وليس مما يقدح في النتيجة أنها نجمت من هذا السبب أو ذاك، على اختلاف قيمة الأسباب في الفكر والشعور.
فالإنسان قد وصل إلى الطب النافع من طريق الشعوذة، ووصل إلى الكيمياء الصحيحة من طريق الكيمياء الكاذبة، ووصل إلى الصواب على الإجمال من طريق الخطأ على الإجمال، ولا يقول أحد: إنه لن ينتهي إلى صواب إلا إذا بدأ على صواب، وإنه إذا أخطأ في المحاولة وجب أن يلزمه الخطأ بغير أمل في الهداية.
ويجوز على هذا أن تنبعث العقيدة عن أكثر الفروض المتقدمة ولا تنبعث عن فرض واحد، ولكنها على تعدد الأسباب يمكن أن تجتمع في تفسير يشملها جميعا لأنه يعتبر بمثابة التعميم الذي لا تشذ منه ناحية من نواحي التخصيص.
فنحن لا نهمل سببا يخطر على البال إذا قلنا: إن العقيدة هي ترجمان الصلة بين الكون والإنسان، أو قلنا: إنها مظهر الصلة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر كما يقول جماعة المتصوفة والنساك.
فلا بد من صلة بين الكون وبين كل موجود فيه.
ولا بد من أن تمتزج هذه الصلة بالوعي والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعي والشعور.
ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية، بل شيئا يسمى غريزة الجماعة، ولا يعرفون شيئا يسمى الغريزة الكونية أو السليقة الكونية، أو ما شاءوا من الأسماء.
فمن المحقق أن الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة في جميع الموجودات، ومن المحقق أن «الوعي» لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل؛ لأنه سابق له محيط به غالب عليه.
ومن المحقق أن «الوعي الكوني» ملكة قابلة للترقي والاتساع؛ لأن الحقائق التي تقبل الفهم في الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعي ترقى إليه بنو الإنسان.
بل هذه الحواس الجسدية - ودع عنك الحقائق الأبدية - لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان، فبعض الحيوان يستنشق الرائحة على بعد أميال وهي كالعدم في أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط، وبعض الأصوات نلتقطها بالآلات من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت «عدم» على مد البصر القريب، ومن زعم أن «الموجود» هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت الحجة عليه من العيون والأنوف والآذان فضلا عن البصائر والعقول.
Unknown page