Al-Azhar and Its Impact on the Modern Literary Renaissance
الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة
Publisher
المطبعة المنيرية بالأزهر الشريف
Genres
المجلد الأول
أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة
...
أثر الأزهر في النهضة الأدبية الحديثة:
لماذا اخترت هذا الموضوع، واتجهت هذه الوجهة؟
ولماذا آثرته بالدرس، وخصصته بالعناية؟
سؤال لابد أن يثور في النفس، ويجول في القلب، ويخطر بالبال، ويتردد عند القارئ والكاتب على السواء.
لقد وقفت طويلًا بين مختلف الموضوعات، ومتنوع البحوث، وعرضت على الفكر، ووضعت في ميزان الترجيح والاختيار كثيرًا من المسائل التي يصح أن يعالجها الباحث، ويصول في جانبها وأرجائها الكاتب، فلم أجد موضوعًا أكثر جِدَّةً، وأجمل طرافة، وأخلق بالدرس، وأحق بالاستقصاء، وأجدر بالاحتفال، من هذا الموضوع الذي عنيت بالكتابة فيه.
وطالما حاول العارفون أن يثنوا عزيمتي، ويطامنوا من نشاطي، ويفُلُّوا من رغبتي، ولعلهم أشفقوا عليّ من هذا البحث المتشعب الأطراف، الشاسع الأرجاء، المتوعِّر المسالك، الذي يضني القوي ويفني الجهود، وخاصةً أنه ليست له مراجع محدودة، ولا مصادر معلومة، يمكن أن يفيء إليها الإنسان، ويستمد منها آراءه وأفكاره.
بيد أني لم أستمع لنصحٍ، ولم أحفل بإشفاقٍ؛ لأني أردت بهذا البحث أن يكون تحيةً خالصةً صادقةً للأزهر في عيده الألفيّ، ويسعدني أن أنوب عن الأمة في هذه التحية، وكل جهد في ذلك قليل، وكل عناء في ذلك سائغ وحبيب.
وكان من واجب الأزهريين أن يحتفلوا بالعيد الألفيّ لهذا المعهد الخالد من يوم أن أشرفت هذه الألف على التمام، وكان من واجب الأمة أن تنهض
1 / 1
بهذا الاحتفال تخليدًا لذكرى هذه الجامعة العظيمة، وتمجيدًا للتراث الأدبيّ والعلميّ الذي أثمرته هذه المواهب الخصبة، وتلك القرائح الطيبة، ولكن العزائم انتكثت، والقوى تخاذلت.
وإنَّ ما يبعث الأسى في النفوس أن يقوم كل يوم احتفالٍ بالمهزولين من الرجال، يزعم أنهم عظماء ومفكرون وقادة وأبطال، ثم لا يكون لأدباء الأزهر وعلمائه وعظمائه في عشرة قرون من هذه العناية نصيب.
ولقد قلت لنفسي إذ رأيت دار العلوم تكرِّم نفسها بمضيِّ خمسين عامًا على إنشائها، ومدرسة المنصورة الابتدائية حيث تحفل بعيدها المئويّ.
قلت لنفسي إذ رايت ذلك: أكان الأزهر أهون من هاتين شأنًا وأقل خطرًا، أم أن العزائم إذا انحلَّت أغضت على كل واجب، واستهانت بكل عظيم.
وأردت كذلك أن يكون هذا البحث آيةَ وفاءٍ لمعهدٍ حرس الدين، واحتضن اللغة ما أربى على الف عام، ثم لم يجد إلّا عقوقًا وجحودًا، ولم يصادف إلّا كفرانًا وكنودًا، حتى رتع الناس في ربيعة، ثم انقلبوا عليه، وتفيأوا ظلاله، ثم رجعوا سهامًا تُصَوَّبُ إليه.
وأحببت أن يعرف الذين حيل بينهم وبين العرفان أعمدة الدولة التي بناها الأزهر، وأصول النهضة التي غرسها ودعمها، في وقت كانت الأمة فيه ترزح تحت أعباءٍ مرهقة من أوزار الماضي وسيئاته.
وأقبح شيء بالإنسان أن يستمتع بنعيمٍ لم يعرف مصدره، وأن يغرق في سعادة لم يشكر صاحبها.
ولو أن الأمة تلفتت لفتة سريعة إلى الوراء؛ لآمنت بأن الأزهر بعثها بعد رقدةٍ، وأيقظها إثرَ غفوةٍ، وأنه أخذ بيدها إلى قمة العظمة في كل ميدان، فقد كان العامل الأهم في نضجها السياسيّ، وفي تفتحها العلميّ، وفي نهوضها الأدبيّ، وفي وثوبها الفكريّ. ومن كان في شكٍّ من ذلك، فليقرأ هذا البحث
1 / 2
ليرى جهاد الأزهر وعمله وآثاره التي نُقِشَت على صفحة الزمان.
ومع العصبية القوية التي تثور في نفس الإنسان، وتتملكه لمعهده الذي ارتضع لبانه، واغتذى بثقافه.
ومع أن هذه العصبية تحل في نفسي أعز موضع، وأسمى مكانة، لم أدع للأزهر فضيلة لم يسلمها له عداه، ولم أخترع له مزايا لم يلمس الناس أقباسها، ولم ينتفعوا بأضوائها الساطعة، وأنوارها اللامعة، ولكنى حاولت ما استطعت أن أنشر من مفاخره ما طواه النسيان، وأذكر من مآثره ما عدا عليه الزمان، وأن أكشف عن تلك الكنوز المدفونة، والأعلاق النفيسة المكنونة، التي قامت عليها النهضة الأدبية الحاضرة.
ولعل المطَّلِعَ على هذا البحث يروعه ويهوله ما صادفني من عقباتٍ لم تستطع على وفرتها وضخامتها أن توهن من عزمتي، أو تَفُلَّ من همتي، أو تفتر من رغبتي، أو تضعف من نشاطي المشتعل؛ فقد كان من حظي أن أتحدث عن موضوعٍ لم يأخذ من التاريخ حظًّا كثيرًا ولا قليلًا على جلاله وخطره، وأن أترجم لأناس لا تستطيع أن تلقف آدابهم إلّا مشافهةً وسماعًا، وكثيرًا ما تتضارب الآثار، وتتناقض الأخبار، وأجدني مضطرًّا إلى إطالة الوقوف، وإدمان النظر حتى يستبين لي وجه الصواب، وينكشف قناع الحقيقة.
على أن المتاعب التي كابدتها صابرًا، وتحملتها راضيًا، كانت خليقةً أن تثير في النفس شيئًا من المضاضة والألم، ومن التراجع والنكوص، ولكني صبرت وامتثلت؛ فقد كان كثيرٌ من الأعلام الذين ترجمت لهم ودرستهم لا يستطيع الكاتب أن يصل إلى شيء من آثارهم وأخبارهم إلّا بالاتصال بأهلهم، والذين خالطوهم وعاشروهم، ومن هؤلاء شربت المرَّ، وجرعت الألم كئوسًا مترعة، فقد كان أكثر هؤلاء لا يقدِّرون سمو الغاية التي انتدبت لها، ولا شرف المقصد الذي أخذت نفسي به.
وطالما كاتبت فريقًا منهم وهم متعلمون مثقفون، وتشفعت إليهم بالوسطاء والشفعاء، فلم أصل من ورائهم إلى طائل، بل لم أظفر حتى يرجع الجواب، ورُدَّ الخطاب.
1 / 3
وكان بعضهم يكاد يضيّع وقتي في التردد عليه، والوقوف ببابه، ثم لا يكون نصيبي منه آخر الأمر إلّا حكايةً معادةً أو قصةً مسرودة، وبعضهم كان من الجهل والانصراف والنسيان بحيث لا يعي شيئًا عن المترجَم له حتى تاريخ وفاته، وقد شهد كثيرٌ من جُلَّةِ الأساتذة طرفًا من هذه القصة الفنية.
ومن بلائي في هذا البحث، وماعنيت به في سبيله، أني إذ عَزَّت المراجع، وتعسَّرت المصادر، عدت إلى الصحف والمجلات التي أنشئت من مستهلِّ النهضة إلى اليوم، فقرأتها، واستقرأتها، نشدانًا لحديث يقص خبرًا، أو يسوق أثرًا، أو يهدي من ضلال، وينير من ظلام.
ويعلم الله كم كانت أناملي من تصفحها، وكم قذيت عيناي من تتبعها، بل لعلِّي أدمنت النظر في مصادر لا تمت إلى الموضوع بصلةٍ في عنوانها، ولكني تلمست بالنظر فيها العثور على ما له بالبحث سبب قريب أو بعيد، وكثيرًا ما أفدت من هذا الجهد، ولكن بعد تعنية وضنى وطول اصطبار.
وربا خدعتني العناوين، وأغرتني دلالتها، فطرت شوقًا إليها. وكلفت بإجالة النظر فيها، ثم لم أعد منها إلّا بما يعود به الظامئ من السراب.
ثم إن الكتابة في عَلَمٍ من الأعلام أيسر كلفةً، وأقل جهدًا، وأضأل مشقةً، من الكتابة في هذا الموضوع المتسع المتشعب، الذي لا ينتهي المرء من جانبٍ منه، إلّا أطلَّت له جوانب تتطلب الدرس، وتحتاج إلى الكشف والتجلية.
ولقد كانت لي مندوحة عن الاستيعاب والاستقصاء، فلو أني تحدثت عن الأزهر والخطابة، أو الصحافة، أو الكتابة، أو الشعر مثلًا، لكان مادةً غزيرةً للكلام، ولكني آثرت أن يكون الحديث شاملًا، والبحث مستكملًا أطرافه ونواحيه.
وإذا كانوا يقولون: إن اختيار الرجل قطعةً من عقله، فهذا من غير شكٍّ قطعة أو جذوةً من عاطفتي، وخفقة من وفائي، لمعهدٍ عتيدٍ مجيدٍ، يدين له بالوفاء والإخلاص كلُّ عاقلٍ رشيدٍ.
1 / 4
ولست أدعي أني خير من كتب، ولكني أفاخر بأني أول مَنْ كتب وبوَّبَ ورتَّب، بل لعلي مبتكر هذا البحث، ومبدع ذلك التحقيق، والناهض بتناول نواحٍ منه، لم يسبقني إليها سابقٌ؛ ففي البحث، عدا ما فيه من جهد ودراسة، تراجم لفريق من أدباء الأزهر، لم يظفروا من قبلي بيراعٍ يجول في حياتهم وآثارهم، أو يحاول. وفيها حديث مستفيضٌ عن شخصياتٍ لم يتح لها من التحقيق إلّا عجالة لا تنقع ظمأً، ولا تشبع نهمًا، فأجلت فيها القلم، وعبَّدتُ طريق بيانها وتوضيحها حتى أشرقت واستبانت جوانبها.
ومما ابتكرته، وكنت أول متناولٍ له، حديثي في المصححين الأزهريين الأدباء عن الشيخ، محمد قطة العدوي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، وفي خطباء الأزهر الدينيين، عن الشيخ محمد مصطفى المراغي، والقضائيين، عن إبراهيم الهلباوي.
وفي الكتَّاب عن الشيخ "محمد شاكر" والشيخ "عبد العزيز البشري" وفي اللغويين الأدباء عن الشيخ "سيد المرصفي" والشيخ "حسين والي" وفي الشعراء عن الشيخ "عبد الرحمن قراعة"
على أن حديثي عن الشعراء عامةً حديث دراسة وتفصيل وتحليل واستيعاب لم أسبق إليه، ولم أجر فيه على نهجٍ ابتدعه غيري.
فهذا البحث على هذه الصورة المشرقة، وفي هذا العناء الممض، وفي هذا السمت الخاصِّ، هو من جهدي وعملي، وقد توخيت فيه أن أضيف كل فكرة لصاحبها، وأن أنسب الرأي الذي أرتضيه لمرتئيه، ولو اتفق خاطري مع أحد من الذين كتبوا ودرسوا نسبت الرأي إليه مبالغةً في الحيطة، وإيغالا في الحذر.
أما بعد:
فقد أنفقت في كتابة هذا البحث عامين لم أضيع وقتَا، ولم أفلت فرصة،
1 / 5
وقد جهدت أن يكون مستوعبًا شاملًا، يجد المطَّلِعُ عليه ما تصبوا إليه نفسه من ألوان المعرفة.
وعلى رغم ما لقيت وما بذلت، أعترف بأن بحثي هذا لم يبلغ حَدَّ الكمال، ولا يزال هنالك من أدباء الأزهر من يخلق بالباحث أن يتحدث عنهم، وأن يعرض صفحةً من حياتهم وأدبهم، فعسى أن أنهض في فرصة مواتية بإتمام ما بدأت -إن شاء الله تعالى.
بل إني لأهيب بالعلماء، وبعشاق الأدب، أن يجعلوا ذلك من آثار عنايتهم، ومظاهر احتفالهم.
وأسأل الله أن يكتب لنا التوفيق والسداد، وأن يهيء لنا من أمرنا رشدًا بفضله وكرمه.
1 / 6
الفاطميون في مصر
مدخل
...
الفاطميون في مصر:
لما آل حكم "مصر" إلى "أحمد بن عليّ بن الإخشيد" سنة ٣٥٧ هجرية، وكان حدثًا صغيرًا لا رأي له ولا تدبيرًا، اختلت الأمور واضطربت الشئون، وجاع الجند، وكان "بمصر" غلاء فاحش، ووباء ساحق، وكانت أعين الفاطميين متطلعةً إلى ملك مصر، فواتتهم بذلك فرصةٌ للوثوب عليها، وتهيأ لهم ما أرادوا من فتح هذه البلاد بقليل من الدماء، بعد أن أمَّنُوا المصريين على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم، وكان ذلك بقيادة "جوهر الصقلي"١ سنة ٣٥٨ هجرية، في جيشٍ يربو على مائة ألف فارسٍ، مجَّهَز بألفٍ ومائتيّ صندوق من المال.
وما كاد "جوهر" يصل إلى "تروجة" بالقرب من الإسكندرية، حتى اضطرب المصريون وفزعوا إلى الوزير "جعفر بن الفرات" واتفقوا معه على مراسلة "جوهر" في الصلح، وطلب الأمان لهم؛ وإقرارهم على أملاكهم، واختاروا لتنفيذ ذلك وفدًا من وجوههم لمقابلة "جوهر" فأجابهم إلى ملتمسهم، وكتب لهم عهدًا بما طلبوه، ثم عزَّ على الإخشيدية أن يُبَدَّدَ ملكهم العظيم، فنقضوا العهد، واستنفروا جماعةً من العسكر، فلما تقدَّم "جوهر" إلى "الجيزة" لم يستطيعوا أن يثبتوا له، ووفد غداة النصر إلى "مصر" عليه ثوب ديباج مذَهّب، ونزل "بالمناخ" وهو موقع القاهرة اليوم.
تم للفاطميين الفتح، واقتحم جيشهم ملك مصر، تظله قيادة "جوهر" العظيم، ومن ثَمَّ أرادوا أن يؤسسوا مدينة جديدةً تخلِّدُ ذكرهم، وتطبع على صفحة التاريخ أثرهم، وتكون لهم معقلًا وحصنًا يأوون إليه، ويتخذون منه مستقرًّا ومقامًا.
_________
١ النسب بالفتح، والمدينة بالكسر أو الفتح، كما في وفيات الأعيان، وبغية الوعاة.
1 / 7
أنشأ "جوهر" تلك المدينة، وسمَّاها "المنصورية" وذلك في غضون عام ٣٥٨هـ، ولما انتقل "المعز لدين الله الفاطمي، من "القيروان" ووفد إلى "مصر" للإقامة بها سنة ٣٦٢هـ، غيَّر اسم المدينة، وسمَّاها القاهرة المعزية نسبةً إليه.
إنشاء الأزهر: ولما كان أول ما ينشأ في مدينة إسلامية إنما هو الجامع الذي يجتمع فيه المسلمون لصلاتهم، ومن فوق منبره يدعون إلى شئونهم، ويودعونه خزائن كتبهم، ويقيمون فيه شعائر دينهم، أنشأ "جوهر" الأزهر في طليعة ما أنشأ؛ كي يكون مجلسًا لهذا المظهر الدينيّ، وليقوم سياجًا للشيعة التي يعملون على تأييدها. وقد أبى الفاطميون أن يفاجئوا في مطالع عهدهم أهل السنة بخطبتهم التي يقولون فيها "وصل على الأئمة آباء أمير المؤمنين، المعز لدين الله" وآثروا أن يقولوا ذلك في مسجدٍ خاصٍّ بهم، فكانت تلك هي البواعث على إنشاء الأزهر. تاريخ إنشاء الأزهر: كان البدء في إنشاء الجامع الأزهر في يوم السبت لستٍ بَقَيْنَ من جمادى الأولى، سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكمُلَ بناؤه لتسعٍ خلون من شهر رمضان، سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكتب فيه بدائرة القبة التي في الرواق الأول، وهي على يمنة المحراب، ما نصُّه بعد البسملة: "مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم، معد الإمام المعزل لدين الله، أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين - على يد عبده الكاتب الصقليّ، وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة١. _________ ١ خطط المقريزي جـ٢ ص٢٧٣.
إنشاء الأزهر: ولما كان أول ما ينشأ في مدينة إسلامية إنما هو الجامع الذي يجتمع فيه المسلمون لصلاتهم، ومن فوق منبره يدعون إلى شئونهم، ويودعونه خزائن كتبهم، ويقيمون فيه شعائر دينهم، أنشأ "جوهر" الأزهر في طليعة ما أنشأ؛ كي يكون مجلسًا لهذا المظهر الدينيّ، وليقوم سياجًا للشيعة التي يعملون على تأييدها. وقد أبى الفاطميون أن يفاجئوا في مطالع عهدهم أهل السنة بخطبتهم التي يقولون فيها "وصل على الأئمة آباء أمير المؤمنين، المعز لدين الله" وآثروا أن يقولوا ذلك في مسجدٍ خاصٍّ بهم، فكانت تلك هي البواعث على إنشاء الأزهر. تاريخ إنشاء الأزهر: كان البدء في إنشاء الجامع الأزهر في يوم السبت لستٍ بَقَيْنَ من جمادى الأولى، سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكمُلَ بناؤه لتسعٍ خلون من شهر رمضان، سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكتب فيه بدائرة القبة التي في الرواق الأول، وهي على يمنة المحراب، ما نصُّه بعد البسملة: "مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم، معد الإمام المعزل لدين الله، أمير المؤمنين -صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين - على يد عبده الكاتب الصقليّ، وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة١. _________ ١ خطط المقريزي جـ٢ ص٢٧٣.
1 / 8
المعز وجوهر:
في ظلال هذين البطلين نَعِمَ الوجود بهذه المؤسسة الخالدة، وباسمهما اقترن هذا المعهد الشامخ الذي أفنى القرون جداره، ومشى على يبس المشارق نوره، وكلما رطب الألسن حديثٌ عن الأزهر تطلع واستشرف إلى المعز وجوهر، هما أهدياه إلى الدنيا نورًا، وإلى الدين والعلم نصيرًا، وإلى اللغة والبيان ظهيرًا.
المعز لدين الله:
"أبو تميم معد" رابع الخلفاء الفاطميين بالمغرب، وأولهم بمصر، ولد "بالمهدية" عاصمة الدولة الفاطمية بالمغرب، في منتصف رمضان سنة "٣١٩هـ-٩٣١م" وتولى الخلافة بعد أبيه "المنصور بنصر الله" سنة "٣٤١هـ-٩٥٢م" وهو فتىً في الرابعة والعشرين من عمره.
وكان الخلفاء الفاطميون منذ استقر ملكهم بالمغرب يستشرفون لمصر، ويتطلعون إلى جارتهم الشرقية؛ فمصر بخصها وبثروتها ومواردها، وموقعها الذي تحسد عليه من أقطار الأرض، كانت الحلم الذهبيَّ لملوك الفاطميين، ومن ثَمَّ أوفدوا حملاتٍ، وجهزوا جيوشًا لغزوها، ولكنها باءت بالفشل، ولم يدن ذلك الأمل العذب إلّا بيد "المعز" وقيادة جوهر القائد العظيم.
وكانت كتب "جوهر" تتوالى على "المعز" لاستدعائه إلى مصر، واحتثاثه على الوفود إليها، وقد أرسل إليه "جوهر" يخبره بانتظام الحال "بمصر" و"الشام" و"الحجاز" وإقامة الدعوة له بهذه الأقطار، فسر "المعز" بذلك، وقدم إلى "مصر" بعد فتحها بأربع سنوات وعشرين يومًا، أي: سنة ٢٦٢هـ، متسمًا بصفة الإمامة أكثر من صفة الزعامة، ويبدو في مواكبه وشعائره الدينية حريصًا على مظاهر الإمامة ورسومها، وقد سجَّل "الحسن بن زولاق" المؤرخ المصريّ كثيرًا من هذه المظاهر التي يظهر فيها المعز إمامًا دينيًّا أكثر منه ملكًا سياسيًّا في صلاته ونسكه، وفي ركوعه وسجوده، ثم في خطبه ومواعظه.
1 / 9
وكثيرًا ما كان يؤم الناس في الصلاة، ويخطب فيهم، وقد كان خطيبًا فصيحًا، مؤثرًا يملك زمام السامعين، وطالما بكى الناس لذلاقته وروعه، واتسامه في خطابته بسمة الزاهدين١.
ومما يدل على دهائه أنه لما دخل "الإسكندرية" قدم عليه قاضي مصر "أبو طاهر محمد بن أحمد" وأعيان البلاد وسلموا عليه، فخاطبهم بخطاب طويل أخبرهم فيه أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه، أو لمالٍ يجمعه، وإنما أراد إقامة الحق والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، وأن يأمر بما أمر به جدُّه ﷺ، وأطال حتى بكى الحاضرون، وخلع على القاضي وبعض الجماعة، فودعوه وانصرفوا.
وكان عاقلًا حازمًا أديبًا، حسن النظر في التنجيم، وما ينسب إليه من الشعر:
أطلع الحسن من جبينك شمسًا ... فوق ورد في وجنتيك أظلا
وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافًا، فمدَّ بالشعر ظلَّا
جوهر الصقلي:
مملوك من أهل "صقلية" ضمه "المعز" إلى بطانته، وأظله بعطفه ورعايته، وعني بتربيته، وتثيقيفه في شئون البلاد والدولة، والبلاط الفاطميّ يومئذٍ حافلٌ بالمماليك الصقالية الذين تبوأوا ذروة النفوذ، ولا سيما في عهديْ "المعز" و"العزيز" ولكن جوهرًا كان عميدهم، وواسطة عقدهم، وأنصعهم شخصيةً، وأقواهم موهبةً.
قدر "المعز" مواهبه وخلاله؛ فولّاه وزارته، ثم اختاره لقيادة جيوشه.
ولمع نجمه في الحرب والقيادة، كما أشرق اسمه في الإدارة والسياسة، فغزا المغرب، واخترقه إلى ساحل المحيط الأطلنطي، يحدوه الظفر، ويطلبه النصر،
_________
١ راجع: المقريزي عن ابن زولاق في اتعاظ الحنفاء ص٩٠، ٩٢، ٩٤
1 / 10
ثم اختاره المعز ليغزو مصر مهبط الأمل والرجاء، فسار إليها من القيروان في ربيع الأول سنة ٣٥٨هـ، فتمَّ له فتحها، وقد وصف أبو هانئ الأندلسيّ في قصيدةٍ من غرره، خروج هذه الحملة إلى "مصر" فقال:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
ألّا إن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن، ولا بات يهجع
إذا حلَّ في أرضٍ بناها مدائنًا ... وإن سار من أرضٍ غدت وهي بلقع
وكبرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورقَّ كما رقَّ الصباح الملمع
رحلت إلى الفسطاط أول رحلة ... بأيمن فألٍ، بالذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ويمنعهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم، لكن يزيد فيوسع
دانت مصر لجوهر، وزفَّ إلى مولاه البشرى في منتصف رمضان، فاهتز ابن هانئ لهذا الظفر، وأنشد قصيدته التي يقول فيها:
يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضى الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه البشرى، ويقدمه النصر
ثم عُنِيَ جوهر بإنشاء الأزهر، وحين تمَّ بناؤه، أقيمت به صلاة الجمعة، واتخذ منبرًا للدعوة الشيعية، يحتفل الفاطميون فيه بالمظاهر الدينية وشتى المواسم والأعياد، وقد قطع جوهر خطبة بني العباس عن منابر مصر، ومحا اسمهم من السكة، وعوَّض عنه اسم المعز، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وجعل يجلس بنفسه كل سبتٍ لنظر المظالم بحضرة الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء.
وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة، أمر جوهر بالزيادة عقب الخطبة
1 / 11
"اللهم صلي على محمد المصطفى، وعلى عليٍّ المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا، اللهم وصل على الأئمة الطاهرين، آباء أمير المؤمنين".
وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة ٣٥٩ صلى القائد بجامع ابن طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العباسيّ الخطيب، وذكر أهل البيت وفضائلهم ﵃، ودعا للقائد، وجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة، وأذَّن بحي على خير العمل، وهو أول من أذن به بمصر، ثم أذِّن به في سائر المساجد، وقنت الخطيب في صلاة الجمعة.
وفي جمادى الأولى من السنة، أذنوا في جامع مصر العتيق، بحيَّ على خير العمل، وسر القائد جوهر بذلك، وكتب إلى المعز وبشَّرَه، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر أنكر عليه، وقال: ليس هذا رسم موالينا١.
وعلى الرغم من كل ما فعله جوهر، أغضى المعز عنه، وعزله عن دواوين مصر وجباية أموالها، والنظر في سائر أمورها٢ سماعًا للوشاية، أو خوفًا من نفوذه وسلطانه.
وحين خلف المعز ابنه -العزيز بالله أبو منصور نزار- عاد جوهر إلى مكانته في الدولة، وأصبح مؤيدًا بثقة العزيز وعطفه.
وكان جوهر من أعلام الدولة الفاطمية ومؤسس مجدها، وقد منح من عظيم الخلال وكريم المواهب ما سما به إلى أرفع مكان، وكان على ذكاءٍ وشجاعةٍ، ومضاء عزمٍ، ونقاء سيرةٍ، وميل إلى الخير، وإيثار للعدل.
وإذ بلغ الثمانين فاضت روحه إلى بارئها، واحتفل بتشييعه في رعة
_________
١ ابن خلكان جـ؟؟ ص١٢٠
٢ ابن خلكان جـ٢ ص١٠٣
1 / 12
وجزع، وصلى عليه العزيز بنفسه، ورثاه الشعراء، وخلع العزيز على ولده -الحسين- وأقامه مقامه في القيادة، ولقبه بالقائد ابن القائد، وظل على مكانته ونفوذه أيام العزيز١.
_________
١ له ترجمة ضافية في المقريزي جـ٤ ص٢٠٥ وما بعدها، وفي النجوم الزاهرة جـ٣ ص٣٠، وفي ابن خلكان جـ١ ص١٤٧.
المساجد والجوامع ... المساجد الجوامع: كما عرفت مصر قبل قيام القاهرة المعزية ثلاث قواعد، أو عواصم إسلامية، هي فسطاط مصر التي أنشئت في سنة "٢١هـ-٦٤١م" عقب الفتح الإسلاميّ، ومدينةالعسكر التي أنشأها العباسيون الجند إلى جانب الفسطاط، عقب انتزاعهم مصر من يد الأمويين في سنة "١٢٣هـ-٧٥٠م" ومدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، في سنة "٢٥٦-٨٧٠م" لتكون عاصمةً للدولة الجديدة. كما عرفت مصر قبل القاهرة هذه العواصم الثلاث، عرفت كذلك قبل قيام الجامع الأزهر ثلاث مساجد جوامع، كانت مركز للحياة الإسلامية هي: المسجد الجامع، أو جامع عمرو "وقد عرف جامع عمرو بعدة أسماء أخر، منها: الجامع العتيق، وجامع مصر، ومسجد أهل الراية" ثم جامع العسكر، ثم جامع ابن طولون. وبمعنًى آخر، كانت كل قاعدة من هذه القواعد الإسلامية المتعاقبة تزود عند قيامها بمسجدها الجامع أو مسجدها الرسميّ الخاصّ. ولم تكن هذه الظاهرة في خطط القواعد الإسلامية بدعًا ولا مصادفةً، وإنما كانت من وحي السياسة الموضوعة لإنشاء الأمصار الإسلامية فيما يفتح من البلاد، بل هي سياسة ترجع إلى عهد -عمر- ذاته، وكتب بها عمر إلى الولاة
المساجد والجوامع ... المساجد الجوامع: كما عرفت مصر قبل قيام القاهرة المعزية ثلاث قواعد، أو عواصم إسلامية، هي فسطاط مصر التي أنشئت في سنة "٢١هـ-٦٤١م" عقب الفتح الإسلاميّ، ومدينةالعسكر التي أنشأها العباسيون الجند إلى جانب الفسطاط، عقب انتزاعهم مصر من يد الأمويين في سنة "١٢٣هـ-٧٥٠م" ومدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، في سنة "٢٥٦-٨٧٠م" لتكون عاصمةً للدولة الجديدة. كما عرفت مصر قبل القاهرة هذه العواصم الثلاث، عرفت كذلك قبل قيام الجامع الأزهر ثلاث مساجد جوامع، كانت مركز للحياة الإسلامية هي: المسجد الجامع، أو جامع عمرو "وقد عرف جامع عمرو بعدة أسماء أخر، منها: الجامع العتيق، وجامع مصر، ومسجد أهل الراية" ثم جامع العسكر، ثم جامع ابن طولون. وبمعنًى آخر، كانت كل قاعدة من هذه القواعد الإسلامية المتعاقبة تزود عند قيامها بمسجدها الجامع أو مسجدها الرسميّ الخاصّ. ولم تكن هذه الظاهرة في خطط القواعد الإسلامية بدعًا ولا مصادفةً، وإنما كانت من وحي السياسة الموضوعة لإنشاء الأمصار الإسلامية فيما يفتح من البلاد، بل هي سياسة ترجع إلى عهد -عمر- ذاته، وكتب بها عمر إلى الولاة
1 / 13
ومنهم عمرو بن العاص، فاتح مصر، وأول ولاتها، بأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا للجماعة١
وقد اتبعت هذه السياسة في خطط القواعد الإسلامية الأولى -كالبصرة والكوفة والفسطاط ومدن الشام.
وكما أن العواصم الجديدة تعتبر رمزًا لظفر الإسلام، كذلك المساجد الجوامع، كانت تعتبر رمزًا لسياسة الإسلام الروحية، ومنبرًا للدعوة الجديدة والدين الجديد.
هكذا كان شأن الفسطاط، أول عاصمة للإسلام في مصر، قيامها يدل على ظفر الإسلام السياسيّ بافتتاح قطر جديد من أقطار الدولة الرومانية، وقيام مسجدها الجامع يدل على سيادة الإسلام الروحية حيث كانت تسود النصرانية.
وكان لهذا المسجد فوق ذلك صبغته الرسمية؛ إذ هو مركز للصلاة الجامعة، وقد لبث ذلك -عصرًا- خطة خاصَّة، إلى جانب خطط الحرب والقضاء والخراج.
وكان يلي إمامته في الصلوات الخمس، وفي صلاة الجمعة وخطبتها في عصر الفتح الأول أمير مصر ذاته؛ فكان الأمير يجمع بين الصلاة والخراج في كثير من الأحيان، وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا تعذر عليه إقامتها بنفسه٢.
كذلك كان المسجد الجامع مقرًّا للدعوات والخطب والمجالس الرسمية، وبه يعقد ديوان الخراج، كما كان مركز القضاء الأعلى، وتتُْلَى فيه الأوامر
_________
١ خطط المقريزي الطبعة الأهلية جـ٤ ص٤، وحسن المحاضرة للسيوطي جـ٢ ص١٤٩.
٢ خطط المقريزي جـ٤ ص٢٨٣.
1 / 14
والمنشورات والسجلات، واستمرَّ ذلك عصورًا متوالية١.
ثم غدا المسجد الجامع بعض الزمن مقرًّا للحلقات العلمية والأدبية، وأصبحت هذه الصفة المدرسية من بعض سماته ومظاهره.
وكانت المساجد الجوامع تختص بهذه الصفة العلمية في عصرٍلم تعرف فيه معاهد الدراسة التي حفلت بها الأمصار الإسلامية فيما بعد.
وكانت حلقات المسجد الجامع إلى جانب الحلقات الخاصة، أشهر المجتمعات العلمية والأدبية العامة، وقد لبثت ساحاته ردحًا من الزمان ندوةً فكريةً أدبيةً جامعةً، ومنها كانت تشع أنوار الآداب والفكر في مصر الإسلامية.
بل هناك ما يدل على أن المسجد الجامع كان يقوم بمهمته الجامعية في دراسة الفقه بطريقة منتظمة٢، وقد استمرَّ المسجد الجامع قائمًا برسالته العلمية حتى قيل: إن حلقاته العلمية بلغت منتصف القرن الثالث زهاء خمسين٣.
ولما أنشئت مدينة العسكر إلى جانب مدينة الفسطاط، وأقيم جامع العسكر إلى جانب المسجد الجامع، كان ثمة في إقامة المدينة الجديدة معنًى لانتصار العباسيين السياسيِّ، وفي إقامة الجامع الجديد معنًى لظفر الدعوة العباسية.
وكانت العسكر وجامعها يمثلان ظفر الدولة الجديدة من الوجهتين السياسية والدينية معًا، ويتجلى ها المعنى في قيام مدينة -القطائع- عاصمة الدولة الطولونية الجديدة، وإن لم يكن ملحوظًا في إقامة مسجدها الجامع "جامع ابن طولون" لأن الدولة الطولونية لم يكن لها لون دينيٌّ خاصُّ٤.
غير أنه مما لا شك فيه أن إنشاء القطائع ومسجدها الجامع "جامع ابن طولون" يرجع إلى المغزى السياسيِّ والروحيِّ نفسه، وهو التنويه بسلطان الدولة الجديدة وسيادتها.
_________
١ الخطط التوفيقية جـ١ ص١٣٢، وجـ٤ ص١٦، ٤٣، وصبح الأعشى جـ٣ ص٤٨٧.
٢ أنشئت به أوائل القرن الثالث عدة زوايا يدرس بها الفقه على مختلف المذاهب، ولكل زاوية أستاذ بحري عليه الرزق، وكان منها الزاوية الشهيرة التي تنسب للإمام الشافعيّ، واستمرت هذه الزوايا عصورًا -تاريخ الجامع الأزهر لمحمد عبد الله عنان ص١٥.
٣ الخطط التوفيقية ح٤ ص٢٠، ٢١.
٤ تاريخ الجامع الأزهر، لمحمد عبد الله عنان صـ١٥.
1 / 15
الغرض من إنشاء الأزهر:
كانت الحكمة ناصعةً في إنشاء الجامع، بل هي أشد نصوعًا ووضوحًا فيه منها في غيره من المساجد الجوامع؛ إذ أن دولة الفاطميين دولة الشيعة.
والجامع الأزهر هو أول مسجد أقامته الشيعة بمصر؛ فقيامه إذن رمز لسيادة هذه الدعوة الجديدة التي هي دعوة الشيعة، كما كانت القاهرة المعزية رمزًا لنصرة الدولة الجديدة وسيادتها.
كان ذلك هو الغرض من إنشائه أول الأمر، ولكن تَقَلُّبَ الدول، وكر الأعصر، أنهاه إلى هذه الحياة العلمية الخصبة، وجعله أرفع جامعة إسلامية تاريخية.
1 / 16
تطور تسمية الجامع الأزهر:
سمي هذا الجامع عقب إنشائه بجامع القاهرة، باسم العاصمة الجديدة، وظلَّ معروفًا بهذا الاسم زمنًا طويلًا، ثم زاحمه الاسم الجديد -الأزهر- ولكنا لا نستطيع أن نحدد نشوء التسمية الجديدة.
وقد ظل معروفًا باسمه القديم إلى القرن التاسع الهجريّ؛ إذ ذكره المقريزي في خططه بهذا الاسم مضافًا إليه اسمه الجديد -الأزهر- فقال: "وهو الجامع الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر، ويسمى في كتب التاريخ بجامع القاهرة١.
بل ذكره ابن خلكان -وقد تب كتابه في القرن السابع الهجريّ بما يفيد تداول الاسم الجديد، فقال في ترجمته -جوهر- وأظن هذا الجامع هو المعروف بالأزهر.
واشتهاره في عهد ابن خلكان بهذا الاسم يدل على أنه عرف به من قبل ذلك، لكن في زمنٍ غير معروفٍ بالتحديد.
وبعضهم يرى أن هذه التسمية الجديدة سرت إليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عهد العزيز بالله، وقد كان يطلق عليها القصور الزاهرة.
هذا، وقد تُنُوسِيَ الاسم الأول، وغلب الاسم الجديد عليه إلى اليوم، فأصبح معروفًا به فحسب.
وأما سرُّ هذه التسمية؛ فيرى فريق من المؤرخين أنه سُمِّيَ بذلك تفاؤلًا بما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بإزهار العلوم فيه٢.
وفي دائرة المعارف الإسلامية، أن إنشاء الفاطميين لهذا المسجد يفسر الاسم الذي أطلق عليه، فقد قيل أن الزهر إشارة إلى الزهراء، وهو لقب فاطمة التي سُمِّيَ باسمها أيضًا مقصورة في المسجد.
مكان الأزهر:
ما برح هذا الحصن الشامخ قائمًا في مكانه الذي شُيِّدَ به، منذ أكثر من ألف عام، وما زالت فيه بقية من أبنيته الفاطمية الأولى تحتل مكانها الأول داخل الصرح القائم، وهي تكاد تبلغ نصف المسجد الحالي٣.
_________
١ خطط المقريزي جـ١ ص٣٦٣.
٢ تاريخ الأزهر لبيرم.
٣ الخطط التوفيقية جـ١ ص١٨٠، ١٨١، ٢٩٠، ٣٤٢، ٣٩٢.
1 / 17
عناية الخلفاء بالأزهر:
نظر الخلفاء الفاطميون إلى الأزهر نظرة عنايةٍ ورعايةٍ، فأدخلو عليه تجديدًا، وأحدثوا به تعميرًا في أزمنة مختلفة، وأعانوا على نشاط العلم والدراسة فيه؛ فهيأوا الأسباب لذلك.
وقد ذكر المقريزي أن أول من رتب من الملوك لأهل الجامع الأزهر، وبنى لهم مسكنًا هو الملك العزيز بالله، نزار بن الملك المعز لدين الله، وأن أول من رتب لهم من الأمراء صلة وزيره أبو الفجر يعقوب ابن يوسف، وقد سأل هذا الوزير الخليفة سنة ٣٦٥هـ في صلة رزق جماعة من العلماء؛ فأطلق لهم ما يكفي لكل واحد من الرزق الناض، وأمر لهم بشراء دارٍ وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر١.
وقال المقريزي في موضعٍ آخر من خططه، وجعل الحاكم بأمر الله للجامع الأزهر تنورين وسبعة وعشرين قنديلًا من الفضة، وشرط أن تعلق فيه في شهر رمضان.
ثم رتب له الحاكم في سنة ٤٠٠هـ مع بعض المنشآت الفاطمية الأخرى أوقافًا ينفق من ريعها على إدارته وشئونه، فكانت هذه أول وقفية رتبت للجامع الأزهر.
ثم قام الخليفة -المستنصر بالله- فجَدَّدَ الأزهر، وقام بتجديده من بعده، الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مما يلي الباب الغربيّ مقصورةً عرفت بمقصورة "فاطمة الزهراء".
وفي عهد الملك -الظاهر بيبرس- "سنة ٦٥٨هـ" قام الأمير -عز الدين أيدمر الحلى- نائب السلطان- بعمارته وتجديده تجديدًا شاملًا، وأعاد إليه جدته وبهجته، بعد أن كان قد تطرق البلى إليه.
وفي سنة "٧٠٢هـ" في عهد الملك محمد الناصر - وقعت بمصر زلزلة عنيفة سقط بها منشآت عدة، منها: الجامع الأزهر، فقام أمراء الدولة بعمارة هذه المنشآت، وتولى عمارة الجامع الأزهر الأمير -سلار.
وأنشأ علاء الدين طيبوس مدرسته التي عرفت باسم "الطيبرسية-
_________
١ خطط المقريزي جـ٢ ص٢٧٣- الناض، في القاموس: نَضَّ الماءُ ينضُّ نضًّا ونضيضًا، سال قليلًا قليلًا، والنَّضُّ الأظهار، ومكروه الأمر، والدرهم، والدينار، كالنَّاضِّ فيهما، أو إنما يسمى ناضًّا إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا.
1 / 18
لتكون ملحقًا للأزهر، وكمل بناؤها سنة "٧٠٩هـ" وقرر بها درسًا للشافعية.
تلك هي بعض آيات العناية والاهتمام ومظاهر التعمير والإنشاء في الأزهر في هذه الفترة المترامية من الزمان. إلّا أن أعظم عمارةٍ أحدثت به، هي التي قام بها الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدغلي- في أواخر القرن الثاني عشر الهجريِّ؛ إذ أنه أنشأ بهوًا فسيحًا يشتمل على خمسين عمودًا من "الرخام" تحمل مثلها من الأقواس المقوصرة١ في الناحية الشرقية من الجامع، كما أنشأ به منبرًا ومحرابًا جديدين، وأقام في أعلاه مكتبًا قائمًا على عُمُدٍ من الرخام، يتعلم به يتامى الأطفال المسلمين القرآن، وجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ رحبةً فسيحةً شيد فيها قبره الذي عقدت قبة عليه، كما أقام بالجامع منارتين جديدتين، وأنشأ بالباب الذي ينتهي إليهن شارع الأزهر، وهو بابٌ سامقٌ عظيمٌ، نًقِشَ على صفحته الخارجية أبياتٌ مموهة بالذهب، مشتملة على تاريخ بنائه وهي:
إن للعلم "أزهرًا" يتسامى ... كسماء ما طاولتها سماء
حيث وافاه ذا البناء ولولا ... منة الله ما تسامى البناء
رب إن الهدى هداك وآيا ... تك نور تهدي به من تشاء
مذ تناهى أرخت باب علوم ... وفخار به يجاب الدعاء
أما الأسرة العلوية، فكانت دائمة العطف عليه، سخيَّةً في البرِّ به، تعنى بإصلاحه وتجديده، وتكفل له كل ما يتطلبه، مهما غلَا وعزَّ.
وفي عهد الملك فؤاد الأول، أنشئت كليَّاته على نظامٍ مثمرٍ، ووجد بالتخصص في فروع العلم للإجادة والتبريز فيها، وبذل المال الضخم لإزالة ما حول الأزهر من مساكن، طالما حجبت جماله ورونقه، وبُدِئَ في إنشاء مساكن للطلبة، وإدارة للأزهر، وقد جاءت آيةً في الإبداع والروعة، وفي
_________
١ المقوصرة - تقوصر دخل بعضه في بعض.
1 / 19
العزم أن تنشأ له مبانٍ خاصةٍ لكلياته، وما تتطلبه الحياة الجامعية فيه على أفخم طراز.
وفي عهد "الاستقلال" تمتَّع الأزهر بكريم الرعاية، وعظيم العطف، بفضل روح المصريين المعنوية التي وجدت بهم، ومن غريز طباعهم التي وجدوا عليها، وبفضل روحهم المعنوية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فساهموا بنصيبٍ وافر من أموالهم؛ ففرش بالبسط الثمينة الفاخرة على سعة رقعته، ولا يزال علماؤه موضع الشكر للجمهورية المصرية.
صلاة الجمعة في الأزهر: كان الخطباء الفاطميون يذهبون إلى الجامع الأزهر فيخطبون الناس ويؤمونهم في صلاتهم، وكانت أول جمعة أقيمت في الأزهر منذ إنشائه، في شهر رمضان لسبعٍ خَلَوْنَ منه، سنة إحدى وستين وثلاثمائة١. ثم استمرت الخطبة في الأزهر منذ إنشائه، إلى أن تم بناء الجامع الحاكميِّ في سنة ٣٨٠هـ، وإذ ذاك أصبحت مشتركة تلقى في أربعة مساجد، فإن الخليفة كان يخطب في الجامع الحاكميّ خطبة، وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع عمرو بن العاص خطبة. وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدَّ "صلاح الدين بن يوسف بن أيوب" بالسلطان "سنة ٥٦٧هـ" فإنه قلَّدَ وظيفة القضاء لقاضي القضاة، "صدر الدين عبد الملك بن درباس" فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد، كما هو مذهب الإمام الشافعيّ؛ فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكميّ من أجل أنه قد أوسع٢ إذ أن مساحة الأزهر كانت ١٣٠٠٠ ذراع، ومساحة الجامع الحاكمي ٣٦٠٠٠ ذراع _________ ١ خطط المقريزي جـ٣ ص٢٧٣ ٢ خطط المقريزي جـ٢ ص٢٧٥
صلاة الجمعة في الأزهر: كان الخطباء الفاطميون يذهبون إلى الجامع الأزهر فيخطبون الناس ويؤمونهم في صلاتهم، وكانت أول جمعة أقيمت في الأزهر منذ إنشائه، في شهر رمضان لسبعٍ خَلَوْنَ منه، سنة إحدى وستين وثلاثمائة١. ثم استمرت الخطبة في الأزهر منذ إنشائه، إلى أن تم بناء الجامع الحاكميِّ في سنة ٣٨٠هـ، وإذ ذاك أصبحت مشتركة تلقى في أربعة مساجد، فإن الخليفة كان يخطب في الجامع الحاكميّ خطبة، وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع عمرو بن العاص خطبة. وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدَّ "صلاح الدين بن يوسف بن أيوب" بالسلطان "سنة ٥٦٧هـ" فإنه قلَّدَ وظيفة القضاء لقاضي القضاة، "صدر الدين عبد الملك بن درباس" فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد، كما هو مذهب الإمام الشافعيّ؛ فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكميّ من أجل أنه قد أوسع٢ إذ أن مساحة الأزهر كانت ١٣٠٠٠ ذراع، ومساحة الجامع الحاكمي ٣٦٠٠٠ ذراع _________ ١ خطط المقريزي جـ٣ ص٢٧٣ ٢ خطط المقريزي جـ٢ ص٢٧٥
1 / 20