أجل، كيف يجرؤ أحد على مناقشة الداية في فتواها، وقد دخلت تصيح على الأم بعد أن مضى على ولادتها يوم. وما كادت تجلس وتخرج علبة السجائر، وتشعل سيجارة، وتأخذ نفسا، وتبتلعه وتنفثه، حتى قالت: بس أنا خايفة عليكي يا أم سمير (إذ كانت قطعة اللحم قد تحولت في يوم وليلة إلى سمير).
وأحست الأم بنغمشة حبيبة من نوع آخر تسري في نفسها، نغمشة فرح وإحساس بالمسئولية، تماما كتلك التي أحستها يوم أن اكتشفت لأول مرة وهي لا تزال بنتا أنها أصبحت أنثى؛ ولهذا قالت في صوت واهن لم يكفها وهنه، ولكنها أضافت إليه وهنا آخر دائما تتصنعه الوالدات: كفى الله الشر يا أختي، ليه؟
فأجابت الداية وهي تنفخ نفس الدخان في ولعة السيجارة، فتحمر الولعة كما يفعل عتاة المدخنين الرجال: بقى تبقي اسم النبي حارسك والدة، وتخلي القطة قاعدة معاكي في بيت؟ إنت مش عارفة ادلعدي يا اختي إنها ولدت هيه رخره؟ - ولدت؟! - أي والنبي يا أختي، لقيتها راقدة، اسم النبي اسم النبي حارسك في وش العدو. - والنبي آدي حد علمي.
وأنا يا ختي داخلة من الباب، وألقاها راقدة رقدة الندامة في سبت الغسيل بتاعكو، لأ يا ختي، لازم تشوفولكم طريقة. إنت عايزة ولادها البعيدة، البعيدة عن البيت وصحابه، تكبسك؟ - يا نهار اسود! طيب ادلعدي يا ختي يا تفسريش. - دي مجربة من أيام حوا وآدم يا أم سمير (وكأنها بسلامتها هي التي أشرفت على وضع أمنا حواء). الله يعافيها بالعافية بقى بنت أخت ألفت هانم عملتها، وبعيد بعيد عن البيت وصحابه جرالها اللي ما يجرى لعدو ولا لحبيب.
تم هذا الحديث في الصباح، وفي الظهر جاء الأب من الخارج، وقد قام بكل الإجراءات الواجبة التي يتخذها الوالد في أمثال هذه الحالات، فاقترض مبلغا محترما فك به ضائقته باسم الكارثة التي حدثت، وقام بإبلاغ الخبر إلى كل الأهل والأصدقاء. وكاد يوقف الناس في الشارع ويخبرهم أنه رزق والحمد لله بمولود ذكر، وكذلك حصل على إجازة من عمله استطاع بها أن ينهي بعض المشاغل التي تراكمت عليه، وما كاد يضع قدمه في الحجرة حتى فوجئ بيا سيدي أولاد القطة لا يمكن تقعد في البيت، لماذا يا ستي؟ الداية قالت كيت وكيت. يا ستي كله تخريف في تخريف. أنا مالي! لا بد من إبعاد أولاد القطة حالا. يا ستي ماليش دعوة، أنا كوم وهم كوم يا انا يا هم. حاضر يا ستي أمري إلى الله.
وقبل أن يختفي الأب لتنفيذ المهمة عن له أن يحيي القادم الجديد، فاقترب منه وأخذ يزغزغه بإصبعه الكبير الخشن، ويقول وهو يلعب حواجبه ويقوم بأنفه وفمه وعينيه بحركات بهلوانية: سما الله عليكي، سما الله عليكي. زقزق زقزق. سما الله عليها. توتو توتو توتو. عوعو عوعو.
وكانت الأم تراقبه في ضيق وكأنه ينتزع منها شيئا يخصها، ولكن ماذا تقول؟ هو الأب على كل حال. ولكنها حين وجدت أن ابنها بدلا من أن يضحك أو يبتسم فتح فمه الصغير وضم ساعديه، وانبعث منه صراخ لا ينبعث عن بالغين، دفعت يد الأب في عنف، وضمت الولد إليها، وأخرجت «حلمتها» بحركة تلقائية، وفرضتها على فم الصغير فرضا، وهي تقول: امشي يا بعبع، تعالى يا حبيبي، تعالى يا ضنايا، تعالى يا حتة من كبدة قلب أمك يا خويا.
ولدهشة الأب سكت الولد قليل الأدب، بل اندفع يتلوى جذلا كالدودة الصغيرة، وهو يمص الثدي بصوت مسموع.
وخرج الأب من الحجرة كالبعبع المكسور الخاطر. •••
وبحث عن القطة كثيرا؛ إذ لم يكن يدري أين سبت الغسيل، بل هو بصراحة لم يكن يدري في أعقاب ذلك الميلاد وجهه من قفاه. وكان لا يمكن أن يجدها لولا المواء الخافت الذي جاء فدله على السبت والقطة. ووجد الماكرة راقدة في تلافيف المربس، ووقف يراقبها من عل. كانت نائمة على جنبها، تكاد تبدو بلونها البني المطعم بالأسود كفستان مكور من فساتين امرأته، وكانت تصنع برقدتها قوسا يكسوه من الداخل شعر بطنها الأبيض النظيف، ويحفل التجويف الذي يصنعه القوس بثلاث قطط صغار. كانوا صغارا جدا، حلوين وكأنهم لعب أطفال مصنوعة من قطط حية.
Unknown page