فقد أنكر بعض الإلهيين أن يحيط العقل البشري بحكمة الله وأن تكون لله جل وعلا غايات تناط بالأحياء والمخلوقات، وفهموا الغاية على أنها نوع من الحاجة التي يتنزه عنها الواحد الأحد المستغني عن كل ما عداه.
وليس أضعف من هذا الاعتراض سواء عممناه على الخلق كله أو فصلناه بالنظر إلى جميع الخلائق من الأحياء وغير الأحياء.
فإذا كان الله غنيا عن الحاجة فالمخلوقات لا تستغني عنها، وإذا كانت حكمة الله أجل وأسمى من طاقة العقل البشري فالعقل البشري يستطيع أن يميز بين الأعمال المقصودة والأعمال المرسلة سدى بغير قصد وعلى غير هدى، وإذا كانت القدرة السرمدية لا تحدها الغايات فالكائن المحدود لا بد له من غاية ولا بد لتلك الغاية من تقدير وتدبير، ومن أين يكون التقدير والتدبير في نظر الإلهيين إن لم يكن من الله؟
وليس اعتراض الماديين على هذا البرهان بأقوى من اعتراض هؤلاء الإلهيين؛ لأنهم يقولون: إن نظام الكواكب لا يحتاج إلى تنظيم، وإن كيان العناصر لا يحتاج إلى تكوين، وإن طبائع المادة وحدها كافية لفهم هذا النظام وتفسير ذلك الكيان.
فالمادة الحامية تتحرك، والحركة تشع الحرارة، ومتى حدث الإشعاع قلت الحرارة في بعض الأجزاء واختلفت بينها درجة البرودة، فانشق بعضها عن بعض، ووجب بقانون الحركة المركزية أن يدور الصغير حول الكبير ويصمد على الدوران، وهكذا تحدث المنظومات الشمسية وتثبت الثوابت وتدور السيارات حولها بحساب يوافق اختلافها في الحجم والسرعة والمسافة ودرجة الإشعاع.
ويقولون: إن العناصر تتركب من نواة وكهارب، ولا يعقل العقل إلا أن تكون نواة وكهربا واحدا أو نواة وكهربين أو نواة وثلاثة كهارب أو أربعة أو خمسة إلى آخر ما تحتمله قوة النواة على التماسك والاجتذاب، وكلما اختلف العدد ظهر في المادة عنصر جديد بالضرورة التي لا محيص عنها، وليس هنالك سبب غير هذا السبب لتعدد العناصر والأجسام.
وكل هذا صحيح من وجهة الواقع الذي نراه.
ولكن من أين لنا أن الواقع الذي نراه هو كل ما يحتمله العقل من فروض ووجوه؟
ألازم هذا بحكم البداهة؟ أم هو لازم لغير شيء إلا أنه كان على هذا النحو وشهدناه؟
فالبداهة لا تستلزم أن تكون الحركة ملازمة للحرارة وأن تكون الحرارة ملازمة للإشعاع.
Unknown page