التائهون

التيه والمخرج

Publisher

مؤسسة قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع

Edition Number

الثانية

Publication Year

١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م

Publisher Location

الجيزة - مصر

Genres

السبيل إلى منهج الطائفة المنصورة (٢) التيه والمخرج أسباب التيه - أصول الأصول - أصلان آخران بقلم عدنان بن محمد آل عرعور مؤسسة قرطبة طباعة - نشر - توزيع ت: ٥٣٥٠٢٧

1 / 1

السبيل إلى منهج الطائفة المنصورة (٢) التيه والمخرج أسباب التيه - أصول الأصول - أصلان آخران القسم الثاني بقلم عدنان بن محمد آل عرعور

1 / 2

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية المزيدة والمنقحة ١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م مؤسسة منارة قرطبة للجمع التصويري وتجهيزات الطباعة ٦٤ ش الخليفة - مدينة الأندلس - الهرم - الجيزة ت: ٥٣٥٠٢٧

1 / 3

السبيل

1 / 4

مقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ. أما بعد: فلا يخفى على كل مسلم واعٍ ما تعانيه أمتُنا الإسلامية من واقع مُفجِع، وحال مؤلمة، تُمَزِّقُ قلبَ الصادقِ، وَتُفَتِّتُ كَبِدَ الْمُخْلِصِ، إذ اجتمع عليها ضَعْفٌ ذَاتِيٌّ شَدِيدٌ، وعدو خارجي ماكر، استغل هذا الضعفَ الموهن، فاخترق منه صفوفها، ثم توغَّل في أعماقها، فصنع لها أعداء داخليين شتى، ما بين ظالم فاجر، وفاسق لاه، ومُرَوِّجٍ لفكر دخيل، باسم الإسلام حينًا، وباسم الحضارة أحيانًا، على حين تَمَزُّق في صفوفها، وغفلة من عوامها، وتفرق في خواصها، فزاد بلاءها بلاء، وجعلها لا تلوي على شيء (١). فتصدى لهذا المصلحون، فأخطأ كثير منهم الطريقَ، إذ أخطئوا التشخيصَ، فأخطئوا المعالجةَ، فانعكس أثر ذلك ضررًا بالغًا على الدعوة

(١) يُقَالُ: يَلْوِي على أَحَدٍ: أَي: لا يَنْتَظِرُه، ولا يقيمُ عليه، وهو مجازٌ. [هذه الحاشية في النسخة الإلكترونية فقط وليست بالمطبوع (مُعِدُّه للشاملة)]

1 / 5

والسمعة، فتعثرت الأولى، وساءت الثانية، فضلًا عن مصائب شتى حَلَّتْ بالمستضعفين من المسلمين. ولمَّا كان وعد الله حقًّا، وكلمته صدقًا في نصره للمؤمنين إِنْ هُمْ نصروه، كان لزامًا على المصلحين أن يُعيدوا النظرَ في تشخيص أمراضهم، وأن يراجعوا طرق معالجتهم، فما كان الله ليخلفَ وعدَه، وما كان الله ليخذلَ جندَه ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. إذن ثمة أمور من عند أنفسنا جعلت نصر الله يتأخر عنا، وهناك خَلَلٌ لا بُدَّ من معرفته، وثغرات لا بد من سَدِّهَا، وعندئذ يتحقق وعد الله تعالى، ويتنزل نصره ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: ١١١]. فلتستبشر أمة الإسلام بنصر الله إن هي نصرته في نفسها أولًا، وَلْتَسْعَدْ بتمكينها في الأرض إِنْ مَكَّنَتِ اللهَ في قلوب أفرادها. فما هي هذه الثغرات حتى نسدها؟ وما هي هذه الأمراض حتى نداويها؟ كي يكون الله معنا، فيكيد لنا على أعدائنا، ويغير حالنا .. كلُّ أجوبة هذه التساؤلات تجدها في «السبيل»، الذي هو التشخيص الصحيح لمرض هذه الأمة، ومعالجته على ضوء الكتاب والسنة؛ لتكون الأمة التي أرادها الله ﷿. ولذلك؛ فليس المقصود بهذا الكتاب رجلًا معينًا، ولا جماعة مخصوصة، بقدر ما هو تشخيص حقيقي لواقع مؤلم، ومعالجة صحيحة لهذا الواقع، فضلًا عن أنه سَعْيٌ صادق، وخطوة منضبطة لتوجيه هذه الصحوة،

1 / 6

وتأصيلها، وتوعية أفرادها، وتثبيتهم على الحق والمنهج المثمر، لا تربيتهم على العاطفة الجيَّاشة، والحماسة المؤقتة، اللتين تزولان بصيحة، وتنطفئان بنفخة ... وهذا هو الذي يُفْرِحُ أعداءهم، إذ إليه يَصْبُونَ، ومنه يخترقون .. وبتأصيلهم وحسن تربيتهم يبقون ما بقي الحق، ويصمدون كما صمد الأنبياء، فينالون ما نالوا من التوفيق في الدنيا، والفوز في الآخرة. ويكفينا عبرة ما حل بنا من كوارث، وما نصبت لنا من أفخاخ، وآن لنا أن ندرك الطريق المستقيم، ونسلك المحجة الواضحة. وقد ذُكِرَ في الجزء الأول منه: الواقع المضطرب الذي يعيشه العالم، والحال المؤلمة التي يعيش فيها عالمنا الإسلامي، وَبُيِّنَ فيه الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الضعف .. من جهل بحقيقة هذا الدين وأهدافه، وتفرق مُخْزٍ، وفقدان للإخلاص والذات، فضلًا عَمَّا يكيده أعداء الله بهذه الأمة، وما يتربصون بها. كما ذُكِرَ فيه أخطاءُ التشخيص والمعالجة المرتجلة، وصور مؤلمة من صور التربية التي تمارسها بعض الجماعات الإسلامية، ثم ذُكِرَ طريق العلاج، وسبيل النجاة، وعواصم الحفظ. وفي هذا الجزء: وُضِّحَ السبيلُ الأمثلُ والوحيدُ لضبط فَهْمِ الكتاب والسنة، والذي يزول به الخلاف، وتتوحد الأمة، وهو أصل من أصول الطائفة المنصورة .. ثُمَّ ذُكِرَ فيه أصلان من أصولها. وَعُرِّجَ في الجزء الثالث على أصلٍ عظيمٍ من أصولِ الطائفةِ المنصورةِ، وسبيلٍ قَوِيمٍ من سُبُلِهَا يُبَيِّنُ سببَ الانحرافِ وَخُطُورَتَهُ، ومعنى الاتباع ووجوبه، ومعنى الابتداع وحرمته، وعلامات كل من أصحاب الطريقين، ثم خُتِمَ ببعض

1 / 7

قواعد الإنصاف التي تضبط المسلم على الصراط، وَتَقِيهِ من الانحراف، مِنْ غَيْرِ جَفَاءٍ مُنَفِّرٍ، وَلَا غُلُوٍّ مَقِيتٍ، وَلَا تَسَاهُلٍ مُشِينٍ. وسيتتابع السبيل -إن شاء الله- في أجزائه القادمة على ذِكْرِ بقية أصول الطائفة الناجية التي بالتزامها يزول الخلاف، وعلى ذِكْرِ صفاتها التي بها تتميز عن الطوائف الأخرى، ومفاهيمها التي بها يُوَضَّحُ طريقُ تَشْخِيصِ أمراضِ الأمةِ، وَسُبُلُ معالجتها، ثُمَّ النهوض بها. وَمَنْ رَأَى فِي هَذَا الْكِتَابِ شَيْئًا فَلْيَتَدَبَّرْ قَبْلَ أَنْ يَتَعَجَّلَ، وَلْيَسْتَفْصِلْ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ، وَلْيَنْصَحْ قَبْلَ أَنْ يَفْضَحَ، وَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَقَدْ فَاتَهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ. ولقد ذكرتُ سِرَّ كثرة استشهادي بأقوال الداعية سيد قطب ﵀ في الجزء الأول، فَلْتُرَاجَعْ. واللهَ أسألُ أن ينفع به، وأن يجعله خالصًا لوجهه .. وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وما كان من صواب فمن توفيق الرحمن، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى آله وصحبه البررة الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم القرار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه عدنان بن محمد آل عرعور

1 / 8

مباحث هذا الكتاب - سبيل النجاة. - أصل أصول الهداية، وأدلته. - معالم وضوابط في العقيدة والمنهج. - من أصول منهج السلف: الأول: التمسك بالإسلام جميعًا. - من الصغائر والجزئيات ما يكون سببًا في دخول الجنة. - شبهات. - الحكم الفصل. الثاني: الدعوة إلى التوحيد أولًا، والعمل بالعبادات ثانيًا، مع التمسك بالأخلاق دائمًا. - ما هو التوحيد الذي يجب الدعوة إليه؟ - الأخلاق مع التوحيد. - كيف تتكون الأخلاق. - ما هي الأخلاق الحسنة؟

1 / 9

سبيل النجاة إذا تَبَيَّنَ لك -رحمني الله وإياك- أسبابُ الخلاف وخطورته، وضرورة الخلاص منه، فاعلم أنه لا نجاة منه، ولا من هذه المزالق الخطيرة، والتزيين الْمُضَلِّل الذي تعيشه الأمة الإسلامية إلا بتوحيد الصفوف، بعد إخلاص النيات، وتوحيد الصفوف لا يكون إلا بتوحيد الكلمة والمنهج، وتوحيد الكلمة والمنهج لا يكون إلا بالرجوع إلى الدين الحنيف، والتمسك به. «لكن يمكن أن يُقال: كيف تدعون الناسَ إلى الرجوع إلى الدين، والدين مُخْتَلَفٌ فيه .. عقيدة، ومنهجًا .. شريعة، وسلوكًا .. وَهَبْ أَنَّ الناسَ رجعوا إلى الدين، فماذا سيجدون سوى الخلاف ... والخلاف على أشده ... وسيجدون الطوائف كلها تَدَّعِي الأخذَ من الكتاب والسنة، وتزعم أن فهمها هو الفهم الحق، فماذا يفعل الناس؟ ... وكيف يتصرفون؟» .. لا شك أن الدين مختلف فيه، وأن رجوع الناس إليه دون ضابط يضبط لهم الفهم الصحيح، وميزان يرجح لهم الصواب، إنما هو دوران في حلقة مفرغة، وعودة من حيث البدء. ولذلك كان لا بد حين دعوة الناس إلى الإسلام من دعوتهم كذلك إلى هذا الضابط، مع بيانه وقواعده ... حتى إذا ما رجع الناس إلى دينهم مَيَّزُوا

1 / 10

بهذا الضابطِ الصوابَ من الخطأ، وَعَرَفُوا بهذا الميزان الحقَ من الباطل، فتمسكوا بهما، وعندئذ ينصرون، وفي آخرتهم يَنْجُونَ. «لكن هل هناك ضابط؟ وما هو؟ وأين هو؟ وما دليله؟ وهل يمكن أن تتوحد الأمة به؟». لا شك أن هناك ضابطًا، بل لا بد أن يكون هناك ضابط .. وهل يُعْقَلُ أن يترك اللهُ آخرَ دين نزل للناس متشابهًا، لا تُضْبَطُ نصوصه، ولا يُعْرَفُ الحق بين المختلفين؟ ! وهل من حكمة الله تعالى أن يأمرنا بالاعتصام، وَيُحَرِّمُ الاختلاف، ولا يبين لنا الضابطَ الذي يُوَحِّدُ الفهم، والسبيلَ الذي يزيل الاختلاف، وَيُوَحِّدُ الأمة؟ ! وهل من عَدْلِهِ أن يوجب علينا الاتفاق، ويحرم الشقاق، ولا يقيم علينا الحجة ببيان السبيل الذي يرفع الشقاق، بل يترك هذا لفكر زيد، أو رأي عمرو، ولنزداد اختلافًا وشقاقًا؟ ! إن هذا لا يليق برئيس بلدية، أو بمدير مرور ... أن يترك الناس يسيرون في الشوارع، كُلٌّ حسب رغبته، وكل حسب فهمه، ثم تَصَوَّرْ -بعد ذلك- ماذا سيكون، وإذا كان هذا لا يليق ببشر مخلوق، فكيف بربٍ، عليم، حكيم، رحيم، سيحاسب الناس على هذا الاختلاف؟ ! ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥]. «إذن ضابط الفهم، ومزيل الاختلاف، موجود في الكتاب والسنة ..» نعم -والله- إنه لموجود، وَبَيِّنٌ، لا لَبْسَ فيه ولا غموض، وما علينا إلا

1 / 11

التجردُ من الشوائب، والتقليد، والموروثات الخاطئة .. ثم الإقبال بإخلاص وعلم على الكتاب والسنة؛ لمعرفة هذا الضابط، والالتزام بهذا السبيل. ثلاث وَمَضَاتٍ لثلاثة مسارات: وقبل التفصيل في الأدلة لا بد من ذِكْرِ ثلاث ومضات؛ لِتُلْقِيَ الضوء على مسارات ثلاثة. o الومضة الأولى: الخلاف المذموم: المقصود بالاختلاف المذموم ما كان في العقائد، والطرق، والأصول، والأفكار المخالفة لمنهج السلف .. لا خلاف التنوع، والفهم، والاستنباط. وللمسألة تفصيل ليس هذا محله. o الومضة الثانية: وضوح الطريق: أرأيت لو أنَّ أمامَ قوم أكثرَ من سبعين طريقًا، ليس فيها طريق سالك مأمون إلا واحدًا، فَعَبَرَتْ كل فرقة من طريق، فهلكوا جميعًا، إلا الطائفة التي سلكت الطريق الأول، نَجَتْ، فهل من رجل في رأسه ذرة من عقل أو مُسْكَة من تفكير يسلك غير طريقها. o الومضة الثالثة: ضبط الفهم لازم لحفظ الدين: اعلم -هداني الله وإياك طريق الرشد- أن الله ما كان ليحفظ كتابه، وسنة نبيه ﷺ، نصوصًا تُقْرَأُ، ثم يذر الناس يفهمون مقاصدهما حسب أفهامهم، ونزعات عقولهم، ونتائج تجاربهم، وما كان الله ليترك العباد في منازعاتهم، واختلافاتهم، ثم يأمرهم بالاعتصام دون أن يرشدهم إلى سبيله، وكيفية تحقيقه، ودون أن يبين لهم ضابط الفهم الذي هو سبيل الاعتصام، وطريق

1 / 12

الخلاص من هذا الخلاف .. مُحَالٌ هذا، وهو الرءوف بعباده ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥]. إي وربي، إنه لأرأف بعباده من أنفسهم، ولأرحم بهم من أن يَدَعَهُمْ حيارى مختلفين، كل فرقة منهم تفهم الإسلام فهمًا يناقض فَهْمَ الأخرى، وكلهم يَدَّعُونَ أنهم على الحق المبين .. معاذ الله أن يكون هذا. ولذلك أخبرنا رسول الله ﷺ أن أمة الإسلام ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كل هذه الفرق مخطئة، بل ضالة، إلا طائفة واحدة ... فمن هي يا تُرَى هذه الطائفة؟ لا شك أن هذه الفرقة التي استثناها رسول الله ﷺ من الضلال والنار هي الفرقة الناجية المنصورة التي يجب التزام فهمها، واتباع منهجها. فما هي هذه الفرقة؟ وما هي أصولها، ومفاهيمها، وصفاتها؟ كيما نتمسك بها، ونسلك سبيلها، فننتصر في الدنيا، كما انتصرت، وننجو في الآخرة، كما نَجَتْ. «... وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» (١). فالنجاة -إذن- تكون باتباع طريق هذه الجماعة، مع حسن النية والقصد، والإخلاص لرب الخلق. وإذا كان الأمر كذلك؛ فهذه الْوَمَضَاتُ كافية لبيان ثلاثة مسارات: (الأول: أن هذا الضابط الملزم، والمنهج القويم لم يُتْرَكْ لاستنباط عقولنا، ونتائج

(١) حسن، رواه الترمذي (٢٦٤١)، وأصحاب السنن، بنحوه.

1 / 13

تجاربنا، وإلا عُدْنَا من حيث بدأنا في الاختلاف، وزيادة الشقاق؛ ولذا كان بدهيًا أن يكون منصوصًا عليه في الكتاب والسنة، وما علينا إلا الرجوع إليهما؛ لمعرفة هذا الضابط. (الثاني: أن هذا الضابط هو: منهج الطائفة المنصورة، وفَهْمُ الفرقة الناجية التي أشارت إليه الآيات والأحاديث. (الثالث: أنَّه بمعرفة هذا الضابط، والالتزام به، والسير على منهج هذه الطائفة، يزول الخلاف، وتتم الهداية، وبالإعراض عنه يكثر الخلاف، وتكون الْغَوَايَةُ، وأنه لا مَنْجى لهذه الأمة من هذه الاختلافات إلا بالاعتصام به، وَكُلُّ من أعرض عن هذا العاصم هَلَكَ، وخاب، وخسر، مهما كانت نيته، ومهما كانت أدلته. «... كلها في النار إلا واحدة ...». ثُمَّ .. إذا كانت تُسَوَّغُ مخالفاتُ جميعِ هذه الطوائف للكتاب والسنة بمبررات مختلفة -وربما يُظَنُّ أنها مقنعة- فمن هي -إذن- طوائف الضلال التي ذكرها الرسول ﷺ من أمته؟؟؟ وكيف يمكن التمييز بين صدق هذه المسوغات، وخطأ تلك، وضلال الأخرى، إنه لا يمكن معرفة الحق منهم إلا بالرجوع إلى منهج هذه الطائفة ميزانًا وتقويمًا، منهجًا وسلوكًا. وستظل الأمة تعيش في ضعفها .. وتراوح في مكانها .. تلهث ولا تسير .. تسقط ولا تنهض .. تَئِنُّ ولا تُشْفَى .. تقوم من كَبْوَةٍ لِتَهْوِيَ في مِحْنَةٍ .. وتخرج

1 / 14

من مكر لتنزلق في مِصْيَدَةٍ .. وستبقى هكذا حتى تُدْرِكَ هذا المنهج، وتسلك هذا السبيل الذي به تُعَالَجُ معظمُ أمراض الأمة، وبه تُشْفَى بإذن الله، وبه يكون الخير كله.

1 / 15

أصل أصول الهدية وأدلته بعد أَنْ ذَكَرَ رسولُ الله ﷺ افتراقَ هذه الأمة «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ... كلها في النار إلا واحدة». سُئِلَ ﵊: «من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» (١). فاستبان بهذا البيان من هي الفرقة الناجية التي يجب اتباعها في العقيدة، والمنهج، والشريعة، والسلوك. ولقد دَأَبَ بعضهم على تناسي هذا الحديث، أو تضعيفه بلا حُجَّةٍ تُذْكَرُ، ولا عِلْمٍ يُؤْثَرُ .. وَهَبْ أن الأمر كذلك .. فماذا يقولون عن هذا الواقع الْمُفْجِعِ في الاختلاف؟ ! وهل أمة محمد ﷺ متفقه؟ ! والله لو لم يكن هذا الحديث موجودًا أصلًا لكفى بهذا الواقع شاهدًا على معناه. ثم .. لماذا هذا التغافل والتجاهل عن هذا الكم الهائل من الآيات، والأحاديث الأخرى، والآثار عن السلف، في وجود التفرق في أمة الإسلام، وتحريمه، وفي وجوب الاعتصام، والتزامه، وسلوك منهج الطائفة المنصورة؟ ! وإذا فرضنا أن الحديث لا وجود له .. فهل كان هناك أمة مع رسول الله ﷺ

(١) سبق.

1 / 16

مستقيمة على الهدى؟ فإذا كان الأمر كذلك، فما حكم الذين خرجوا عنهم في العقيدة، والمنهج؟ ! فإذا قررنا أن الصحابة كانوا على الحق، فمن خالفهم قطعًا كان على الضلالة، ومن كان على الضلالة كان في النار، فَتَمَّ بهذا مقصودُ الحديث: «كلها في النار إلا واحدة ..». والنصوص الأخرى الكثيرة من الكتاب والسنة تشهد لهذا المعنى. وإليك هذه الباقة العطرة من الأدلة الفوَّاحة، والحجج البيِّنة على ما سبق من وجوب اتباع منهج الصحابة، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحسان، الذي هو سبيل الخلاص من كل فتنة واختلاف: o الأول: قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١٠٠]. فهذا نص صريح واضح في: - تزكية الله للصحابة. - ورضوانه عليهم جميعًا ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (١). - وإيجاب اتباعهم ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾. - وأنهم الطائفة المنصورة المرضي عنها. ثم .. لماذا رضي الله تعالى عنهم؟ هل كان رضاه عن أجسامهم،

(١) ومن استثنى أحدًا منهم فعليه الدليل نصًا لا اجتهادًا.

1 / 17

وألوانهم، وصورهم،! أم رضي عنهم لعقيدتهم، ومنهجهم، وأخلاقهم، وأعمالهم؟ وإذن لا يرضى الله إلا عمن تَشَبَّهَ بهم، واقتدى بفعالهم، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: ١١٥]. قال ابن كثير عند هذه الآية: «فيا ويل من أبغضهم، أو سَبَّهُمْ، أو أبغض أو سَبَّ بَعْضَهُمْ ... فإنَّ الطائفة المخذولة من الرافضة يُعَادُونَ أفضلَ الصحابة، ويسبونهم ... عياذًا بالله من ذلك ... وأما أهل السنة فَيَسُبُّونَ مَنْ سَبَّ اللهَ ورسوله ... وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدعون، وهؤلاء هُمْ حزب الله المفلحون». «مسكين يا ابن كثير ... أتريد أن تفرق بين المسلمين؟» (١) ثم ... تقول هذا في زمانك زمن أهل السنة! ! ! فكيف لو رأيت أهل زماننا ... أهلَ دعوى توحيد أمة الإسلام، ولو على حساب العقيدة والإيمان، وهم لا يعلمون علمًا، ولا يهتدون سبيلًا .. فهل الذين قالوا: «مذهب السلف أَسْلَمُ، ومذهبنا أعلم وأحكم» اتبعوهم بإحسان؟ ! وهل الذين ابتدعوا طرقًا للوصول للحكم، أو طرقًا أُخرى للحكم نفسه غير طريقهم اتبعوهم بإحسان؟ !

(١) ما كان بين قوسين فهو من حكاية كلام الغير، وناقل الكفر ليس بكافر، والقرآن الكريم والسنة النبوية فيهما من ذلك الكثير، وهو أسلوب معروف في اللغة العربية، لا يدركه كثير من الناس، وبخاصة أصحاب الأغراض، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ [سبأ: ٢٥]. فمتى أجرم الأنبياء حتى يقال هذا؟ ولكنه من باب الفرض والتنزل، وسيمر معك من هذا كثير، فكن على ذكر من ذلك.

1 / 18

وهل الذين أحدثوا آراءَ في الدين لم يعرفها أصحاب رسول الله ﷺ اتبعوهم بإحسان؟ وهل الذين يعالجون قضايا الأمة بغير معالجة أصحاب رسول الله ﷺ اتبعوهم بإحسان؟ ! وهل هم بهذه المخالفات -التي يسمونها اجتهادات- يتبعون سبيل المؤمنين -الصحابة- الذي أوجبه الله على الناس جميعا؟ ! أم يتبعون سبيل أعدائهم ...؟ ! o الثاني: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥]. وإذا كانت الآية السابقة - ﴿اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﵃﴾ - زَكَّتِ المتبعين للصحابة، [وَعَدَّتْهُمْ] من الناجين يوم القيامة، فإن هذه الآية ذَمَّتْ المخالفين لسبيل الصحابة، وحكمت عليهم بالضلال في الدنيا، والعذاب الأليم يوم القيامة. «ما الدليل على أن المقصود بالمؤمنين في هذه الآية هم الصحابة؟» لا شك أن الآية لَمَّا نزلت لم يكن على سطح المعمورة -يومئذ- غير الصحابة مؤمنون .. وبدهي -إذن- أن يكونوا هم المعنيين في الآية .. وإن لم يكونوا هم المعنيين بها، أفالمعنيون بها هم اليهود والنصارى؟ ! وعلى هذا: فـ " لام " " المؤمنين " للعهد، لا للاستغراق، إلا عند من أبدل لام عقله ميمًا، فصار عقيمَ الفهم، بليدَ الذهن.

1 / 19

قال شيخ الإسلام في تفسيره للآية: «إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، وتحريم اتباع سبيل غيرهم، ومن شاقه -أي: الرسول- فَقَدِ اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فَقَدْ شاقه أيضًا ... فإذا قيل: هي إنما ذَمَّتْهُ مع مشاقة الرسول، قلنا: لأنهما متلازمان ... فالمخالف لهم -أي: الصحابة- مخالف للرسول ﷺ» (١). فهل من سبيلهم الاستهزاءُ بمن تَبِعَهُمْ؟ ! وهل من سبيلهم أن يتزعمهم رجل ليس عنده علم شرعي، ولا يستفتي أهلَ الرسوخ؟ ! أم من سبيل غيرهم؟ وهل من سبيلهم القول بإباحة الطرق، أَيّ طريقة كانت؟ ! أم هو من سبيل غيرهم؟ وهل من سبيلهم التحزب في الإسلام على طريقة العلمانيين، والشيوعيين، في التنظيم، والتخطيط، والحركة؟ ! أم هو من سبيل غيرهم؟ وهل من سبيلهم التدبر والتمعن في القول، ثم اتباعه إِنْ كان حقًّا، ولو خالف ما كان عليه المرء والحزب، أم رده لمجرد مخالفة هذا القول لحزبه أو هواه؟ ! وهل من سبيلهم النظر إلى القول، أم النظر إلى قائله؟ -مع تفصيل معروف في كتب السنة-

(١) الفتاوى (١٩/ ١٩٣).

1 / 20