اللؤلؤ في الأدب
اللؤلؤ في الأدب
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٣٤٥ هـ - ١٩٢٧ م
Genres
الفنزج أي البالو
صفة ليلة من ليالي الشتاء
ليلةٌ أضحيانةٌ قمراءُ، من ليالي الشّتاءِ، وأفقِ سجسج، كأنّه روضُ البنفسجِ، وهواءٌ رقَّ وطاب، فكأنّه عتابٌ بين أحباب، وكأنّما استدار الزّمان، وكأنّ أزار نيسان وقد أخذت (فينا) زخرفها، ولبست رفرفها، فحيثما كنت فأجنحة الطواويس، وأرواح الفراديس، وأصوات النواقيس.
1 / 1
وصف القصر
وثمّ قصر على النّهر كأنّه قصر غمدان، أو خورنق النعمان أو السّدير، أو القصر الكبير أو الزّاهر، أو دار ابن طاهر، أو الجعفريّ، أو الإيوان الكسرويّ.
دور ومقاصير هذا القصر
قد ارتفعت قبابَهُ في الأجواءِ، فكأنّ أبراجَهُ أبراج السّماءِ، وكأنّ كلّ ردهةٍ بطحاء، وكلّ روضةٍ صنعاء، بلاط وخندق، ودارات وديسق، وأبهاء وجوسق وكهرباء تضيء الأرجاء، كأنّها بدر، أو فجر.
1 / 2
وصلتُ إلى ذلك القصر ففُتِحَ الباب. وكُشِفَ الحجاب. فإذا جنةٌ وحرير. وملكٌ كبير. ودنيا في دار. وليل ونهار، ووجوه تشرق وحليٌّ يَبرق. وقبابٌ وشراعات. ومقاصيرٌ وسرادقات. وحنى كعطوف القسى. وصحون. في فسحة الظّنون. تقدَّر بالأفكار. لا بالأبصار وسقوفٍ من مرمر وأرضٍ من عرعر وكأنّ كلّ سقفٍ لوحٌ مصور. وكلّ أرضٍ روضٌ منوّر.
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضًا في السّماء نضيرا
وَضَعَتْ به صُنّاعُها أقلامَها ... فَأَرَتْكَ كلّ طريدةٍ تصويرا
وأبواب. كأنّها في حُسْنِها أبوابٌ من كتاب. في مصراعين كعاشقين. فتلاقٍ وافتراق.
فأبوابُها أثوابُها من نقوشِها ... فلا ظلمٌ إلاّ حين تُرْخى ستورها
وإذا الحجراتُ قد فُرِشَتْ بأراضٍ. كأنّه قطع الرّياض
بسطٌ أجادَ الرّسمُ صانِعُها ... وَزَها عليها النَّقشِ والشَّكل
1 / 3
فيكادُ يقطفُ من أزاهِرها ... ويكادُ يسقطُ فوقها النَّحل
ورُصفت في جوانبها أرائِك وحجل وطوارق وكلل وشوار وإنماط. وزرابي. ورياط ومطارح من ديباج ونضائد من عاج. عليها قطوع من سمّور وسنجاب. وعروش من إستبرق وزرياب في ألوان الحيقطان. وأجنحة الفواخت والورشان.
حتّى اتّكأْنَ على فرشٍ يُزَيِّنُها ... من جَيِّدِ الرقم أزواج تهاويل
فيها الطّيور وفيها الأُسْدُ مُخدرة ... من كل شيءٍ ترى فيها تماثيل
وقد رُكِّزتْ في الحيطان صفوف من مشاجب ورفوف عليها آنية عادية.
وعساس صينية وصحاف وسكرجات. وأجفان وطرجهارات. وبين ذلك مرايا تتقابل فتجمع الآحاد. وتعدّد الأفراد. إنْ وقفَتْ أمامها الحسناء. رأيت بدر السّماء في عين
1 / 4
ماء حسنٌ لا نظير له في البريّة. إلّا صورته على الماويّة فإن انصرَفَتْ عنها تركتها كربع خلاء أو صحيفة بيضاء. أو قلب ذي ملالة لا يثبت فيه إلّا ما كان حياله. وقام في الأركان تماثيلَ وتصاويرَ وأنصابَ وقواريرَ ممّا صنع (أوفرباخ) و(مليسونيا) و(ولمباخ) فكأنّما الدّار زون. أو معرض فنون وقد وُضِعَ في الأبهاء موقدٌ للاصطلاءِ كأنّ الجمر فيها نظر محنّق أو نار المحلّق وكأنّ الرّماد عليه عثير وأحاط بالدّار نوافذ وطاق. تطلُّ على الآفاق وتنظر الرّوضَ. والحوضَ. والمدينةَ والزّينةَ.
فمِنْ شُهبٍ تمتدُّ في الجوِّ مصعدا ... وتلوي على جنبيه مثل الأراقم
1 / 5
وتمطر فيه لؤلؤًا وزبرجدا ... شآبيبُ منها ساجمٌ بعد ساجمِ
فطورًا ترى أنّ السّماء حديقة ... تَفَتَّحَ فيها النّور بين الكمائم
وحينًا ترى أنّ الحديقةّ في الدُّجى ... سماء تهاوي بالنّجومِ الرَّواجم
أمّا الأضواء والأنوار. فالشّمس في ضحوة النّهار. قد عُلِّقَتْ بالسّقوف.
وتألّقت في الرُّفوف. وتلوَّنت كالأزهارِ وتشكَّلت كالأثمارِ وتدلَّت بينها الثُّريات كأنّها أشجارٌ مفتَّحة النوَّار وكأنّ أقياسها آذان جيادٍ أو عيون جرادٍ أو قطع أفلاذٍ أو صفائح فولاذٍ أو ذبالٍ على أسلِّ أو مرآةٍ في كفِّ الأشلِّ.
فيا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجومه ... بكل مغار الفتل شدَّت بيذبل
1 / 6
جمال النساء في باريس
حسان هذا القصر
وثمّ الخرد الحسان. كاللؤلؤ والعقيان. من كل عطبولٍ رفلة أو أسحلانةٍ ربلة. أو خليفٍ بهتانة. أو رهرهةٍ فينانة. أو لاعةٍ سيفانة.
صدورٌ كالأغريض أو صدورُ البزاةِ البيض. وسواعدُ كأنّها شماريخَ من ماسٍ. أو مرمرٍ نحته فدياس وعيونُ كأنّ بين أهدابها رام من بني ثعل. أو أسدُ بين طرفاءٍ وأسلّ. أو أنّها
1 / 7
نرجسٌ عطشان. أو سيوفٌ تقتلُ وهي في الأجفان، وقد امتزجَ فيها الفتر بالحُور، فهي سكرى ولا مُدام. ووسنى ولا مَنام وفمٌ كأنّه أقحوانةٌ لم تتصوّح. ووردةٌ لم تتفتّح. يضحكُ عن جُمان. ويتنفّسُ عن ريحان. وينطقُ عن ألحان وخدودٌ كنارِ أخدود أو تفاح. أو ماءٍ وراح. أو الشّفق في الصّباح وردٌ يفتحه النظر. ويشعشعه الخفر. كأنّ حياءهُ الجُلَّنار. وبياضهُ ماءٌ واقفٌ جار.
إذا مَشَيْتِ على الحصباءِ صيَّرَها ... شعاعُ خدَّيْكِ ياقوتًا ومرجانا
1 / 8
ما عليهن من الوشى والأكسية
وقد اتشحْن برودًا من إبريسم وخز. وإستبرق وقز. كأنّها رقراق السّراب. أو برود الشّباب. كأنّ ألوانها أصيلٌ شفّ عنه غمام: أو أشعة الشّمس في أطواقِ الحَمام.
حليهن
وعليهنّ الحليّ من أربة وداح ويارج ووشاح. وقرمل وعضاد. ونقرس وزراد خاتم فارد. كأنّه عطارد. وسوار لمّاع. كأنّه الهلال في الذّراع.
الموسيقى
ثمّ صَدَحَتِ الموسيقات. وترنَّمت الكنارات. من دريج وصنج وزمخر وونج.
1 / 9
فكأنّما جاوب البلبل الهزار في الأسحار. وشدا مخارق وزنام، بالأنغام وكأنّما تلك الأصوات نسيمٌ عليل. والقوم أغصانٌ وكلُّ آلةٍ صور إسرافيل ينفخ الأرواح في الأبدانِ وإذا بالفتيانِ والغيدِ الحسانِ. والأسوارِ: وذات السّور. قد وثبوا للفنزج في المدرجِ.
1 / 10
المرقص
أثناء الرقص
وإذا فُلْكٌ يدور بالكواكب، من الكواعب، وإذا إعصارٌ أو حرفٌ جار، أو مهارى في خبب أو نجومٌ ذوات ذنب.
فناهيك بسير النضناض على الرضراض أو مشي القطا الكدري في الدمث الندى ونفرة السرب للشرب. حركاتٍ كأنّها لخفَّتِها سكون. وسيرٍ كسير الشّمس لا تستبينه العيون.
1 / 11
وأمشاطٍ لا تكاد تمسّ الأرض كأنّها آس يجسُّ النبض.
وكأنّما الخصور ماء. والصّدور هواء. والأعناق أطواق. والسّواعد مسائد. والألحان ميزان.
من كلِّ مائسةِ الأعطاف يجذبها ... موارٌ دعصٌ من الكثبان ممطور
ترعى الضرب بكفّيها وأرجلها ... وتحفظ الأصل من نقصٍ وتغيير
وتغرب الرّقص من لحنٍ فتلحقه ... ما يلحقُ النَّحوَ من حذفٍ وتقدير
1 / 12
وفي يديها غضيض الطرفِ ذو هَيَفٍ ... صاحي اللواحظِ يثني عطف مخمور
تظلّمت وجنتاه وهي ظالمةٌ ... وطرفه ساحرٌ في ذي مسحور
البوفيه
ولمّا انتصفَ اللّيل شطرين. وأمسى بين بين. رُفِعَتِ الرِّياط عن قاعة السّماط فإذا زخاري ورواء وزبرج وبهاء، وبنودٌ تخفق، وتهاويلُ تألق، وصحافٌ من جزع وجام من ينع، وغرب وأكواب، وصراحيّات وعلاب وقذمور وورسى، وخزفٌ صينيٌّ
1 / 13
وفي كلِّ ركنٍ روضةٌ معيشةٌ وبنانةٌ مخصبةٌ ونوردجةُ نوّار، ورعلة أرطاب وأزهار، فكأنّما القاعة جونة عطّار، أو أيكة غب قطار.
وبين ذلك سماطُ المُعِزِّ في قاعة الذهب، وجفنة ابن جدعان في العرب وقطعٍ من نون أو لحمِ طيرٍ ممّا يشتهون، وطباهجة وخواذب، وصلائق وصناب والسّلج والرشراش والقتن والهشاش والفانيد والمسير، واللوزينج والمزعفر وأثمارٍ
1 / 14
جنيّةٍ من مشلوز وملاحية، وجوح صنوان، ومن كلِّ فاكهةٍ زوجان ورحيقٍ من قرقف وقنديل، ودازي وسلسبيل، في ريح العنبر الورد، ومزاج العطري والبند موائد لا يفنى ما عليها ولا ينفذ كأنَّه نعيم أهل الجنَّةِ، كلّما فني يتجدد.
1 / 15
الخمر
الشراب وقواريره
خمرٌ كأنّها الزبخ، أو المريخ، عين الشّمس في كأسٍ وياقوتٍ مذابٍ في أكوابِ شعلةٍ شعلاء، يوقدها الماء برقٌ في غمامة، ووردٌ في كمامة مني ومنون، وريقُ ليلى في فمِ المجنونِ كأنّها سراجٌ يوقَدُ في زجاجٍ، أو إكسيرٍ، أو دمعٍ طليقٍ على أسيرٍ، أو دينارٍ منقوشٍ، أو ورقِ المردقوشِ أو عمودٍ من صباح، بين السّقاةِ والأقداحِ وكأنّ حُبَبَها عِقْدٌ، أو دمعٌ على خدٍ،
1 / 16
أو لام والماء حسام منظام يُكَبِّرُ المحسوس، في النفوسِ، إن فرح وإن ترح، تبعث على الصّدق في النّطق فتعقد اللّسان للكتمان تحكُمُ في العقلِ حُكْمَ مَنْ جار، أو حكم الزّمان في الأحرار شربٌ يلذّه غير الظمآن ولا يُروى المرء منه وهو صديان، وسقى بنبت الورد في الخدود والرنح في القدود كأنّها في النّفس روحُ الرّجاء وراحةُ اليأس منطادٌ يخرج بالنّفوس، من هذا العالمِ المنكوسِ جمرٌ ولا شرر، ونفعٌ أقلُّ من ضرر.
1 / 17
انتهاء الليل وانصراف الناس
ولمّا هم اللّيل، بطي الذّيل، وأشرف الظّلام، على الانصرام، هبَّ الأضيافُ للانصراف، فإذا كلّ إنسانٍ يتكلم بترجمان، وينظر إلى الأنام، بعينٍ إنسانها قد نام، نثبت في خلج، وتماسك في فلج وإذا زهرٌ منثور، ودخانٌ منشور، وقدحٌ مكسور، وجميلٌ مخمور، وليلٌ كالغداف، وندى ببلِّ الطراف، وقرٌّ لو رميتَ فيه كأس الرحيق، عاد عقدًا من عقيق.
وكواكب كأنّها أعينٌ حول، أو زهرٌ مطلول، أو عقدٌ منتثر أو جلدُ نمر، فما زال الجمع ينصرف، واللّيل ينكشف، حتّى بدا الصّباح في التّخوم، بين النّجوم، كأنّه غديرٌ منبجس، في روضةِ نرجس أو سيلٌ طمى على نوار أو ملاءة، جمعت لؤلؤ النثار فغاب في ذلك الضّياء، كواكب الأرض والسّماء.
1 / 18
الرحلة إلى القسطنطينية
نهضتُ من القاهرة المُعَزِّيّة، قاصدًا القسطنطينيّة، وهي بلدُ الإمامِ ومدينةُ السّلامِ، ودارُ خلافةِ الإسلامِ، فركبتُ سفينة عدوليّة إلى الثّغور الفرنجيّة فجرى بنا الفلك في خضمٍّ عجاج ملتطمِ الأمواج، أخضرِ الجلد، كأنّه إفرند بحرٍ عباب، لا يقطِّعْهُ الخليل بأوتادٍ وأسباب، تصطخبُ فيه النينان، وتضطرب الدعاميص والحيتان.
سير السفينة في البحر
وأخذتِ السّفينةُ تشقُّ اليمّ، شقّ الجلم، في ريحٍ رخاء، أو زعزعٍ
1 / 19
ونكباء، فهي تارة في طريقٍ معبّد، وميثٍ مطرّد، وطورًا فوق حزنٍ وقردد، وصرحٍ ممرَّد، فبينما هي تنساب، كالحباب، إذا هي تلحق بالرّباب، وتحلّق كالعُقاب، فتحسبها تارةً تحت القتام جبلًا تقشع عنه الغمام، وتخالها مرةً عائمًا على شفا، قد غاب إلّا هامةً أو كتفًا.
وصف البحر
والبحر آونةٌ كالزّجاجِ الندي، أو السّيف الصدي، يلوح كالصّفيحةِ المدحوّة، أو المرآة المجلوّة. وحينًا يضرب زخاره، ويموج مواره، فكأنّما سيّرت الجبال، وكأنّما ترى قبابًا فوق أفيال وكأنّ قبورًا في اليمِّ تُحْفَرْ وألويةً عليه تُنْشَرْ، وكأنّ العِدّ يمخض عن زبد. وكأنّ الدوي من جرجرة الآذي، زئير الأسد، وهزيم الرّعد.
1 / 20