وكان فيلون يرفض أقوال الرواقيين التي تشبه القول بوحدة الوجود، وتجعل الله من العالم والعالم من الله.
ولكنه كذلك كان يرفض مذهب أرسطو في تجريده الله عن العمل للمخلوقات وزعمه أن كمال الله يقتضي هذا التجريد.
قال: «إن بعضهم ممن فاق إعجابهم بالعالم إعجابهم بصانعه يقولون: إن العالم أبدي بغير بداية، وينسبون إلى الله نسبة خلت من التقوى والحق إذ يجردونه من العمل، وكان أحرى بهم أن يقفوا موقف الروعة أمام قدرته: قدرة الصانع والأب، ولا يتجاوزوا الحد في تعظيم العالم وتمجيده، وقد كان موسى الذي بلغ الذروة في الفلسفة واهتدى بوحي الله إلى أعمق أسرار الطبيعة يعلم أن الضرورة أوجبت أن يوجد في الكون سبب محرك ومادة لا حراك بها، وأن السبب المحرك هو العقل
Nous
أو هو عقل الكون الطهور الذي يعلو على الفضيلة والعلم، ويعلو على الخير نفسه وعلى الجمال نفسه، أما المادة التي لا حراك بها فليست لها روح حياة ولا طاقة لها بالحركة من عند ذاتها، ولكنها متى تحركت بالعقل واستمدت منه روح الحياة صارت إلى هذا الصنع المحكم العجيب المتجلي لنا في هذا العالم، وإن أولئك الذين يحسبون العالم بلا بداية لا يبصرون أنهم يقطعون بذلك الحسبان ألزم عنصر من مقومات الدين وهو الإيمان بالعناية الإلهية؛ لأن العقل ينبئنا أن الأب الخالق يعنى بما خلق ...»
وغني عن القول كذلك أن فيلون يرفض زعم الزاعمين أن الله يحتويه مكان أو زمان لأنه محيط بكل مكان وكل زمان، ويرفض زعم الزاعمين أن الله لا يستجيب للصلاة لأن الصلاة أصل من أصول العلاقة بين الإنسان والله، وعنده أن الله يستجيب دعاء «الكلمة» أو اللوجوس لهذه الموجودات الأرضية، وأن موسى عليه السلام هو اللوجوس الذي استجاب الله دعاءه في سيناء، وهو الذي خلص من شوائب المادة فلحق بالطبيعة الإلهية
Transmutatur in divinus .
قال: «إن الله أحد، ولكنه بقدرته خير وحاكم، فبالخير صنع العالم، وبالحكم يديره، وثمة شيء ثالث يجمع بين القدرتين وهو اللوجوس أو الكلمة؛ لأن الله - بالكلمة - يجود ويحكم ... والكلمة كانت في عقل الله قبل جميع الأشياء ... وهي متجلية في جميع الأشياء.» •••
وقد كان مذهب فيلون مبدأ ثورة دينية في بني إسرائيل، فتابعه أناس في التأويل والتفسير، وأحجم أناس عن كل تأويل وتفسير مشفقين على التراث القديم، وانتهى الخلاف إلى انشقاق حاسم بين القرائين وهم المتلزمون للنصوص وبين الربانيين الذين يجيزون تفسيرها والتوفيق بينها وبين مقررات العلم ومذاهب الحكمة، ولم يحدث ذلك إلا بعد تسعة قرون من عصر فيلون، أي بعد شيوع الفلسفة الإسلامية واستفاضة البحث في مسألة القضاء والقدر على الخصوص؛ لأنها هي المسألة التي استحكم عليها الخلاف بين القرائين القائلين بالقضاء والربانيين القائلين بالاختيار. •••
وقد نبغ بعد فيلون فلاسفة من اليهود يدخلون في أغراض الفلسفة العامة ولا يدخلون في أغراض هذا الفصل؛ لأنهم لم يشتغلوا بالتوفيق بين أحكام النصوص الكتابية وأحكام الفلسفة الإلهية، وليس بين فلاسفتهم الذين اشتغلوا بالتوفيق بين النص والعقل من هو أولى بالذكر في هذا المقام من موسى بن ميمون.
Unknown page