بسم الله الرحمن الرحيم
بدعة الإمساك قبل الفجر، وحرمة الأكل والشرب بعده
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداُ عبده ورسوله ﷺ.
أما بعد:
فقد بلغنا أن أناسًا ممن ينوون الصيام يأكلون ويشربون بعد الفجر الصادق، وآخرون يمنعون الناس من الأكل والشرب قبل الفجر الصادق بدعوى الحيطة.
ولما كان في هذين الأمرين إفراط وتفريط، وغلو ومجافاة، ومخالفة جريئة لما دل عليه الكتاب والسنة دلالة صريحة، ولما اتفق عليه أهل العلم من:
- إباحة الأكل والشرب للصائم حتى يطلع الفجر الصادق.
- تحريم الأكل والشرب للصائم بعد طلوع الفجر الصادق.
والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى:
﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ...﴾ الآية (١).
ففي هذه الآية: دلالة واضحة قطعية على جواز الأكل والشرب حتى الفجر الصادق، وحرمته عند تبيُّنه وظهوره.
ولكي تتضح المسألة؛ ينبغي أن يعلم أن ثمة فجرين؛ يطلع أولًا فجر كاذب ثم يعقبه بعد ٢٠ دقيقة تقريبًا الفجر الصادق.
ومن السنة:
- عن عائشة ﵂: أن بلالًا كان يؤذن بليل، فقال الرسول ﷺ: «كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» متفق عليه (٢).
(١) - البقرة: [١٨٧] (٢) - البخاري: [٢/ ٢٣١]، ومسلم: [٢/ ٧٦٨]
1 / 1
- وعن جابر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «الفجر فجران؛ فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان، وهو الكاذب فلا يُحِل الصلاة ولا يُحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلًا في الأفق، وهو الفجر الصادق فإنه يُحل الصلاة ويُحرم الطعام» (١).
وبهذا يُعلم أن الفجر فجران: فجر كاذب يطلع أولًا، ويظهر نوره على شكل ذنب السرحان (الذئب) - أي: عمودًا في الأفق ومن الأسفل دقيقا ومن الأعلى كبيرًا عريضًا - وفجر صادق، يطلع بعد الفجر الكاذب، ويكون موازيًا للأفق .. وزمن ما بينهما من ١ - ٢٥ دقيقة تتفاوت حسب فصول السنة.
ولأجل هذا شُرع للفجر أذانان؛ الأول: مع الفجر الكاذب، وهو تنبيهي، ينبه على قرب طلوع الفجر الصادق، وغايته: أن يتعجل المتسحِّر، ويستيقظ النائم، ويرجع القائم، ويتجهز الناس للصلاة، وهذا الأذان لا يُحرم الطعام، ولا يُحل صلاة الفجر، ويسمى في بعض البلدان - خطأً - أذان الإمساك! إذ يلزمون الناس - غلوًا - أن يمسكوا عن الطعام عند سماعة قبل الفجر الصادق، وهذا الأذان الأول هو الذي يقال فيه: (الصلاة خير من النوم).
والأذان الثاني: أذان الفجر الصادق، وهو الذي يُحرم الطعام للصائم، ويُبيح صلاة الفجر للمصلي، غير أن الشارع قد استثنى من ذلك حالة واحدة وهي: مَن كان يأكل وأذَّن المؤذِّن للفجر الصادق، فيباح له قضاء حاجته من الطعام على وجه العجلة ... وذلك لقول النبي ﷺ: «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه، حتى يقضي حاجته منه» (٢).
والمقصود بالأذان هاهنا: أذان الفجر الصادق لما يلي:
الأول: إباحة الرسول ﷺ الطعام بعد الأذان الأول آذان الفجر الكاذب، «فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يُحل الصلاة، ولا يُحرم الطعام»، وعلى هذا؛ فسواء كان الطعام على يده أو ليس عليها، فإنه يباح للصائم الأكل بعد الفجر الكاذب، ولذا؛ فلا معنى لحمل الحديث على الأذان الأول.
الثاني: قوله ﷺ: «إن بلالًا يؤذن بليل ...»، ومن المعلوم أن الطعام لم يحرم للصائم في الليل - بالكتاب والسنة والإجماع -.
(١) - صحيح الجامع [٤٢٧٨] (٢) - صحيح الجامع [٦٠٧].
1 / 2
الثالث: ما ورد في إحدى روايات الحديث زيادة عند أحمد (١) وغيره: «أن المؤذن كان يؤذن إذا بزغ الفجر».
وأما إذا أُذن للفجر الصادق، وليس الطعام بين يدي الصائم، فلا يحل لأحد على الإطلاق تناول لقمة طعام، أو قطرة ماء، وما يفعله بعض الناس من المسارعة للشرب عند سماعهم أذان الفجر خطأ ظاهر، إذ لا يحل لهم البتة ذلك، إلا إذا كانوا يعتقدون أن المؤذن يتقدم في أذانه!
وأما ما عدا ذلك من الروايات أو الأخبار التي يتناقلها الناس عن بعض أهل العلم في المنع من الأكل قبل الفجر الصادق، أو جوازه بعده، فلا يلتفت إليها؛ لأنه لا تقوم بها حجة، ولا ينهض بها دليل، وإلا فإن منع الصائم من الأكل قبل الفجر الصادق، أو إباحة الطعام بعده؛ هو تعطيل للنصوص المحكمة.
وأما الروايات عن بعض أهل العلم التي تفيد جواز الأكل والشرب حتى بعد طلوع الفجر الصادق فمردودة، لمخالفتها محكم القرآن، وصريح السنة؛ وإذا ثبت النص من الكتاب والسنة، وكان صريح الدلالة، فلا يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان، ما لم يكن إجماعًا فيُنظر!
وكذالك يُقال: إذا ثبت أن النصوص في تحريم الأكل بعد الفجر محكمة، فكل رواية - بعد ذلك - تخالف ذلك، فهي من المتشابه، وليس من حسن دين الرجل، ترك المحكم والمصير إلى روايات متشابهة عن غير المعصوم ﷺ وهو القائل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
وتالله لو كانت هذه الروايات المتشابهة عن الرسول ﷺ لوجب ردها للمحكم، فكيف وهي عن غيره ﷺ، ومخالفة لهديه! !
ومن ذلك؛ ما رواه الطبري في تفسيره (٢) عن أبي أمامه قال: أقيمت الصلاة، والإناء في يد عمر قال: أَشْربُها يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فشربها.
قلت: إن صح الحديث، فمن المعلوم أن الإقامة تَرِد بمعنى: الأذان، وتَرِد بمعنى: الإقامة للصلاة، فإذا حملنا معنى (الإقامة) هاهنا على معنى الإقامة للصلاة، فنكون بذلك قد خالفنا قطعي الكتاب، وصحيح السنة .. ! وعليه؛ فلا بد - إذن - من حملها على معنى الأذان، حتى تتفق النصوص ولا تتعارض، وإلا فمحال أن يأذن رسول الله ﷺ بالشرب بعد الفجر إلا لمن كان الإناء على يده وأذَّن المؤذن .. ! أما وقد مضى وقت
(١) - مسند الإمام أحمد [٢/ ٥١٠]. (٢) - تفسير الطبري [٣٠١٧].
1 / 3
ليس بالقليل بين أذان الفجر الصادق والإقامة، ثم يأذن النبي ﷺ بالشرب، فيعني هذا جواز الأكل والشرب بعد الفجر، وفي هذا معارضة صريحة للقرآن الكريم لا يمكن التوفيق بين النصين بوجه من الوجوه.
ومما يؤكد ورود لفظ الإقامة بمعنى الأذان قوله ﷺ: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون ..» الحديث، والمقصود بالإقامة هاهنا الأذان، وإلا فإن الصحابة ما كانوا يسمعون الإقامة.
ثم إن حادثة عين كهذه - شرب عمر بعد الفجر - هي متشابهة لا تنهض لمعارضة محكم، وهي حكاية فعل، لا تنهض لنسخ قول صريح في الكتاب والسنة.
ثم إن وقت الإقامة غير منضبط كانضباط الأذان، فكيف يعلق رسول الله ﷺ حكمًا شرعيًا مُهمًّا على وقت غير منضبط.
كل ذلك؛ إن كان الحديث صحيحًا - حديث أبي أمامه أن عمر شرب بعد الفجر! - وإلا فإن مداره على الحسين بن واقد، وقد ذكر أكثر من إمام منهم الإمام أحمد وابن حبان: أنه يخطئ، وأن له أوهامًا، بل إن الإمام أحمد أنكر حديثه، وقال: «في حديثه زيادة، ونفض يده»، فمثل هذا الراوي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف النصوص المحكمة! !
وأما قول الأخوين الشيخين (١) في كتابهما «صفة صوم النبي ﷺ»: له إسنادان، فليس بصواب، بل إنما هو إسناد واحد من طريقين مدارهما على الحسين هذا، فعاد الإسنادان إسناد واحد ضعيف.
ثم إن فهم هذا الحديث فهمًا خاطئًا، حمل كثيرًا من الناس على انتهاك حرمة الوقت بعد الفجر، فيأكلون ويشربون ضاربين بالنصوص المحكمة التي ذكرنا عرض الحائط، وليس هذا من مذهب السلف في شيء، وهو رد النصوص المحكمة بمتشابه.
المسألة الثانية: الإمساك قبل أذان الفجر الصادق: الإمساك قبل الفجر، ورع بارد، واحتياط سمج، وغلو في الدين، وتحريم لما أباحه الله ﷿، ورسوله ﷺ، وقد قال ﷺ في حديث ابن عباس: «الفجر فجران؟ فجر يحرم فيه الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة، ويحل فيه الطعام» (١).
(١) - الشيخ علي الحلبي والسيخ سليم الهلالي. ٢ - صحيح الجامع [٤٢٧٩].
1 / 4
ففي قوله: «ويحل فيه الطعام» دليل واضح على الإباحة، فلا يحل لكائن من كان أن يمنع الناس مما أباحه رسول الله ﷺ، وإن لم يكن هذا غلوًا فلا غلو في الدين.
وأوضح من هذا؛ ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل ...» الحديث.
وعن ابن عباس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إنا معشر الأنبياء؛ أُمرنا أن نُعجِّل إفطارنا، ونُؤخر سحورنا ...» الحديث أخرجه الطيالسي، والطبراني، وابن حبان، وغيرهم، وصحّحه شيخنا الألباني في " صحيح الجامع ".
المسألة الثالثة: تحريم تقديم الأذان وتأخيره عن وقته
إن من المعلوم عند كل مسلم، أن العبادات المقيدة بوقت يجب أداؤها في الوقت المحدد لها .. دون تقديم أو تأخير، وفي كثير من الأحيان يترتب على التقديم أو التأخير بطلان العبادة بالكلية.
ومن هذه العبادات: الصلاة والصوم، التي علقت بأوقات منضبطة، يعلم الناس وقتها عن طريق الأذان وغيره؛ ولهذا حمّل الإسلام المؤذنين أمانة عظيمة، وجعلهم شهداء للناس ومبلغين حكم الله، وأمناء على سحورهم وصلاتهم التي هي أعظم شعائر الإسلام.
قال ﷺ: «المؤذنون أمناء المسلمين على فطرهم وسحورهم»، وفي لفظ: «على صلاتهم وحاجتهم» (١)، وقال تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولا﴾ (٧٢) الأحزاب
ولهذا؛ وجب على المؤذنين ضبط أذانهم بالأوقات الشرعية، فلا يتقدموا ولا يتأخروا، وبخاصة وقت الفجر في رمضان، وليحذروا أن يقدموا شيئًا من عرض الدنيا من وظيفة أو مال، أو هوى للناس على هذه الأمانة، فيكونوا ممن لم يؤد الأمانة، وممن كان ظلومًا جهولًا.
فإن هم أذنوا قبل الوقت كان عليهم إثم من صلى قبل الوقت - وصلاته وقتئذ باطلة - وهو إثم عظيم، وعليهم كذلك إثم منع الناس مما أباحه الله ورسوله من الأكل والشرب.
(١) - صحيح الجامع.
1 / 5
ودعوى الاحتياط دعوى مردودة؛ لأن النبي ﷺ الذي هو أتقى الناس، وأنصح الناس للناس، لم يفعل هذا، أَوَ ناصحٌ أنصحُ من رسولِ الله ﷺ؟؟ ! ! وإن هم أخروا الأذان، وقعوا في إثم أكل الناس بعد الفجر.
المسألة الرابعة: ما الحكم إذا تبين أن المؤذن يتقدم أو يتأخر، أو أن التقويم غير صحيح؟ !
قلت: المؤذن بمثابة الشاهد والمخبِر، والأصل فيه الصدق والضبط والالتزام بما وقّته الشرع، وأما إذا ثبت أن المؤذن ليس أهلًا للأمانة، أو أن التقويم لم يُضبط بضوابط الشرع، فلا يُلتزم - والحال هذه - بالأذان أو التقويم، ويرجع إلى الأصل الذي علَّق الشارعُ به الحكمَ.
وخلاصة هذه المسألة نقطتان:
الأولى: وجوب تُقَيُّد المؤذن بالوقت المخصص، دونما تقديم أو تأخير البتة.
الثانية: أن الأصل الالتزام بالوقت المحدد، لا بالمؤذن فإن أصاب التزم به، وإن أساء التزم بأصل الوقت.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
وكتبه
عدنان بن محمد العرعور
1 / 6