الإمامة العظمى - الريس
الإمامة العظمى - الريس
Publisher
(دار البرازي - سوريا)
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٧ هـ
Publisher Location
(دار الإمام مسلم - المدينة المنورة)
Genres
مقدمة
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته … أما بعد:
فإنَّ كلَّ ما حكمَ الله ورسولُه فيه من أمور الحياة = واجبٌ علينا الإيمانُ به والامتثالُ له.
قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].
وإنَّ التحاكم للكتاب والسُّنة والرجوع إليهما أصلٌ عظيم يجب أن يكون نصبَ عين كلِّ متكلم في الشرع، فلا حقَّ، ولا راجحَ إلَّا ما دلَّ عليه الوحي.
وقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أنَّ الرجوع والتحاكم عند النزاع والاختلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتابُ المنزل من السماء، والرسولُ المؤيَّد بالأنباء كما قال تعالى: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٤].
وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢١٣].
1 / 5
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩]، وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾» (^١).
قال الحافظ ابن كثير ﵀ في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾:
«قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ وهذا أمرٌ من الله ﷿ بأنَّ كل شيء تنازعَ الناسُ فيه من أصول الدين وفروعه أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسُّنة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾، فما حكم به الكتابُ والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحقُّ، وماذا بعد الحق إلَّا الضلال!، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي رُدُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجرَ بينكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ فدلَّ على أنَّ من لم يتحاكم في محلِّ النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك = فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خيرٌ ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ أي: وأحسَنُ عاقبةً ومآلًا، كما قاله السُّدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسَنُ جزاءً؛ وهو قريب».
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١٢/ ٤٦٥).
1 / 6
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي ﵀: «والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تُحصى واردةً بإلزام جميع المكلَّفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وليس في شيءٍ منها التخصيصُ بمن حصَّلَ شروط الاجتهاد المذكورة، وسنذكر طرفًا منها لنبيِّن أنه لا يجوز تخصيصُها بتحصيل الشروط المذكورة.
قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٤].
والمراد بـ ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ هو القرآن والسنة المبيِّنة له؛ لا آراء الرجال.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: ٦١].
فدلَّت هذه الآية الكريمة أنَّ من دُعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصَدَّ عن ذلك، أنه من جملة المنافقين؛ لأنَّ العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
والردُّ إلى الله والرسول هو الردُّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول بعد وفاته ﷺ هو الردُّ إلى سُنَّته.
وتعليقُه الإيمان في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ على ردِّ التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يُفهم منه أن مَنْ يردُّ التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.
ثم قال: وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٧١].
1 / 7
ولا شكَّ عند أحدٍ من أهل العلم أنَّ طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورةٌ في العمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ» (^١).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول ﷺ في ثلاثةٍ وثلاثين موضعًا» (^٢).
وقال الآجري: «فَرضَ على الخلق طاعته ﷺ في نيِّفٍ وثلاثين موضعًا من كتابه ﷿» (^٣).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ذكرَ الله طاعة الرسول ﷺ وأتباعَهُ في نحوٍ من أربعين موضعًا من القرآن كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾» (^٤).
وقال أيضًا: «وقد أمر الله بطاعة رسول الله ﷺ في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن» (^٥).
وليس لأحدٍ أن يقلِّد عالمًا معظَّمًا أو غيره، وقد بان له الدليل في خلاف قوله ورأيه، وقد نقل الإمام ابن القيم ﵀ عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ﵀ أنه قال: «أجمعَ الناس على أنَّ من استبانت له سُنَّةٌ عن رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدَعَها لقول أحدٍ من الناس» (^٦).
_________
(^١) أضواء البيان (٧/ ٣٠٠ - ٣٠٤).
(^٢) الصارم المسلول (١/ ٥٩).
(^٣) الشريعة (١/ ٤١١).
(^٤) مجموع الفتاوى (١/ ٤).
(^٥) مجموع الفتاوى (١٩/ ١٠٣).
(^٦) إعلام الموقعين (٢/ ٢١١).
1 / 8
وممَّا حكمَ الله ورسوله فيهما ما يتعلَّق بأحكام الإمامة العظمى والولاية والسلطان، فلا يصحُّ لمن أراد نجاة الدنيا والآخرة أن يخالف حكمَ الله ورسوله ﷺ في هذا الباب إلى حكم غيره من الآراء البشرية الناقصة، أو الاستحسانات المتوهَّمة.
قال الإمام ابن القيم: «والاعتراضُ ثلاثة أنواع سارية في الناس؛ والمعصومُ من عصَمهُ الله منها:
النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشُّبه الباطلة، التي يسمِّيها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومُحالات ذهنية.
النوع الثاني: الاعتراض على شرعهِ وأمره؛ وأهلُ هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:
أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيسَتهِم، المتضمِّنة تحليلَ ما حرَّم الله ﷾، وتحريمَ ما أباحه، وإسقاطَ ما أوجَبه، وإيجابَ ما أسقَطه، وإبطالَ ما صحَّحه، وتصحيحَ ما أبطَلُه، واعتبارَ ما ألغاهُ، وإلغاءَ ما اعتبرَهُ، وتقييدَ ما أطلقَهُ، وإطلاقَ ما قيَّده.
وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلفُ قاطبةً على ذمِّها، والتحذير منها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذَّروا منهم، ونفَّروا عنهم، ثم قال:
النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة، التي لأربابِ الولايات التي قدَّموها على حكم الله ورسوله، وحكَموا بها بين عباده، وعطَّلوا لها وبها شَرعَهُ وعَدلَهُ وحُدودَه.
فقال الأولون: «إذا تعارضَ العقلُ والنقل أيُّهما يُقدَّم؟: قدَّمنا العقل».
وقال الآخَرون: «إذا تعارض الأثر والقياس، قدَّمنا القياس».
1 / 9
وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: «إذا تعارضَ الذوقُ والوجد والكشف وظاهرُ الشرع، قدَّمنا الذوق والوجد والكشف».
وقال أصحاب السياسة: «إذا تعارضت السياسة والشرع، قدَّمنا السياسة».
فجعلت كلُّ طائفة قُبالةَ دينِ الله وشرعهِ طاغوتًا يتحاكمون إليه.
فهؤلاء يقولون: «لكم النقلُ ولنا العقل»، والآخَرون يقولون: «أنتم أصحابُ آثارٍ وأخبار، ونحنُ أصحابُ أقيسة وآراء وأفكار»، وأولئك يقولون: «أنتم أربابُ الظاهر، ونحن أهلُ الحقائق»، والآخَرون يقولون: «لكم الشرعُ ولنا السياسة».
فيا لها من بليَّةٍ عمَّتْ فأعمت، ورزَّيةٍ رمَتْ فأصمَّت، وفتنةٍ دعَتِ القلوبَ فأجابها كلُّ قلبٍ مفتون، وأَهويةٍ عَصفَتْ فصُمَّتْ منها الآذانُ وعَميت منها العيون، عُطِّلَتْ لها - والله - معالمُ الأحكام، كما نُفيتْ لها صفاتُ ذي الجلال والإكرام، واستند كلُّ قومٍ إلى ظُلمِ وظُلماتِ آرائهم، وحكَموا على الله وبين عبادهِ بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، وصار لأجلها الوحيُ عُرضةً لكلِّ تحريفٍ وتأويل، والدينُ وقفًا على كلِّ إفساد وتبديل» (^١).
ولا يزال الحال كما أخبر الإمام ابن القيم، فكم رأينا مَنْ يعارض شرعَ الله ودينَه بمثل ما ذكر.
ومن الأمثلة على ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه؛ ألا وهو مسألة الإمامة والولاية، فقد وقع فيها من الخلط والتلبيس ما الله به عليم، فقد وقع من الناس في هذا تحريفٌ وتبديل بدوافعَ شتَّى، وامتطوا في ذلك من الأسماء البراقة ليروجَ
_________
(^١) مدارج السالكين (٢/ ٦٨).
1 / 10
على الناس باطلُهم، ومن الأسماء التي تزيَّنوا بها اسمُ الحرية والحقوق وهكذا.
وقد نسوا أو تناسوا أن شرع الله ضبطَ الحقوق والحريات بميزان عدلٍ وحكم قسطٍ؛ قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: ١٧].
وقال: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، فكلُّ حقٍّ أو حرية تعارضُ الشريعة المحمدية فهي عبودية، إمَّا للهوى، أو للنفس، أو للحزب، أو غيرها.
ألا يعلم أولئك أننا عباد لله، والعبدُ لا يخرج عما يريد سيِّدُه ومولاه سبحانه، ومَن فعل ذلك وخرج عما يريده الله فقد خالف الحرية الحقَّة والحقوق المنضبطة.
لذا كل ما جاء به الشرع في باب الإمامة والولاية، فهو عدلٌ وعين الحكمة، ومَن خالف ذلك ضلَّ وأضلَّ.
ويجب لمن درس أبواب الإمامة والولاية أن يدرسها بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وتمييز الأقوال السلفية من الأقوال الدخيلة البدعية.
وقد وقع بعض المتأخرين في أقوال محدَثة في باب الإمامة والولاية، كما وقع ذلك من بعض المتأخرين في باب أسماء الله وصفاته؛ لذا يجب أن يتحاكم الجميعُ إلى الكتاب والسنة الصحيحة بفهم سلف هذه الأمة.
فكم نحن في حاجة أن نتذكر ونذكِّر بأهمية الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وأنهما الحجَّة في باب الإمامة، كما كنَّا نحاجُّ غيرنا من أهل البدع بهذه الأصول الثلاثة في إثبات أسماء الله وصفاته، ونتناقل ما ذكره العلماء في ذلك، كقول ابن قدامة في مقدمة اللمعة: «وقد أُمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء
1 / 11
بمنارهم، وحُذِّرنا المحدثات وأُخبرنا أنها من الضلالات.
فقال النبي ﷺ: «فعليكم بسُنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدينَ المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة» (^١).
قال عبد الله بن مسعود ﵁: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم» (^٢).
وقال عمر بن عبد العزيز ﵁ كلامًا معناه: «قِفْ حيث وقفَ القوم، فإنهم عن علمٍ وقَفوا، وببصَرٍ نافذٍ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدثَ بعدَهُم، فما أحدَثه إلَّا مَنْ خالف هديهم ورغبَ عن سُنَّتهم، ولقد وصَفوا منه ما يشفي وتكلَّموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسِّر، وما دونهم مقصِّر، لقد قصَّر عنهم قومٌ فجفَوا، وتجاوزَهُم آخرون فغلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم» (^٣).
_________
(^١) أخرجه أبو داود (٤٦٠٧) والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٢)، وأحمد (٤/ ١٢٦) من حديث العرباض بن سارية ﵁، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه أبو نعيم والبزار والحاكم وابن عبدالبر والضياء المقدسي والشيخ الألباني، وحسَّنه البغوي وابن القيم، انظر جامع العلوم والحكم (١/ ٢٥٨)، وجامع بيان العلم وفضله (٢/ ٣٤٨)، وشرح السنة (١/ ٩٧)، وإعلام الموقعين (٤/ ١٤٨)، واتباع السنن واجتناب البدع (ص ٢٠)، وإرواء الغليل (٨/ ١٥٠).
(^٢) أخرجه الدارمي (٢١١)، والطبراني في الكبير (٩/ ١٤٥)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (٧٩)، وإسناده صحيح.
(^٣) أخرجه أبوداود (٤٦١٢)، والآجري في الشريعة (٢/ ٩٣٠).
1 / 12
وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي ﵁: «عليك بآثار مَنْ سلف وإنْ رفضَكَ الناس، وإياكَ وآراءَ الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول» (^١) انتهى المقصودُ نقله من كلام ابن قدامة» (^٢).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإنما المتبع في إثبات أحكام الله كتابُ الله وسنةُ رسوله ﷺ، وسبيلُ السابقين أو الأولين، لا يجوز إثباتُ حكم شرعيٍّ بدون هذه الأصول الثلاثة، نصًّا واستنباطًا بحال» (^٣).
وقال في أوائل الفتوى الحموية مبيِّنًا أهمية علم السلف ووجوب الرجوع إليه خلافًا لأقوال المتكلمين:
«ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بُعث فيه رسول الله ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غيرَ عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضدَّ ذلك إما عدمُ العلم والقول، وإمَّا اعتقادُ نقيض الحقِّ وقولُ خلافِ الصِّدق، وكلاهما ممتنع» (^٤).
إن هذا الأصل - وهو التمسك بطريقة السلف في فهم الدين كله - مهمٌّ للغاية؛ نحتاج أن نذكّر به أهل السنة اليوم كثيرًا؛ لأنه بدأ كثير منهم يضعفُ عن معرفته والتمسك به، ومن ذلك الاستمساك بمنهج السلف وفهمهم لباب الإمامة والولاية التي قلَّ أن يؤلَّفَ كتابٌ عقَدي إلَّا ويذكر منهجَ السلف في باب
_________
(^١) الآجري في الشريعة (١/ ٤٤٥).
(^٢) لمعة الاعتقاد (ص: ٨).
(^٣) اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٢٠٧).
(^٤) ص: ٣.
1 / 13
الإمامة، ومن خالف في ذلك فهو مبتدع ضال.
لذا احذروا - عباد الله - مخالفة سبيل السلف إلى شواذِّ بعض الخلف في أبواب الدين ومنها هذا الباب العظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرَّد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كلُّ قول من تلك الأقوال سائغًا لم يُخالف إجماعًا؛ لأن كثيرًا من أصول المتأخرين محدَثٌ مبتدعٌ في الإسلام مسبوقٌ بإجماع السلفِ على خلافهِ، والنزاعُ الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعًا، كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ممن قد اشتهرت لهم أقوالٌ خالفوا فيها النصوصَ المستفيضة المعلومة وإجماعَ الصحابة» (^١).
وإن مما يجب إدراكُه والإحاطة به أن الإخلالَ بأصل الإمامة سببٌ لفساد الدنيا والدين.
قال ابن عبدالبر: «لأن في منازعته والخروجِ عليه استبدالَ الأمن بالخوف؛ ولأن ذلك يحمل على هِراقِ الدماء، وشنِّ الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظمُ من الصَّبر على جَوره وفسقهِ، والأصولُ تشهدُ والعقلُ والدينُ أنَّ أعظَمَ المكروهَين أَولاهُما بالترك» (^٢).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظُلم، كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ الصحيحة المستفيضة عن النبي ﷺ؛ لأن الفساد في القتال
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١٣/ ٢٦).
(^٢) التمهيد (٢٣/ ٢٧٩).
1 / 14
والفتنة أعظمُ من الفساد الحاصل بظُلمهم بدون قتال ولا فتنة؛ فيُدْفَعُ أعظَمُ الفسادين بالتزام أدناهُما، ولعلَّه لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته، والله تعالى لم يأمر بقتال كلِّ ظالم وكلِّ باغٍ كيفما كان، ولا أمرَ بقتال الباغين ابتداءً» (^١).
وقال الإمام ابن القيم: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزمُ ما هو أنكَرُ منه، وأبغَضُ إلى الله ورسوله = فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقُتُ أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسولَ الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نُقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصَّلاة» (^٢)، وقال: «مَنْ رأى من أميرهِ ما يكرهُه، فليصبر» (^٣)، «ولا ينزعنَّ يدًا من طاعته» (^٤).
ومَن تأمَّلَ ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعةِ هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد
_________
(^١) منهاج السنة النبوية (٣/ ٣٩١).
(^٢) هذا عبارة عن حديثين: أخرج مسلم (٦٤٨) عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ وضربَ فخذي: «كيف أنتَ إذا بقيتَ في قوم يؤخِّرون الصلاة عن وقتها؟» قال: قال: ما تأمر؟ قال: «صَلِّ الصلاة لوقتها ..»، وأخرج مسلم (١٨٥٥) عن عوف بن مالك، عن رسول الله ﷺ قال: «خيارُ أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم وتصلُّون عليهم، وشِرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة».
(^٣) أخرجه البخاري (٧٠٥٣) ومسلم (١٨٤٩)، من حديث ابن عباس ﵁.
(^٤) أخرجه مسلم (١٨٥٥) من حديث عوف بن مالك ﵁.
1 / 15
كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دارَ إسلام عزمَ على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريشٍ لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهدٍ بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظمُ منه كما وجد سواء» (^١).
إنَّ ما يذكره ابن عبدالبر وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم من الفساد المترتِّب على عدم الالتزام بمنهج السلف في أصل الإمامة = نراهُ بأعيينا اليوم فيما يسمَّى بالربيع العربي؛ الذي أُزهقت فيه أنفس عشرات الآلاف من المسلمين، بل وتجاوزت مائة ألف نفس في دولة مسلمة واحدة، فكيف إذا جمع ضحاياها بضحايا الدول الأخرى.
كل هذا عدا الأعراض المنتهكة والأموال المتلَفة، ومع وضوح هذه المفاسد وضوحَ الشمس في رابعة النهار، إلَّا أن دعاة الفتنة يزدادون عمايةً ونفخًا في هذه الفتنة التي أكلت الأخضر واليابس بتأصيلاتٍ بدعيةٍ عن مذهب السلف أجنبية، بل وصاروا يُحيون كتبًا أُلِّفت على طريقة أهل البدع في أصل الإمامة.
لذا عزمتُ - مستعينًا بمولاي سبحانه - على ذكر تأصيلات السلف في أصل الإمامة والولاية، وتنقية ذلك من أصولٍ بدعية دخيلة سواءٌ كانت بدعًا خارجية - أو غيرها - قدر استطاعتي.
_________
(^١) إعلام الموقعين (٣/ ١٢).
1 / 16
فقمت بتوثيق النقول عن السلف، ثم كشف شبهات مثارة على هذا الأصل، ثم أعقبتُ ذلك بردودٍ على كتابين عصريين معتمدَين في تأصيل الأصول البدعية في أصل الإمامة والولاية.
١ - الكتاب الأول: «الإمامة العظمى» للدكتور عبد الله الدميجي.
٢ - والكتاب الثاني: «الحرية والطوفان» للدكتور حاكم العبيسان.
ورددت على مقالين متضمِّنين لأصولٍ بدعية في مسألة الإمامة للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، فصار الكتاب على النحو التالي:
الفصل الأول: ذكرت فيه تسعة تأصيلات في الإمامة والولاية.
الفصل الثاني: ذكرت فيه أكثر من ستين شبهة في أصل الإمامة، وبيَّنتُ زَيفها بحمد الله تعالى.
الفصل الثالث: استدراكات على كتاب «الإمامة العظمى» لعبد الله الدميجي، وقد بلغ عدد الاستدراكات عشرين استدراكًا.
الفصل الرابع: استدراكات على مقالين في الإمامة لعبد العزيز آل عبد اللطيف، وقد بلغ عددها أربعة عشر استدراكًا.
الفصل الخامس: استدراكات على كتاب «الحرية والطوفان» لحاكم العبيسان.
الفصل السادس: إشارات لكتاب «أسئلة الثورة» لسلمان العودة (^١).
_________
(^١) وليعلم القارئ أنَّ كثيرًا من الحركيين المخالفين في هذا الأصل دافِعُهم الحزبية، والهوى، ولكي تدرك ذلك تأمل في مواقفهم من الثورات عند ظهورها، فقد كانوا ينفخون فيها ويشجعون عليها، متجاهلين أحاديث السمع والطاعة، فلما تولى حكم مصر الإخواني «محمد مرسي» وقامت الثورة ضدَّه أشاعوا أحاديثَ السمع والطاعة، فلما سقط حكم «محمد مرسي» رجعوا للنفخ في الثورات، وتهييج الناس على حكامهم!.
1 / 17
وقد كنت بدأت بالرد على كتاب «أسئلة الثورة»، وكتبت أكثر من عشرين استدراكًا، لكن منعني من الإكمال أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أنه معتمد كثيرًا على كتاب (الحرية والطوفان) لحاكم عبيسان، فالرُّد على أصلهِ كافٍ في الردِّ عليه.
الأمر الثاني: أنه قد كفاني الردَّ عليه الشيخ الفاضل الدكتور «فهد بن سليمان الفهيد» عميد كلية أصول الدين سابقًا في كتابه «الجناية على الإسلام في أسئلة الثورة»، وأيضًا: ما كتبه الشيخ علي أبا بطين في كتابه «كشف أبرز شُبه كتاب أسئلة الثورة»، وامتاز كتاب الدكتور فهد الفهيد بتعقُّبه لسلمان العودة في كلِّ خطأ وقف عليه، وقدَّم للكتابين فضيلة شيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله.
الأمر الثالث: أني بعد أن كتبتُ أكثر من عشرينَ استدراكًا على كتاب «أسئلة الثورة» نظرتُ في كتاب «الجناية على الإسلام في أسئلة الثورة»، فوجدتُ ما كتبتهُ موافقًا ومتَّفقًا مع ما كتبه الشيخ فهد، فرأيتُ أنه لا داعي للتكرار، ثم حمدت الله؛ لأن من علامة صحَّة مذهب أهل السنة اتفاقهم وعدم اختلافهم.
قال أبو المظفر السمعاني: «ومما يدلُّ على أنَّ أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعتَ جميعَ كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم؛ قديمِهم وحديثهم، مع اختلافِ بلدانهم وزمانهم وتباعُدِ ما بينهم في الديار وسكونِ كلِّ واحدٍ منهم قطرًا من الأقطار = وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمطٍ واحد يجرون فيه على طريقة، لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولُهم في ذلك واحد، وفعلُهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا ولا تفرُّقًا في شيء ما وإنْ قلَّ؛ بل لو جمعت
1 / 18
جميعَ ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسانٍ واحد، وهل على الحقِّ دليلٌ أبيَنُ من هذا» (^١).
وهذا بخلاف أهل البدع فهم في أمرٍ مريجٍ، كلٌّ منهم على اعتقاد؛ بل الواحد منهم يناقضُ نفسه في اعتقاده، ومن البراهين على هذا ما في ذلك الكتاب من تناقض، واختلافِ المردود عليهم في باب الإمامة.
وقد أسميت هذا الكتاب:
الإمامة العظمى -تأصيلات أهل السنة السلفيين والرد على الشبهات المخالفين-
سيجد القارئ لهذا الكتاب تكرارًا في بعض الردود من جهة إيراد الأدلة وغير ذلك، وهذا ليس غريبًا؛ لأن طبيعة الكتاب الردُّ على أكثر من واحد، وطبيعي أن تكرر الشبهة نفسها، مما يستدعي تكرار الجواب عليها، وقد حاولتُ تفادي هذا إما باختصار الجواب تارةً عند ذكره مرة أخرى، أو بالإحالة على ما سبق ذكره؛ لذا سيجد القارئ إحالات كثيرة، وأيضًا سيجد نقلًا للشبهة، وقد تكون مطولةً والجوابُ عليها مختصرًا؛ لأنه قد سبق ذكرها.
وقد استطردت قليلًا في أشياء لا تتعلق بصلب الكتاب عند ذكر الشبهات، وعند الرد؛ للحاجة وللأهمية.
_________
(^١) الانتصار لأصحاب الحديث (ص: ٤٥).
1 / 19
وإني لأرجو أن يكون هذا الكتاب (^١) مفيدًا للسُّني لمعرفة تأصيلات أهل السنة في باب الإمامة، والرد على المخالفين والمشغِّبين على هذا الأصل، فإنَّ الخطأ في باب الإمامة شنيع، فإنَّ أولَ بدعة فرَّقتِ الأمة وتحزَّبت عليها طائفة هي بدعة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ وكفّروه، ولم يعتقدوا له إمامة ولا ولاية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأول مَنْ ضلَّ في ذلك هم الخوارج المارقون حيث حكَموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته» (^٢).
وقال أيضًا: «ولهذا كان أول مَنْ فارقَ جماعة المسلمين من أهل البدع (الخوارج) المارقون» (^٣).
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧]:
«فإنَّ أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا، حين قسمَ رسولُ الله ﷺ غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة».
_________
(^١) ومن الكتب المفيدة المفردة في هذه المسألة كتاب «البيان الواضح لمذهب السلف الصالح» وفيه وقفة مع كتاب «ثورة ٢٥ يناير برؤية شرعية» لممدوح جابر، لمؤلفه الشيخ محمد بن كمال السيوطي، وكتاب «شبهات حول الخروج والثورات» للشيخ محمود الخولي، وقد استفدت من هذين الكتابين.
(^٢) الاستقامة (ص: ١٣).
(^٣) مجموع الفتاوى (٣/ ٣٤٩).
1 / 20
وقال الحافظ ابن رجب: «والاختلافُ في مسمَّياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاةَ الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخَلوهم في دائرة الكفر، وعامَلوهم معاملة الكفار، واستحلُّوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم» (^١).
أسأل الله الرحمن الرحيم أن يتقبل هذا الكتاب، ويجعله سببًا لرضاه ولنشر دينه الحق، وسببًا لرجوع المسلمين في أصل الإمامة لما عليه السلف الصالح، إنه الرحمن الرحيم.
كتبه
د عبد العزيز بن ريس الريس
المشرف العام على شبكة الإسلام العتيق
rayes06@gmail.com
_________
(^١) جامع العلوم والحكم (١/ ١١٤).
1 / 21
الفصل الأول
تأصيلات في الإمامة
عند أهل السنة
1 / 23
التأصيل الأول
قرَّر أهل السنة أنه يجب على المسلمين أن ينصبوا إمامًا وسلطانًا، واستدلوا لتقرير هذا الأصل بأدلة، أكتفي منها بذكر دليلين:
الدليل الأول: الإجماع:
فقد أجمع العلماء على وجوب تنصيب سلطانٍ ووالٍ على المسلمين.
قال الماوردي: «وعَقدُها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع وإن شذَّ عنهم الأصَمُّ» (^١) اهـ.
قال ابن حزم: «اتفق جميعُ أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجبٌ عليها الانقياد لإمامٍ عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، التي أتى بها رسول الله ﷺ، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا: لا يلزم الناسَ فرضُ الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم» (^٢).
الدليل الثاني: قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (^٣):
وذلك أن مصالح العباد في دينهم ودنياهم لا تستقيم ولا تصلح إلا بالإمام
_________
(^١) الأحكام السلطانية (ص: ١٥).
(^٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل (٤/ ٧٢)، وراجع للاستزادة: تفسير القرطبي (١/ ٢٦٤)، وشرح النووي على مسلم (١٢/ ٢٠٥)، والصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (١/ ٢٥)، وتاريخ ابن خلدون (١/ ٢٣٩).
(^٣) انظر: روضة الناظر وجنة المناظر (١/ ١١٨)، والبحر المحيط في أصول الفقه (١/ ٢٩٦).
1 / 25
والسلطان.
قال الشاعر الجاهلي «الأفوه الأودي»:
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم … ولا سراةَ إذا جُهَّالهم سادوا (^١)
وقال الإمام عبدالله بن المبارك (^٢):
إنَّ الجماعة حبلُ الله فاعتصموا … منهُ بعُروته الوثقى لمن دانا
كم يدفعُ الله بالسلطان مُعضلةً … في ديننا - رحمةً منه - ودنيانا
لولا الخلافةُ لم تأمَنْ لنا سُبلٌ … وكان أضعفُنا نهبًا لأقوانا
_________
(^١) لسان العرب (٧/ ٢١٠).
(^٢) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (١/ ٢٣١).
1 / 26