126

وقال الغزالي في مناقشة ابن رشد: «إن تجريد الله من العلم بالجزئيات ومن التأثير في الموجودات ومن صفات العقل والإرادة - هو تنزيه يشبه العدم، وإنه لا برهان على أن «الواحد» لا يعقل غير الواحد ولا يصدر عنه غير الواحد، فإن دعوى الفلاسفة في ذلك دعوى لا يثبتها العقل ولا يعتمدون فيها على المشاهدة، ومتى سلموا أن عقل الله أشرف العقول فأشرف العقول لا محالة يتنزه عن الجهل بما تعلمه العقول المخلوقة، وإن اختلف علم الخالق عن علم المخلوق.»

أما أصحاب النقل والوقوف عند الحروف فقد سخفوا في فهم الصفات سخفا ينكره كل عقل سليم، فأثبتوا له أعضاء مجسمة، وقالوا بتحيزه في المكان، وأجازوا رؤيته بالعين كما نرى المحسوسات، وبلغ بعضهم من السخف أنه سئل: ألله يد؟ فقال: نعم، كيدي هذه! وليس لهم شأن عند جمهرة المسلمين.

وقد توسط أصحاب النقل مع اتخاذ الحجة والبرهان من المعقول فقالوا: إن الصفات متعددة ، وإن العلم غير القدرة، والرحمة غير الجبروت، وإن اليد هي القدرة، والوجه هو الوجود، وليست هي بأعضاء يجوز فيها التجسيم، ولكن الصفات موجودة والكيفيات مجهولة، فهم يمسكون عن البحث في ذات الله؛ لأنه جل وعلا بغير شبيه وليس كمثله شيء، واحتجوا لذلك بسببين؛ أحدهما: أن الدين ينهى عن الخوض في ذلك لما ورد في التنزيل من قوله تعالى:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا

والسبب الثاني أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، والخوض في صفات الباري بالظن لا يجوز.

وقد أجاز هؤلاء رؤية الله بمعنى العلم الذي يحصل من النظر لا بمعنى الحس الذي يقع على المجسمات.

وإجماع المسلمين على أن هؤلاء هم أهل السنة، وأن معرفتهم بالله هي أسلم المعرفة التي يطالب بها المؤمنون.

والواقع أن التسليم في المسائل الإلهية أمر يقتضيه العقل ولا يأباه؛ لأن القياس إنما يكون فيما يقاس عليه، وما ليس له شبيه ولا مثيل لا يقاس عليه إلا كان القياس عرضة للخطأ والوهم والقصور، ونحن نعيش في الزمان الذي له ماض وحاضر وغيب مجهول، فكيف نقيس أعمالنا على الموجود الأبدي وليس في الأبد ماض ولا حاضر ولا نقطة يجوز منها الابتداء أو يصير إليها الانتهاء؟ فكيف نمنع أن يتكلم الله مثلا عن المستقبل كأنه واقع أو عن الماضي كأنه حاضر؟ أو يتكلم عن الأمور باعتبار جملتها في الأبد الأبيد ونحن لا نرى إلا الجزء بعد الجزء والحال بعد الحال؟ •••

ومن الأمثلة العالية للفكرة الإلهية في الإسلام خطبة وردت في نهج البلاغة ذكرت فيها الصفة بمعنى التمثيل لذات الله لا بمعنى الأسماء الحسنى، فإن الأسماء الحسنى ثابتة في القرآن الكريم لا ينكرها مسلم، وهذا بعض ما جاء في تلك الخطبة المنسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه:

الحمد لله الذي لا يبلغ من حقه القائلون، ولا يحصي نعماه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى عنه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده، أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، أجال الأشياء لوقتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها.

Unknown page