ونسأل الغزالي: ما رأيه إذا توقف فهم الكتب السماوية على إدراك روح التشريع، بفهم أصول القوانين؟
وما رأيه إذا توقف فهم «عجائب النفوس الإنسانية والحيوانية» على علم النفس، وعلم وظائف الأعضاء؟
وما رأيه إذا اقتضت معرفة الرسل درس التاريخ القديم والحديث، لفهم ما قد يضطر إليه المشرعون من الرسل والأنبياء في مختلف العصور؟
وما رأيه إذا توقف إدراك ما في الكتب السماوية من سياسة الناس على علم الاجتماع؟
لم ينكر الغزالي أهمية العلوم العقلية والنقلية، ولكنه جعل بعضها وسيلة للعلوم النظرية، والوسيلة بالطبع دون الغاية في الرتبة. وجعل بعضها علوما عملية، وهي أيضا وسيلة للعمل، فلا يعقل أن تكون أشرف منه!
فلم يبق من العلم المقدم على العمل إلا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في ذاته علم شريف.
ولكني أحب أن أضع هذا السؤال: أيكون من يشغل نفسه بهذا النوع من المعرفة أفضل أمام العقل والشرع ممن أفنى عمره في درس الطب حتى استطاع أن يعرف كيف تغذى الديدان التي تحدث البول الدموي، والتي تهلك في كل عام ما يعد بالملايين؟ وهل يقدم محيي الدين بن عربي يوم القيامة، على من يقضي حياته لا في التفكر في ملكوت الله، بل في غزو السل والسرطان؟
الشك عن طريق اليقين
وبمناسبة العلم نثبت قول الغزالي في نهاية الميزان: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعا. إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
غير أن الغزالي لم يبين لنا مصير المرء إذا بقي في شكه، ولم يهتد إلى اليقين. وما نحسب عصر الغزالي كان يسمح له بتحرير هذه المسألة، وإن كانت غاية في الوضوح فمتى كان المرء حرا في أن لا يثق بعقيدة قديمة مهما أجمع عليها الناس لاحتمال أن تكون باطلة، فهو بالضرورة غير مسؤول عن الوصول إلى نتيجة معينة، وإنما يسأل عن اعتقاد ما أداه إليه الدليل.
Unknown page