الاستغراب د. عبد المجيد بن محمد الوعلان

1 / 1

المقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا بحث مختصر عن الاستغراب، وتأتي أهمية الكتابة في هذا الموضوع لمعرفة هذا العلم الجديد، والموقف الصحيح منه، لأن المسلم يجب أن يكون على جانب كبير من الإدراك واليقظة والاهتمام بأمر دينه وأمته، وعلى علم وبصيرة بما يدور حوله من الآراء والمناهج والاتجاهات ليكون خير داع إلى الهدى وخير منقذ من الضلالة. خطة البحث: يشتمل البحث على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. المقدمة وتشتمل على: الموضوع وأهميته، وخطة البحث. الفصل الأول: تعريف علم الاستغراب ونشأته. - المبحث الأول: تعريف الاستغراب. - المبحث الثاني: تعريف التغريب. - المبحث الثالث: الفرق بين الاستغراب والتغريب. - المبحث الرابع: نشأة علم الاستغراب الفصل الثاني: أهمية علم الاستغراب. الفصل الثالث: الموقف الصحيح من علم الاستغراب. الفصل الرابع: ضوابط دراسة علم الاستغراب. الفصل الخامس: نماذج من دراسة الغرب. الخاتمة: أبرز النتائج. أسأل الله ﷿ أن يكون خالصا لوجه الكريم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. د: عبد المجيد بن محمد الوعلان awalaan@gmail.com

1 / 2

الفصل الأول: تعريف علم الاستغراب ونشاته المبحث الأول: تعريف الاستغراب هذا المصطلح ربما فهم منه أول ظهوره: مجموعة من أبناء الأمة الإسلامية الذين تأثروا بالغرب في سلوكهم وأخلاقهم وأفكارهم. وهذا المصطلح هو التغريب فأصبح هؤلاء يعرفون بالمستغربين. وليس كل مستغرب بهذا المعنى ينطوي تحت علم الاستغراب. أما الاستغراب الذي نتحدث عنه فهو محاولة معرفة الغرب من الداخل معرفة علمية موضوعية موثقة. فالاستغراب كمصطلح هو ما يقابل الاستشراق، وهذا العلم يمكننا من دراسة الغرب، فهو: العلم الذي يهتم بدراسة الغرب (أوروبا وأمريكا) من جميع النواحي العقدية، والتشريعية، والتاريخية، والجغرافية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية .. الخ. وهذا المجال لم يصبح بعد علمًا مستقلًا، ولكن من المتوقع في ضوء النهضة العلمية التي تشهدها البلاد العربية والإسلامية أن تقوم مراكز البحث العلمي ووزارات التعليم العالي في العالم الإسلامي بشحذ الهمم وتسرع الخطى وتغذ السير لإنشاء أقسام علمية تدرس الغرب دراسة علمية ميدانية تخصصية في المجالات العقدية والفكرية والتاريخية والاقتصادية والسياسية. وقد قدّم حسن حنفي مبرراته لتحولنا من ذات مدروسة إلى ذات دارسة بقوله عن مهمة علم الاستغراب بأنها " فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس، مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب، لغة وثقافة وعلمًا ومذاهب ونظريات وآراء مما يخلق فيهم إحساسًا بالدونية ... "، ويقول في موضع آخر إن " مهمة علم الاستغراب هو القضاء على المركزية الأوروبية ... مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده أبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء، ودور النشر الكبرى، ومراكز الأبحاث العلمية، والاستخبارات العامة ... " (^١).

(^١) مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي، ص ٢٤، الدار الجامعية للنشر والتوزيع، بيروت ١٤١٢ - ١٩٩٢.

1 / 3

ومهمته كذلك هي القضاء على ثنائية المركز والأطراف على مستوى الثقافة والحضارة. فمهما حاول رجال السياسة والاقتصاد القضاء على هذه الثنائية في ميدان السياسة والاقتصاد دون القضاء عليها مسبقًا في الثقافة فإن تبعية الأطراف للمركز في السياسة والاقتصاد قائمة. ومن مهمة علم الاستغراب إعادة التوازن لثقافة المجتمعات، بدل هذه الكفة الراجحة للوعي الأوروبي والكفة المرجوحة للوعي اللاأوروبي. فطالما آن الكفتين غير متعادلتين سيظل الوعي الأوروبي هو الذي يمد ثقافة المجتمعات بنتاجه الفكري والعلمي وكأنه هو النمط الوحيد للإنتاج. وبالتالي يستمر هذا الظلم التاريخي الواقع على الثقافات غير المتميزة في سبيل الثقافة المتميزة. ولا يتضمن هذا العلم الجديد مجرد إعلان لنوايا وتعبير عن أماني لدينا جميعًا بل أنه يمكن أن يحتوي على عدة بحوث عديدة ومراجعات للمفاهيم والتصورات من أجل إيجاد رؤى بديلة عن رؤي الوعي الأوربي (^١). ولا بد أن نبين أن المقصود بالدراسة في علم الاستغراب ليس هو فقط العدو الخارجي ولكن ثمة أناس من أبناء جلدتنا يمكن أن يكونوا أخطر من العدو الخارجي: هم أولئك الذين تأثروا بالفكر الغربي وأصبحت لهم مواقف مختلفة في النواحي الفكرية والثقافية والسياسية لا تتفق مع المنهج الإسلامي في التفكير، فقد يبدي عداءً للغرب أو للآخر الحقيقي ولكنه في الوقت نفسه يتبنى كثيرًا المواقف المنافية لمصالح الأمة الإسلامية.

(^١) مقدمة في علم الاستغراب ص ٢٤.

1 / 4

المبحث الثاني: تعريف التغريب التغريب هو: مجموعة الأفكار والمفاهيم والممارسات المتلقاة من الكفار والتي يقصد بها صرف الأمة عن دينها. واشتقاقها من الغرب لغالبية دورهم في هذا المجال، وإلا فالكفر ملة واحدة، فالمقصود من التغريب: تحويل سلوك المسلمين، وعاداتهم، وتقاليدهم، وقيمهم، وأعرافهم، وثقافتهم لتكون تابعة للغرب. لينفوا بذلك جذور الإسلام العقائدية في تصرفات المسلمين. فهو تيار فكرى كبير ذو أبعاد سياسيه واجتماعيه وثقافيه، ومقصده محو الهوية الإسلامية (^١). ومن أهم أفكاره: أ - تشجيع فكرة إيجاد فكر إسلامي متطور لتحتمي في دروبه الحياة الغربية وبالتالي محو الطابع المميز للشخصية المسلمة في المأكل والملبس والتفكير والتصرفات ..... الخ ب - الدعوة الوطنية والدعوة للحرية والقومية المجردة عن الدين. ج - المطالبة بحقوق المرأة -زعموا-وتحريرها بعيدًا عن الدين. د - نشر فكرة العالمية والإنسانية -العولمة-. فالتغريب اسم للمصطلح الذي يهدف قادة الغرب وعلماؤه ومن سار على نهجهم إلى تحقيقه من وراء جهودهم التي يكيدون بها الإسلام وأهله. فبعد أن فشلت بعض الحملات العسكرية أيام الاستعمار نشأت فكرة التغريب عند ساسة الغرب ومخططيه، وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش الاستعمارية بعيدة عن المواجهات لأنها تثير ردود فعل عنيفة، وأنه ينبغي أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية، وهدفها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتعتنق هذه الديانة الجديدة.

(^١) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف مانع الجهني ص ٢/ ٦٩٨، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الرابعة.

1 / 5

المبحث الثالث: الفرق بين الاستغراب والتغريب من خلال التعريف السابق للاستغراب والتغريب يتضح لنا: أن الاستغراب محاولة معرفة الغرب من الداخل معرفة علمية موضوعية موثقة. وهو كمصطلح يقابل الاستشراق، وهذا العلم يمكننا من دراسة الغرب، فهو: العلم الذي يهتم بدراسة الغرب (أوروبا وأمريكا) من جميع النواحي العقدية، والتشريعية، والتاريخية، والجغرافية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية .. الخ. بخلاف التغريب الذي يهدف إلى طبع العرب والمسلمين عامة بطابع الحضارة الغربية والثقافة الغربية مما يساعد على إيجاد روابط الود والتفاهم-زعموا-.

1 / 6

المبحث الرابع: نشأة علم الاستغراب إن المسلمين في عصور ازدهارهم اهتموا بعقائد الأمم الأخرى وأسسوا علم الملل والنحل، وكتب في ذلك ابن حزم والبغدادي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم كثير. لذلك فإن المسلمين الأوائل لم يجدوا صعوبة في التعرف على الشعوب الأخرى والتفاعل معها وأخذ ما يفيدهم مما لدى الأمم الأخرى من وسائل المدنيّة، دون أن تتأثر عقائدهم، حيث أخذوا الديوان والبريد وبعض الصناعات المهمة مثل صناعة الورق (الكاغد) التي طورّها المسلمون حتى أصبحت صناعات إسلامية. واستمرت معرفتنا بالأخر حتى عندما التقى المسلمون بالنصارى في الحروب الصليبية فقدم لنا أسامة بن منقذ وصفًا دقيقًا لطباع الإفرنج، فهو يصف شجاعتهم وقوتهم وجلدهم، ولكنه يتعجب من ضعف غيرتهم أو عدمها على الأعراض، ويتحدث عن هذه النقطة بتفاصيل دقيقة مثيرة للاهتمام (^١). ولعل بداية دراسة الغرب كانت فيما نقله رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهما عن أوروبا وكان من أبرز ما اهتما به النظام السياسي الغربي القائم على الانتخاب والحريات السياسية. كما اهتما بجوانب من الحياة الاجتماعية في الغرب وعلاقة الرجل بالمرأة. وكانت تلك النظرة التي ظهرت في كتابات التونسي والطهطاوي في وقت كانت قوة الغرب في عنفوانها وكان العالم الإسلامي يقاسي من ويلات التخلف فلا بد أن يصاب هؤلاء بالانبهار بالنموذج الغربي وإن كانا قد حاولا أن يربطا المحاسن الغربية (في نظرهم) بما في الإسلام. وقد تجددت الدعوة لدراسة الغرب في منتصف هذا القرن في أحد مؤتمرات المستشرقين الدولية فقد أشار رودي بارت في كتابه الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية إلى أهمية أن يتوجه العالم الإسلامي لدراسة الغرب أسوة بما يفعله الغرب في دراساته للعالم الإسلامي. وقد تناول هذا الموضوع الدكتور السيد محمد الشاهد في خطة علمية قدمها لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام ١٤١٠ وذكر حول أهداف هذه الدراسة: " طلب علوم الغرب للإفادة من صالحها وبيان فساد طالحها، والخلفية الفكرية للفكر الغربي." (^٢)، وأوضح من ضمن الموضوعات التي يمكن دراستها: (أ) دراسة عقيدة الغرب دراسة موضوعية بعيدًا عن الحماسة والعاطفة. (ب) وذكر في مقالة أخرى أن " علينا أن نبحث عن مخرج من موقفنا الضعيف إلى موقع قوي مؤثر، ولا يمكن ذلك إلاّ بدراسة علمية صادقة لما عليه أعداؤنا ولا حرج أن نتعلم من تجاربهم ومناهجهم ونأخذ منها ما ينفعنا ونترك منها ما عدا ذلك" (^٣).

(^١) الاعتبار لأسامة بن منقذ، تحقيق د. قاسم السامرائي (الرياض: دار العلوم، ١٤٠٧) ص ١٥٢. (^٢) السيد محمد الشاهد." الاستغراب " في جريدة مرآة الجامعة، عدد ١٢٠، ٢٠ جمادى الأولى ١٤١٠. (^٣) السيد محمد الشاهد" المواجهة حضارية .. والنقد لا يكفي"، في جريدة المسلمون، عدد ٢٧٠، ١١ - ١٧ رمضان ١٤١٠.

1 / 7

كما أصدر الدكتور حسن حنفي كتابا ضخما بعنوان: مقدمة في علم الاستغراب، تناول فيه أهمية دراسة الغرب فأوضح أن مهمة علم "الاستغراب" هي: " فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس. مهمته القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب لغة وثقافة وعلمًا ومذاهب ونظريات وآراء". (^١) ومن النماذج في بداية دراسة الغرب: ١ - قيام د. محمد بن سعود البشر الأستاذ المتخصص في الإعلام بترجمة عدد من الكتب التي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية وتتحدث عن واقع تلك المجتمعات وهي كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) وكتاب (السقوط من الداخل) وغيرها من الكتب. ٢ - د. مازن مطبقاني (الغرب من الداخل: دراسة للظواهر الاجتماعية). ٣ - الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس: " موقفنا من الحضارات والأديان الأخرى: رؤية شرعية" (^٢). ٤ - د. عبد الراضي عبد المحسن في كتاب المعتقدات الدينية لدى الغرب. ٥ - د. عبد الراضي عبد المحسن في كتاب ماذا يريد الغرب من القرآن. ٦ - وقد قام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في عام ١٤٢٦ هـ/٢٠٠٥ م بتأسيس وحدة دراسات العالم الغربي (يشمل أوروبا والأمريكيتين) إدراكًا منه بأهمية مثل هذه الوحدة المتخصصة في ترقية وتنشيط العلاقات المتبادلة بين العالم العربي الإسلامي من جهة والعالم الغربي من جهة أخرى. وكان من أهداف الوحدة: - تأسيس قاعدة معلومات متخصصة عن العالم الغربي تغطي ما نشر عنه في وسائط المعلومات المختلفة في شتى المجالات: الحضارية والثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. - إعداد البحوث والدراسات المتعلقة بالعالم الغربي. - تشجيع الباحثين والدارسين من العرب والمسلمين على التخصص في مجالات الدراسات الغربية. - الإسهام في تنمية الوعي العربي الإسلامي وتنويره بما يدور في العالم الغربي من خلال فعاليات ونشاطات الوحدة المختلفة. - تطوير أدوات الاتصال بالعالم الغربي وفتح مجالات الحوار الأكاديمي المباشر معه من خلال الندوات والمحاضرات وغيرها. - استثمار الطاقات العلمية العربية المهتمة والمتخصصة في دراسات الغرب وعلومه وتوظيفها والعمل على تأسيس رابطة علمية تجمعهم لإثراء الجانب المعرفي بما يخدم الصالح العربي الإسلامي

(^١) مقدمة في علم الاستغراب ص ٢٤. (^٢) جريدة الشرق الأوسط، عدد (٦٣١١، ٦٣١٢).

1 / 8

الفصل الثاني: أهمية علم الاستغراب لمّا كانت الحضارة الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي هي السائدة والمتفوقة اليوم فمن الواجب على المسلمين أن يعرفوها معرفة وثيقة وعلمية. ولقد أضاع المسلمون كثيرًا من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى بعضًا من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظريًا، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لن ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولن نعرف كيف تكوّنت، وكيف أنها في طريق التحلّل والزوال لِما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع السنن الإلهية. وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين: التحديد الأول: هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه القوة الحقيقية. أما التحديد الثاني: فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها (^١). وليكن معروفًا أن دراستنا للغرب يجب أن تتم وفق أسس معينه بحيث نفيد من معطيات الحضارة الغربية المعاصرة فيما لا يتعارض مع أسس الحضارة الإسلامية وثوابتها. فالحدود الفاصلة بين المسلم وغيره واضحة جدًا لدى المسلم، والحديث عن المسلم يحتاج إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الغربي، والغير والآخر (^٢) ليس هو فقط النصراني أو اليهودي أو المنافق بل الآخر أيضًا أناس من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ولكنهم اختاروا نهجًا يجعلهم أقرب إلى الآخر، فهم ليسوا في الصف الإسلامي وإن زعموا أنهم حريصون على مصالح الأمة.

(^١) قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع)، د. بدران بن الحسن، موقع الإسلام اليوم. (^٢) هذا المصطلحات غير الشرعية؛ وأقصد بها الكفار؛ ولكن قد استخدمها للمخاطبة بالمصطلح المستخدم في هذا العلم.

1 / 9

وعندما خرج المسلمون من الجزيرة العربية منطلقين من طيبة الطيبة، كانوا أولا يعرفون دينهم معرفة حقيقية، ويعرفون ما يدعون إليه، كما كانوا يعرفون الأمم الأخرى، دخل أحد رسل جيش سعد ابن أبي وقاص رضي الله على القائد الفارسي، وأراد أن يجلس معه على سريره، فحاول الحرس منعه، فقال لهم: (كنا نظنكم أولي أحلام تتساوون فيما بينكم، فإذ بكم يستعبد بعضكم بعضا) ثم أضاف تلك المقولة البليغة: (إن قوما هذا حالهم فمصيرهم إلى زوال) (^١)، وكان المسلمون يعرفون الروم ونظام حياتهم، فلذلك نجحوا تماما في دعوتهم. وقد أهتم علماء المسلمين بعقائد الآخر وفكره وثقافته ومن هؤلاء ابن حزم في الفصل والبغدادي في الفرق والأشعري في مقالات الإسلاميين وابن تيميه في الجواب الصحيح والغزالي في تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية. وفي الوقت الذي توقفنا أو تراجعنا عن معرفة أنفسنا، وكذلك عن معرفة الآخر، انتبه الغرب إلى هذا الأمر، فبدأ نشاطه العلمي بدراسة الحضارة الإسلامية ومنجزاتها في شتى المجالات. وقد كثفت أوربا جهودها في مجالين: -بالإضافة إلى الجهود الضخمة في الترجمة والنقل عن اللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى- بدءوا في إرسال الرحالة المستكشفين إلى عالمنا الإسلامي، تزيا بعضهم بأزياء البلاد التي زارها، وأعلن بعضهم إسلامه ليعمقوا في معرفتنا (^٢). وساند هذا الجهد نشاط الاستشراق، فعقدوا المؤتمرات السنوية للجمعية الدولية للمستشرقين. وليست المؤتمرات هي النشاط الوحيد، فإنهم أسسوا مئات الأقسام العلمية للدراسات العربية والإسلامية، وأنشأوا مراكز البحوث والمعاهد وعقدوا وما زالوا مئات الندوات والمؤتمرات، ونشروا ألوف أو عشرات الألوف من الكتب والدوريات، ولم يكتفوا بجهودهم وحدهم في معرفتنا، بل استقدموا أبناء الأمة الإسلامية للدراسة عندهم وبخاصة طلاب الدراسات العليا، فأصبحت رسائل الماجستير والدكتوراه تنقل إليهم أدق التفاصيل في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية، وكذلك بعض الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بعض البلاد العربية الإسلامية بتمويل من بعض المؤسسات العلمية الغربية حيث يحضرها بعض المراقبين من الغربيين. حيث يقوم هؤلاء المستشرقون بدراساتهم تلك من أجل تقديم دراساتهم ونصائحهم ووصاياهم: ١) للمبشرين بغية تحقيق أهداف التنصير. ٢) وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار الفكري والعقائدي والمادي. من هنا فإنه من الواجب علينا نحن المسلمين أن نولي اهتمامًا بالغًا بثقافتنا الحضارية وهويتنا الإسلامية.

(^١) انظر تاريخ الطبري ج ٢، ص ٤٠٢ - ٤٠٣. (^٢) صراع الغرب مع الإسلام، لأصف حسين ترجمة مازن مطبقاني.

1 / 10

وإنها فرصة سانحة للجامعات في البلاد الإسلامية والعربية للتصدي لمثل تلك الأفكار الهدامة التي يواجهها المسلمون في شريعتهم وتراثهم وفكرهم من قبل أغلب المستشرقين بأن يكون هناك أقسام خاصة في الجامعات تتولى الدراسات الغربية وهو ما يسمى بالاستغراب؛ لأن أفضل وسيلة للتخاطب مع هؤلاء المستشرقين والرد على ادعائهم ليس بالدفاع فقط ولكن بدراسة حياتهم الخاصة والعامة وتراثهم وثقافتهم لمعرفة نقاط الضعف والقوة. فوجود مثل هذه المراكز والأقسام العلمية المتخصصة في دراسة الغرب قد يضفي نوعًا جديدًا من طرق البحث العلمي عبر استخدام الوسائل العلمية المتاحة من خلال دراسات وثائقية واستطلاعية وعبر المشاركة بالملاحظة عن طريق الاندماج الفعلي في المجتمع فنحن أولى من يقوم بدراسة الغرب (شعوبه، تاريخه، أديانه، لغاته، أوضاعه الاجتماعية وعلاقاته الأسرية، مشكلاته الاقتصادية، وحضارته ......). يقول الشيخ أحمد ديدات لأحد منسوبي قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة: "لا أدري ماذا تفعلون أنتم في هذا القسم، لعلكم تقرؤون كتابات المستشرقين الذين يتهمون الإسلام بشتى التهم وتبدؤون بالدفاع عن الإسلام، أو ما يسمى الدفاع التبريري". إلى أن قال: "علينا أن نترك هذا الأسلوب من العمل أي لا ننتظر حتى يهاجموا الإسلام أو المسلمين بل علينا أن نأخذ المبادرة". ثم قال: ينبغي أن نخاطب الغرب قائلين لهم: "انظروا إلى أوضاعكم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إنكم تعيشون في ضنك مستمر وأزمات متواصلة. هذه حضارتكم قد حطّمت الأسرة؛ فالطلاق لديكم في ارتفاع مستمر، والزواج لم يعد زواجًا حقيقيًا فقد ارتفعت نسبة الرجال الذين يعيشون مع نساء دون زواج. ويعاني أطفالكم من العيش بلا آباء، وسجونكم مليئة بالقتلة والمجرمين والمدمنين ومروجي المخدرات، وتعاني مجتمعاتكم من الشذوذ والإدمان على المخدرات والخمور، فماذا أنتم فاعلون لحل هذه المصائب؟ إن عليكم أن تعرفوا أن الحل لكل هذه الأزمات موجود في الإسلام". فعلى سبيل المثال لا الحصر قضية حقوق المرأة حيث تبين للدارس المبتعث والمشارك لحياتهم عن قرب بأن موضوع حقوق المرأة ما هي إلا وسيلة للوصول إلى مبتغاهم من الدول غير الغربية، فالواقع لديهم ليس هناك تطبيق فعلي لحقوق المرأة كما هو مأمور به في الإسلام؛ بل إن كل ما يدعونه ويتغنون به حول تلك الحقوق ما هو إلا زيف وتزوير للحقائق فالواقع كما قيل (ليس راءٍ كمن سمع) (^١).

(^١) (الاستغراب) .. وإمكانية تدريسه في الجامعات السعودية د. علي بن عبدالرحمن الدعيج عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية.

1 / 11

وتأتي أهمية دراسة الغرب لمواجهة حالة الانبهار التي أصابت كثيرًا من أبناء الأمة الإسلامية، حيث ظهر من أبناء المسلمين من درس في الغرب ورجع إلينا متشبعًا بالروح الغربية حريصًا على تقليد الغرب في كل شيء، فقد علّمتنا التجارب ومواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء عليها، ... ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل يفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون سلطانهم. فكان لابد من معرفة الغرب معرفة حقيقية: " ففي مثل هذه الأجواء يجب الاستمرار في دراسة الغرب والاطلاع على عوراته وعيوبه وتبصير الأمة بها ولا بد كذلك من دراسة إيجابيات الغرب فإن للسلف أقوالًا في وصف أعدائهم لم يمنعهم الإسلام من ذكر محاسنهم وهذا ما جاء في قوله تعالى ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٨] [المائدة: ٨.]، ... إننا بحاجة لدراسة الغرب كيف نهض نهضته الصناعية المدنية، وكيف بنى مؤسساته ثم كيف بدأ الانهيار حتى نأخذ بأسباب الانطلاق ونتجنب أسباب الانهيار" (^١). وحين نريد دراسة الغرب ومؤسساته وهيئاته لأمرين، فالأول: أمر له أهميته الخاصة وهو أن هذه الأمة هي أمة الدعوة والشهادة؛ فإن الأنبياء ﵈ قبل نبينا محمد ﷺ كانوا يُكَلّفون بدعوة أقوامهم بينما الدعوة الإسلامية موجهة إلى العالم أجمع، وقد كلّف المسلمون جميعًا بحمل هذه الأمانة قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾ [يوسف: ١٠٨]، وجاء من حديث سهل بن سعد ﵁ عن النبي ﷺ قال: (والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم) (^٢). والثاني: نحن بحاجة للأخذ بأسباب القوة المادية التي وصلوا إليها، والله ﷾ يقول: ﴿يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ﴾ [الأنفال: ٦٠].

(^١) مازن مطبقاني." بل لابد من دراسة الغرب ونقده." في المدينة المنورة، عدد ١١٢٥٦، ١٣ شعبان ١٤١٤ (٢٤ يناير ١٩٩٤). (^٢) صحيح البخاري رقم ٣٠٠٩.

1 / 12

الفصل الثالث: الموقف الصحيح من علم الاستغراب لا يخفى على أحد دور المستشرقين في نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، وكذلك دورهم في إدارة المعارك الثقافية والسياسية ضد الإسلام، وعلى الرغم من وجود العديد من المستشرقين والمثقفين الغربيين المنصفين، إلا أن هذا العلم كان له الدور الأكبر في الحرب ضد الإسلام. ومن الملاحظ أن ما أفاده الغرب من هذا العلم، إنما تركز حول الأمور العلمية والأخلاقيات الاجتماعية والسياسية ولم يفيدوا مطلقا من العقيدة، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر لم يكن مصادفة، بل كان وراءه تخطيط محكم، ضمن لهم الاستفادة من كل ما لدى الحضارة الإسلامية، دون مساس بالعقيدة التي انبنت عليها دولهم وممالكهم. واليوم وبعد أن انقلبت الأوضاع، وصار الغرب مركز التقدم في العلوم الدنيوية والتقنية، كان من الطبيعي أن تتجه إليه بلاد الإسلام، محاولة الاستفادة مما توصلوا إليه من تقدم في مختلف المجالات، وهذا لا غبار عليه من حيث المبدأ، ولكن مع الأسف، كان هذا التوجه عشوائيا، وغير محصن بقوة العقيدة، فكان من نتيجة ذلك تشوهات فكرية وأخلاقية لا حصر لها، حتى أصبح بعضنا بلا هوية. ولهذا فعلى الأمة إرساء قواعد علمية، تنظم عملية التواصل بيننا وبين هذه الحضارة، بحيث نستفيد منها دون مساس بثوابت العقيدة الإسلامية. وقد استفاد النبي ﷺ من تجارب الأمم في الأمور العادية والعلمية فعن عائشة ﵂ عن جدامة بنت وهب الأسدية ﵂ أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم» (^١). إن وجود هذا العلم لا يتوقف على أهمية فرز ما نأخذه من الغرب واستخلاص ما يناسبنا وترك ما عداه، ولكن تحقيق هذا المبدأ لن يتم ما لم نقم بوضع قواعد علمية محددة، تضمن تحقيقه، كما أن طلاب هذا العلم سيكون هدفهم من البداية واضحا جليا لا تشوبه شائبة ... نقل ما يفيد الأمة الإسلامية، وهو ما يضعف احتمال افتتانهم بالحياة الغربية ومفاسدها. فلا بد من إعداد الأمة الإسلامية نفسها بأن تكون لها الهيبة والرهبة في نفس الآخرين. وهذا ما يؤيده الأمر الرباني في قوله تعالى: ﴿يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ﴾ [الأنفال: ٦٠]، ويؤيده قول المصطفى ﷺ: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) (^٢). إن علماء الأمة الإسلامية لا يرون تعارضًا بين الأخذ بوسائل المدينة المعاصرة مع المحافظة على الشخصية الإسلامية والقيم الإسلامية.

(^١) صحيح مسلم كتاب النكاح، باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل رقم ١٤٤٢. (^٢) صحيح مسلم كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة رقم ٢٦٦٤.

1 / 13

ولقد طالب الدكتور حسن حنفي في كتابه الاستغراب أن نأخذ المبادرة لدراسة الغرب ولمعرفته معرفة علمية موثقة، ولا ننتظر أن يخبرنا الغرب عن نفسه فقط حتى لا نتحول إلى مجرد متلقين لما يقوله الغرب عن نفسه وعنّا. ومعرفة الآخر أمر أساسي حيث إن القرآن الكريم قد قسم الناس إلى ثلاثة أقسام في سورة البقرة فهم إما مؤمنون أو كافرون أو منافقون. ثم وضح صفات كل فئة في سور القرآن الكريم. كما جاءت السنّة النبوية المطهرة توضح هوية المسلم ليستطيع بعد ذلك أن يعرف الآخرين معرفة صحيحة متمسكًا بهويته ومستعليًا بإيمانه. والآخر في عهد الرسول ﷺ كانوا كفار قريش، واليهود، والنصارى، والمنافقون. وقد قدمت الآيات الكريم صورًا واضحة لكل فئة من هؤلاء، وأوضحت كيفية التعامل معهم، فبالإضافة إلى توضيح صورة الآخر عقديا فقد اهتم أيضا بالجوانب الأخرى، فها هي صورة العربي الجاهلي وموقفه من المرأة: ﴿يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا﴾ [النحل: ٥٨ - ٥٩]. وأوضح القرآن الكريم انحرافات قوم لوط وانحرافات قوم شعيب، وقد روى البخاري عن عائشة ﵂ صور النكاح في الجاهلية مقارنة إياها بالصورة التي ارتضاها الإسلام (^١). ويقول أحمد شحلان عن دراسة الغرب: " أليس من الجميل أن يصبح في جامعاتنا أقسام نسميها أقسام الاستغراب في مقابل الاستشراق؟ أليس من الجميل أن نعتبر الطرف الآخر هو أيضًا موضوع الدرس والتنقيب؟ " (^٢). ولذا يقول الدكتور مازن مطبقاني: "إننا نحتاج بالفعل إلى إنشاء كلية للدراسات الأوروبية (والأمريكية) ولا بد من التفكير الجاد في هذا الاقتراح بإنشاء كلية متخصصة لدراسة الغرب دراسة عميقة، وهذه الدعوة موجهة إلى الجامعات الإسلامية بعامة وإلى الجامعات في بلادنا بخاصة. وإن جامعة الإمام التي كانت سبّاقة ورائدة في دراسة الاستشراق لقادرة بإذن الله على مثل هذه المشروعات الكبرى بعد دراستها من قبل المتخصصين. ونبهت إلى أن الذي يدرس الغرب ينبغي له أن يكون على معرفة عميقة وصحيحة بالإسلام، حتى يكون قادرًا على فهم الغرب من منطلق إسلامي" (^٣).

(^١) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلاّ بولي رقم ٥١٢٧. (^٢) جريدة الشرق الأوسط، عدد ٥٦٦٧، ٢٥ ذو الحجة ١٤١٤ (٤ يونيه ١٩٩٤). (^٣) دراسة الاستشراق وريادة جامعة الإمام ١" لمازن مطبقاني، جريدة المدينة المنورة، ع ١١٣٩٦، ٤ محرم ١٤١٥، وعدد ١١٣٩٧، ١١ محرم ١٤١٥.

1 / 14

ويقول أيضا: " أليس الغرب أمة يجب أن نتوجه إليهم بالدعوة ونحن مطالبون بالشهادة على الأمم فكيف للشاهد أن يشهد دون أن يعرف معرفة دقيقة موضوع شهادته" (^١). وقد ازدادت الأصوات المنادية بدارسة الغرب فقد كتب قسطنطين زريق يقول: " إن الحضور الأمريكي في الذهن العربي ليس في مجمله صحيحًا وكافيًا لأنه ليس وليدًا لدينا من معرفة صادقة وموثوق بها ومن علم حي متنام" (^٢). ولذا تجد أن الغرب يسعى لطلب الكتابة عن الشرق من قبل أهله، فهذا معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مقيل قد وجه طلابه المسلمين ليكتبوا عن بلادهم، وأقنعهم بأن هذه الكتابة ستكون في مصلحتهم لأنهم سينظرون إلى مشكلاتهم من بعد (مسافة) وربما قيل لهم " إنكم ستحررون هناك من بعض القيود في بلادكم". ولكن الأمر المراد من هذا هو أن تتحول بعض الرسائل إلى نوع من التجسس على العالم العربي الإسلامي، بما تقدمه من معلومات يصعب على الغربيين الوصول إليها، كما أشار إلى ذلك أحمد غراب من توجيه بعض الأساتذة تلاميذهم من العرب والمسلمين دراسة قضايا معينة في بلادهم (^٣). وفي الطرف الأخر نجد من يعترض على هذا العلم ويرفضه ويرفض المبالغة فيه، فهذا عبد الرحمن العرابي ينتقد الاهتمام الزائد بالغرب والكتابة عنه، وكتب هاشم صالح منتقدًا الدعوة إلى " علم الاستغراب" بدعوى أننا ما زلنا غير قادرين على الوصول إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم في العلوم ومناهج البحث، بل إنه استهزأ بمشروع حسن حنفي في دراسة الغرب (الاستغراب) بقوله: " كيف يمكن لهذا "العلم" الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية والفلسفية للفكر الغربي، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الند من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي" (^٤).

(^١) متى نخضعهم لدراستنا؟ جريدة المدينة المنورة، عدد ١١٥٣٤، ٢٤ جمادى الأولى ١٤١٥. (^٢) حضور أمريكا في الذهن العربي والحضور العربي في الذهن الأمريكي، قسطنطين زريق، جريدة الحياة، عدد ١٢١٣٤، ٢٨ ذو الحجة ١٤١٦ (١٦ مايو ١٩٩٦). (^٣) رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد عبد الحميد غراب: ط ٢ بيرمنجهام: المنتدى الإسلامي ١٤١٢ هـ. (^٤) علم الاستغراب لا يضير الغرب بل يرتد علينا بأفدح الأخطار، هاشم صالح.، جريدة الحياة، عدد ١١٧٤٠، ١٣ ذو القعدة ١٤١٥.

1 / 15

فنقول لهما إن الذي يدرس الغرب ينبغي له أن يكون على معرفة عميقة وصحيحة بالإسلام، حتى يكون قادرًا على فهم الغرب من منطلق إسلامي، ولابد أن تنطلق رحلتة لمعرفة الآخر من أسس شرعية، ويحدد الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس ذلك في عدة نقاط هي: ١ - الدعوة إلى الحق عملا بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] [النحل: ٢٥.]. ٢ - إعداد القوة الرادعة، فلابد أن يكون للمسلمين قوة حتى لا يظهر أحد تحدثه نفسه بالغزو، وحتى لا يكون المسلمون فتنة حيث نكون على الحق ونكون الأضعف فينفر الناس من الحق الذي معنا. (القوة من أجل السلام). ٣ - الجنوح للسلم. ٤ - تبادل المنافع (^١).

(^١) موقفنا من الحضارات والأديان الأخرى، رؤية شرعية جعفر شيخ إدريس، جريدة الشرق الأوسط، ع ٦٣١١.

1 / 16

الفصل الرابع: ضوابط دراسة علم الاستغراب قبل ذكر ضوابط دراسة علم الاستغراب لأبد من التأكيد على أمرين، أولهما: تثبيت الهوية الخاصة بالمؤمنين بتوضيح عقائدهم، وصفاتهم، وأخلاقهم، وعلاقاتهم. ثانيا: معرفة الآخر بعقائده وصفاته، وأخلاقه، وعلاقاته ... ثم إن لهذا العلم كغيره من العلوم ضوابط ينبغي الالتزام بها، وهذه الضوابط ليست خاصة به، بل هي عامة في كل أمر يراد بحثه فمن هذه الضوابط: الضابط الأول: الإخلاص: وهو أن يبتغي الإنسان بعلمه وعمله وجه الله تعالى، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾ [الكهف: ١١٠] فالعمل المتقبل من العبد ما كان موافقًا للشرع، مرادًا به وجه الله وحده (^١). وفي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (^٢). فمدار صحة الأعمال أو فسادها النية. والقائم بالدفاع عن الحق، والدعوة إليه، والمجادلة من أجله أشد حاجة إلى الإخلاص من غيره. لذا فإن توفر سلامة النية، والقصد شرط أساسي لمن يشتغل بدراسة علم الاستغراب، فلابد أن يكون قصده في هذا حراسة الدين، والذب عنه، ودلالة الناس على الهدى، وتثبيتهم عليه (^٣)، وألا يكون له أي غرض آخر. قال إمام الحرمين الجويني موضحًا آداب الجدل: "فأول شيء فيه مما على الناظر أن يقصد التقرب إلى الله -سبحانه- وطلب مرضاته في امتثال أمره سبحانه فيما أمر به ويبالغ قدر طاقته في البيان والكشف، عن تحقيق الحق وتمحيق الباطل، ويتقي الله أن يقصد بنظره المباهاة وطلب الجاه والتكسب والممارة، والمحك، والرياء، ويحذر أليم عقاب الله -سبحانه- ولا يكن قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة، والقهر، فإنه من دأب الأنعام الفحولة، كالكباش، والديكة" (^٤).

(^١) انظر: تفسير ابن كثير ٣/ ١٠٣. (^٢) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ ص ٢١، رقم الحديث ١. (^٣) الرد على المخالف من أصول الإسلام بكر أبو زيد ص ٥٤. (^٤) الكافية في الجدل، لإمام الحرمين الجويني، تحقيق د. فوقية حسين محمود ص ٥٢٩، طبع بمطبعة عيسى البابي، القاهرة ١٣٩٩ هـ/ ١٩٧٩ م. وانظر: علم الملل ومناهج العلماء فيه ص ٢٣٧ - ٢٣٩.

1 / 17

الضابط الثاني: العلم: العلم من الأمور الضرورية، والضوابط المهمة لمن يشتغل بعلم الاستغراب، وذلك أن المشتغل بدراسة علم الاستغراب إذا لم يكن مؤهلًا لها كان ضرره أكثر من نفعه. فالعلم من أهم الشروط التي يجب توفرها على من يقوم بوظيفة الدفاع عن الدين، وذلك أن العلم قبل العمل، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩)﴾ [محمد: ١٩] [محمد: ١٩]، وقد تنبه الإمام البخاري ﵀ لهذا، فبوب لهذه الآية بقوله: باب العلم قبل القول والعمل (^١). فالعلم مقدم على القول والعمل، لأنه شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به (^٢). ومن الأدلة الدالة على ذم القول قبل العلم قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨)﴾ [الحج: ٨] (^٣)، فالآية دلت على ذم المجادل بغير علم، وقال تعالى في ذم أهل الكتاب الذين جادلوا بغير علم ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)﴾ [آل عمران: ٦٥ - ٦٦] (^٤). والعلم يشمل في مجال دراسة علم الاستغراب العلم بالإسلام من مصادره الأساسية من الكتاب والسنة، وما يفسرهما من أقوال السلف، أو يساعد على فهمهما من علوم الآلة كاللغة العربية، كما يشمل العلم بشبهات أهل الأديان والملل، وطرق الرد عليها (^٥).

(^١) صحيح البخاري كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل ص ٣٩. (^٢) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي، ص ٢/ ١٩٣، دار الريان للتراث، الطبعة الثانية. (^٣) سورة الحج الآية: ٨. (^٤) سورة آل عمران الآية: ٦٥ - ٦٦. (^٥) علم الملل ومناهج العلماء فيه ص ٢٤٠ - ٢٤٢.

1 / 18

الضابط الثالث: تقدير المصلحة والمفسدة في دراسة علم الاستغراب: فدراسة علم الاستغراب، والاشتغال به لا تخلو من مخاطر ومزالق قد تضر المشتغل بها، كأن تترك شبهات أهل تلك الأديان في قلبه شيئًا، وقد يلحق ضررًا منها بالحق الذي معه، وذلك فيما إذا ضعف عن رد شبهات الخصوم، كما يمكن أن تؤدي دراستها إلى نشرها، وترويج مبادئها، لاسيما إذا لم يحكم الرد عليها. لهذا ينبغي قبل التعرض إلى دراسة هذا العلم أن يقدر في هذه الدراسة المصلحة، والمفسدة، وقول المعتمد في تقدير المصلحة، والمفسدة قول العلماء المؤتمنين على دينهم (^١). الضابط الرابع: الرجوع إلى المصادر: الرجوع إلى مصادر العقائد المبحوثة، ونقل النصوص منها بألفاظها، والدقة في نسبة الآراء إلى أهله. أما نسبة الأقوال إلى الناس من غير طريق صحيحة، أو من طريق مشكوك في صحتها، أو من طريق لا يعرف مدى التزامها بالصدق والعدل، فإن هذا من باب الظن الذي نهينا عن إتباعه، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] (^٢) وذم الله -تعالى- متبعي الظن والهوى فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: ٢٣] (^٣). وقد التزم هذا علماء السلف، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى- يقول في رده على النصارى: "وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلًا فصلًا، واتبع كل فصل مما يناسبه من الجواب فرعًا وأصلًا، وعقدًا وحلًا" (^٤). وبما أن هذا العلم يتعلق بالغرب فإننا بحاجة إلى من يتعلم اللغات الغربية ليصل إلى مستوى رفيع في التمكن من هذه اللغات، وبالتالي الدراسة في الجامعات الغربية والتركيز في قضايا الغرب وليس دراسة موضوعات تخص العالم الإسلامي. كما أننا بحاجة إلى من يتعمق في علم الاجتماع الغربي ليعرف مجتمعاتهم كأنه واحد منهم. ولم تعد هذه المسألة صعبة؛ فإن في الغرب اليوم كثيرًا من المسلمين من أصول أوروبية وأمريكية يستطيعون تعرف بيئاتهم معرفة حقيقية ولا يعوقهم شيء في التوصل إلى المعلومات التي يرغبون في الحصول عليها.

(^١) علم الملل ومناهج العلماء فيه ص ٢٣٦. (^٢) سورة الحجرات: الآية ١٢. (^٣) سورة النجم: الآية ٢٣. (^٤) الجواب الصحيح ص ١/ ٦٤.

1 / 19

الضابط الخامس: التجرد من الهوى: فإن الهوى يحمل على الاختلاف وقول الإفك، وقد قال الله ﵎: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ [النجم: ٢٣] (^١). وقال تعالى: ﴿الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ﴾ [ص: ٢٦] (^٢). الضابط السادس: العدل والإنصاف: العدل والإنصاف، والأمانة العلمية من أهم الخصال التي ينبغي أن يتحلى بها المختلفون، والمختصمون، لئلا يقع ظلم على أي طرف منهما، قال تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٣٥] (^٣) وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: ١٥٢] (^٤). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ مبينًا وجوب العدل في كل حال، وتحريم الظلم مطلقًا: "ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقًا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٨] (^٥)، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه فكيف في بغض مسلم" (^٦).

(^١) سورة النجم: الآية ٢٣. (^٢) مجلة الدراسات العربية، مناهج البحث في العقيدة، للشيخ يوسف السعيد، العدد السابع يناير ٢٠٠٢. (^٣) سورة النساء الآية: ١٣٥ (^٤) سورة الأنعام: آية ١٥٢. (^٥) سورة المائدة الآية: ٨. (^٦) علم الملل ومناهج العلماء فيه ص ٢٤٤ - ٢٤٦.

1 / 20