15

Al-Wajiz fi Fiqh al-Imam al-Shafi'i

الوجيز في فقه الإمام الشافعي

Investigator

علي معوض وعادل عبد الموجود

Publisher

شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم

Edition Number

الأولى

Publication Year

1418 AH

Publisher Location

بيروت

فأنقلَبَ الغزّاليُّ من حالٍ إلى حالٍ، وترك كرسيَّ التدريسِ بالمدرسة النِّظَامِيَّة في بغداد، وقد أعطى كل ما معه من مال للفقراء والمُعْوِزِينَ، وقَطَعَ علائقَهُ بالدنيا، وساحَ في الأَرْضِ.

حكى الزَّبيديُّ في شرح الإِحْيَاء، أنَّ سبب سياحَةِ أبى حامدِ الغَزَاليِّ، وزهْدِهِ في الدنيا؛ أنَّه كان يوماً يعظ الناسَ، فدخَلَ علَيْه أخوه أحْمَدُ، فأنشده: [المتقارب]

أَخَذْتَ بِأَعْضَا دِرهمْ إِذْ وَنَوْا وَخَلَّفَكَ الْجَهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا

فَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي وَتُسْمِعُ وَعْظاً وَلاَ تَسْمَعُ
فَيَا حَجَرَ الشَّخْرِ حَتَّى مَتَى تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ؟!

فكأنَّ شقيقه أحْمَدَ قد نَبَّهَهُ إلى فِكْرَةٍ كانَتْ تراودُ خاطرَهُ، وكانت الحافزَ الَّذي جعَلَ الغزاليَّ ينطلقُ انطلاقَةً مغايرةً ما كانَ عليه سَلَفاً.

يقول أبو الفداء الواعظُ الشَّافعيُّ: إِنَّه سمع من عليٍّ المَوْصِلِيَّ يحكي عن أبي منصورِ الرَّزَّاز الفقيهِ، قال: ((دخَلَ أبو حامدٍ (بَغْدَاد))، فقوَّمنا مَلْبُوسَهُ، ومركوبَهُ خمسَمائَةِ دينارٍ، فلما تزهَّدَ، وسَافَر، وعاد إلى بَغْدَادَ، فَقَوّمنا ملبوسَهُ خمسةَ عَشَرَ قِيرَاطاً».

إذَنْ كانت الأسباب الدينيَّةُ هي الباعثَ الأوَّلَ لتركه بغداد، وتركه ذلك الجَاهَ العريض، والصِّيت المُدَوِّي، والمكانةَ المرموقَةَ، والانهماكَ في طَلَب المال والمَنْصِب، فولى كلَّ ذلك ظَهْرَهُ، طلباً للمعرفة والحقيقةِ، وسَعْياً للوصول إلى الله.

وهناك أيضاً بواعثُ سياسيَّةٌ ساهَمَتْ في تحضيره لتركه بَغْدَادَ، حيثُ كانت الأحوالُ السياسيّة مضطربَةً، بعد قَتْلِ نظَامِ المُلْكِ الوزيرِ السَّلْجُوقِيِّ سنةٍ خمْسٍ وثمانينَ، وأربعمائة هجرية، وموتِ السُّلْطَان ملك شاه ابْنِ أَلَّب أرسلان في نفْسِ العامِ أيضاً، ومَوْتَ الخليفة المُقْتَدى بأمْرِ اللَّه عام سبعةٍ وثمانين وأربعمائة.

ولقد تكلَّم الإمامُ الغَزَّالِيُّ - رحمه الله - عن خروجه من بغداد، وسَبّب رحيله، شارحاً كلَّ ذلك في إسهَابٍ طويلٍ في كتابِهِ المُنْقِذِ مِنَ الضَّلال، وواصفاً تجربتَهُ الدينيّة الرائِعة للوُصُولِ إلى الحقِّ، واليقينٍ، والخروج من الماديَّة المظلمَةِ - التي وصفها بأنَّها بحرٌ عميقٌ غَرِقَ فيه الأكْثَرُونَ - إلى الصَّفاء الأَبَدِيِّ. يقول في كتابه المنقذ من الضَّلَال:

ولم أزِلٍ في عُنْقُوَان شبابي منذ رَاهَقْتُ البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أَنَافَ السِّرُّ على الخمسين؛ أَقتحم لَُّةَ هذا البَحْرِ العميق، وأخوض غَمْرَتَهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجَبَانِ الحَذُور، وأتوغَّل في كل مُظْلِمَةٍ، وأتهجَّم على كل مُشْكِلَةٍ، وأقتحم كل وَرْطَةٍ، وأتفخَّص عقيدةَ كلِّ فرقة، وأستكشف أسرارَ مذْهَب كل طائفة؛ لأميّز بين مُحِقٍّ ومُبْطِلٍ، ومستنٌّ ومبتدعٍ، لا أغادر بَاطِنِيّاً إلا وأحبُّ أن أَطَّلِعَ على بِطَانَتِهِ، ولا ظَاهِرِيّاً إلا وأريدُ أن أَعلَمَ حَاصِلَ ظِهَارَتِهِ، ولاَ فَلْسَفِيّاً إلا وأقصدُ الوقُوفَ على كُنْهِ فَلْسَفَتِهِ، ولا مُتَكلِّماً إلا وأجتهدُ في الاطّلاع على غاية كَلاَمِهِ ومُجَادلتِهِ، ولا صُوفِيّاً إلا وأَخْرِصُ على العُثُور على سِرِّ صُوفَّتِهِ، ولا متعبِّداً إلا وأَتَرصَدُ ما يرجعُ إلَيْه حاصلُ عبادِهِ، ولا

15