فليس هذا القوام الكثيف أو المتجسد ضروريا لإثبات وجود المادة نفسها، وهي التي عرفها الناس ماثلة في الأجسام الكثيفة وسائر المحسوسات.
لأن الأجسام المادية كلها تنتهي إلى ذرات ثم إلى إشعاع في الفضاء، ويحق لنا أن نقول: إن الإشعاع «معنى» أبسط من الحركة؛ لأن الحركة تقع في جسم متحرك وفي وسط تتأتى الحركة فيه، ونحن لا نعرف الوسط الذي يسري فيه الإشعاع إلا بالفروض والتخمينات، ولا نبصر كل إشعاع بالعين المجردة ولو كان على مقربة من العين.
فقوام الكثافة ليس ضروريا لإثبات وجود العناصر المادية فضلا عما عداها، ولا يستلزم وجود الشيء المادي أن يكون له هذا القوام، فيجوز لنا أن نقول: إن الوجود أقرب إلى طبيعة المعقولات المجردة منه إلى طبيعة الملموسات والمحسوسات.
وسواء جاز هذا أو لم يجز فلا شك أن العدم ينتفي بمجرد العلم بالوجود، ولا يستلزم انتفاؤه أن يتلبس هذا العلم بمادة لها قوام، فعلم الموجود بوجوده يحقق له كل صفات الوجود التي ينقضها العدم، وليس لها نقيض سواه.
وليس لأحد أن ينكر وجود شيء من الأشياء لأنه لا يدركه بحاسة من حواسه التي تعود أن يدرك بها الأشياء.
فقد تتم للشيء كل صفات الوجود وهو غير محسوس، وقد تدق الحاسة الطبيعية حتى تتجاوز أضعاف مداها المعهود في معظم الأحياء، وقد تتضاعف بالوسائل الصناعية فيثبت لنا أن الأسماع والأبصار قد فاتها شيء كثير مما يدرك بالآذان والعيون.
فالموجودات إذن غير محصورة في المحسوسات.
ومن الواجب أن نسلم بقيام موجودات لا تحيط بها الحواس والعقول؛ لأن إنكارها جهل لا يقوم على دليل ، ولأن وجودها ممكن وليس بالمستحيل! بل هو ألزم من الممكن على التحقيق؛ لأن الحواس كلها لم تكن إلا محاولة مترقية لإدراك ما في الوجود، ولم تقف هذه المحاولة ولا هي مما يقبل الوقوف؛ إذ وقوفها يستلزم مانعا يعوقها أن تزداد كما ازدادت فيما مضى، وأن تترقى كما ترقت في طبقات المخلوقات، وليس هذا المانع بالمعروف.
فمما لا شك فيه أن الكون أعم من الوعي الإنساني على اختلاف درجاته، وأن الوعي الإنساني كله أعم من هذا الوعي الظاهر الذي تترجم عنه الحواس ويدخل أحيانا في نطاق المعقولات، وقد أصبحت كلمة «الوعي الباطني» من الكلمات الشائعة على الأفواه، وما «الوعي الباطني» مع هذا بجماع ما احتواه تركيب الإنسان، وما تزود به من طبيعة الحياة والوجود.
وغاية ما يملكه المتردد في حقيقة الموجودات الخفية أن يقول: إن وجودها غير ثابت لديه. فأما أن يقول: إن وجودها غير ثابت له ولا لغيره، وأنها لن يثبت لها وجود على الإطلاق - فذلك قول لا حق له فيه ولا سند له عليه، وقد يكون المصدق بالخرافات أحكم منه رأيا وأصوب منه فكرا؛ لأنه يصدق شيئا قد يتسع للتصديق والتكذيب.
Unknown page