم قد استحال في ناظري بلون النجيع الأحمر! فوثبت إليه فأمسكت بالكرسي قبل أن يهوي بالضربة الثانية. وزأر هو صائحا: إنني قاتلك أيتها الشقية ... فتماسكنا بالمقعد ولست أدري حتى الساعة أين لي بكل تلك القوة التي أحسستها في تلك الساعة. وانتشب بيننا عراك عنيف، وجعل يهوي بلكماته ويهزني هزا، ورحت أخدشه وأركله وألعنه وأغيب أسناني في لحمه، وعدت في لحظة وحشا كاسرا ضاريا، ورأيت ثغرة أمامي فمددت إليها يدي فإذا هي محجر عينه فدفعت أصابعي فيه، وما لبث أن سادني ظلام دامس واستولت علي غشية غاشية ... •••
ولما فتحت عيني ألفيتني طريحة على فراش في مستشفى والطبيب مكب علي والممرضة مشرفة، فأغمضت العين ثانية وعدت أهبط سباتا عميقا ...
وتتالت الأسابيع، وأقبل مع الطبيب طبيب طار في الآفاق بالنطس ذكره. فتوليا فحصي ودققا الفحص جهدهما، وطلع علي في ذات يوم - وقد أخذت أبل من مرضي - الطبيب بالبشرى.
قال: إن زميله رأى أنني مع الرعاية والفراغ من الهم والخلاء من المتاعب ستطول بي الحياة وأعمر.
وفي أصيل اليوم التالي صحوت من إغفاءتي فرأيت زوجي واقفا عن كثب من مضجعي.
ولم أدر كم طال بي موقفه، وإنما كذلك وقف خاشعا محزونا يكاد يلوح أشيب حطمته الأعوام.
قال في رفق وحنان: كيف تجدينك اليوم؟
قلت: أخف حالا ولله الحمد.
فمشى إلى مرقدي فأهوى على يدي ووجهي تقبيلا في بكاء وخشوع.
وقال: أواه لك! لماذا لم تشاجريني من عهد بعيد وتعتركي، فلطالما لهفت على المشتجر وأحببت المعارك المناجز! صفحا ونسيانا! قلت: من أجل الأولاد صفحت ونسيت ...
Unknown page