والعجب في تفكير الماديين أنهم يستجيزون الكمال المطلق في كل عنصر من عناصر الوجود إلا عنصر «العقل» وحده فإنهم يحدونه بالعقل الذي يتراءى في تكوين الإنسان دون سواه، فلا حدود عندهم لمادة الأكوان ولا لاستمرارها في الزمان والمكان، ولا لما اشتملت عليه من القوة والحركة والتكرار، ولكنهم إذا تكلموا عن أشرف هذه العناصر - وهو العقل - أجازوا حصره في البنية الإنسانية ولم يطلقوه من الحدود التي أطلقوا منها جميع عناصر الوجود.
فكيف جاز عندهم أن تكون المادة قادرة على خلق العقل ثم جردوها منه ملايين الملايين من السنين قبل ظهور الإنسان بين هذه الكائنات؟
وهل هي ملايين الملايين من السنين وكفى؟
كلا، فإن الكون الذي لا أول له قد انقضت عليه آماد وآماد لا تحسب بالملايين ولا بأضعاف أضعاف الملايين، فلماذا طبعت المادة على تكوين العقل ثم تجردت منه إلى ما قبل ظهور العقل الإنساني، وهو تاريخ قريب - بل جد قريب - بالقياس إلى تلك الأوائل التي لا يحيط بها الحساب؟
إن بعضهم يفسرون ذلك بتسلسل الدورات في المادة منذ الأزل الذي لا أول له إلى الأبد الذي لا تعرف له نهاية في الزمان، ويعنون بتسلسل الدورات أن الكون ينتظم ثم ينحل في كل دورة من دوراته التي تمتد ربوات بعد ربوات من الدهور فتنشأ المنظومات السماوية ويتهيأ كوكب من كواكبها لظهور الحياة عليه، وترتقي أطوار هذه الحياة حتى تبلغ مرتبة الحياة الإنسانية بما يقارنها من العقل والتمييز، ثم تنتهي بعد ذلك إلى تمامها فتؤذن بالدثور والانحلال، ثم تعود كرة أخرى دواليك من بداية السديم المنتشر في الفضاء إلى نهاية تلك الدرجة المقدورة من عنصر العقل: وهي درجة العقل الإنساني أو ما يشبه عقل الإنسان.
ويحسب هؤلاء الماديون أنهم أبطلوا بتفسيرهم هذا غرابة الظاهرة العقلية التي تختفي من الأزل ولا تبرز في الكون إلا قبل آلاف محدودة من السنين، أو قبل الملايين وهي في حكم الآلاف، فلا غرابة إذن في دعواهم لأن العقل قديم يتجدد من أزل الآزال إلى أبد الآباد.
فهل زالت الغرابة بهذا الفرض العجيب؟ وهل يجيز العقل أن يكون العقل وحده هو العنصر المحدود بأرقى ما يرتقي إليه الإنسان؟ وأنه هو العنصر الطارئ العرضي في كائن واحد من الكائنات وهو الإنسان؟ لماذا لا يكون العقل أزليا في الوجود فيكون عقل إله لأن الأزل أليق الصفات بصفات الله؟ لماذا نقبل «الدورات الأزلية» ولا نقبل العقل الأزلي وهو أولى بالقبول؟ لماذا نتحكم في تقرير حدود العقل ونتحكم في اختلاق تلك الدورات الأبدية وليس شيء من ذلك بعيان شهود، ولا بمنطق صحيح ولا بعلم من علوم التجربة والاستقراء؟
إن قبول فكرة الله أيسر من قبول هذه الأوهام ومن التعسف في إقامة هذه الحدود، وآخر من يجوز لهم هذا التطوح في تلك الأوهام والفروض هم أولئك الماديون الذين يبطلون كل شيء غير الحس والتجربة والاستقراء، فإنهم إذا دخلوا في عالم الغيب والإيمان سقط مذهبهم كله من تحتهم وهم لا يشعرون. •••
ومن المذاهب الفلسفية الحديثة التي نشأت في القرن العشرين لتعليل ظهور الحياة في المادة مذهبان متقاربان في الأسس مع تباعد النتائج بينهما في الشرح والتفصيل، وهما مذهب الحيوية المنبثقة الذي يقول به الفيلسوف الإنجليزي صمويل إسكندر ويعرف في الإنجليزية باسم
Emergent Vitalism ، ومذهب التركيبة الكاملة الذي يقول به المارشال سمطس زعيم إفريقية الجنوبية المشهور، ويعرف في الإنجليزية بالهولزم
Unknown page