Al-Bahth Al-Adabi Bayn Al-Nazr wa Al-Tatbiq
البحث الأدبي بين النظر والتطبيق
Publisher
-
Edition Number
-
Genres
المقدمات
مقدمة الطبعة الأولى
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفصح الخلق أجمعين، في هذه المحاضرات تناولت بالتحليل موضوعًا يهم طالب العلم، ولا يستغني عنه باحث، مهما كان بحثه في العلوم والآداب، وهو: "معالم البحث الأدبي" فذكرت فيه معنى البحث، وأهميته في نمو الفكر الإنساني، وشروطه وطبيعته وأنواعه، وعقباته، وجميع المراحل التي يجتازها الباحث، حتى يصل إلى نهاية بحثه، ويحقق فيه النتائج الجديدة، التي ينشدها كل باحث من عمله، ليؤدي دوره في بناء الفكر الإنساني، ويسمو بأمجاد ماضيه، ويسجل للأجيال من بعده واجبه المقدس في الحياة، نحو العلم والإنسانية.
وتوخيت الحديث في البحث الأدبي بخاصة لسببين:
أولا: هذه الدراسة وثيقة الصلة بلغتنا العربية وقواعدها وعلومها وآدابها وبلاغتها.
ثانيا: قواعد البحث وأسسه ومنهجه عامة وشاملة، يصح تطبيقها على الفنون والآداب، واللغات والعلوم، يلتقي فيها غالبا فن الأدب، وعلم النحو، والبلاغة، والتاريخ والفلسفة، وسائر العلوم سواء بسواء.
وبهذا الجهد المتواضع أسأل الله ﷿ أن ينفع به والله ﵎ ولي التوفيق.
علي علي صبح
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية:
الحمد لله الذي هذب النفوس بمبادئ الإسلام، وطهر القلوب بنور القرآن، وشرح الصدور بعقيدة الإيمان، وهدى العقول بمنهج الشريعة الإسلامية.
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾، ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ أدبه ربه فأحسن تأديبه ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار، الذين انتهجوا نهجه وسلكوا طريقه ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ .
هذا هو منهج الإسلام في التعليم والبحث والدراسة يعتمد على أسس علمية مستقيمة جاء بها التشريع الإسلامي، تقوم على الملاحظة والمتابعة والاستقراء والتأمل والتدبر والعقل ثم المعرفة والعلم والاعتقاد، ثم العمل والسلوك، ثم الشكر لله ﷿
1 / 5
الذي أسبغ عليه هذه النعم ظاهرة وباطنة قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ ... ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ ... ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ... ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ .... ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ... ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ ... ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ ... ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
1 / 6
وغيرها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي لا تزال تحث الإنسان على أن يرى وينظر، ويتأمل ويعقل، ويتابع ويتدبر ويدرس ويناظر، ويبحث ويعلم، ليصل إلى الحقيقة عن طريق مسلماتها ومقدماتها.
هذا هو منهج الباحث والعالم في دراسته وبحثه، يتخذ الأسس والمعالم في الاستقراء والتحصيل والبحث في قضية علمية أو أدبية، يعالج مشاكلها ومتاهاتها حتى يصل إلى نتائج علمية نابعة من الدراسة والنظر، وإلى حقائق أدبية ناتجة عن المتابعة والتحليل، وبذلك يقدم عملا علميا جادا ودقيقا.
وتقتضي المعرفة والدراسة أن يميز الباحث بصفة عامة بين التحقيق والتوثيق، وبين البحث والرسالة والمقال، وبين الكتاب والموسوعة وبين التلخيص والتقرير.
وتقتضي أيضا أن يتعامل الباحث مع المصادر والمراجع في جمع المادة العلمية على أسس ينبغي تحقيقها في شخصيته العلمية؛ ليسير في دراسته على منهج علمي في اختيار الموضوع، وتحديد الخطة والمنهج، والتعرف على المصادر والمراجع والدوريات وكيفية القراءة والاطلاع، وطرق جمع المادة وتدوينها، والحنكة في الصياغة والأسلوب والدقة في عرض الأصول والهوامش والحواشي والفهارس، وغير ذلك مما يتصل بمعالم البحث الأدبي، ليكون العمل العلمي جديدا وجادا، يضيف إلى المكتبة العلمية والأدبية نتائج جديدة يؤدي بها الباحث واجبه نحو الفكر الإنساني والحضارة الإسلامية
1 / 7
العربية؛ فيحيا به عصره حين يأخذ دوره في مراحل الرقي والتقدم، ويعد طورا من أطوار التاريخ الإنساني والأدبي والعلمي والله ﷾ ولي التوفيق.
علي علي صبح
1 / 8
الفصل الأول: البحث
مدخل
...
الفصل الأول: "البحث"
البحث عن الشيء هو الوقوف على مفهومه والوصول إلى حقيقته والتعرف على جوانبه المختلفة، تقول: بحث الشيء إذا نقب فيه ومحص أجزاءه، لينتهي فيه الباحث إلى حقيقته يوضح جوهره ويسبر أغواره، ويجلي عناصره وأفكاره.
ثم أطلق البحث على كل عمل أدبي أو علم يقوم به الباحث ليكشف عن الحقيقة في قضية أدبية أو فكرة علمية أو ظاهرة شعرية، ولذلك يعد البحث أو الرسالة من باب الدراسات الدقيقة التي تعرض تقريرا علميا متأنيا، يوضح الحقيقة لظاهرة أدبية أو نظرية علمية، كما يعد من الأعمال الجادة التي تنتهي إلى حكم دقيق في قضية شعرية، وقد انتهى الباحث إلى نتيجة طبيعية لفكرة علمية، أو مشكلة اجتماعية، أو ظاهرة أدبية، أو قضية شعرية.
وقد يكون البحث كتابا يتسع لمئات الصفحات فيقسمه صاحبه إلى أفكار، يضع لكل فكرة فصلا حتى آخره، أو يقسمه إلى أبواب، كل باب يحتوي على فكرة عامة تندرج تحتها معان جزئية كثيرة، يصلح كل معنى لبناء فصل مستقل ينبع من الفصل السابق ويمهد للاحق، وجميع الفصول تدور حول فكرة الباب، وكل باب في الكتاب يلتقي مع موضوع البحث.
1 / 9
وكذلك الأمر لو كان البحث رسالة يتقدم بها طالب للحصول على درجة علمية مثل درجة التخصص "الماجستير" أو درجة العالمية "الدكتوراه" فالطالب يقسم موضوع رسالته إلى فصل فقط، أو إلى أبواب تضم من خلالها فصولا تتلائم مع فكرة كل باب فيها.
وقد يكون البحث مقالة، وعلى الكاتب هنا أن يلتزم التركيز والإيجاز والدقة والإشارة، بلا تقسيم للمقالة إلى أبواب أو إلى فصول، وإن قسمها إلى أفكار وعناصر من خلال مقدمة وعرض ونتيجة مرتبة على أفكار نامية؛ لينتهي إلى الحقيقة التي ينشدها في مقاله، ويوضح مكنونها لقرائه.
وقد يكون البحث موسوعة، وعلى الباحث هنا أن يتناول موضوعه في أجزاء كثيرة تتسع له، وقد تربو أجزاء الموسوعة فوق العشرين جزءا، وكل جزء بدوره يعتمد على فصول فقط، أو على أبواب تندرج تحتها فصول، على النحو السابق في الكتاب.
وتعد الموسوعة دائرة معارف لتنوع أفكارها وشمول تراكيبها، فالبحث الدقيق يعتمد على فكرة جزئية أو يقوم على موضوع محدد يسبره الباحث، ويكشف جوانبه، أما الموسوعة فإنها تشمل موضوعات غزيرة متألفة لأدنى ملابسة، وتضم قضايا شتى موصولة بأسباب واهية قريبة أو بعيدة.
وقد يكون البحث تحقيقا لنص أدبي أو لمخطوط من كتب التراث العربي القديم، فيكون الباحث على بصيرة تامة ووعي دقيق بكيفية التحقيق ووسائله المختلفة، وعلى خبرة واسعة بالخطوط والمؤلفات القديمة ومناهج الكتاب والمعاجم والتراجم، وتاريخ الأدب ومراحله، والعصور الأدبية ورجالها وأعلامها، ودور الكتب والنشر وخزائن المخطوطات، ودورها في جميع أنحاء العالم، وتلك مهمة شاقة، تحتاج إلى وقت طويل وجهد متواصل، في صبر ودأب حتى يتسم العمل بالجدة والأمانة، والبحث العلمي الدقيق.
1 / 10
مادة البحث:
وتختلف مادة البحث باختلاف موضوعه؛ فقد تكون في علم من العلوم، مثل علم الفلسفة أو الاجتماع، أو مثل علم الفقه أو التوحيد، وقد تكون في فن من الفنون مثل فن الأدب أو فن الشعر أو في قضية من قضايا النقد الأدبي.
وعلى ذلك فالموضوع العلمي له مادته المستقلة التي تخضع له، والموضوع الأدبي له مادته الأدبية المتميزة التي تحمل خصائصه وسماته، وإن كان الحديث هنا سيكون عن مادة البحث الأدبي في اللغة العربية على سبيل المثال؛ ليكون صالحا للتطبيق على أي مادة في بحث العلوم الأخرى والفقه والبلاغة والتاريخ.
ومادة البحث الأدبي تعتمد على جملتها على الأدب شعرا كان أو نثرا، ونحن نعلم أن للشعر فنونه من الشعر الغنائي والشعر الموضوعي والشعر التمثيلي والمسرحي، وله أغراضه من مدح ووصف وغزل ورثاء وغير ذلك، وللنثر الأدبي ألوانه وأنواعه من مقال
1 / 11
أدبي، ورسالة، وخطبة، وقصة، وأقصوصة، ومسرحية نثرية وفن السيرة الأدبي وغيرها.
والأدب فن إنساني رفيع يصور مشاعر الإنسان وعواطفه ويجسد خواطر النفس وأحاسيسها؛ فيخرج في صورة جذابة ولوحة فنانة تشد الانتباه وتوقظ المشاعر، وتحرك العواطف وتثير الانفعالات، لأن الأدب وبخاصة الشعر تحمل الكلمة فيه إيحاءات نثرية فوق معناها اللغوي، ويفيض عليها بمدلول شعوري ينبع من شعور الأديب التي يجيش بالعواطف الحارة ومن نفسه المفعمة بالخواطر والأحاسيس.
فالعقل حينما يسجل حقائق التاريخ، أو يقرر قضية في المنطق، أو يحدد معنى لغويا في اللفظ، فإنه يجرد اللفظ من كل الملابسات الحسية والتخييلية، التي أفادها اللفظ من كثرة الاستعمال، وما أفاضت عليه المشاهد والأحداث في الحياة من إيحاءات وإشارات، فكلمة "تضرم" و"تطفئ" في صورة ابن الرومي "للأخرق" التي يقول فيها:
وأخرق تضرمه نفخة ... سقاها وتطفئه تفلة
فأخلاقه تارة وعرة ... وأخلاقه تارة سهلة
فالكلمة الأولى "تضرم" عند المؤرخين والمناطقة واللغويين تفيد الزيادة في الاشتعال، والكلمة الثانية عندهم "تطفئ" تفيد خمود النار وانطفاءها، وحين اختارهما ابن الرومي في الصورة الأدبية، أضاف إلى معناهما المجرد معان كثيرة، وإيحاءات متعددة من مشاهدهما الحسية، التي وضعت من أجلها هاتان
1 / 12
الكلمتان، ثم ما اكتسبه كل منهما منذ نشأته، حتى أخذ مكانه من التصوير عند الشاعر، فإن الكلمة في هذه الفترة اكتسبت كثيرا من الملابسات والمشاعر المختلفة، وبقدر استيعاب الشاعر والناقد الأدبي لهذه المشاهد والملابسات يكون غناء الكلمة وثراؤها الشعوري والتاريخي.
فابن الرومي بهذين اللفظين وحدهما يصور حقيقة الأخرق وطبيعته المتوفرة: هو نار في خلاء مترام سواء أكان وعرا أو سهلا، إن تنسمت رياحه قليلا اضطرمت هذه النار وعم اشتعالها، واتسع ضررها، وجلبت المخاوف والآلام، وخيم الموت على المؤمل منهما النفع؛ لأنه لا حاجز في الخلاء، ولا ساتر يصد عن النار الرياح إن نشطت، ومع ذلك تنطفئ النار بالرذاذ الذي يتطاير من الأفواء، إن سكتت عنها النسيم، ثم نتخيل بعد ذلك ألفاظ البيتين وهي: "تضرم، نفخة، سقاها، تطفئه، تفلة، وعرة، سهلة" متنوعة الملابسات والخيالات، فقد انتقل بناء ابن الرومي فعلا بهذه الألفاظ إلى الواقع المحسوس في صحراء اجتمعت فيها تلك المشاهد في البيتين؛ لتتجلى فيهما صورة الأخرق؛ فهو إنسان يتراءى لبني جنسه بالخير الذي يعود على المجتمع، ولكنه إذا استثير لأتفه الأسباب كان هو الشر المستطير، فلا بيقي ولا يذر كما تراه متفتح الأوداج، سريع الحركات مدمر الضربات، طائش اللب، لا ينطوي إلا على شر خبيث لنفسه ولمجتمعه.
هذه هي صورة الأخرق في مدلولها الشعوري، كما جسمها
1 / 13
اللفظ المحسوس، وما يتميز به في الشعر من مدلول شعوري عنه في التاريخ والمنطق واللغة وسائر العلوم.
والأدب أيضا لا يعتمد على العقل وحده كالشأن في غيره من العلوم، ولكنه يعتمد على العقل والخيال معا، لأن الخيال لغة العاطفة الحارة، ولسان الشعور الحي الفياض، كما أن الحقيقة لغة العقل والفكر، والخيال والعقل غير متناقضين، بل هما يسيران معا جنبا إلى جنب في الكشف عن جوهر الحقائق، والخيال الحيوي المنتج هو المرحلة القوية النابضة للوصول إلى الحقائق، والوسيلة الجيدة في الكشف عن أسرارها، لأنه هو الصلة القوية في الإنسان العاجز عن إدراك الحقيقة، يهتك به أستارها المحجبة التي تند عن الأفهام؛ فهو يعمل ليحقق ما يصبو إليه المتخيل من آمال حرم منها في واقعه الذي يعيشه، وما لا يستطيع الواقع أن يحققه له.
والخيال ملكة في نفس الأديب تحقق التوازن بين الأشياء وتؤلف بين المتناقضات وتوفق بين المتعارضات، وتمزج بين الإحساس الجديد الطارئ، وبين القديم المخزون في النفس، وتركب بين الواقع المرئي المشاهد، وبين الواقع المذاب في الذهن، وتنظم بين الانفعال العادي، وبين الدرجة العالية منه؛ ليتم من وراء ذلك تأليف الصور المختلفة للخيال، التي يؤمها الأديب في بناء جديد، نتج عن علاقات جديدة من الأشياء المأخوذة من الواقع بالتغيير في أحجامها وأشكالها
1 / 14
وعناصرها وتراكيبها، فالأديب لا يقنع بالعلاقات بين الأشياء المصورة كما هي في الواقع، ولا يقتصر على فهمها وبيانها فقط كالشأن في الخواطر العقلية، ولكنه يغيرها ويقيم غيرها أو يبدل في بعضها، أو يضيف علاقات جديدة، يبث فيها من روحه وتنبض بحيوية من قلبه، وتنتظم من شعوره الذاتي وإحساسه المفرد.
وبملكة الخيال يحس الشاعر بالحياة والحركة والروح في كل شيء، ويتردد أصداء ذلك في نفسه، وتشف عن روحه؛ فيشعر بوشوشة الأغصان التي تكشف عن أسرار الجمال بمقدم الربيع، فالأديب الحق هو الذي يؤثر في النفس بخياله الرائع؛ فيستخدم الأشكال والألوان، في نسق عجيب، وتصوير بديع، ليظهر الأدب في صور أزهى من الواقع، وأقوى من الطبيعة في ألوانها وأشكالها المنثورة هنا وهناك.
والأدب أيضا يعتمد على عنصر آخر لا يوجد في العلوم، وهو الموسيقى، إذ بها يتميز عن العلوم في باب التعبير بالكلمة، والموسيقى تعبير رمزي عن شعور أو عاطفة أو انفعال نبع اللحن فيه من أوتار خاصة، وعلى نحو خاص، وهي في ذاتها فن مستقل له أصوله، ولكن الإيقاع فيه ليس مقصورا عليه، بل لقد نالت الفنون الأخرى حظا منه، يختلف كل فن فيها من حيث الشكل والنوع، والدرجة، والوضوح.
فشكل الإيقاع في الرقص تعتمد على حركات الجسد وتوقيعاته المختلفة، وفي الرسم رقعة وألوان وأضواء وظلال، وفي التمثال
1 / 15
تمايز بين أجزائه المختلفة، وفي الأدب صوت ينبع من كلمات تستقبله أذن الناقد، ويحكم عليها بذوقه الأدبي وحسه اللغوي.
ومن حيث النوع؛ فنرى الإيقاع في الرقص حركات وتوقيعات مختلفة، وفي الرسم وثبة تدل على حيوية اللوحة، وفي التمثال توفز ولو في بريق عينيه أو فغر فاه، وفي الأدب حركات وإيقاعات تفيض بوحي ومخزون شعوري، تتمثل في حروف صائتة، أو علاقات صامتة.
ومن حيث درجة الإيقاع فقد تعنف الدرجة في الرقص وتنساب حسب اللون المعروض، ولكنها تنتهي بانتهاء الموقف أو المشهد، وفي الرسم والتمثال تقدر درجة الحركة فيهما بلمحة أو لحظة من الزمن، وفي الأدب تختلف فيه درجة الإيقاع حسب الغرض، وتبقى ما بقي النص متداولا بين الناس.
ومن حيث وضوح الإيقاع فتراه في الرسم والتمثال، يكاد يكون الإيقاع غامضا فيهما، مما يحتاج إلى دقة ملاحظة للوقوف عليه، والرقص أكثر وضوحا منهما، وإن كان دون الأدب في الوضوح بحكم أن لذته لا يستغني عنها إنسان، فيها يتعامل ويعيش بين مجتمعه، فالإنسان اجتماعي بطبعه؛ فغير المتعلم من عوام الناس يدرك مدى خفة إيقاع الكلمة وثقلها على سمعه، وقبول ذوقه لها ونفرته منها.
والموسيقى بأنواعها في الأدب عنصر أساسي كبير فيه، وركن أصيل تعتمد عليه، فلو تجرد منها الشعر فقد قيمته، وخرج من دائرة الأدب إلى دائرة
1 / 16
أخرى تهتم بتوصيل الحقيقة على أي وجه، من غير إثارة للمشاعر، وبالإيقاع في الشعر يكتمل الشكل الفني له، بحيث يعد من عيوب الأدب الذي يأخذ بتلابيب النفس، ويكون موطن الدراسة والتحليل والنقد.
والنفس بطبيعتها متألفة الأجزاء، منسقة الأعضاء وفي صورتها الجميلة التي هيأها الله لها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ لهذا الانسجام التام فيها، واستواء الخلق المتكامل لها تستجيب النفس لنظائرها في الحياة، والتي تتشابه معها في الوجود، يقول الرسول الكريم ﷺ: "الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
وعلى ذلك تكون النفس أشد استجابة للأشياء المنسقة التي تقوم على نظام رتيب، وإيقاع موزع في تناسب وتناسق، لأن الإيقاع والموسيقى من أقوى الظواهر التي تستجيب إليها النفس من غير وعي ولا شعور، كالشأن في الخيال وهو ظاهرة غامضة أيضا نوعا ما؛ فإنه يجذب النفس إليه لسحر كامن فيه، وسيظل كل من الخيال والموسيقى لغزا غامضا محيرا، يكتفي الناقد في توضيحه بالتعرف على إيحائه وإشارته، والإيحاء والإشارة من أقوى عوامل التأثير في النفس، بل هما من الوسائل الحية التي تنقل ما في النفس من المعاني والمشاعر والعواطف.
1 / 17
والأدب أيضا يعتمد على العاطفة مثل اعتماده على الخيال والموسيقى؛ فالعاطفة في الأدب تقف إزاء العقل، وتمتزج بألوان الفكر فيه، وتقوم المشاعر أيضا بتعميق الأفكار وإثرائها، وإضفاء الحيوية والقوة في جزئياتها، وعلى ذلك فلا يستطيع الأديب أن يثير العاطفة في الآخرين، إلا بعمل مشحون بالعاطفة والمشاعر، وكل منهما في نفسه وثيق الصلة بالإيقاع، ووثيق الصلة أيضا بالخيال للغموض الذي يلفها جميعا.
والمادة في البحث الأدبي تختلف باختلاف ذوق الباحث وبميوله الذاتية والأدبية، وإيثاره لاتجاه معين ولون خاص من مواد الأدب التي يجيد الكتابة فيه، ويسبر أغواره، ليصل في دأب إلى الحقيقة التي ينشدها في بحثه، ولا تخرج المادة المختارة في البحوث الأدبية غالبا عن هذه الموضوعات، التي قد تكون صالحة للدراسة والبحث؛ وهي:
١- عصر أدبي معين: مثل العصر الجاهلي أو عصر صدر الإسلام أو العصر المملوكي وهكذا. ومثل هذا الموضوع له خطورته وعقباته التي تقف دون الباحث لتحقيق المراد؛ بسبب سعته وشموله لقضايا تصلح كل قضية منها لأن تكون بحثا مستقلا.
٢- البحث عن "شاعر" معين من الشعراء في أي عصر من العصور الأدبية، فيختار الباحث مثلا البحتري أو ابن الرومي أو أحمد شوقي، أو إبراهيم ناجي وغير ذلك، ولا يخلو هذا النوع من الاعتساف أحيانا؛ لأن الشاعر المترجم له قد يكون مكثرا
1 / 18
وعبقرية فذة في إنتاجه الأدبي، وقيمه الفنية الغنية بالدراسة مثل أبي الطيب المتنبي، وحينئذ يختار الباحث جانبا واحدا من قيمه الفنية الكثيرة، وهذا أقرب إلى الأصالة في البحوث والجد في تناولها.
٣- البحث في "موضوع" خاص من موضوعات الأدب مثل غرض من الأغراض الشعرية، وفن من فنونها كالشعر السياسي في العصر الأموي، أو النقائض الشعرية فيها، أو الشعوبية وأثرها في الشعر العباسي، أو أدب الكدية وأثره في اللغة العربية، أو ظاهرة التكسب عند شاعر، أو الوطنية، أو التيار الإسلامي أو الحب العذري، أو الجانب القصصي، وما شابه ذلك.
٤- البحث عن ميلاد نظرية جديدة في الأدب العربي، مثل الصنعة في الشعر العباسي، أو التصوير عند ابن الرومي أو الالتزام عند الشاعر عبد الحميد، أو نظرية "الفن للفن" أو "الفن للحياة" في الشعر العربي وهكذا.
٥- تحقيق "مخطوطة" في الأدب من التراث العربي القديم فيقوم بتوثيقها، والموازنة بين نسخها المختلفة، ويتعرف على أقدمها وأقربها إلى صاحبها، ويجمع الأخبار الخاصة بها من خلال كتب التراجم والموسوعات الأدبية، التي تحدثت عنها، وقد يكون التحقيق لنص أدبي في العصر الجاهلي والعباسي، فيقوم الباحث بتوثيقه ونسبته إلى قائله، وشرحه وتفصيله وتحليله ونقده، وتوضيح قيمه الفنية، ويربط بين خصائصه الدقيقة وبين
1 / 19
خصائص الأدب في زمنه.
٦- البحث عن فن من فنون النثر الأدبي مثل فن المقالة ونشأته في الأدب العربي، أو فن القصة أو المسرحية النثرية، وفن السيرة الأدبي، وقد يكون البحث عن جنس أدبي في فن الشعر مثل المسرحية الشعرية عند شوقي، أو الشعر القصصي عند عمر بن أبي ربيعة، وغير ذلك، وقد يكون عن اتجاه أدبي كالقصة الواقعية أو التاريخية أو التحليلية، أو البناء الفني في القصة عند نجيب محفوظ، أو عند المازني، أو تيمور.
٧- البحث عن "مدرسة" من مدارس الشعر أو النثر الأدبي مثل مدرسة المحافظين في الشعر الحديث في العصر الحديث، أو "مدرسة الديوان"، أو "مدرسة أبولو"، وغير ذلك، أو في أدب الرحلات وسواها.
الأسس التي ينبغي تواجدها عند الباحث: الباحث الدقيق في دراسته والدارس المجيد في بحثه ينبغي أن تتحقق فيه أسس تعين على الدقة، وتجتمع في نفسه دعائم تكشف عن أصالته، وتتميز بها شخصيته عن غيره، فيما لو كتب هو وغيره في موضوع واحد، وهذه الأسس هي: ١- أن يكون الباحث واسع الاطلاع موفور الثقافة، جم المعارف، خاض غمار المصادر والمراجع التي تتصل بموضوع بحثه ولو لأدنى ملابسة، وقرأها قراءة شاملة، ووقف طويلا عند كل فكرة
الأسس التي ينبغي تواجدها عند الباحث: الباحث الدقيق في دراسته والدارس المجيد في بحثه ينبغي أن تتحقق فيه أسس تعين على الدقة، وتجتمع في نفسه دعائم تكشف عن أصالته، وتتميز بها شخصيته عن غيره، فيما لو كتب هو وغيره في موضوع واحد، وهذه الأسس هي: ١- أن يكون الباحث واسع الاطلاع موفور الثقافة، جم المعارف، خاض غمار المصادر والمراجع التي تتصل بموضوع بحثه ولو لأدنى ملابسة، وقرأها قراءة شاملة، ووقف طويلا عند كل فكرة
1 / 20
من أفكاره وأطال النظر متأنيا في كل فكرة، وهو يقوم آنذاك بالتحقيق والتحليل والتطبيق والاستنتاج، فإذا كان موضوع البحث في العصر الأموي "النقائض في الشعر الأموي"، فينبغي على الباحث فيه أن يتناول كل الأصول القديمة التي عاصرت الموضوع، والأصول التي جاءت بعد ذلك طوال العصر العباسي من مصادر كثيرة مثل "النقائض بين جرير والفرزدق" لأبي عبيدة، وكذلك "النقائض بين جرير والأخطل"، ومن الموسوعات "الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني" وسوى ذلك، وينبغي على الباحث استقراء المراجع الحديثة التي كتبت عن الموضوع مثل تاريخ النقائض في الشعر العربي، لأحمد الشايب وغيرها.
٢- اليقظة التامة، والحذر الشديد من آراء الآخرين، وتجنب التقليد فيها، فلا يسلم الباحث بها كحقيقة واقعة، بل ينبغي أن يكون شديد الحذر من كل رأي، يقظا في كل اتجاه، وعلى وعي تام بالآراء التي قيلت حول الموضوع، وعلى بصيرة نافذة لفهم الحقائق، والبعد عن التزييف والتقليد.
٣- أن يشفع الباحث آراءهم في البحث بالأدلة القوية والبراهين الساطعة التي ترد الخصم، ويذكر العلل والأسباب التي تقف دون المعارضين لرأيه، وذلك في أسلوب قوي يملك عليهم مشاعرهم، وتصوير بارع ينفذ إليهم من كل منافذ الإدراك من عقل وحس وعاطفة ووجدان.
٤- أن يقف الباحث على النتائج وأصالتها وعناصر الجدة فيها
1 / 21
التي انتهى إليها الباحث قبله في موضوعه، ويتأكد من صدق هذه النتائج وفاعليتها وقتها وصلتها الوثيقة بالموضوع، ثم يبدأ من حيث انتهى إليه الغير، ليصل إلى نتائج جديدة، فيكون عملا علميا جديدا من نوعه، خلع عليه ثوب الجدة والابتكار، وإلا اتصف بحثه بالتكرار والتقليد، والمعاودة والتزييف.
٥- أن تبرز شخصية الباحث من خلال عرضه لموضوعه، وأن تظهر بصماته في كل فصل من فصوله، فالبحث الدقيق والرسالة الجيدة هي التي تحمل القارئ لكي يتعرف على شخصية صاحبها من خلال جزئياتها وأفكارها وأسلوبها ونتائجها وغير ذلك، مما يدل على أصالة الباحث وقدرته على الكتابة وعلى موهبته الفنية في التفسير والتدليل، وأصالة الباحث وظهور شخصيته هما من العوامل الأولى في نجاح البحث وجودته.
٦- أن تكون لديه ملكة لتذوق الشعر والأدب حتى يكون حكمه صادقا وصحيحا؛ إذا حكم على قيمة فنية من القيم الشعرية، وهذه الملكة تتكون في النفس من كثرة المران والمتابعة في دراسة النصوص الأدبية، والوقوف التام على النظرات النقدية في كل عصر من العصور الأدبية، ثم التعرف على المذاهب النقدية الحديثة واتجاهاتها لفهم التصوير الأدبي، هذا إلى جانب حفظه لكثير من النصوص الأدبية جاهلية وإسلامية وأموية وعباسية ونصوص من الشعر الحديث، ويكون الأساس الأول "وهو سعة الاطلاع" له أثره الكبير في تعميق ذوقه وثرائه الفكري، كما يساعد حفظ النصوص الشعرية وفهمها على ذوقه المفعم بالعواطف والمشاعر، وبهما يحدد العواطف والمشاعر في النصوص الأدبية الذي هو موضوع الدراسة والبحث.
1 / 22
أغراض البحث:
الدراسات الجديدة هي أساس النهضة الفكرية وركائز الحضارة، والبحوث المبتكرة من دعائم التقدم العلمي والرقي الأدبي، ولولا ذلك لتبلد الإحساس والشعور، وعجز العقل واللسان، ودارت كل أمة حول نفسها ونظرت تحت أقدامها، وفي هذا قتل للمعرفة التي عن طريقها يسخر العقل الكائنات لخدمة البشر على أحدث أشكالها، وفي هذا موت للمشاعر التي بها يهذب الأدب إحساس الجماهير، ويعمق إدراكهم ويدخل إلى عقولهم من منافذ الوجدان والعاطفة والشعور، وجميعها يخضع لها العقل ويستجيب لها الفكر، وفي هذا أيضا دعوة إلى العجز والتبلد، والكسل والتنطع، فيتوقف سير التقدم، ويتقيد الانطلاق الحضاري والرقي الفكري.
لذلك كله، كان الغرض من الدراسات العلمية نهوض الأمم وشحذ الهم، وكان الهدف من البحوث الأدبية والرسائل العلمية الحركة الدائبة للعقل البشري؛ فيحل مشكلة، ويضع نظرية، توفر على الإنسان جهدا ومالا ووقتا؛ أو تحريك العاطفة والشعور ليهذب الأديب عواطف الآخرين ومشاعرهم، ويسمو بأصحابها إلى درجة من
1 / 23