الاعتصام بالإسلام
الاعتصام بالإسلام
Publisher
مطبعة اللغتين
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٠٢ هـ - ١٩٨٢ م
Genres
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
الاعتصام بالإسلام
عمر العرباوي
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفرد بالبقاء والقهر الواحد الأحد الفرد الصمد ذي العزة والجبروت، والجلال والكمال، الذي لا ند له فيبارى ولا معارض له فيند عن حكمه، ولا شريك له فيمارى، كتب الفناء على خلقه وجعل ثواب الذين اتقوا الجنة وعقبى الكافرين النار.
أحمده على حلو القضاء ومره، وأعوذ به من سطوته ومكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها لم يزل عظيما جبارا قهارا قويا جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن التعطيل وتنزه عن المثيل.
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وسلم تسليما كثيرا متصلا ما تعاقب الليل والنهار.
وبعد لم يشهد التاريخ عصرا كهذا العصر الذي نعيش فيه من حيث الهياج الفكري الذي استبد بالناس حول الدين، فكان في كل عقل بليال ووسوسة، وفي كل مجتمع تدافع وجذب، فدخل سلطان العقل على كل قضية من قضايا الدين، فلم يدع واجبا ولا خاطرا يمر في كيان الإنسان إلا أمسك به وعالجه معالجة الكيمائي، ونقده نقد الصيرفي حتى المسلمات التي رضي الناس بها واطمأنوا إليها فأدخل عليها الشك.
وقد كان للدين الإسلامي النصيب الأوفر من هذه الثورة الملحدة عليه، فأصبح الناس ينظرون إليه كآفة مزعج مقلق عائق عن التقدم، لأن هؤلاء (الملحدين) يقولون (الله خرافة، والدين وهم وخداع وعملية تخدير لسقام العقول، وضعفاء الأحلام، والمتدينون به جهلاء أغبياء واقعون تحت تأثير هذا المخدر) هذا بعض ما يقولون عن الدين، ولا يزالون يقولون إلى الآن وإلى
1 / 5
الغد، إنه لقول يدير الرؤوس ويزعج مواطن السكينة في قلوب المؤمنين.
أما العلماء المفكرون المنصفون من الأجانب فبحثوه بحثا دقيقا بحيث وضعوه تحت المجاهر الفاحصة، فوجدوه ميزانا. عادلا في الأخلاق والاستقامة والأحكام، والمساواة بين الناس مؤيدا للعقل سائرا على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
الدين مبناه وأساسه على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهو عدل كله ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى القسوة وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الدين في شيء وإن أدخلت فيها التأويلات، الدين عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﵌ أتم دلالة وأصدقها، وهو نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي هو دواء لكل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهو قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، به الحياة والغذاء، والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنه مستفاد منه وخاص به، وكل نقص في الوجود فبعدم الأخذ به ولولا رسم قد بقي منه لخربت الدنيا وطوى العالم، وبه يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله ﷾ خراب الدنيا وطي العالم رفع الله ما بقي من رسمه فالدين هو الذي بعث به رسوله الكريم وهو قطب الفلاح والسعادة في الدنيا والأخرى.
القانون الطبيعي للأمم هو كل أمة تستعمل ما أتاها الله من قوى الفكر والعقل إلا العالم الإسلامي فإنه اليوم خليط من بقايا موروثة من عصور الظلام بسبب جلب ثقافات حديثة من تيار حركة أوربية، وهي خليط لم تصدر - كما رأينا - عن توجيه، علمي مدروس مبني على أسس أخلاقنا وعوائدنا، وإنما هي مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم،
1 / 6
ومستحدثات لم تتم تنقيتها، هذا التلفيق لعناصر من عصور مختلفة ومن ثقافات متتانية من أدنى غير ربط طبيعي أو منطقي يربط بينهما عالم متضارب منطوي على ألوان من التناقض والتنافر التي تجمعت وتراكمت في المسلمين اليوم لا هم شرقيون ولا هم غربيون، فهضم العناصر المستوردة يقتضي تميزا دقيقا وفكرا ناقدا يقظا محدد الشروط التي يلزم توافرها في الاستعمالات الضرورية أعني شروط توافقها وتفهمها ولياقتها، لقد وجد المجتمع الإسلامي الأول نسفه مرات كثيرة في مواجهة مشكلات من هذا النوع فحلها في كل مرة بطريقة واعية موفقة لا سيما حين حاول اختيار طريقة الدعوة إلى الصلاة، ففكر بعض الصحابة ﵃، في الجرس، أو البوق، أو إشعال النار عند وقت الصلاة، ولكن النبي ﷺ وصحابته قد اختاروا بعد تفكر وتأمل طريقة أصيلة في النداء وهو صوت الإنسان فنشأت حينئذ وظيفة المؤذن وبذلك تحاشوا مشكلة استيراد الأجراس وغيرها (١).
وهناك عادات وتقاليد كثيرة أخدها العالم الإسلامي الأول، كانت بعد اختيار مشدد، واختيار بين وسيلة وأخرى وبين الطرق والأفكار، فالخطأ الذي وقع فيه المحدثون ودعاة الإصلاح اليوم ناتج على أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلهامه الحق، فالإصلاحيون لم يتجهوا حقيقة إلى أصول الفكر الإسلامي كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي. يجب على العالم الإسلامي في هذا العصر أن يوفق بين العلم والضمير وبين الأخلاق والصناعة وبين الطبيعة وما وراء الطبيعة ولو أنه سائر في الطريق إليها يجب على المسلمين اليوم أن يمضوا قدما في طريق البحث والتحقيق والاكتشاف حتى يصلوا إلى جانب رقيهم الفكري والمادي وكل أمة تتقاعد عن السباق في حلبة الفكر والتعمق في العلم تصاب مع انحطاطها العقلي بالتقهقر والاضمحلال المادي كذلك ولما كانت الغلبة نتيجة القوى، والهزيمة عاقبة الضعف فإن الأمم المتخلفة من الجهتين المعنوية والمادية كلها تهبط في دركات
_________
(١) الظاهرة القرآنية
1 / 7
الضعف والفتور، وتصبح صالحة للعبودية وأكثرها استعدادا للخنوع، إن المسلمين يعانون اليوم من هذه العبودية المضاعفة، فبعضهم توجد فيهم العبودية بنوعيها جميعا، وفي البعض الآخر يقل فيه جانب العبودية السياسية وتوجد فيه جانب العبودية المعنوية، ومن سوء الحظ أنه ليست لهم على ظهر الأرض رقعة إسلامية. واحدة مستقلة تمام الاستقلال من الوجهتين السياسية والمعنوية (١).
ويعتبر المسلمون اليوم أن الحق هو ما عند الغرب، والباطل ما يعده الغرب باطلا، والقياس الصحيح للحق والصدق والآداب والأخلاق والإنسانية والتهذيب هو ما يقرره الغرب، ولذلك أصبحوا يقيسون العقيدة الإسلامية والإيمان بالله ﷿، وأحكام الإسلام بمقياس الغرب، فكل ما يطابق منها مقياس الغرب يطمئنون إليه، أما ما لا يطابقه فيظنونه خطأ وباطلا.
وأن الغلبة والاستيلاء يقوم بنيانه في الحقيقة على الاجتهاد والتحقيق العلمي فكل أمة تسبق غيرها إليه تتولى قيادة العالم وزعامة الأمم وتستولي أفكارها على العقول، وأما الأمة التي تتخلف في هذا الطريق فلا تجد مناصا من اتباع الغير وتقليده إذ لا تبقى في أفكارها ومعتقداتها من القوة والأصالة ما يكسبها السيطرة على الأدهان فيجر فيها تيار الأفكار القوية والمعتقدات الراسخة التي تتقدم بها الأمة الباحثة المجتهدة، كان الفكر الإسلامي غالبا على أفكار النوع الإنساني بأجمعه وكل ما اتخذه الإسلام من المقياس للخير والشر والحسن والقبيح والخطأ والصحيح يكون مقياسا صحيحا عند جميع أهل الأرض.
كل الحضارات التي كانت على وجه الأرض ذابت بكل سهولة في الحضارة الغربية وتلونت بلونها بدون أن يقع بين هذه وتلك كبير احتكاك، ولكن المسلمين كانت حالهم غير حال تلك الأمم جميعا لأنهم حاملو حضارة مستقلة ذات دستور واضح متكامل شامل لجميع شعب الحياة الإنسانية من ناحيتي الفكر والعمل،
_________
(١) مالك بن النبي
1 / 8
تختلف اختلافا كليا عن مبادئ الحضارة الغربية فكانت بطبيعة الحال - أن هاتين الحضارتين تتزاحمان في كل مجال.
وتصطدمان على كل صعيد، ولا يزال هذا الصدام قائما بين القوتين إلى هذا اليوم، يؤثر في كل شعبة من شعب حياة المسلمين العلمية والعقائدية أسوأ الآثار.
من القواعد الكلية التي أثبتها القرآن، أن الله تعالى ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ حتى يهلك أمة بلا سبب، وهي تعمل صالحا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (١)، وليس المراد بهذا الهلاك أن تنقلب الأرض على أهلها، بل تتشتت الأمم وتكسر قوتها الاجتماعية، وتضرب عليها الذلة والعبودية والخزي، وحسب القاعدة القرآنية لا يصيب هذا العذاب أمة من الأمم إلا إذا تركت منهج الخير والصلاح، وأخذت تسلك مناهج الشر والفساد، والعتو والطغيان وبذلك ظلمت نفسها بنفسها، وأن الله ما ذكر أمة أصيبت بعذاب إلا وذكر جريمتها ثباتا لتلك القاعدة القرآنية حتى يتبين للناس أن وبال أعمالهم السيئة هو الذي يفسد دنياهم وآخرتهم ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ سورة العنكبوت، ولا يكون هو الفساد الفردي بل هو الفساد الجماعي فالعناية الإلهية هي التي تتصرف في هذه الأمة، ويبدأ المجتمع الفاسد في الهبوط من علياء عزه إلى درك الهوان حتى تحين الساعة التي يهيج فيها غضب الله فيدمرها تدميرا هذا هو سبب الهلاك، إذا أراد المسلمون أن يكون لهم نصر مؤزر وغير هزيل، ومصحوب بالدوام والاستمرار فيحافظوا على الإسلام، وعلى ما جاء به من الوحدة وغيرها، لأن توجيهات القرآن وإرشاداته صريحة في هذا المعنى، ومن خلال انتصار المسلمين في الماضي كانت موافقة لما أمر به القرآن الكريم رغم نقصهم في العدة والعدد، لأن هذه الانتصارات الرائعة التي وقعت للمسلمين على أعدائهم سواء كانت في الماضي
_________
(١) سورة هود ﵇
1 / 9
أو الحاضر فهي وعد من الله للمسلمين إن هم داموا سائرين على خط الإسلام، فلا بد من تحقيق هذا الوعد قال: الله ﷿: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (١) فما بال المسلمين لم ينتصروا عدة قرون وهم منهزمون، أترى أن الله يخلف وعده كلا.
... فالله ﷾ يقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٢) وإنما المسلمون نقضوا الشرط الذي شرطه الله عليهم في الآية المتقدمة.
إذا تركت الشعوب الإسلامية الدين بعيدا عن حياتها، كما هو الآن - في أوطان المسلمين، ولم تجعله أساسا لشؤونها، فإنها لن تستطيع أن تقوم بنهضة قوية وعندئذ لا يقدر أي مبدأ من المبادئ المستوردة أن يوحد بينها، فتنا بها عوامل الضعف والتخاذل والتفرقة، وهذا ما وقع في الماضي، وكان السبب في سقوطها فريسة بين أيدي أعدائها، ولازال هذا التفرق إلى الآن بكل أسف.
الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل العريض - لم تحارب أعداءها باسم أي مبدأ من المبادئ الوضعية، وإنما حاربت باسم الإسلام ولهذا كانت تخرج من المعارك ظافرة ومنتصرة.
ونأتي بمثال واحد - من بين الأمثلة الكثيرة - شاهدا على ذلك يلمسه كل من باشر ثورة الجزائر الكبرى، حين وصل الإيمان بالله ﷿ إلى قلوب الشباب عن طريق الدعوة فسرعان ما تناسى حظوظه الشخصية واتحد، وبرز يكافح ويناضل، ويجاهد في سبيل الله في كل مكان لاسترجاع كرامته المهدورة وحقوقه المهضومة. وسيادته المغصوبة ولو دعى باسم مبدأ آخر خلاف الإسلام لما لبى النداء أبدا، ولهذا ضرب
_________
(١) سورة النور
(٢) الروم
1 / 10
الأمثال الرائعة في الشجاعة والتضحية والفداء، فصمد في وجه أكبر قوة غاشمة، وهي قوة الغرب الطاغية المستبدة على شعوب العالم كما صمد أجداده من قبل في وجه الفرس والرومان.
ما هي إلا لحظات من لحظات الدهر الحاسمة، صبر فيها المجاهدون الأبرار حتى نزل النصر من عند الله، وتغيرت الأوضاع والمعالم، ولاذ الغاصبون بالفرار، ولم تغن عنهم قوتهم، ولا سلاحهم المتطور، بهذه العقيدة الربانية انتهى عهد الظلام بطلوع فجر صادق تتلألأ أشعته في الآفاق، .... كم كان يحمل جسم الأمة الإسلامية المثخن بالجراح من حصانة ومناعة ومقاومة على مر الأزمات والاحقاب، ولولا الإسلام لانقرضت هذه الأمة من الوجود كما انقرضت عاد وثمود في الزمن الغابر، وكيف تتقرض وهي من بقيت السلف الصالح، ومن حملة العقائد الصحيحة والمبادئ السامية .... كان قادة الثورة الجزائرية أيام حرب التحرير يحثون الشعب بصفة عامة والمجاهدين بصفة خاصة على تطبيق أوامر الإسلام والعمل بها واجتناب نواهيه، وكانوا يعاقبون كل من يتعد حدوده.
لقد أثار كفاح الجزائريين الهامدين ونيه النائمين والغافلين فكان المجاهد الجزائري حاضرا للعمل مهيأ للبذل والعطاء مستعدا للفداء مدربا على خوض المعارك معتزما الاستشهاد في سبيل الله حمل السلاح ومضى إلى ميادين القتال، فبدأ هجوماته على العدو بكلمة (الله أكبر) فكان النصر حليفه، لم يشهد العالم الإسلامي ثورة مسلمة مسلحة مثلها في العصور الأخيرة من عصور المسلمين أكثر ضحايا وأطول مدة لم تقتصر هذه الثورة على الجزائريين وحدهم، بل فتحت الطريق لشعوب آسيا وافريقيا لمحاربة الاستعمار الذي كان جاثما على صدرها ومند اندلاع الثورة في الجزائر، وهذه الشعوب تكافح وتناضل حتى تحررت نهائيا، ولما دعي الشعب الجزائري إلى الثورة، لم يعد كفاحهم هتافا
1 / 11
وتصفيقا بل كان عملا وتضحية ولم يعد جهادهم دعاية وتهريجا، بل كان فداء واستشهادا. وتعذيبا وتنكيلا، هذه الثورة كلفت الشعب الجزائري ثمنا باهضا من التضحيات الجسيمة فسقط ما يربو عن مليون شهيد في الاشتباكات على مستوى الوطن، تحت قنابل المدافع والنبالم والطائرات وأزيز الرصاص وعلى أعواد المشانق وشفرات المقاصل وتحت الهدم، أما العذاب الذي أنزل على رأس الأمة الغالب لم ينجو منه أحد، والتخريب ودك الدور والمنازل وهتك الأعراض والشرف فحدث عن ذلك ولا حرج.
وامتازت مقاومة الجزائر لجيش الاحتلال الفرنسي ببطولة نادرة لم يكن هذا الاحتلال نزهة عسكرية كما يقولون، بل اصطدم بأناس أقوياء في إيمانهم صلب في عزائمهم لا كما كان يظن الاستعمار أنهم أناس متأخرون وهذا ما شهد به قائد الاحتلال (الجنرال بيجو) قال: (إن العرب كلهم أهل حرب وبأس يخوضون غمار الحروب من الشيخ الهرم البالغ من العمر ثمانين سنة إلى الطفل البالغ خمسة عشرة سنة) واعترف المؤرخون الفرنسيون بشخصية الجزائر المسلمة كوحدة قومية تنتمي إلى المجموعة الإسلامية، وهذا ما شهد به المؤرخ الفرنسي (لورد ليو) في كتابه الجزائر وتونس قال: (إن فرنسا استولت سنة ١٩٣٠ على قطر عامر غني زرعا وذرعا يذود عن حوضه سكان عديدون يحبون الحرب ولا يعرفون للفشل ولا للملل معنى، إن هؤلاء السكان من جنس عريق استوطنوا افريقيا منذ زمن عتيق، توالت عليهم في هذا القطر قرون وأجيال، فهم أصحاب مدينة رائعة، يكونون هيئة اجتماعية منظمة، تتوفر فيها شروط الحياة والقوة، تعتز بوطنيتها كل اعتزاز، وبفضل أخلاقها وعاداتها ودياناتها، كانت تنفر من الاندماج إلى أي جنس ما، ومما يزيد في الطين بلة، هو دين هذا الجنس دين عزيز لا يغلب ولا يقهر، قوه دافعة جبارة يستمدها من بساطة مبادئه ووضوحها إلى غير ذلك من شهادة المؤرخين الأجانب.
1 / 12
كتبت عدة كتب عن الثورة الجزائرية، كان أكثر الكتاب غربيين من صحافيين ومؤلفين، تناولت بعض الأحداث الظاهرة في الثورة التي نجمت عنها. وعلى الحرب المدمرة وإبادة السكان وعلى العذاب والتنكيل، والقتل الجماعي الذى كان يستعمله الجيش الفرنسي، واندفاع الشعب الجزائري ومغامرته بحياته في هذه الحرب القذرة، وعلى المؤتمرات التي كانت تعقد في الشرق والغرب من أجل انتهائها، وعلى المناضل الجزائري وما كان يحمل بين طياته من شجاعة وعبقرية فذة، وصور إنسانية حية سليقة فيه، هذا كله تكلموا عنه لكنهم أهملوا العنصر الأساسي الذي قامت عليه الثورة، والذي أمدها بقوة غلابة وقادها حتى النصر النهائي، وسواء أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد؟ فالدين هو الذى كان سببا في جميع كلمة الأمة، وبعث فيها روح الجهاد والتضحية، وقادة الثورة جعلوه دستورا لها سارت عليه من بدايتها إلى نهايتها، ولولاه لما اجتمعت الأمة على مقاومة الاستعمار، والعالم كله يشهد بذلك، أفبعد هذا الانتصار الرائع يتنكر الشعب من بعد الاستقلال للإسلام ويتهمه بالرجعية وعدم مسايرته للتطور الحضاري؟ اللهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ولما رأيت أن الكتاب عن الثورة لم يشيروا إلى الدين الذي هو عنصر فعال فيها لا من قريب ولا من بعيد، عزمت على أن أكتب على هذا الجانب الروحي الذي سرى تياره في هذه الأمة منذ زمن بعيد وما كادت تسمع صوته من الدعاة حتى صارت تتسابق إلى ميادين الجهاد - وإني أثبت الحقائق الناصعة في هذا الكتاب وأرفع الالتباس والغموض تحقيقا للواقع التاريخي، مبينا في ذلك للشعوب الإسلامية عامة وللشعوب العربية خاصة وموضحا للأجيال الصاعدة أنهم إذا حادوا عن الإسلام، ولم يجعلوه أساسا لحياتهم لم يكتب لهم النصر والتوفيق أبدا في هذا الوجود، ويبقوا تابعين لا متبوعين ...
1 / 13
أشرت في هذا الكتاب إلى الخلاف المستحكم الحلقات بين المسلمين والأنانية الطاغية في بعض الأفراد - ولا سيما الحكام - حتى عصفت بما كان لهم من تسامح وعدالة ووحدة.
وبدأ هذا الخلاف من بعد ما التحق صاحب الرسالة ﷺ بالرفيق الأعلى.
ومن بعد ذلك قامت الأحزاب والفرق التي نجمت من بعد حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - والكوارث التي أصابت المسلمين - سواء كانت داخلية أو خارجية هي التي كانت سببا في سقوط الخلافة الشرعية ومن بعدها هبت المحن على العالم الإسلامي، فتفرق شر مذر لأنه ترك الحبل الذي كان يربطه ومن ذلك الحين لم يكن للمسلمين وحدة إلى الآن، وأصبحوا يخرجون من سيء إلى أسوأ.
وأشرت إلى حرب الأمير عبد القادر مع الجيش الفرنسي والثوارات التي وقعت في عهد الاستعمار إلى ثورة ١٩٥٤م، وكذلك ثورة العالم الإسلامي إشارة عابرة، لأن الذى يكتب عن الثورة الجزائرية لا يستطيع أن يفصلها عنه بحكم الروابط الدينية والتاريخية والمصيرية والحضارية.
وأشرت إلى الأسباب التي قامت عليها ثورة الجزائر الكبرى، وهي: الأحزاب الوطنية، والهيئات الدينية. كانت تبث الوعي الديني والوطني فاستجاب الشعب إلى هذا الوعي. وصمد في وجه قوة الغرب، وغالب الجزء الأول من هذا الكتاب عرض تاريخي للحوادث الكبرى التي انتابت المسلمين وجعلتهم طوائف متناحرة ودولا متحاربة حتى ضعفوا وفشلوا. فطمع فيهم أعداؤهم فأصبحوا تحت رحمتهم بسبب تفكك وحدتهم وتفرق كلمتهم لأنهم خالفوا الإسلام الذي يأمرهم بالاعتصام بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا.
1 / 14
من هنا يجب أن يعتبر المسلمون بالماضي القريب والبعيد ليتداركوا أخطاءهم، ويلطفوا من أنانيتهم وعداوتهم لبعضهم بعضا ويلتفوا حول الدين الحنيف حتى يصبحوا أمة قوية مرهوبة الجانب تقف في وجه أعدائها المتكالبين عليها من كل ناحية ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (١).
لأن المسلمين عندما يتنكرون للإسلام، ويتحللون من أوامره وأخلاقه يفشوا فيهم الضعف عن المقاومة والتخاذل فيما بينهم والترف الممقوت، فيعرضون أنفسهم وشعوبهم إلى احتلال أوطانهما من طرف أعدائهم.
وذكرت بعض التعاليم الإسلامية لتكون حجة للمناوئين لها فكل من يعارض الإسلام لا يعرف مبادئه، ولا درسه دراسة واسعة حتى يتمكن من معرفة حقائقه، وسميته ـ[الاعتصام بالإسلام]ـ.
_________
(١) سورة الأنبياء
1 / 15
الإيمان بالله ﷿ صنع رجالا
كانوا أغمارا في الجاهلية فأصبحوا سادة العالم
بعث محمد ﷺ، والعالم مبعثر ومشتت كل شيء فيه، فهو في غير محله، نظر محمد ﷺ إلى الناس فرأى كل واحد هانت عليه نفسه رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر، كان الناس يتحاكمون إلى قانون الغاب، رأى مجتمعا كل شيء فيه في غير شكله، أصبح المجرم فيه سعيدا، والصالح شقيا، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر. ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلال ورأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة، والفجور الى حد الاستهتار، وتعاطى الربا الى حد الاغتصاب، واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال الى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم الى حد الوأد وقتل الاولاد، ورأى ملوكا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا أربابا من دون الله يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
رأى المواهب البشرية ضائعة لم ينتفع بها أحد، ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالا على الانسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكا وهمجية، والجود تبذيرا وإسرافا، والانفة حمية جاهلية والذكاء شطارة وخديعة والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والابداع في ارضاء الشهوات رأى هذا كله وأكثر منه في بيئته الخاصة وفي العالم، ولم يكن الرسول ﷺ رجلا اقليميا أو زعيما وطنيا، أو مصلحا لناحية من نواحي المجتمع اذ مجال العمل في بلاد العرب فسيح، لو كان رجلا إقليميا لسار في قومه سيرة القادة السياسيين والزعماء الوطنيين، ولكنه ﷺ لم يبعث لينسخ باطلا بباطل ويبدل عدوانا بعدوان، ويحرم شيئا في مكان ويحله في مكان آخر، لم يبعث زعيما وطنيا، أو قائدا سياسيا، وإنما أرسل الى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا وأرسل ليخرج عباد الله جميعا
1 / 16
من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ويخرج الناس جميعا من ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الاديان الى عدل الاسلام ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (١) فلم يكن خطابه لأمة دون أمة ووطن دون وطن، ولكن كان خطابه للنفس البشرية والمصير الإنساني، وكانت أم القرى لموقعها الجغرافي واستقلالها السياسي خير مركز لرسالته وكانت الأمة العربية بخصائصها النفسية ومزاياها الأدبية خير محل لدعوته وخير داعية لرسالته.
لم يكن ﷺ من عامة المصلحين فحسب، بل أتى بالإصلاح الشامل لجميع نواحي الانسانية، أتى بالإيمان بالله وحده، ورفض الأوثان والشرك والكفر والطاغوت والظلم والبغي بكل معانى الكلمة، وقام في القوم ينادى (أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ودعاهم إلى الايمان برسالته والايمان باليوم الآخر.
أدرك عباد الاوثان والشهوة والمادة عندما قرع أسماعهم صوت النبي ﷺ أن دعوته الى الايمان بالله وحده سهم مسدد الى كبد الجاهلية، فقامت قيامتها ودافعت عن تراثها، وقاتلت في سبيلها قتال المستميت ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (١) ووجد كل واحد من هذا المجتمع الجاهلي نفسه مهددة، وحياته في خطر، وهنا وقع ما تحدث عنه التاريخ من حوادث الاضطهاد والتعذيب، وكان ذلك آية للنبي ﷺ لأنه أصاب الغرض، وضرب على الوتر الحساس، وأصاب الكفر في صميمه، وثبت النبي ﷺ على دعوته ثبوتا دونه ثبوت الراسيات لا يثنيه أذى ولا يلويه كيد ولا يلتفت الى اغراء مكث ﷺ ثلاثة عشر حجة يدعو الى الله وحده، والايمان برسالته واليوم الآخر لا يكنى ولا يلوح ولا يلين، ولا يستكين، ولا يحابى. ولا يداهن ويرى في ذلك دواء لكل داء.
_________
(١) الأعراف
1 / 17
فكان الايمان بالله والانحياز اليه جد الجد لا يتقدم اليه الا جاد مخلص هانت عليه نفسه، وعزم على أن يقتحم خط النيران ويمشى اليه ولو على حسك السعدان، فتقدم اليه فتية لا يستخفهم طيش الشباب، ولا يستهويهم مطمح من مطامح الدنيا وانما همهم الأخرة وبغيتهم الجنة.
سمعوا مناديا ينادي للإيمان أن أمنوا بربكم، فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم فرأوا أنهم لا يسعهم الا الايمان بالله ورسوله فأمنوا وتقدموا الى النبي ﷺ ووضعوا أيديهم في يديه، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم اليه، وهم من حياتهم على خطر، ومن البلاء والمحنة على يقين، سمعوا القرآن يقول ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (١) وسمعوا قوله تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (٢) فما كان من قريش الا ما توقعوه، قد نتروا كنانتهم وأطلقوا عليهم كل سهم من سهامها فما زادهم كل ذلك الا ثقة وتجلدا وقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (٣) ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين الا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتا للكفر وأهله واشتعالا لعاطفتهم وتمحيصا لنفوسهم فاصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي. وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء.
وكان الرسول ﷺ يغذى أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويحثهم على الخضوع أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل فيزدارون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة
_________
(١) سورة العنكبوت
(٢) سورة البقرة
(٣) سورة الأحزاب
1 / 18
خلق وتحررا من سلطان الماديات، ومقاومة الشهوات نزوعا الى رب الأرض والسموات، فكان يأخذهم بالصبر على الاذى والصفح الجميل، وقهر النفس لقد رضعوا حب الحرب. وكأنهم ولدوا مع السيف، وكيف لا؟ وهم من أمة اشتهرت بالهمة والشجاعة والفصاحة والنبل وحسن الشيم، ولكن الرسول ﷺ كان يقهر همتهم الحربية، ويكبح نخوتهم العربية ويقول لهم: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسبل به النفوس في غير حين وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دفع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي إلى أن أذن الله لرسوله بالهجرة مع أصحابه.
التقى أهل مكة بأهل يترب لا يجمع بينهما الا الدين الجديد، فكان أروع منظر لسلطان شهده التاريخ فألف الإسلام بين قلوبهم، ولو أنفقا احد ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوبهم، ثم آخى رسول الله ﷺ بينهم وبين المهاجرين، فكانت تزرى بأخوة الأشقاء.
كانت هذه الجماعة نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام في كل زمان ومكان. وكانت وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهددها وعصمة للإنسانية من الغش والأخطار لذا قال الله ﷾: في حق هذه الجماعة ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (١).
لم يزل رسول الله ﷺ يربيهم تربية عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بأنفسهم ويذكى جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول ﷺ تزيدهم رسوخا في الدين وعزوفا عن الشهوات وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا الى الجنة، وحرصا على العلم وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا، قد خرجوا مع الرسول ﷺ للقتال سبعا وعشرين مرة في ظرف عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال
_________
(١) سورة الأنفال
1 / 19
العدو أكثر من مائة مرة فهان عليهم التخلي عن الدنيا، وهانت عليهم رزئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات التي تأمر بإنفاق الأموال والجهاد بالنفس والولد والعشيرة، فنشطوا وخضعوا لامتثال أمرها.
انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت جميع العقد فانتصر الاسلام فكانوا لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى، ولا تكون لهم الخيرة من بعد ما أمر ونهى حدثوا الرسول عما اختانوا به أنفسهم وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد اذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد وأنصفوا من نفوسهم انصافهم من غيرهم وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطفهم غنى ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وطالهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم، وداعية الى دين الله، واستخلفهم رسول الله في عمله، ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته.
انتقل العرب والذين أسلموا عن معرفة الجاهلية العليلة الغامضة الميتة الى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها.
آمنوا بالله الذى له الاسماء الحسنى والمثل الأعلى، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم الغفور الودود الرؤف الرحيم، له الخلق والأمر بيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه الى آخر ما جاء في القرآن من وصفه يثيب بالجنة ويعذب بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
يعلم الخب في السموات والأرض ويعلم خائنة العيون وما تخفى الصدور الى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعمله، فانقلبت أنفسهم بهذا الإيمان الواسع انقلابا عجيبا، فإذا آمن
1 / 20
أحد بالله وشهد أن لا اله الا الله انقلبت حياته ظهرا لبطن، وتغلغل الإيمان في أحشائه، وتسرب الى جميع عروقه ومشاعره وجرى منه مجرى الروح والدم، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلا غير الرجل الأول وأظهر من روائع الايمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما جبر العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ولا يزال موضع الحيرة والدهشة منه الى الأبد.
ظهر المسلمون وتزعموا العالم، وعزلوا الطغاة عن الأمم، وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عدلا، وقد توفرت فيهم الصفات لقيادة الامم، لأنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة الهية فلا يشرعون من عند أنفسهم لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، قد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس وشريعة يحكمون بها بين الناس ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (١).
وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. (٢)
لأنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بدون تربية خلقية وتزكية نفس بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد ﷺ واشرافه الدقيق يزكيهم ويؤديهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والايثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها يقول (إنا والله لا نولى هذا العمل أحدا سأله، أو أحدا حرص عليه) حديث متفق عليه ويجعلون دائما نصب أعينهم قوله ﷿ ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب تهافت الفراش على الضوء، بل كانوا يتدافعون في قبولها، ويتحرجون من تقليدها.
_________
(١) سورة الانعام
(٢) سورة المائدة
1 / 21
بهذا الايمان الواسع والتعليم النبوي المتقن وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذى لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله ﷺ في الانسانية المحتضرة حياة جديدة فأوجد فيها - بإذن الله - الايمان والعقيدة وبعث فيها روحا جديدة وأثار من دفاتها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد منهم في محله فكأنما خلق له. وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره، فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ. فأصبح عمر الذى كان يرعى الابل لأبيه الخطاب وينتهره، وكان من أوسط قريش جلادة وصرامة اذا به يفجأ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ويؤسس دولة اسلاميه تجمع بين تفوقها في الادارة وحسن النظام فضلا عن التقوى والورع والعدل الذى لا يزال فيه المثل السائر.
وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش إذا به يلمع سيفا الهيا في الاسلام لا يقوم له شيء الا حصده وينزل كصاعقة على الروم ويترك ذكرا خالدا في التاريخ وهذا أبو عبيدة كان موصوفا بالصلاح والأمانة والرفق اذا به يتولى القيادة العليا للمسلمين ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الخضراء ويلقى عليها نظرة الوداع ويقول: (سلام على سريا سلاما لا لقاء بعده) الى غير ذلك من الأفذاذ الذين تلقوا معلوماتهم وتكوينهم في مدرسة الايمان، ولا زالت هذه المدرسة تخرج لنا من العباقرة والشخصيات العظيمة البارزة في كل ميدان من ميادين الحياة الى الآن والى الغد ان شاء الله.
1 / 22
تعاليم الاسلام قوة روحية ومادية معا
وعدالة اجتماعية ورحمة، لجميع الناس
ما أعظم نعم الله على المسلم الذى هداه الى الطريق المستقيم والوصول به الى معرفة الخالق جل وعلا، ولما فتح هذا المخلوق عينيه على الكون العجيب الصنع والاتقان ابهر عقله، وحرك ذهنه في كل ما يحيط به من الأشياء الدالة على عظم قدرة الله فاذ عن له، وأقر لربوبيته بالكمال المطلق.
ولقد كرم الله الانسان بنعم لا تعد ولا تحصى، وفضله على كثير من المخلوقات قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (١).
الايمان بالله ﷾ هو المبدأ الوحيد في هذا العالم أخذ به المؤمنون قديما وحديثا، وفي جميع الأزمنة والأمكنة واعتصموا بحبله جميعا فهداهم الى ما فيه خيرهم وسعادتهم.
الايمان بالله هو التصديق بالحقيقة الكبرى، والاعتراف بالوجود الأعلى بواسطة مخلوقاته الكثيرة العجيبة الصنع والابداع، الايمان بالله هو شعور الانسان بمنزلته المحدودة أمام رب عظيم بيده ملكوت السماوات والأرض، وكل شيء في هذا الوجود.
الايمان بالله هو القوة الباعثة على العمل الصالح القوة التي توجه الانسان الى الله فيما يفعل وفيما يترك في جميع شؤون الحياة كلها.
الاسلام مبدأ الهى عام لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون ولا بين وطن ووطن، بل هو هداية من الله الى الخلق
_________
(١) سورة الاسراء
1 / 23